Friday, December 23, 2005

استراتيجية الدعاية الانتخابية لقائمة الائتلاف العراقي الموحد

يعتقد الكثيرون ان سر فوز قائمة الائتلاف العراقي الموحد الساحق في الانتخابات البرلمانية الاخيرة يعود الى حصول تلك القائمة على رضا المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني ومباركته لها، وبالتالي التأثير على مقلديه، وهم اغلبية الطائفة الشيعية، ودفعهم للتصويت لتلك القائمة كواجب ديني، تبرأ ذمتهم بأدائه. والواقع ان هذه الرؤية هي تسطيح للمسألة، وتبسيط مفرط لطبيعة الدعاية الانتخابية لتلك القائمة، التي حققت بتطيبيقها لاستراتيجية مدروسة نجاحا منقطع النظير، ليس على مستوى العراق فحسب، بل بالمقارنة مع أية انتخابات حرة تجرى في أية دولة في العالم.
ويمكن النظر لهذه الانتخابات على أنها امتداد للانتخابات التي سبقتها، والتي أجريت في الثلاثين من كانون الثاني 2005، وتأكيد لنتائج الاستفتاء في الخامس عشر من تشرين الاول. فقد كانت نتائج الانتخابات الاولى، وطبيعة توزيع المقاعد البرلمانية، وبالتالي الحقائب الوزارية، بموجب الاستحقاق الانتخابي قد شكلت خللا في فهم طبيعة الاداء الحكومي على المستويين التشريعي والتنفيذي، خصوصا مع غياب التمثيل البرلماني السني. نعم، كانت هناك محاولات لضم ممثلي المحافظات الغربية في الحكومة، وفي لجنة كتابة الدستور، ولكنها لم تحصل على التأييد الكامل من احزاب وتنظيمات تلك المحافظات، فضلا عن مرجعياتها الدينية. والمحك الاكثر خطورة كان في النزاع حول الدستور، ورفض الاعضاء السنة (المعينين) لمسودة الدستور، وتهديدهم باسقاطه في الاستفتاء عن طريق استخدام حق النقض الذي تتمتع به أية ثلاثة محافظات اذا رفض ثلثاها تلك المسودة. فقد برزت الى السطح تيارات الطائفية والمذهبية بشكل واضح، ووضعت جميع اطياف العراق العرقية والدينية امام امتحان "ان نكون او لا نكون"، بينما ابتعدت الاحزاب العلمانية عن الساحة واكتفت بدور المتفرج، بانتظار فشل الاحزاب الدينية، او ممثلي الطوائف، في خوض غمار التجربة، او خروجها منهكة وغير قادرة على الدخول بنفس القوة في الاستحقاق التالي.
ولكن قائمة الائتلاف اثبتت انها قادرة على دخول المعترك من جديد، واستثمار النجاح المحدود المتحقق في اقرار الدستور لصالحها. واكتسبت زخما معنويا من تصوير الخلاف حول الدستور على انه خلاف مذهبي او طائفي يمتد الى نزاع حول السلطة والثروات الطبيعية. وكان اعتراض ممثلو السنة على بعض بنود الدستور اداة مهمة بيد قائمة الائتلاف للدعوة الى مساندة المذهب والطائفة، وبالتالي خططت استراتيجية الدعاية الانتخابية على هذا الاساس. ولم يكن للاداء الحكومي الضعيف، ولا للاتهامات بالفساد الاداري، والفضائح التي تكشفت في المعتقلات اي دور في تلك الدعاية، لا نفيا ولا تبريرا. فقد قامت تلك الاستراتيجية على التركيز على الهدف البعيد للمواطن، وهو حماية الطائفة، اكثر من مخاطبتها للهدف الاقرب وهو تشكيل حكومة توفر الامن والرفاهية للشعب.
تتألف الدعاية او الحملة الانتخابية لاي كيان سياسي بشكل عام من ثلاثة مراحل: الاولى الاعلان عن وجود الكيان، والثانية إشعار الناخبين بانهم موجودون لدى الكيان، والثالثة تتمثل في توطيد الثقة بين الكيان والناخب. وكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث يجب تنجز ضمن فترة زمنية محددة، ووفق قواعد وأطر مدروسة مسبقا. والادارة الجيدة لتلك الحملة تضمن ان لا يكون للحدث الآني، او المفاجآت، تأثير كبير على مجريات اللعبة الانتخابية. واذا راجعنا الدعاية الانتخابية لمجمل الكيانيات السياسية خلال الانتخابات الماضية، لوجدناها اما تقع ضمن المرحلة الاولى، او انها تكافح لتجتاز المرحلة الثانية. فالغالبية العظمى من تلك الكيانات اكتفت بالملصقات واللافتات والدعاية المتلفزة المقتضبة. بيد ان المطلوب لحمل الناخب على التصويت لكيان سياسي معين ان يجتاز ذلك الكيان المرحلة الثالثة ضمن الاطار الزمني المحدد سلفا.
ولكن قائمتي الائتلاف والتحالف الكرستاني، استثناء من الكيانات السياسية الاخرى، استطاعتا ان تعبرا هذه المرحلة بنجاح، بدلالة النتائج الكبيرة التي حققها كل منهما. وبالنسبة لقائمة التحالف الكردستاني فان الامرغير مستغرب، نظرا لوحدة الاكراد عموما تحت هذه القائمة. اما فيما يخص قائمة الائتلاف، فلابد من وقفة تأمل في الاستراتيجة التي اتبعتها لتحقيق ذلك التقدم المذهل.
وتلك الاستراتيجية اتبعت ببساطة نهج المراحل الثلاثة المشار اليه آنفا. فقد استغرقت وقتا يسيرا للاعلان عن وجودها من خلال الملصقات واللافتات وغير ذلك. ولكنها اخذت وقتا اطول في استيعاب الناخبين، وخاضت عملية شاقة بصبر ودأب. فقد كان عليها اولا ان توضح طبيعة الاخفاقات الحكومية خلال الفترة التي تولت فيها زمام السلطة. كما كان عليها ان تهديء من روع المواطنين الذين يساورهم القلق حيال مستقبل العراق ووحدته في حال تسنمت هذه القائمة السلطة من جديد. وكان الهجوم خير وسيلة للدفاع. فبدأ التراشق الكلامي بالتصاعد، وعمد الائتلاف الى اظهار عيوب منافسيهم، او تضخيمها. وسعت تلك القائمة الى القاء التبعة في كل اخفاق تقريبا الى مرحلة سابقة، او الى التهديد الامني وسطوة الارهاب. لقد كان هذا السجال يدور عبر الشاشات، ولكنه كان يجد من يروج له في الشارع والمقهى والمسجد والدائرة الحكومية، وفي البيوت.
وهنا لابد من الاشارة الى تواجد مكاتب فعالة في معظم المحافظات للاحزاب الرئيسة في تلك القائمة، مقابل مكاتب ضعيفة او غير فعالة، او انعدامها على الاطلاق، للاحزاب الاخرى. وهذه مسألة في غاية الاهمية، طالما ان احتواء المواطن (الناخب)، وجعله يدرك بانه موجود لدى الكيان، يتطلب احتكاكا وتواصلا مباشرا ومستمرا. كما ان تلك المكاتب توفر طريقة شديدة التأثير في الدعاية الانتخابية من خلال استخدام الاشخاص انفسهم في الدعوة للكيان بدلا من الاعتماد على الوسائل التقنية، من اذاعة وتلفزيون وصحف وملصقات وغيرها. فقد يكون هناك تأثير للدعاية بطريق التلفزيون مثلا، ولكنها تصلح فقط لاجتياز المرحلة الاولى، مرحلة التعريف بالكيان. ولخوض المرحلة الثانية لابد من تواجد قريب من المواطن، ومن توجيه الحديث من فرد الى فرد اذا اقتضى الامر. ان الناخبين قد يصوتون للكيان الذي شاهدوا صورته في التلفزيون، او قرأوا لافتة تدلل عليه، ولكن اربعة اضعاف هؤلاء يصوتون للكيان الذي نصحهم به اصدقاؤهم الموثوقون، كما تظهر احدى الدراسات التخصصية.
من جهة اخرى فان هذا القرب من الناخبين يمكن من ممارسة الدعاية السلبية بشكل واسع، ولكنه لا يترك أثرا يقتفى في حالة الشكوى من هذا التصرف. فمن السهل تصدير اشاعة بين الناس حول امر ما حتى مع غياب الدليل، ولن يكون ممكنا عمليا اثبات من اصدرها. بينما سيكون من الصعب الحديث بشكل رسمي عن اية طعونات بالكيانات الاخرى دون توفر ادلة دامغة. ولكن المواطنين العاديون عادة لا يلاحظون الفرق، ويتناقلون الخبر والاشاعة بنفس القدر من الاهتمام والتصديق، اذا تواترت ا بما فيه الكفاية.
وفي الدعاية الانتخابية، شأنها شأن كل الفعاليات السياسية الاخرى، كل شيء جائز ما لم يمنع بقانون صريح. وقد يكون توجيه الخطاب الديني لحث الناخبين بالتصويت لقائمة او كيان سياسي امرا غير مقبول لدى البعض، ولكنه غير ممنوع قانونا. فالنظام رقم 8 لسنة 2005 الذي اصدرته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، ينص على انه "لايجوز لاي كيان سياسي او ائتلاف ان يضمّن حملاته الانتخابية افكارا تدعو الى اثارة النعرات القومية او الدينية او الطائفية او القبلية او الاقليمية بين المواطنين"، وهذا لا يمنع من استخدام الخطاب الديني طالما انه لا يتجاوز الممنوعات المذكورة. ولا اجد ما يمنع الكيانات الاخرى من استخدام اساليب مماثلة، اذا كانت اقرب الى قلوب المواطنين. ولست ادعو الى تسييس الدين، ولكن الى خلق التوزان الضروري لعدم انفراد جهة او قائمة او كيان ب عقول وقلوب الناخبين.
لقد نجحت قائمة الائتلاف من خلال تحدثها الى كل ناخب على حدة في كسب الثقة لديهم، واجتياز المرحلة الثالثة حتى بدون الحاجة الى فتوى صريحة بالتصويت لتلك القائمة. والخطاب الديني الذي تميزت به دعاية تلك القائمة، لم يكن ليغير من توجهات الناخبين بشكل كبير لو ان بقية الكيانات توجهت بذات القدر من الاهتمام الى الناخب الفرد وسعت الى ضمه واشعاره باهميته لديها وبالتالي اكتسبت ثقته. فعندها لن يكون سهلا التحول عن دعم ذلك الكيان، حتى ولو داعب الكيانات الاخرى عقيدته الدينية او ولاءاته العشائرية او غير ذلك من الضغوطات التي تستخدم عادة للتأثير على الناخبين.

Wednesday, December 21, 2005

مشروع قانون لإيجار العقارات التجارية والصناعية

في خضم العملية السياسية المتأزمة حينا والمنفرجة أحيانا أخرى، وفي ظل ظروف أمنية معقدة قلّ مثيلها في تاريخ العراق الحديث، ربما لا يُعدّ الحديث عن قانون لإيجار العقارات بنوعيها السكنية والتجارية أمرا ذا بال. والواقع ان الجمعية الوطنية، وان أنجزت احد أهم واجباتها وهو الدستور، إلا إنها أهملت بشكل واضح واجبات أخرى تتصل بصلب عملها كمؤسسة تشريعية، ذلك هو إقرار القوانين التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، فضلا عن وضع الضوابط والتعليمات التي تكفل تطبيق هذه القوانين بشكل سلس وسليم.
وفي الحقيقة فان ما يهم المواطن العادي بالدرجة الأولى هو تلك القوانين والأنظمة المتعلقة بها، كونها تضع الأساس المادي للتعامل بين أفراد المجتمع ضمن إطار يتفق عليه الجميع، وتهيئ الظرف المناسب للاستثمار التجاري، وتمنع الاستغلال والانتهازية من التغلغل إلى نفوس بعض الأفراد الذين لا يردعهم عن تحقيق مآربهم على حساب الآخرين سوى قانون حازم يضع النقاط على الحروف. ومن ناحية أخرى فان تشريع القوانين هو استجابة لحاجات المجتمع من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وان تعلق بعض هذه القوانين بالنواحي السياسية والثقافية والأمنية بطبيعة الحال.
ان استغراق البلاد في عملية سياسية طويلة وشائكة يجب ان لا يمنع التفكير في مشاريع لاستصدار قوانين تمس حياة المواطنين ومصدر رزقهم، وتهيئ الأرضية للنمو الاقتصادي المتوقع من بلد الثروات المتعددة. وإذا كانت الجمعية الوطنية الحالية غير قادرة عمليا على مثل هذه التشريعات بسبب طبيعة توزيع المقاعد البرلمانية وسيادة مبدأ المحاصصة، علاوة على غياب ممثلي محافظات غرب العراق، فقد يكون من المناسب البدء بالتحضير لمثل هذه المشاريع لمجلس النواب القادم الذي قد يكون أكثر تمثيلا، واقل تعلقا بالمشروع السياسي.
ولا يخفى ان من أهم عوامل التباطؤ الاقتصادي في الوقت الراهن هو غياب التشريع الواضح الذي يرسم الإطار القانوني لعلاقة مالكي العقارات بمستأجريها، إثر قيام النظام السابق برفع اليد عن هذه المعاملة، وتركها حرة تـُحدد صُوريّا بين طرفيها، وعمليا عن طريق طرفها الأكثر قوة وهو مالك العقار. وفي الواقع ان تلك العلاقة كانت تحكمها قبل ذلك الإجراء الحكومي تنظيمات وقوانين وضعت القوة القانونية بيد المستأجر، الذي كان بمجرد توقيعه عقد الإيجار يصبح المالك الفعلي لذلك العقار مقابل بدل الإيجار غير القابل للزيادة قانونا. وقد أرادت الدولة ظاهريا –آنذاك- ان تعيد التوازن إلى هذه العلاقة غير المتكافئة بإلغائها العقارات التجارية والصناعية من قائمة العقارات التي لا تسمع المحاكم دعاوى إخلائها، شأنها في ذلك شأن العقارات السكنية، ولكن الاستثناء بقي بالنسبة لتلك الأخيرة. والحق ان هذا الإجراء ساعد في ازدياد العقارات التجارية المعروضة للإيجار، وشجع بناء المزيد منها ولفترة محدودة، ولكن على حساب ارتفاع بدلات الإيجار بشكل مضطرد وعدم خضوعها إلى ضوابط سوى تقدير أصحاب تلك العقارات، واضطرار المستأجرين إلى القبول بأي قيمة للإيجار –مهما تكن مجحفة- وإلا تعرضوا لفقدان مصدر رزقهم. وقد تكون هناك أسباب أخرى حملت الدولة على رفع الحماية عن المستأجر تتعلق بتحقيق ضربة تجارية كبرى للمتنفذين في تلك الدولة والذين اشتروا عقارات كثيرة بثمن بخس قبل صدور التشريع ثم ارتفعت أسعارها أضعافا مضاعفة بعد صدوره ودخوله حيز التنفيذ.
ونحن إذ نعتقد ان إعطاء المستأجر كامل الحق في التصرف هو أمر غير عادل، فإننا في الوقت ذاته لا نجد عدلا في إعطاء هذا الحق لمالك العقار وحده. وقد أثبتت التجربة الواقعية ان كثيرا من مالكي العقارات قد تصرفوا بشكل غير منصف مع المستأجرين الذين شغلوا تلك العقارات لفترات طويلة. وحتى الذين أعطوا بدلات إيجار مقاربة لمستواها السوقي لم يسلموا من التهديد بالطرد أو الإخلاء، واضطروا إلى زيادة تلك البدلات المرة بعد الأخرى، أو إخلاء محالهم التجارية ومصانعهم ومخازنهم وما شابه. وأدى ذلك إلى أضرار فادحة على مستوى الاقتصاد الفردي واقتصاد الأسرة، وصولا إلى الاقتصاد الوطني. ان انخفاض عدد العقارات الصناعية المشغولة تحديدا قد الحق بالتأكيد ضررا بالغا بالاقتصاد الوطني، نتيجة قلة المعروض من المنتجات المحلية والاستعاضة عنها بالمستورد، وما يترتب على ذلك من خروج للعملة الصعبة وارتفاع أسعار النقل التجاري وضياع الخبرات المحلية وإهدار المواد الأولية المحلية أو تصديرها بأثمان زهيدة.
وبناء على ذلك، يجب التفكير أولا بالمصلحة الوطنية العليا المتمثلة في تشجيع الصناعة والاستثمار الصناعي، والتجارة الداخلية، وتحريك مفاصل الاقتصاد الحر ضمن الضوابط العادلة لأطراف المعاملات كافة، ومنها معاملات الإيجار. كما يجب وضع البدائل المناسبة لضمان عدم وقوع احد طرفي المعاملة تحت الضغط المجحف، أو الشعور بغياب الخيارات التي تدفعه إلى الرضوخ أو الانصراف عن المشروع برمته. ونشير هنا إلى ان البلد يشهد حالة من الاستقرار المالي من ناحية ثبوت سعر صرف الدينار مقابل العملة الصعبة، مقارنة بفترة ما قبل السقوط التي تميزت بتدهور مستمر لسعر الدينار مقابل العملات العالمية. ومثل هذا الاستقرار كان يمكن ان يكون كفيلا بتحقيق استقرار في الأسعار بشكل عام. غير ان الأسعار السوقية ظلت في حالة من التصاعد لأسباب كثيرة، منها عدم الاستقرار الأمني، والطفرة التي شهدتها رواتب الموظفين، وانخفاض الإنتاج الزراعي والصناعي، وعودة المهاجرين وما شكل ذلك من ازدياد الطلب على البضائع، ونشوء طبقة المقاولين والتجار الجدد الذين حولوا أموالهم وودائعهم من العملة الصعبة إلى خارج البلاد بدلا من استثمارها داخله خوفا على حياتهم وأسرهم. كذلك تسببت العودة المفاجئة للمغتربين، وظهور رساميل كبيرة بيد طبقات كانت متوسطة، في ازدياد الطلب على العقارات والأراضي وبالتالي ارتفاع اسعارها بشكل خيالي وخلال مدة قصيرة يعجز السوق المحلي عن استيعابها. ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات بدلات الإيجار التجاري، تحقيقا لمبدأ الاستثمار العقاري الذي يعتمد أساسا على قيمة العقار في تحديد مقدار عائداته. وبالمقابل أدت زيادة معدلات بدلات الإيجار إلى ارتفاع أسعار البضائع بجميع صنوفها، ودفع المستهلك جزءا من هذا الفرق، ودفعت الطبقة الوسطى المُشغلة لهذه العقارات الجزء الآخر.
وأخيرا فان غياب النظام الضريبي قد ساهم هو الآخر في إطلاق يد مالكي العقارات، بالإضافة إلى الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية في غير واحد من مفاصل الدولة، مما جعلها عاجزة عن التصدي للجشع والاستغلال التجاري، وشلّ دورها الرقابي سواء على العلاقات بين المالكين والمستأجرين، أو على مجمل العملية الاقتصادية المحلية.
ان محاولة استصدار تشريع لتحديد هذه العلاقة الحيوية، وتنظيم شؤون العقارات وكيفية وظروف استغلالها ستواجه حتما ما ذكرناه من عوائق، يضاف إليها ضعف الوعي القانوني وعدم الثقة بالدولة الموروث عن الحقبة السابقة، والذي ساهمت الدولة في وضعها الراهن على ترسيخه بإهمالها وانشغالها بالعملية السياسية كأولوية أولى. لذلك يجب التخطيط مسبقا لنشر وعي قانوني، والعمل على تعميق الثقة بالدولة وبإجراءاتها من خلال إشراك المواطن بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مناقشة مشاريع القوانين عموما، وعدم الانفراد باتخاذ القرار باعتبار مجلس النواب منتخباً وممثلاً للشعب. فالشفافية الحكومية مبدأ واجب التطبيق حتى بالنسبة للحكومات المنتخبة، لضمان بقائها قريبة من حاجات وآمال وتطلعات الشعب.
وإذا كان لنا ان نضع مسودة لمشروع هذا القانون، فجري بنا السعي استنادا إلى المعطيات أعلاه، الى ان يكون كما يلي:
ـ1ـ ان هذا القانون هو من اجل تحديد شكل العلاقة بين مستأجر ومؤجر العقار وهو المرجع الوحيد في حل الخلافات الناجمة عن العقد المبرم بموجبه، كما انه الأساس الوحيد لإجراء عقود الإيجار (التجارية والصناعية).
ـ2ـ تشرف الدولة على تطبيق هذا القانون عن طريق هيئة متخصصة تشكل من قبل السلطة التنفيذية المناسبة، وترسل الهيئة ممثليات لها في المحافظات على شكل لجان تنفيذية. ولهذه الممثليات والهيئة ذاتها صلاحيات البت في الخلافات ضمن اختصاصاتها، ويمكن لها الإحالة إلى المحاكم المختصة في حالات التعسف، كما يمكن استئناف قراراتها أمام المحاكم المدنية. وتكون قرارات المحاكم المختصة نهائية وملزمة لطرفي الدعوة وللهيئة وممثلياتها على حد سواء.
ـ3ـ تشكل الهيئة والممثليات لجاناً فنية تعمل على ترسيم مراكز المدن والاقضية والنواحي حسب القيمة السوقية لعقاراتها، وتعتمد سلما من خمس درجات (أو أكثر) في تحديد القيمة للعقارات التجارية:
أ) عقار درجة أولى في وسط المدنية ب) عقار درجة ثانية في وسط المدينة ج) عقار درجة أولى في الضواحي د) عقار درجة ثانية في الضواحي هـ) عقار في منطقة سكنية. كما تعتمد سلما من ثلاث درجات (أو أكثر) للعقارات الصناعية: أ) عقار درجة أولى في منطقة صناعية ب) عقار درجة ثانية في منطقة صناعية ج) عقار في منطقة غير صناعية.
ويعتمد تحديد الدرجة على كون العقار مطلا على شارع تجاري، ومقدار كثافة المرور الراجل والآلي، وسهولة وصول وسائل النقل بأحجامها المختلفة.
ـ4ـ تقوم الهيئة وممثلياتها بإعداد جداول للقيمة التقديرية لبدلات الإيجار اعتمادا على تصنيف العقار (الوارد في الفقرة (3))، إضافة إلى المعايير التالية:
أ) حالة العقار العمرانية وعمره الزمني.
ب) مساحة العقار الكلية، حيث تضاف فوارق نسبية لكل متر مربع تزيد عن الحد الأدنى للمساحة (حيث يحتاج إلى تشريع مستقل).
ج) عرض واجهة العقار، حيث تضاف فوارق نسبية عن كل متر طول يزيد على الحد الأدنى للواجهة (بما يحتاج إلى تشريع مستقل).
د) كون المحل المستأجر في الطابق الأرضي، أو الطوابق العليا أو الدنيا، حيث يخفض من القيمة التقديرية بنسبة مماثلة لارتفاع العقار أو انخفاضه عن مستوى الأرض. ان هذه النسبة ليست ثابتة وتعتمد على التسهيلات المتوفرة في المباني، كالمصاعد والسلالم الواسعة وما أشبه، فكلما زادت التسهيلات قلت نسبة التخفيض، وبالعكس.
هـ) مدة العقد، حيث تكون قيمة بدل الإيجار اقل كلما كانت المدة أطول، على ان يمنح المالك إعفاء ضريبيا مماثلا لهذا التخفيض (يحتاج إلى تشريع مستقل).
و) يجب ان تخضع جميع العقود إلى الإجراءات الضريبية، ويعتمد نظام ضريبي تصاعدي نسبة إلى قيم بدلات الإيجار كلاً على حدة، ويعتمد مبدأ التشجيع على قبول بدلات إيجار اقل من القيمة التقديرية مقابل إعفاءات ضريبية (يحتاج إلى تشريع مستقل).
ز) أية ضوابط أخرى محلية.
ـ5ـ إصدار تشريعات مناسبة لتنظيم شؤون العقارات في الأسواق الحرة، والمناطق السياحية والأثرية، وللاستثمارات الأجنبية، وللمشاريع الكبرى والمتوسطة، وكيفية استغلال الموارد المتاحة من مياه وطاقة ضمن حدود العقار أو ما يحيط به.
ـ6ـ تعمل الدولة على تشجيع بناء المجمعات التجارية من خلال القروض العقارية الميسرة. كما تأخذ على عاتقها تنظيم المدن لإنشاء أسواق بديلة لتخفيف الضغط عن الأسواق التقليدية، وإنشاء المناطق الصناعية، وبناء المجمعات التجارية والصناعية الصغيرة وتأجيرها بمستويات تقل بشكل واضح عن مستويات الإيجار السائدة لخلق الموازن العملي واستيعاب الفائض. كما يجب مراعاة عدم الإجحاف بمالكي العقارات بتدخل الدولة، أو تحويل الدولة إلى المالك الفعلي للعقارات التجارية والصناعية من خلال التوسع المفرط في هذا الإجراء.
ـ7ـ يطبق هذا القانون على العقارات التي سبق ان تم تأجيرها واستغلالها. وتعدّ كل معاملة سابقة باطلة قانونا، ولكن يمكن جدولة التطبيق خلال فترة زمنية مناسبة.
ـ8ـ يجب ان يضمن عدم تعديل هذا القانون أو إلغاءه قبل فترة مناسبة من دخوله حيز التنفيذ. كما يجب ان يكون التعديل بطريقة تضمن مشاركة النقابات المهنية، وغرف التجارة والصناعة، والشرائح الاجتماعية التي يشملها.
ـ9ـ يمكن اعتماد مبدأ الاستفتاء الشعبي لإقرار هذا القانون، وتعديله لاحقا، على ان يقرّ أو يعدل في مجلس النواب أولا.
ان هذا المشروع ليس إلا نتاج حالة تأمل يمكن أن تغنى من قبل المختصين بالقانون. كما انه يتطلب تشريعات قانونية أخرى قد تتعدى حدود الملكية العقارية والمعاملات بشأنها، ليتناول تحقيق تنمية اقتصادية شاملة وإشراك الدولة في تفاصيل هذه المعاملات. وقد يؤدي تدخل الدولة هذا إلى نشوء بيروقراطية إدارية معرقلة لمسيرة التنمية، ولكنها في الوقت نفسه ستكون، إذا أحسن بناؤها وتنظيمها، موازنا منطقيا لحماية أرباب المصالح والمستهلكين على حد سواء.

Thursday, December 08, 2005

المنافسة محصورة بين قائمة الائتلاف العراقي الموحد والقائمة الوطنية العراقية

المدى-لجنة البحوث والدراسات
تشير الأجواء العامة في أنحاء العراق كافة الى أن يوم الخامس عشر من كانون الأول الجاري سيشهد واحداً من أهم الأحداث السياسية في تاريخه المعاصر، حيث من المتوقع أن يتوجه قرابة خمسة عشر مليون ناخب الى صناديق الاقتراع في عموم البلد للإدلاء بأصواتهم في ثالثة ممارسة ديمقراطية خلال عام واحد، وهذا بمقاسات سياقات الديمقراطية السائدة في المنطقة، يعد إنجازاً بحد ذاته، وبغض النظر عن النتائج فأنها تأسيس وترسيخ لتقاليد ومناهج قد غيبت قسراً سنين طوالاً.
وتواصلا مع الحدث، أجرت لجنة البحوث والدراسات في مكتب (المدى) بمحافظة بابل استطلاعاً للرأي على أساس علمي مدروس، لمعرفة توجهات الناخبين، وعمق الوعي الانتخابي الذي تجسد من خلال الممارسات الانتخابية في الفترة المنصرمة. واستخدمت نموذج استبيان مكوناً من ستة أسئلة، إضافة الى بعض البيانات الشخصية، بدون ذكر الاسم، لاستخدامها في تحليل الإجابات المختلفة وتبيّن تأثير عوامل مثل الجنس والسكن والعمر على طبيعة اختيارات أفراد العينة المختارة عشوائياً. حيث تم توزيع 460 استمارة استبيان في أنحاء محافظة بابل، بشطريها الحضري والريفي. وقد شابت عملية توزيع الاستمارات مجازفة غير هينة في الوصول إلى مناطق توصف بالساخنة. وشمل الاستبيان مدن الحلة والمحاويل وناحية الإمام والقاسم والمسيب والسدة والمدحتية والنيل والكفل والهاشمية والطليعة وأبو غرق، علاوة على الكثير من القرى المحيطة بهذه المدن. وقد تم إعداد قاعدة بيانات حاسوبية لإدخال البيانات وتحليلها، ولاستخراج النتائج بأكثر دقة ممكنة.
وبلغ عدد أفراد العينة 460، وكان عدد الذكور 330 والإناث 130، توزعوا بين 172 من سكنة مدينة الحلة و288 من سكنة الاقضية والنواحي والقرى التابعة لمحافظة بابل.
الأغلبية الساحقة ترغب بالمشاركة في الانتخابات
يبدأ الاستبيان بسؤال حول رغبة المستطلعة آراؤهم بالمشاركة في الانتخابات المقبلة. ويبدو أن خيار المشاركة في الانتخابات يطغى على معظم التوجهات، فقد بلغت نسبة الراغبين بالمشاركة 96.7%، بينما لم تتعد نسبة مقاطعي الانتخابات 3.3%. ومن دلالات النتائج التي أظهرها الاستبيان أن هنالك توجهاً عاماً قوياً لدعم العملية السياسية الجارية في البلد من خلال الإسهام الفاعل في عملية الاقتراع. وهو ما يعكس التطور النوعي في الممارسات الديمقراطية، وانحسار نزعة المقاطعة. الا ان المشاركة قد لا تصل الى هذه النسبة العالية بسبب معوقات كثيرة يفرضها الوضع الاستثنائي، والظروف التي تتحكم بالحالات الفردية يوم الانتخاب.
التنافس محتدم بين الائتلاف والقائمة الوطنية
أظهرت نتائج الاستبيان أن التنافس يكاد ينحصر بين قائمة الائتلاف العراقي الموحد برئاسة عبد العزيز الحكيم والقائمة الوطنية العراقية برئاسة د. أياد علاوي. وحصلت قائمة الائتلاف على النسبة الأكبر من الأصوات وتبلغ 46.1% من مجموع أفراد العينة، تلتها القائمة الوطنية بنسبة 24.6%، بينما تنافست باقي القوائم ضمن نسبة 15.5% فقط، برغم أنها في غالبيتها محلية، وكان من المتوقع أن تحصل على دائرة تأييد أوسع. ومن الجدير بالذكر أن القانون الانتخابي يحتم على القائمة الحصول على ما لا يقل عن نسبة محددة قبل إمكانية ضمها الى مجلس النواب، وتبلغ هذه النسبة بمحافظة بابل 9% لان عدد المقاعد المخصصة للمحافظة 11 مقعداً.
ومن الملاحظات اللافتة للنظر التي تجلت في الاستبيان أن نسبة الإناث الراغبة في التصويت للقائمة الوطنية تزيد على نسبة الذكور (28.5% مقابل 23%)، بينما جاءت النسب متساوية تقريباً بين الإناث والذكور الراغبين بالتصويت لقائمة الائتلاف (46.2% مقابل 46.1%). غير أن النتائج عكست تقدم سكنة الاقضية والنواحي والقرى الراغبين بالتصويت لقائمة الائتلاف بنسبة كبيرة على نظرائهم من سكنة مركز المحافظة (53.3% مقابل 37.5%) وينطبق الأمر على المصوتين للقائمة الوطنية ولكن بنسبة أقل (26.3% مقابل 23.8%). ويبدو أن سكنة المركز يتوجهون صوب القوائم الأخرى أكثر من سكنة خارج المركز (25% مقابل 10.9%)، وهذا ناجم عن مشاركة واسعة لقوائم مركز المحافظة.
يظهر تحليل الاستبيان استناداً للفئات العمرية أن أغلب المصوتين الذين تقع أعمارهم بين 30-39 سنة يميلون باتجاه قائمة الائتلاف بنسبة 53.3% في حين أن المصوتين للقائمة الوطنية بلغت ذروتهم في الفئة العمرية بين 50-59 سنة وبنسبة 28%، والملاحظ أن مصوتي القائمة الوطنية تزداد نسبتهم بتقدم العمر، وهو انعكاس لتباين تطلعات مختلف الفئات العمرية.
البرنامج السياسي والواجب الديني
وعند تحليل إجابات أفراد العينة على السؤال الوارد في استمارة الاستبيان: ما هو الأساس الذي تعتمده في التصويت؟، ظهر أن نسبة 51.1% تعتمد البرنامج السياسي في تحديد خيارها، ونسبة 30.8% تعتقد أن التصويت واجب ديني للقائمة التي ترغبها، فيما كانت نسبة 13.7% تروم التصويت دعماً لرئيس القائمة، ولم تحض الأسباب العشائرية الا بنسبة ضئيلة بلغت 1.1%، برغم أن عدد المشاركين من خارج مركز المحافظة يقارب ضعف عدد المشاركين من المركز، مما يدلل على أن التأثير العشائري في محافظة بابل لا يشهد رواجاً بين الناخبين خلافا للرأي السائد بهذا الشأن.
أن نسبة المصوتين لقائمة الائتلاف بوصفه واجباً دينياً 58% بينما كانت نسبة المصوتين للقائمة الوطنية اعتماداً على البرنامج السياسي 76.1%. وقد انعكس دعم رئيس القائمة الوطنية بنسبة 19.5% مقابل 1.9% فقط صوتوا لرئيس قائمة الائتلاف، وظهور هذه النتائج بتلك الصيغة يجسد استقطابات الرأي العام موزعا بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي، وتشابها مع ما أفرزته نتائج الانتخابات السابقة، وفيها دلالات على أن هذا الاستقطاب سيبقى في الساحة السياسية العراقية للفترات القادمة.
ومن المفارقات الطريفة أن هناك خمسة أفراد من العينة، يشكلون نسبة 4.5% من الذين صوتوا للقائمة الوطنية اتخذوا قرارهم بالتصويت لها كونه واجباً دينياً، رغم غياب الخطاب الديني في الدعاية الانتخابية لهذه القائمة المعروفة بالتوجه العلماني. والأرجح أنها سقطات من قبل هؤلاء الأفراد لا تعبر بدقة عن وجهات نظرهم.
تفاؤل عام بمرحلة ما بعد الانتخابات
وتضمن نموذج الاستبيان مجموعة من الأسئلة حول ما يمكن أن تسهم فيه الانتخابات. وقد أظهرت النتائج أن معظم أفراد العينة متفائلون بان الانتخابات ستساهم في تحسين الوضع الأمني (85.2%)، وتحسين الخدمات (77.4%)، ودفع عملية إعادة الإعمار (74.8%)، وحل مشاكل البطالة والضمان الاجتماعي (72.8%).
معرفة محدودة بالمرشحين
آخر أسئلة الاستبيان يدور حول مدى معرفة الناخبين بمرشحي القوائم المتنافسة، واتيحت لأفراد العينة الاختيار من بين ثلاثة خيارات تدلل على حجم تلك المعرفة. وقد بيّن 24.8% من أفراد العينة الراغبين بالتصويت، والذين اتخذوا قرارهم بالتصويت لقائمة معينة، أنهم لا يعرفون سوى رئيس الكيان الذي سيصوتون له. وأفادت أغلبية هذه الفئة (52.2%) بأنهم يعرفون بعضا من مرشحي قائمتهم المفضلة، بينما ادعت 9.1% أنها تعرف جميع المرشحين. ولا نجد هذه النتائج غريبة بالنظر للوضع الأمني غير المستقر، والذي يحول دون إعلان أسماء المرشحين بشكل واسع، ولقصر الفترة الزمنية المتاحة للدعاية الانتخابية. والظاهر أن اغلب الناخبين يثقون باختيارات رؤساء القوائم لبقية المرشحين.
وتجدر الإشارة الى أن نتائج هذا الاستبيان لا يمكن أن تطبق على عموم العراق، بسبب اختلاف التوجهات العامة بين منطقة واخرى، ولكن هذه النتائج يمكن ان تعبر - عموما- عن الرأي العام في مناطق وسط وشرق العراق، وربما جنوبه أيضا. من جهة ثانية، فان التصويت الفعلي في الانتخابات القادمة قد يختلف نسبيا عن نتائج هذا الاستبيان، سيما وجود نسبة كبيرة من المترددين، الذين يمكن أن يصوتوا لصالح قوائم غير رئيسة، وبالتالي تتغير موازين القوى. ومن المعروف ان الناخب في مرحلة يكون عرضة للتأثيرات المختلفة، ويكون للاحداث اليومية في الاسبوع او الايام القليلة التي تسبق يوم الانتخابات تأثير مباشر على قراره.

Thursday, November 10, 2005

الحور العين: الإرهاب بعيون عربية

عرضت قناة (ام بي سي) الفضائية خلال شهر رمضان المبارك مسلسلا متميزا يتحدث لأول مرة عن موضوعة (الإرهاب) في سياق درامي – اجتماعي لا يخلو من التشويق، وان تعرض –كغيره من الأعمال الدرامية خلال شهر رمضان- إلى المطّ والإسهاب، من اجل بسط مادته خلال الشهر الفضيل. وهو إنتاج سوري-سعودي مشترك، وعرضته هذه القناة بشكل حصري. ويأتي عرض هذا المسلسل بعد ان اخفقت القناة في عرض كامل المسلسل (الطريق الى كابول)، والذي يتحدث عن موضوع مشابه، في رمضان العام الماضي نتيجة اخلال المنتجين بالتزاماتهم على ما يبدو.
ويمكن ان يقسم مسلسل الحور العين إلى محورين أساسيين اولهما محور اجتماعي يتحدث عن سكان مجمع (المحيّا) في مدينة الرياض والذي تعرض إلى عملية إرهابية من قبل الجماعات المسلحة في المملكة العربية السعودية. وقد حاول القائمون على هذا المسلسل ان يتعرضوا لحياة الناس العاديين، وجلّهم من العرب المغتربين العاملين في السعودية، ويفصلّوا الكثير من الشؤون اليومية للاسر المختلفة في بيوتها، لحمل المشاهد على التفاعل والتعاطف معها، وتهيئته نفسيا لنبذ وشجب العمليات المسلحة التي سيقعون ضحايا لها فيما بعد.
أما المحور الثاني في هذا المسلسل فيدور حول عناوين الارهاب، والجهاد، والتطرف. ويعرض لنقاشات حادة ومباشرة في أحيان كثيرة حول صواب هذه الأعمال وجدواها. ويتابع سيرة شاب سعودي يُغرر به من خلال الأفكار المتطرفة والاستخدام المبتسر للنص القرآني والنبوي والمأثور عن السلف الصالح. وهو يستعرض كذلك النوازع النفسية لهذا الشاب بين دواعي الجهاد وتأصله في العقيدة، وبين الدعوة الحسنة والقيم والمثل الدالة على نبذ العنف وقبول الآخر وروح التسامح في الدين الإسلامي.
والواقع ان المسلسل في محوره الاجتماعي لا يعدو ان يكون عملا متوسطا، وغير جدير بان يوصف بالمتميز. ولكنه، ومن خلال تطرقه لموضوعة الارهاب، ينتقل الى تفرّد قلّ نظيره نظرا للحساسية البالغة التي يعالج بها هذا الموضوع، رغم انه بات يلقي بظله على حياة الناس في غير واحد من البلدان العربية والإسلامية. كما ان واضعي القصة لم يهتموا كثيرا بتحريك الأحداث لإضفاء التشويق عليه، فجاءت معظم الحلقات تكرارا لأحداث وحوارات ونقاشات في حلقات سابقة. وهم لم يهتموا كذلك بإيجاد نهايات لتلك الأحداث، حيث راهنوا على الحدث الأكبر الذي يشكل محور المسلسل وقضيته، وهو التفجير الارهابي الذي ازهق أرواح معظم أبطال المسلسل. ولعل عِلم المشاهد بالمصير الذي ستؤول إليه الشخصيات جعله غير مكترث هو أيضا بالحبكة الدرامية، وكيفية التقاء الخيوط المتفرقة، وحلّ العقد الرئيسة في هذا العمل الدرامي.
لكن المسلسل نجح بشكل لافت في الإشارة إلى خطر التطرف، وصرح بوضوح إلى منابعه وبيئته الخصبة: الجوامع والحلقات الدراسية الدينية. وشكلت شخصية رجل الدين المستنير، والمحب للحياة والناس، مفتاحا لمواجهة قوى الظلام التي تسكن الكهوف وتتجول في البراري. وجاءت الحوارات بين هذين الطرفين المتناقضين بمستوى متفوق أحيانا، بما يفتح الباب أمام حوارات أخرى في المستقبل، وان كان طرفاها يستقون مادتهم ومرجعهم في جدالهم من ذات المنبع. ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان المسلسل يتحدث بالدرجة الأولى عن التطرف الديني في السعودية تحديدا، فمما لاشك فيه ان تلك الطروحات تعدّ ثورية، وغير مسبوقة بهذا الكم والحجم.
وهذا يقودنا إلى ملاحظة مهمة. فموضوعة الارهاب تتم مناقشتها ضمن حوارات هذا المسلسل من زاوية حدوثه في المملكة تحديدا. ويقدم المسلسل إدانة واضحة لهذه الاعمال، ويتحيز باستخدام حيل ووسائل إخراجية فنية، ضد من يروج للعنف والتطرف. ويوجه كذلك نقدا اجتماعيا يضاف للنقد الديني والسياسي للأفكار المتطرفة التي أخذت تغزو المجتمع السعودي خصوصا، والعربي عموما. بيد ان هذا النقد ظل ضمن حدود جزيرة العرب. ولم يسعَ المسلسل إلى توسيع دائرته لتشمل المناطق الأخرى التي تعاني من ذات البلوى، كالعراق وفلسطين وأفغانستان واندونيسيا والشيشان والفلبين، ناهيك عن وقوع أعمال الإرهاب في غير بلاد المسلمين. بل ان رجل الدين المعتدل لا يرفض صراحة، وربما يوافق أيضا، على ان الجهاد في تلك الأماكن هو جائز وشرعي، وان حدد لذلك شروطا عديدة.
ويخيل الينا ان المراد من ذلك هو توجيه التطرف السعودي الى خارج المملكة، والنظر على ان اقتراف أعمال العنف ضد سكانها، وان كانوا غير سعوديين، هو جريمة وخطيئة كبرى. بخلاف ما يحدث من أعمال مماثلة في العراق مثلا، على اعتبار ان العراق (محتل)، وبالتالي فهناك مسوغ لتلك الأفعال. ونشير هنا الى تنويه رجل الدين حول فشل اعمال العنف في العراق في تحقيق اهدافها، حيث يؤكد ان عديد الضحايا بين المدنيين العراقيين يزيد على عشرين ضعف عددهم بين القوات الامريكية. ولكن مثل هذه الاشارات كانت نادرة وهامشية الى حد ما. ولكننا للإنصاف نقول ان اية محاولة لتوسيع نطاق المسلسل ربما كانت كفيلة بإفشاله ورفضه ككل. فالمسلسل جاء استثمارا للمدّ المعارض للعنف في المملكة نتيجة تفجير (المحيّا) والأعمال الإرهابية الأخرى، ورغبة المجتمع السعودي في الحدّ من تلك العمليات في هذا البلد. ويمكن اعتبار ان هذا المسلسل هو خطوة أولى ربما تتلوها خطوات في المستقبل، عندما يكون المجتمع أكثر استعدادا وتهيؤا لنبذ أعمال العنف أينما وقعت.
والمسلسل أهمل عن عمد الخوض في حياة غير العرب الساكنين في نفس المجمع، والذين راحوا هم أيضا ضحايا لنفس العملية الإرهابية. وجزء من ذلك يعود إلى الأسباب ذاتها في تضييق النطاق المستهدف، وفي محاولة استعطاف المشاهد على الشخوص التي يشعر بالألفة تجاهها من ناحية اللغة والدين والأصل المشترك. نعم، كانت هناك شذرات بين الحين والآخر تدعو إلى حفظ نفوس (المعاهدين) و(الذميين)، ولكن بالمقارنة مع خوض المسلسل في أدق تفاصيل الحياة اليومية للضحايا من العرب، فمن التجني اهمال ذكر جيرانهم القادمين من دول غربية، والذين لا نشك انهم كانت تربطهم روابط الجيرة الحسنة، والتوحد في الإنسانية مع سكان المجمع من العرب.
والشخوص في هذا المسلسل هي صفات مجردة. فالمهندس خريج الجامعات الفرنسية متكبر ومغرور، ولا يملك حسا فنيا، ويعامل زوجته الفقيرة وغير المتعلمة بكل قسوة وازدراء، رغم ثقافته واحتكاكه بالمجتمع الفرنسي الحر من خلال زواج سابق فاشل. والتاجر السوري مستغرق دائما في عمله ولا يهمه من حدوث هجوم إرهابي إلا مقدار تأثير ذلك على تجارته، رغم ان مثل هذه الأعمال تعد أمرا نادرا في الرياض. ورجل الأعمال الأردني-الفلسطيني هو أب قاس متغطرس رغم اقترانه بزوجة مثقفة ومعلمة مثابرة. والفنان اللبناني عصبي المزاج على طول الخط ومنطوٍ على نفسه، كما ان زوجته لا تسعى إلى فهمه ومشاركته همومه بقدر ما تركز على ذاتها وسأمها ووحدتها. والأمر ذاته بالنسبة للكاتبة المغربية التي تشعر بالاستعلاء على زوجها الميكانيكي، الذي يتصف هو الآخر بالجشع دائما.
ومع ذلك يتطرق المسلسل في ناحيته الاجتماعية لنموذج من تأثيرات العولمة والثورة المعلوماتية من خلال قصة حب بين الفتاة السورية وشاب سوري يعيش في الولايات المتحدة. ويحمل حوارهما عبر برامج المحادثة قيما تربوية واجتماعية عليا، يرسلها في غالب الأحيان الطرف الذكري مما يوحي بتأثير الثقافة الغربية عليه. وفي غير هذا النموذج كانت معظم الشخصيات الذكرية الاخرى متصفة بالسلبية أو الأنانية وحب ألذات، باستثناء شخصية أستاذ الجامعة المصري الذي يقنع بعدم قدرة زوجته على الإنجاب ويواسيها على ذلك، وان كانت هي ذاتها غير قانعة وتكرر التذمر والتشكي من حالها وفشلها كامرأة في كل حلقة تقريبا. أما النساء فقد كنّ -عموما- اكثر ايجابية وقدرة على التأثير في الأحداث. والواقع ان هذا الفصل والتميز في الشخصيات نادرا ما يقع، وان كل إنسان يحمل سلبيات وايجابيات. ومن ميزات العمل الجيد ان يسعى لإظهار كليهما في الشخصية لجعل العمل أكثر واقعية.
يبقى ان استعمال القائمين على هذا المسلسل لشخصية المواطن السعودي الراغب في إقامة الفريضة الغائبة، وتردده بين آراء المتطرفين ودعوتهم الجهاد، وبين محاضرات الشيخ المعتدل التي تنبذ العنف، يمثل محاولة لتشخيص كيفية تجنيد المُغرر بهم الذين يتم استعمال أجسادهم في الأعمال الإرهابية. لكن هؤلاء فاتهم ان التجنيد لا يكون في مدى أيام أو اشهر، وان التهئية النفسية وغسل الدماغ ربما يستغرق سنوات. وان هؤلاء المُغرر بهم يتم استدراجهم في اعمار مبكرة وقبل خوضهم في ملذات الدنيا وتعرفهم عليها، لضمان عدم تراجعهم وفشلهم في تنفيذ الأوامر الموكلين بها. ويمكن ان نعدَّ الخاتمة المفبركة للانتحاري المفترض والذي يقرر العودة عن فعله وتفجير السيارة الملغمة التي كان يقودها في الصحراء بدلا من الهدف المقرر أصلا، يمكن ان نعدَّ ذلك ضربا من التمني، والذي لا يمكن تصديق حدوثه بهذه السهولة.
ومن ناحية أخرى فان التحقيق مع احد المعتقلين الذين داهمتهم القوات الأمنية وتمكنت من إلقاء القبض عليه لا يرقى إلى مستوى عمل فني متخصص. وجاء هذا التحقيق في اغلبه بصيغة حوارات جوفاء وتكرار لعبارات بعينها يقولها المحقق، يقابلها استهزاء واضح من المتهم. وحتى اعتراف المتهم اخيرا وإرشاده لوكر الجماعة الإرهابية لا يمكن ان يصدق، وهو ايضا يقع في دائرة التمنيات. وأكاد اجزم انه لو كانت هذه هي الوسيلة التي تحقق بها القوات الأمنية السعودية فلن تتمكن من معرفة سوى النزر اليسير من المعلومات، وأنها ربما لن تستطيع –بهذه الطريقة- مواجهة آفة الإرهاب فضلا عن القضاء عليها.
ان المسلسل الذي عرضته الـ (ام بي سي) جاء في فترة حساسة من تاريخ الأمتين العربية والإسلامية، لتزايد الأعمال الإرهابية المستندة العقيدة الاسلامية. ومجرد تصديه لبحث هذا القضية هو بلا شك شجاعة كبيرة، وخروج عن النمطية، وإحكام للعقل مقابل العاطفة الهوجاء التي تتسم بها الشعوب الشرقية عموما. وإذا كانت قناة (ام بي سي) قد اتخذت شعارا في موقعها على الانترنت (العالم بعيون عربية)، فإنها بعرضها لهذا المسلسل قدمت رواية عن (الإرهاب) بعيون عربية. ويحق لهذه القناة ان تتحدث عن قضية عالمية بعيونها هي، ولكننا ندرك ان هذه الرؤية ليست عالمية أو إقليمية، وان لم تكن محليّة جدا.

Monday, November 07, 2005

الطائفية سبب للحب والحرب

من نعم الخالق عز وجل ان خلق الناس مختلفين، ولم يجعلهم على شاكلة واحدة. فجعل من بعضهم ابيضا والاخر اسود، وجعل بعضهم طويل القامة والاخر قصير، وجعل بينهم قوي الجسد والاخر ضعيفه. وجعل بعضهم ذكيا ألمعيا وغيره بالكاد يفهم الاشارة.. ورغم ان من لم ينله القسط الاوفر من جمال الجسم، او حدة الذهن، ربما يكون ساخطا على خلقه، ناقما على عيشه، نادبا سوء حظه، عاتبا على ابيه لاتيانه به الى هذه الحياة الظالمة. لكن من بين حسان الجسوم من ضعُف وانتابته الامراض، ومن بين المفكرين العظماء من ذهب عقله فلم يعد يعي شيئا. ولو تأمل الانسان لوجد في الاختلاف رحمة به، فقد اقتضى هذا الاختلاف شعور الانسان بعدم الكمال وبالتالي اخذ يبحث عن التكامل مع الاخرين، وذلك هو اساس تطور البشرية، ونموها وسيطرتها على الكوكب الارضي.
على ان الاختلاف شيمة بشرية خالصة اكثر تعميما من الشكل، وما قدّر الله لكل فرد ان يكون عليه. فالبشر يختلفون في اللغات والاديان والمذاهب والعادات والتقاليد وغير ذلك اختلافا كبيرا. ولا تكاد تجد ميدانا يتفق عليه الجميع، بل هم يتفرقون الى فرق شتى وينتسبون الى اطياف متناثرة. وهم ينقسمون كل جيل تقريبا حول نفس القضايا التي انقسم عليها اباؤهم واجدادهم. ومع ذلك يحتفظ المجتمع بنوع من الوحدة، تحت رابط اوثق من الرغبة الشخصية. فالانسان تدفعه غرائز عدة وتحركه نوازع مختلفة. وكما ان الرغبة في التجمع غريزة متأصلة، فكذلك الشعور بالذات، والنزوع الى التفوق هي سمات بشرية محضة.
ولعل سبب الانقسام يأتي اصلا من تصارع نوعين من الانتماء داخل الفرد يدفعه الى ايجاد انتماء مشترك، فالقومية قد تكون اقوى من الانتماء الديني في احد المجتمعات بينما يكون العِرق اقوى من كليهما في مجتمعات اخرى. وحين يتفوق الشعور القومي ينتج مجتمعات علمانية تقدس الفردية ضمن الهيكل الاجتماعي. بينما تكون صفة المجتمعات المؤسسة على قاعدة الدين الايثار والرغبة في التضحية. وحين يشعر بعض الافراد ضمن احد هذين بضرورة مراعاة الصفات الاخرى، ينشأ نوع من التوفيق يميز توجهات هؤلاء الافراد، ويؤسس لطائفة جديدة تتبنى صيغا اجتماعية مقتبسة عن كل منهما.
وعلى هذا، فان الطائفية هي احد مظاهر التطور الذي يمر به البشر، في محاولة تصحيح مسار التاريخ، وفي رفض المسلمات المتوارثة. ولو قدر للبشر ان يكونوا على شاكلة واحدة، لتوقف مجرى التاريخ، ولاصبح التعايش بين الافراد مملا الى حد الجنون. والطائفية بعد ذلك نتاج الفكر البشري عبر عصور طويلة من السعي المضني وراء الحقيقة. فهي نتيجة حتمية لرقي الانسان التواق الى اختراق المجهول، والخوض في الغمار الصعبة، متحديا ذاته لاثباتها او فهمها.
لكن الطائفية على مستوى الفكر لا تسود. وما تسود، كما اثبتت وقائع التاريخ، رغبة اخرى في نفس الانسان، تلك هي فرض الذات، مهما تكن الطرق والوسائل المتبعة، وان كانت بالحروب والتقتيل والتهجير والاستعباد. وهنا مكمن الخطر على الجنس البشري. اذ ان الرغبة في تسييد الطائفة، التي يستعملها عادة قادة طموحون الى السلطة المطلقة، قد تدفع الافراد الى التصرف بشكل لا عقلاني وتوقعهم تحت تأثير المد الجمعي، ثم تغير نوازعهم ومُثلهم وتجعل منهم اشرارا لا يرجى لهم صلاحا.
لكن الشر ليس اصل في الانسان. والمجتمعات البشرية اوجدت سبلا للقضاء على التطرف الشرير، وهي جميعا تستظل بمظلة بالقانون، وتؤمن بضرورته. كما اوجدت المجتمعات الانسانية معايير لتقديس الخير وتحفيزه في النفس، وتجعله الغاية القصوى للاشياء. وفي كل تجمع بشري هناك خطوط عريضة يتفق عليها الجميع. ولكنهم ينقسمون تحت هذه المسلمات الى مجتمعات اصغر وتلك تنقسم لاحقا الى ما هو اصغر وهكذا. واذا كان الخير والشر هما عنصرا الحياة الدافعان، فان اولهما يمثل رغبة المجتمع الاكبر في الحق والمساواة والمصالح المشتركة، ويمثل الثاني رغبة المجتمع الاصغر في الاستئثار، والمكاسب الضيقة. وهما يتصارعان على الدوام على مستوى الفرد الواحد، وعلى مستوى المجتعات الصغرى صعودا.
غير ان البشرية مع ذلك اوجدت سبلا للتعايش المشترك رغم وجود الخلافات، يقوم على اسس تحترم الطوائف والمذاهب والاعراق ولا تقلل من شأن ايا منها، وتتيح لكل منها ان ينتهج نهجه الخاص طالما كان خاضعا للقانون. وخوفا من جور القانون الذي يسنه البعض، ولدت فكرة الاشتراك في سن القانون من قبل الجميع. وخوفا من جور القائمين على تنفيذ القانون ظهرت اليات المشاركة في الحكم. وخوفا من استئثار الحكام بالسلطة وابتعادهم عن المحكومين، مهما تكن انتماءاتهم، اقر مبدأ المناوبة على السلطة. ولعمري هذه هي المفردات التي تحدد مفهوم الديمقراطية الحديثة.
ان الطائفية التي تريد تسييد افكارها انما هي امر مقيت تجدر محاربته. لكن الطائفية لا تُجتث، بل تُروض. واذا اتيحت الفرصة للكل في المشاركة، فلن يكون هناك دافع حقيقي للنزاع. واذا كانت هذه المشاركة فعالة، فستكون العامل الاساس في تطور المجتمع ورقيه. وقد ادرك الانسان منذ وقت طويل ان السلم قد يكون هشا، ولكن الحروب لا تحل المشاكل. وبرغم الحرب الضروس، تبقى امنية المقاتل في مصافحة عدوه ومعانقته اكثر من قتله، او الموت على يديه. ولم يكن هناك عدو دائم في لغة التاريخ. ولو قدر لمن ماتوا في الحروب ان يعودوا، لتعجبوا من غبائهم، باهدارهم الفرص الكثيرة في السلم عن طريق التسامح، بدلا من فقدان الارواح والاموال بتعصبهم الاعمى وغير المبرر.
واذا اردت ان تعدّ انجازات الانسان على مدى تاريخه المدون، فلن تجد اعظم من ايمان الاغلية الساحقة من البشر بضرورة التسامح مع الاخرين، رغم اختلافهم في كل شيء اخر تقريبا. ذلك ان الاختلاف لا يكون صحيا الا في جو من التسامح وقبول الاخر. وما دامت الحقيقة النهائية للاشياء لا يمكن ادراكها لقصور العقل البشري، كما يحلو للفلاسفة ان يصفوه، فكل حقيقة ظاهرية ممكنة. وكل ما يؤمن به الاخرون ممكن، ولكن هناك ترجيح فقط لما نؤمن به نحن. ومن هنا يمكن ان نحب الاخرين لاختلافهم عنا بقدر ما نستطيع ان نتسامح معهم. ولا شك ان المؤمنين بالمباديء السامية للدين الاسلامي يقرون انه سمح بما فيه الكفاية لقبول الاخر. اذن فليكن الاختلاف سببا للحب لا للحرب، لاننا متحضرين، ولاننا مؤمنين، ولاننا خليفة الله على الارض.

Monday, October 10, 2005

ثلثا ثلاث محافظات وعدالة التصويت

لاشك ان النقاش حول آلية التصويت على مشروع الدستور الدائم، وكيفية الموافقة عليه او رفضه، قد اتخذ مسارا غير متوقع بالمرة، اذا اخذنا بنظر الاعتبار وضوح النص الذي يحدد تلك الالية في قانون ادارة الدولة المؤقت، المادة الحادية والستون، الفقرة (ج): "يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر." فقد اتخذت الجمعية الوطنية على عاتقها تفسير هذه الفقرة، وفعلت ذلك بشكل مثير للجدل. وتطور النقاش ليصل الى المواطن العادي، الذي بدأ يتساءل كيف يمكن لعدة اشخاص منفردين ان يقفوا بوجه رغبة الملايين، فيعيقوا الموافقة على الدستور، بل ويسقطوه ومعه الحكومة والبرلمان، ويعيدوا العملية السياسية الى بدايتها؟ والواقع ان هذا مجرد افتراض لا اساس له، مبني على نظرية حسابية متطرفة.
ولنبدأ من خوض الجمعية مسؤولية تفسير قانون ادارة الدولة. ذلك ان تفسير القوانين، والقانون الاساس، والدستور خصوصا يقع على عاتق جهة متخصصة تسمى (المحكمة الاتحادية العليا)، كما ورد في المادة 44 (ج): "اذا قررت المحكمة العليا الاتحادية ان قانونا او نظاما او تعليمات او اجراء جرى الطعن فيه انه غير متفق مع هذا القانون فيعتبر ملغيا." وهذه المحكمة كان يجب انشاؤها مع تشكيل الحكومة كما تنص المادة 39 (ج): "يقوم مجلس الرئاسة، كما هو مفصل في الباب السادس، بتعيين رئيس واعضاء المحكمة العليا، بناء على توصية من مجلس القضاء الاعلى." ولكن اهمل ذلك بالطبع نظرا للظروف التوافقية التي اوصلت القيادة الحالية الى سدة الحكم. ويبدو ان لا احد يريد ان تكون هناك سلطة لمراقبة دستورية القوانين، فبعض تلك القوانين ليست فقط غير شرعية، وانما هي ايضا لفائدة حصرية بمن يصدرها. على ان الجمعية الوطنية اضطلعت بمهمة الخصم والحكم، وقررت تفسير الفقرة المشار اليها. وفعلت ذلك بطريقة غريبة، رغم وجود العديد من الخبراء القانونيين، والفقهاء، واللغويين، واصحاب العلم والفهم. فقد اباحت تفسير الكلمة ذاتها بطريقتين رغم ورودهما في نص واحد ومورد واحد. فقد اصدرت قرارها باعتبار معنى مصطلح (اكثرية الناخبين) بانهم المصوتين، بينما استنتجت ان مصطلح (ثلثا الناخبين) يدل على المسجلين. وفي رأيي فان هذا القرار، مهما حسنت نيته، هو من اسوأ قرارات الجمعية الوطنية (المنتخبة)، وسيسجل كنقطة سوداء في تاريخها، وهي التي قدمت الشهيد تلو الاخر في خدمة العملية السياسية والديمقراطية، والتي يتحمل اعضاؤها وزرا كبيرا، وضغطا هائلا. ولعلي اتلمس العذر لهؤلاء الذين صوتوا لصالح هذا القرار العجيب بانهم انما ارادوا ان يضمنوا عدم سقوط مسودة الدستور في الاستفتاء القادم، ودفع العملية السياسية والديمقراطية خطوة للامام. ولكن هذا العذر لا يعدو ان يكون تجسيدا آخر لمقولة (الغاية تبرر الوسيلة) المرفوضة قطعا وشرعا. فحتى الارهابيين يبررون افعالهم الشنيعة بانهم يسعون لغرض نبيل هو تحرير العراق. وقد يكون القانون مجحفا، لكن على القاضي ان يحكم به، وان شاء الاحتجاج فعليه ان يدفع الغرامة من جيبه!!
وهكذا جاء تدخل الامم المتحدة في الوقت المناسب ليضع الامور في نصابها الصحيح. فقد اعلنت الامم المتحدة ان تفسير الجمعية الوطنية لقانون الانتخابات لا يتماشى مع المعايير الدولية، وهو ما ارغم الجمعية على العودة عن قرارها، وتفسير كلمة الناخبين على انها (المصوتين) في كلا مورديها، وكما هو واضح اصلا. فلا يعقل او يتصور ان يكون هناك ناخب ما يحسب له حسابا ويعد له صوتا، سلبا او ايجابا، ما لم يكن ذلك الناخب مشاركا فعليا في عملية التصويت. ولم نسمع في انتخابات او استفتاءات جرت في اي مكان في العالم، ونسبت نتائجها الى مجمل السكان المؤهلين للتصويت، او من سجل اسمه في سجل الناخبين. فنتائج الانتخابات يجب ان تكون منسوبة الى المشاركين فيها، ولا يمكن ان يعطى صوت لمن لم يشارك فيها. ولولا تدخل الامم المتحدة لما تراجعت الجمعية عن قرارها المؤسف مهما كانت النتائج. وفي حال استمر العمل بذلك القرار، فقد كان ذلك كفيلا بان يقاطع الناخبون من العرب السنة الاستفتاء، بعد ان حرموا من آخر فرصة لقول رأيهم. ولو حصلت الموافقة على الدستور حسب هذا السيناريو، لكان ذلك بمثابة اعلان لتقسيم البلاد، وربما لحرب اهلية. ويبدو ان ما يجعل الجمعية قلقة بشأن سقوط مشروع الدستور في الاستفتاء هو حق النقض الممنوح الى ثلاثة محافظات، والذي يتيح لثلثي اي عدد من المشاركين في الاستفتاء ان يقفوا بوجه الدستور ويمنعوا الموافقة عليه. وقد افترض البعض انه اذا اشترك ثلاثة افراد في ثلاثة محافظات فقط في هذا الاستفتاء، وصوت اثنين منهم في كل محافظة بـ(لا)، فستتحقق نسبة الثلثين الكافية لاسقاط الدستور. اي ان ستة افراد فقط يمكن ان يرفضوا الدستور وتكون ارادتهم مقابل ارادة (الملايين) في المحافظات الاخرى. وهذا افتراض لحالة متطرفة يصعب تصورها. وبالمقابل، يمكن تصور حالة متطرفة اخرى، وهي ان يشترك اثنان فقط من كل محافظة ليقولوا (نعم) مقابل (الملايين) من المحافظات الثلاثة التي ربما صوتت بـ(لا) بنسبة (65%) وهي غير كافية لاسقاط الدستور. وبالتالي ستكون رغبة عشرون او ثلاثون فردا مقابل رغبة الملايين! ومن الجدير بالذكر، ان افتراض الحالات المتطرفة وارد في كل الحالات المماثلة. فتعديل الدستور الامريكي مثلا يتطلب موافقة ثلاثة ارباع الولايات على التعديل في استفتاء عام. وهذا يعني ان اتفاق ثلاثة عشرة ولاية (ربع الولايات) على رفضه (بالاغلبية البسيطة) سيعطل هذا التعديل. فاذا اشترك شخصان فقط من تلك الولايات وصوتا بالرفض، فستكون ارادة بضعة اشخاص مقابل (الملايين) من الموافقين!
وبالعودة الى حالتنا، فان الاكثر احتمالا هو اشتراك بضعة الاف من كل من المحافظات (المضطربة)، ويصوتوا بـ(لا) للدستور، وبالتالي يمكن ان يوقفوا مشروع الدستور حتى ولو صوت باقي العراق باجمعه بالموافقة. ولكن السؤال هنا، لماذا يشترك بضعة الاف فقط من تلك المحافظات، بينما يشترك الملايين من المحافظات الاخرى؟ هل لانهم غير راغبين، ام لانهم غير قادرين؟ نحن نعلم انهم راغبين بدلالة ارسالهم ممثلين الى لجنة صياغة الدستور. وهم لم يقاطعوا الانتخابات السابقة لانهم لا يؤمنون بالانتخابات، بل لانهم لم يكونوا قادرين على المشاركة فيها، وبعد ان صُمّتْ الآذان عن طلبهم بتأجيلها لحين تسوية الامور الأمنية في محافظاتهم.
اذن فان معظم ابناء المحافظات التي تشهد اختراقات امنية لن يتمكنوا من المشاركة في الاستفتاء، بسبب سيطرة الارهابيين والمسلحين عليها، وضعف سيطرة الدولة، بل وغيابها عن تلك الاماكن. وبدلا من محاولة منع حتى هؤلاء القلة من التعبير عن رأيهم، كان الاجدى ان يصار الى العمل الجدي لاحلال الامن في تلك المناطق. واذا لم يكن ذلك ممكنا في الوقت الراهن، فيمكن ان تؤخر العملية السياسية لحين الوصول الى تلك الحالة. لقد ادعى من رفض تأجيل الانتخابات السابقة، حسب طلب ممثلي تلك المحافظات، ان التقدم بالعملية السياسية هو ما سيؤدي الى احلال الامن.. الامر الذي لم يتحقق البتة. بل على العكس، زادت الاوضاع سوءا في مناطق كثيرة من العراق، وخصوصا في المحافظات الغربية. ولم تفلح العمليات التي قامت بها القوات المتعددة الجنسيات مع الجيش العراق، من اجل تطويق الارهاب، في تحقيق تقدم نوعي. وجزء من هذا الفشل يعود الى الاصرار على اجراء الانتخابات، وما ادى اليه ذلك من مقاطعة، ومن فترة انتقالية لتغيير الحكومة، ومن تشكيل حكومة بدأت من الصفر، رافضة ما حققته الحكومة السابقة.
وهكذا، فان نوعا من العدالة يتم تحقيقه الان. ربما لن يستطيع الكثير من اهالي المنطقة الغربية في العراق من المشاركة في الاستفتاء، كما لم يستطيعوا ان يشاركوا في الانتخابات، وكما أهْمِل دورهم في اللجنة الدستورية. ولكن دورهم في رسم مستقبل البلاد سوف يكون رائدا، وسيتحملون مسؤولية كاملة عما سيجري لاحقا. فاذا اقرت مسودة الدستور، فهم اذا يوافقون عليه، طالما انهم لم يستعملوا حق النقض الممنوح لهم. واذا رفضت تلك المسودة، فان ذلك يكون تتويجا لتاريخ من الرفض من الجهة المقابلة.

Thursday, October 06, 2005

الحدس.. موهبة الصحفي ومسؤوليته

لعل آخر ما يتوقعه أي صحفي هو ان يحوز عمله على الرضا التام من قبل الأطراف التي يتناولها في بحثه وتحليله، في سعيه الدائم إلى إظهار الحقيقة. بل انه في الواقع مشغول بتوقع من سيثيره أو يستفزه هذا العمل، وطبيعة رد الفعل الناتجة، أكثر من تفكيره في الإطراء أو الثناء على ما يسعى لتقديمه. وفي كثير من الأحيان يكون هذا الصحفي (أو الصحفية) غير قادر أصلا على التعرف على العواقب نظرا لتشعب الحالة السياسية وتضاربها في بلد يُعد حديث العهد بالديمقراطية والحرية. وبالتالي فان حساباته قد لا تكون فقط في تجنب نقد جهة ما بسبب احتمالية الرد العنيف أو المدمر أحيانا، بل في تجنب نقد الكل، واستعمال الجمل المفتوحة، والإشارة إلى الأحداث بطريقة تقبل التأويل على أكثر من وجه.
ومما يدعو للعجب ان الصحفيين لا يجدون مشقة في نقد أداء الدولة، ولا يتوقعون التعرض للأذى والمساءلة نتيجة لذلك، ولكنهم نادرا ما يتعرضون لنقد الأحزاب السياسية والكتل والجماعات التي تشكل هذه الدولة. وهم يتناولون الخبر أحيانا بحيث يرضي القاريء العادي وغير المطلع في المقام الاول، ويغضون النظر عن ذكر بعض الحقائق التي قد تصدمه. كما يروج بعضهم بطريقة ببغائية لبعض الأفكار والطروحات باعتبارها تأكيدا للنتائج التي يشير إليها فحوى الخبر دون ان يكون لذلك أساس.
ان مهنة الصحافة، خلافا للمهن الأخرى، تتطلب مستوى وعي عالٍ بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي علاوة على معرفة دقيقة بالتغييرات التاريخية، في المدى القريب على الأقل، وكذلك معرفة تفصيلية بمسيرة الأحداث خلال المرحلة الراهنة. والصحفي الجيد يراد له، علاوة على امتلاكه حسا استباقيا للحدث، ان يقوم بأكثر من دور في وقت واحد. فهو يجب ان يكون ناقلا أمينا للخبر الآني، كما ان عليه ان يضعه في السياق التاريخي، وسلسلة المسببات والنتائج، إن أمكن، لمساعد المتلقي على الفهم. وقد لا يكون مطلوبا من الصحفي أن يقدم تحليلا دقيقا وشاملا لمفاد الخبر، ولكنه يجب ان يهيئ الأرضية له على الأقل.
في الصحافة الغربية، وبدرجة اقل في مثيلاتها العربية، يجب ان يجيب مضمون الخبر الصحفي عن ستة أسئلة هي: ماذا، ومن، وكيف، ومتى، وأين، ولماذا. وبهذه الإجابات يستطيع المتلقي فهم الخبر بطريقة واضحة تزيل الغموض عنه. وهي كذلك تنقل الخبر من مجرد إشاعة تتردد على السن البسطاء إلى مادة صحفية تأخذ حيزا في المناقشة العلمية، وتسجل موقفا للتاريخ. على سبيل المثال إذا أراد الصحفي ان يغطي مؤتمرا يناقش قضية ما، فستكون الإجابات المطلوبة كالآتي:
ماذا: مؤتمر عن دور منظمات المجتمع المدني في الدستور.
من: نظم من قبل منظمة كذا.
كيف: ثلاثة عروض تقديمية، لأستاذ جامعة ورئيس منظمة مجتمع مدني وعضو مجلس محلي، الحضور من الناشطين وأعضاء منظمات المجتمع المدني ومن المهتمين بالعملية الديمقراطية. (هل جرت مناقشات جانبية؟ ما هي، وما هو تعليق المحاضرين، وما هو الجو العام؟)
متى وأين: في التاريخ الفلاني في الساعة الفلانية على القاعة الفلانية
لماذا: يذكر ان منظمة كذا سبق وان أقامت العديد من المؤتمرات حول دور منظمات المجتمع المدني في العملية الديمقراطية. ويأتي انعقاد هذا المؤتمر في ظل المطاحنات السياسية الراهنة حول إقرار الدستور، ويلاحظ إهمال أو إغفال دور منظمات المجتمع المدني في هذه العملية المصيرية على الرغم من انها الوحيدة القادرة على التكلم بلغة المواطن العادي كونها غير تابعة إلى أحزاب سياسية...
على ان هناك أشياء أخرى تكميلية، وهي تتأتى بالإجابة عن الأسئلة التي تطرح ضمنا، مثل: وماذا سيحصل بعد ذلك؟ وما الفائدة؟...الخ. وبالطبع قد لا يستطيع الصحفي الإجابة على هذه الأسئلة، ولكنه يستطيع الإشارة إليها، كما في مثالنا أعلاه، كطروحات للمناقشين، واستشراف إجاباتهم عنها. وإذا ما تعذر على الصحفي ان يحصل على معلومة ما، فعليه ان يذكر ذلك للقاريء بأمانة. فان لم يستطع ان يعلم من نظم المؤتمر على وجه التحديد، كأن تعمد الجهة المنظمة إلى إخفاء نفسها، فعليه ان يورد جملة مثل: "ولم يتسن لنا معرفة الجهة التي رعت هذا المؤتمر، رغم ان الشعارات المرفوعة تشير إلى منظمة كذا...". ولكنه قد يكون له حدس في ذلك بناء على شواهد معينة، فيمكن له أن يستعمل مثل عبارة: "ومن المعلوم أن هذه المنظمة تميل إلى التيار الفلاني، وهي سبق وان نظمت مثل هذه المؤتمرات في نفس المكان وباستدعاء نفس المحاضرين...".
وقد يحتج البعض على استعمال (التخمين) في إيراد الخبر. ونحن لا ندعو إلى ذلك على سبيل الإطلاق. بيد ان الصحفي الجيد، والمتتبع لمسيرة الأحداث، والذي يمتلك خبرة وافية في العمل الصحفي، يحتاج إلى توفير دلالات وإشارات تساعد المتلقي في فهم الخبر واستيعابه، ولكنه يجب ان يوضح ان هذه الدلالات والإشارات صادرة عنه، وهي ليست حقائق. ويجب التشديد على ان استعمال الحدس هو آخر الأمور التي يتم اللجوء إليها، وهو إنما يورد لتوضيح نقص في معلومات الخبر ويترك القاريء حرية إملاؤها بما يوافق أو يخالف حدس الصحفي، الذي لابد له ان يتمتع بموهبة الحدس قبل ان يستحق هذه التسمية.
على أننا نجد في المقابل مجموعة غير قليلة من الصحفيين باتت تستعمل الحدس كمرجعية أولى وتفرض استنتاجاتها بدون التصريح بذلك، وتفترض ان الأمور تسير حسب تخمين الصحفي نفسه أكثر من الحقائق الموضوعية التي صنعت الخبر ذاته. وهؤلاء هم في العادة من المرتبطين حزبيا أو الذين يشعرون بالولاء لجهة أو طائفة أو كتلة ما. وهم يفترضون ان عليهم، طالما كانوا ناقلين للأخبار، ان يضعوها في قالب يتضمن رأيهم، أو رأي من يقدم لهم الدعم، بحيث يصاغ الخبر موافقا لتوجهات تلك الجهات.
ان طريقة الأخبار الموجهة لاقت رواجا، على المدى القريب، في الصحافة العراقية. وذلك ليس اعتمادا على حسن أداء هذه الصحافة، وإنما لكون المتلقي غير مؤهل بما فيه الكفاية للحكم على طبيعة المادة التي توفرها تلك الصحافة. ومن طبيعة الإنسان انه يميل إلى تصديق ما يوافق توجهاته، ويسارع إلى تكذيب ما يخالفها. ولكن الحقيقة البسيطة ان البشر ليسوا كاملين، وأنهم يرتكبون أخطاء. ولذلك يجب على الصحفي الملتزم بعد ان يجيب على الأسئلة المذكورة أنفا، إن أراد أن يحلل الخبر ضمن قناعاته، أن يذكر بشكل أمين طبيعة تلك القناعات كأن يستخدم صيغة الغائب في طرح تلك الأفكار معززة بملاحظات عن أرضية حامليها، فيقول: "يشار ان بعض المنتقدين، من ذوي الأفكار الليبرالية، رفضوا إطلاق الوصف الفلاني على منظمة كذا...".
ولتدليل على مثل هذه الأخبار الموجهة، سأورد مثالا من احد المواقع الالكترونية العراقية. حيث نشر هذا الموقع خبرا مفاده ان مظاهرة كبيرة خرجت في مدينة عراقية، مقابل مبنى المحافظة، تطالب بإقالة المحافظ نظرا لسوء الخدمات، وان المتظاهرين اصدموا مع قوات الشرطة، وحدث إطلاق نار بين الجانبين قبل ان تتفرق المظاهرة. وبعد التدقيق في الخبر، وجدنا ان آخر مظاهرة حدثت في تلك المدنية كانت قبل اسبوعين أو ثلاثة من تاريخ نشر هذا الخبر. وهي لم تكن كبيرة إذا شارك فيها بضع عشرات فقط، وأنها لم تكن احتجاجا على سوء الخدمات وإنما احتجاجا على حل فوج المغاوير الذي لم تعترف به وزارة الداخلية. ولم يطالب المتظاهرون بإقالة المحافظة، بل باعادتهم إلى الخدمة. ولم يحدث تصادم، ولكن أطلقت بعض العيارات في الهواء تحذيرا لأحد المندسين الذي لوح ببندقيته. وما دفعني إلى التأكد من صحة الخبر، هو افتقاره إلى الإجابات عن (من ومتى)، لأجد ان الخبر أجاب بصورة خاطئة عن (ماذا وكيف ولماذا). وكانت إجابة (أين) فقط هي الصحيحة: مقابل مبنى المحافظة. ويبدو ان الموقع الالكتروني بخبره هذا إنما أراد حدوث مظاهرة أمام مبنى المحافظة ليبني عليها خبره كما يحلو له.
وإذا كان حبل الكذب قصيرا، فهو في الصحافة، للأسف، أطول قليلا. ونظرا لان البلد لم يصل بعد إلى مرحلة تسويق الخبر كسلعة، وبالتالي يترك للعرض والطلب تحديد الغث من السمين، فان مسؤولية الصحفي عن هذه المرحلة لا تقل عن مسؤولية السياسي، ذلك انه بإهماله الحقيقة، أو تحويره لها، إنما يشوش على الرأي العام ويؤخر التطور الحتمي للديمقراطية. ونحن نعلم ان السياسيين يتمسكون بالديمقراطية حينما يكونون خارج السلطة، ولكنهم يمنحوها اقل اعتبار حينما يصبحون فيها. فالديمقراطية ليست فقط انتخابات، وإنما مجموعة من الآليات التي تضمن التزام الكل بها. ومن هذا الكل، جزء مهم يستطيع ان يساعد على إنجاز البناء بسرعة، كما يمكن له عرقلته، ذلك هو الصحفي.

Thursday, September 22, 2005

آلية تعديل الدستور وجدلية الارنب والغزال

يقول المثل العراقي الدارج: "تريد ارنب خذ ارنب، تريد غزال خذ ارنب". ولعل الدستور المقترح من قبل الجمعية الوطنية بالصيغة التي تم الاعلان عنها عبر وسائل الاعلام، هو احد مصاديق هذا المثل الشعبي. فرغم ان هذه الوثيقة احتوت على مواد متميزة تضمن حقوق الانسان وتؤسس لديمقراطية حرة في منطقة قلما تمتعت بها، الا ان هناك نصوصا واحكاما ربما فرضتها طبيعة المرحلة الراهنة، والمداولات السياسية بين الاطراف المتجاذبة، وحتى الضغوطات الخارجية، سواء من الولايات المتحدة او حلفائها، او من قبل الامم المتحدة التي يفترض ان تكون راعية العملية الديمقراطية برمتها.
وليس من المتوقع ان تخرج نصوص الدستور كاملة لا يشوبها نقص، حتى لو تسنى للجنة الدستورية الوقت الكافي. ذلك ان عمل الانسان قلما يقترب من الكمال، وهو الكائن الضعيف الذي يشعر بعجزه في كل حين. فما بالك وقد كتب الدستور في فترة قياسية لم تتعد اشهر قليلة، شابتها الكثير من المجادلات والمهاترات السياسية، وغاب عنها دور التكنوقراط الذين كان يمكن ان يشذبوا بعضا من الاسفاف الوارد في النصوص، كما يمكن ان يقترحوا اساليبا براغماتية للتعامل مع القضايا الخلافية. على كل حال اصبح لدينا (دستور)، واصبحت الكرة في ملعبنا. فالحكم النهائي هو التصويت الشعبي على قبول تلك الويقة او رفضها. ويجد المثقفون انفسهم في حرج لم يكونوا يتوقعوا ان يوضعوا فيه. فهم في الوقت الذي ينتقدون نصوصا وموادا في الدستور المقترح، فانهم لا يدعون الى رفضه ككل. وليس هناك آلية للتعديل ضمن السقف الزمني المتاح لحين الاستفتاء العام في 15 تشرين اول المقبل. انهم يشعرون ان اقرار الدستور هو امر ضروري لدفع العملية السياسية في العراق، ويدركون ان رفض الدستور قد يعني ادخال العراق في دوامة الفوضى السياسية، وربما يمهد لحرب اهلية –لاسمح الله-. وهكذا فهم يقبلون باحلى الامرّين، ويأملون ان يصار الى تعديل المواد التي تقض مضجعهم مستقبلا.
وقد فطن كاتبوا هذا الدستور الى هذا الامر، فجعلوا من عملية التعديل امرا غاية في الصعوبة، حسبما تشير الى ذلك المادة 136، التي تتعامل مع كيفية تعديل الدستور:
"اولا: لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين او لخمس اعضاء مجلس النواب، اقتراح تعديل الدستور.
ثانيا: لايجوز تعديل المبادئ الاساسية الواردة في الباب الاول من الدستور، الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.
ثالثا: لايجوز تعديل المواد الاخرى غير المنصوص عليها في البند ثانيا من هذه المادة الا بعد موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.
رابعا: لايجوز اجراء اي تعديل على مواد الدستور بما ينتقص من صلاحيات الاقاليم التي لاتكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية الا بموافقة السلطة التشريعية في الاقليم المعني وموافقة اغلبية سكانه باستفتاء عام.
خامسا: يعد التعديل نافذا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية."
فتعديل الدستور يبدأ اما بجميع اعضاء السلطة التنفيذية او بنسبة عشرين في المئة من مجلس النواب. وهذا يعني ان الاقليات التي تشكل اقل من هذه النسبة لن يتسنى لها ابدا ان تقترح تعديلا للدستور الا اذا عقدت تحالفا سياسيا مع جهة ثانية، وبالتالي فانها ستلجأ الى تقديم تنازلات او الموافقة على شروط مجحفة مقابل اقتراح تعديل الدستور. واذا كان لابد ان يوافق مجلس النواب على التعديل باغلبية الثلثين، فلماذا لا يكون هذا التعديل مقترحا بسيطا يمرر كأي مقترح اخر داخل المجلس؟
لكن هذا الامر يهون الى جانب ما تضمنته الفقرة (ثانيا) من المادة 136، والتي تفرق بين ابواب الدستور من ناحية التعديل، فتفرض شروطا اضافية للباب الاول، تكاد تكون تعجيزية. والواقع ان هذه الفقرة كتبت بصيغة مبهمة وغير واضحة. فما المقصود من: "الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين"، هل هو السقف الزمني لاقتراح التعديل، أي لايمكن تعديل الباب الاول الا بعد ثماني سنوات من اقرار هذا الدستور؟ ام ان المقصود موافقة مجلسي النواب في كلا دورتيه المتعاقبتين، فيجري طرح التعديل في المجلس النيابي القادم وتحصل الموافقة عليه، ثم يعاد طرحه في المجلس الذي يليه لتحصل الموافقة عليه ثم يطرح للاستفتاء العام؟ غير ان النص لا يشير الى صيغة التثنية في: " وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه"، اذ لم يقل (مجلسي النواب) او (مجلس النواب في كل منهما)، مما يحملنا على الاعتقاد ان المقصود هو منع التغيير في الباب الاول للدستور لمدة ثماني سنوات على الاقل.
والباب الاول يتكون من ثلاثة عشرة مادة، حددت الاولى منها شكل نظام الحكم بجمهوري النيابي الاتحادي (الفدرالي)، والثانية علاقة التشريع بالدين الاسلامي ومباديء الديمقراطية وحقوق الانسان. والمادتين الثالثة والرابعة اشارتا الى طبيعة القوميات العرقية والطوائف في العراق، والمساواة بين اللغتين العربية والكردية رسميا، فيما تحدثت المادتين الخامسة والسادسة عن سيادة القانون وتداول السلطة سليما. اما المادة السابعة فقد جمعت بين تحريم الفكر التكفيري والعنصري ومحاربة الارهاب، معتبرة ان حزب البعث هو احد هذه المؤسسات التي تحرض وتروج للارهاب. ولكنها اوجبت على الدولة ان تعمل على منع ان تكون اراضي العراق مقرا للنشاطات الارهابية، خصوصا مع ما تلزم به المادة التالية (الثامنة) الدولة العراقية من حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والالتزام بالمعاهدات الدولية. اما المادة التاسعة فقد اناطت الاشراف على القوات المسلحة واجهزة الامن والمخابرات بالسلطات المدنية، وتمثيل مكونات الشعب العراقي بشكل (متوازن) ضمن هذه الاجهزة، كما حظرت تشيكل مليشيات مسلحة خارج اطار القوات المسلحة، والزمت العراق بالاتفاقيات الدولية لحظر انتشار اسلحة الدمار الشامل. المادة العاشرة تحدثت عن العتبات المقدسة ككيانات دينية وحضارية يجب على الدولة ان تصونها، وان تضمن حرية ممارسة الشعائر فيها. المادة 11 حددت بغداد عاصمة للعراق والمادتين 12 و13 تحدثتا عن علم العراق وشعاره ونشيده الوطني، والعطل الرسمية والدينية وكون هذا الدستور هو القانون الاسمى الذي لا يجوز ان تصدر القوانين، سواء اتحادية او محلية الا متوافقة معه.
من هذا الاستعراض السريع لتلك لمواد الباب الاول، نجد ان معظم القضايا الخلافية قد وردت فيه، وهي الفدرالية، وعلاقة الدين بالدولة، وعلاقة العراق بالامة العربية، ودور حزب البعث، كما ثبتت المحاصصة الطائفية في الاجهزة الامنية. وهي امور لابد ان لجنة كتابة الدستور ارادت ان تتأكد من عدم تغييرها لفترة طويلة نسبيا من الزمن حتى يتاح لها ان ترسخ في التطبيق العملي ويصبح من غير الواقعي تعديلها او الغاؤها. وهذا امر غريب، فكيف يتم تثبيت امور لم يتم التفاوض بشأنها اكثر من بضعة اشهر؟ مع الاخذ بنظر الاعتبار ان تلك المفاوضات لم تكن متوازنة طالما كان احد اطرافها مغيبا او متغيبا عن التمثيل البرلماني. واذ لم تحصل الصيغة التوافقية التي ينبغي ان يمرر بها الدستور، فلا يجوز ان توضع عراقيل خاصة في وجه تعديله، سيما اذا كانت هذه العراقيل مخصصة بالقضايا الخلافية.
لكن التعديل في الابواب الاخرى ليس سهلا باي حال. فهو يقتضي موافقة ثلثي مجلس النواب، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية. ولست ادري ما الذي يخشاه واضعوا الدستور من التعديل ليجعلوه بهذه الصعوبة، اذ من المعروف انه قد يكون من العسير الحصول على اغلبية الثلثين في اي حال. وكان يمكن ان يكتفى بالاغلبية البسيطة، طالما ان القرار في النهاية هو قرار الشعب عبر الاستفتاء. والواقع ان صيغة الاستفتاء هي عودة بالديمقراطية الى الاصول، حيث انه من الناحية النظرية يمكن ان يمارس الشعب حقه بشكل مباشر في كل القضايا الحساسة والمصيرية من خلال التصويت على قبول او رفض قانون او تشريع ما. ولكن هذه الممارسة بطيئة ومكلفة جدا، لذلك يصار الى التمثيل البرلماني للشعب. على ان التحول الى البرلمان لا يعني ان له ميزة على الشعب، فيبقى قرار الشعب هو الحكم النهائي. على ان واضعو هذه الفقرة ذهبوا اكثر من ذلك، فرهنوا موافقة الشعب، ومن قبلها اغلبية ثلثي مجلس النواب، بمصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام. فماذا الذي يحدث ان رفض الرئيس التعديل؟ هل يكون فردا مقابل الشعب وبرلمانه؟ فاذا احتج بان هذه المصادقة بروتوكولية، وان الرئيس لا يملك صلاحية الرفض، قلت ان ذلك لا يظهر من خلال النص. ولو كان كذلك، لقيل مثلا "وعلى الرئيس المصادقة على النتائج خلال سبعة ايام" فتصبح فرضا عليه (او عليها)، لا تخييرا.
وعلى كل حال فان الفقرة (رابعا) من المادة 136 قد اتخذت جانب الصواب بمنع التعديل في الصلاحيات الاتحادية بما ينتقص من صلاحيات الاقاليم، وهذا مبدأ يتماشى كليا مع الفدرالية واللامركزية. الا ان المشكلة ان الفدرالية نفسها هي محط خلاف، واذا اريد تعديل الدستور لحذفها او تعديلها، فستكون هذه الفقرة من اكبر العوائق.
اننا لا ندعو الى آلية بسيطة في تعديل الدستور، لاننا ندرك ان ذلك سيؤدي الى عدم الاستقرار الدستوري من خلال التعديلات المستمرة عليه. ولكننا في نفس الوقت نعجب لجعل التعديل بهذه الصعوبة، وهو الدستور الاول الذي تعيه الذاكرة العراقية. وكان الاجدر ان تفرض صيغة لتعديله مشابهة لصيغة اقراره، وهي الواردة في الفقرة (ج) من المادة 61 من قانون ادارة الدولة المؤقت والتي تنص : " يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر"، مع استبدال كلمة (مسودة) بكلمة (تعديل). حيث ان هذه الصيغة تضمن حصول الاغلبية على حقها في اقرار التعديل، كما انها تتيح للاقليات ان تحتج او تعترض على التعديل اذا كانت من شأنه ان يلحق ضررا بمصالحها.
كما يمكن ان يتولى مجلس النواب هذه العملية برمتها، بالطريقة التي حددها قانون ادارة الدولة لتعديله، والواردة في المادة الثالثة (أ): "ولا يجوز تعديل هذا القانون الا بأكثرية ثلاثة ارباع اعضاء الجمعية الوطنية، وإجماع مجلس الرئاسة..."، وباضافة مجلس الوزراء ان شئت. وربما كان هذا هو الخيار الافضل في الوقت الراهن، طالما كان اجراء الاستفتاء امرا غاية في الصعوبة، وينطوي على مخاطر امنية، تقلل من فرص المشاركة الجماهيرية الواسعة. كما ان شعبنا لازال حديث العهد بالديمقراطية، ويتأثر بالاعلام بشكل مبالغ فيه، وبالتالي يمكن استغلاله لتحقيق طموحات مرحلية لبعض السياسيين، دون الالتفات الى المصلحة الوطنية العليا.

Tuesday, September 06, 2005

الدين والدولة في الدستور المقترح

بعد طول انتظار، وتمديد يتلوه آخر، ومفاوضات شاقة لا يبدو أنها كانت متكافئة، قدمت المسودة النهائية للدستور المقترح إلى الجمعية الوطنية. ورغم ان ذلك في مقاييس الزمن يعتبر إنجازا يستحق الثناء والعرفان، إلا ان الوثيقة التي قدمت لا يمكن ان توصف بالكمال، ولا حتى بالانسجام، لا من حيث المبادىء التي تضمنتها ولا الصياغات التي عبرت عنها.
ودائما سيكون عذر الزمن القصير تعليلا لبعض الأخطاء على اختلاف تأثيرها. ولكن كيف يمكن تدارك هذه الأخطاء عند عرضها على الشعب العراقي للاستفتاء؟ هل هناك آلية مراجعة طيلة فترة الشهر والنصف المتبقية؟ هل ان النقد الذي سيلي هذه السطور سيجد آذانا صاغية؟ لست ادري، ولكنني، طالما أني لم أشارك في وضع المسودة، أجد نفسي ملزما في طرح وجهة نظري.
ولا أريد في هذه العجالة ان اسرد البنود الكثيرة التي اختلف معها، ولكن رأيت ان ابحث واحدة من أكثر المسائل عقدية، والتي نالت نصيبا كثيرا من التفاوض، والحديث العام والخاص. تلك هي دور الدين في الدولة، والتي تحدثت عنها المادة الثانية، بما نصه:
"أولا- الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع :
أ- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.
ب- لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
ج- لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
ثانياً- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية. "
وأكاد أرى مجلسا للنواب يستعمل هذه المادة في تبرير أي قرار يصدره. وسيعمل كل حزب، وطائفة، وكتلة على ان يكون مشروع القرار الذي يقدمه مستندا إلى تلك المادة، بغض النظر عن كون تلك الكتلة أو الحزب متدينة أو علمانية، متطرفة أو اشتراكية، مؤمنة أو لا أدرية. والسبب واضح وجلي، أوليس القانون يجب ان لا يعارض الشريعة؟ أوليس القانون يجب ان لا يعارض الديمقراطية؟ فكيف يمكن ان يلتقيا؟
بادىء ذي بدء، لنعود إلى تعريف الديمقراطية كما أصبح متعارفا بشكل واسع: حكومة تمثل الشعب تعمل من اجل الشعب تنتخب من الشعب. وهذا يعني ان الشعب هو مصدر السلطات وهو الحكم النهائي عن طريق صندوق الاقتراع. ان الشعوب لا تصنع القوانين، ولكنها تتفاعل معها. والقانون الذي يسنه أي مجلس ممثل للشعب يجد مناصرين ومعارضين. وفي النهاية تتحكم الأغلبية. والأغلبية تعني أغلبية نواب البرلمان المنتخب بشكل عادل وشرعي، وليست أغلبية الطوائف التي تشكل نسيج المجتمعات. فلا يمكن -مثلا- إصدار قانون في برلمان المملكة المتحدة من شأنه ان يلحق أذى بالغا في أقلية عرقية أو اثنية، رغم انه قد يخدم مصلحة الأغلبية العددية المسيحية في تلك الدولة. ولا اقصد هنا مسألة حرية العقيدة والعبادة، فهي مكفولة في كل دساتير العالم، بل مسائل أخرى مثل الإقامة والعمل وما سواها.
والملاحظ ان لجنة صياغة الدستور استعملت الألفاظ (ثوابت أحكام الإسلام)، وليس (الشريعة الإسلامية) في محاولة لنفي استناد التشريع ككل على تلك الشريعة. والحقيقة ان هذه المفارقة اللغوية لا تنطلي على المتبصر، فالشريعة هي بالتأكيد مجموع ثوابت أحكام الإسلام. وليس هناك أشياء يفتي بها رجال الدين، ولا تعتبر من ثوابت الإسلام، والا كيف يطلب رجل الدين العمل بفتواه ان لم يتعبرها حكما ثابتا؟
من ناحية أخرى، يمكن ان يكون القانون متعارضا مع الشريعة الإسلامية، بطريقتين: مرة بسنه وأخرى بعدم سنه. لنفترض جدلا ان الشريعة الإسلامية واحدة، وهي ليست كذلك بحكم تعدد المذاهب، ولكن لنفترض حالات اتفقت عليها جميع المذاهب، فكيف سيتم الحكم على قانون مقترح انه موافق أو غير موافق للشريعة؟ إذا تقدم عدد من أعضاء مجلس النواب بمشروع قانون يمنع تصرفا معينا لوجود نص شرعي يحرمه، فهذا متوافق مع الشريعة تماما. ولكن هناك احتمال ان يسقط القانون لعدم حصوله على الأغلبية المطلوبة، فهل يعد عدم إصداره مخالفا للشريعة، وبالتالي مخالفا للدستور؟ وطالما كان النص المقدس غير قابل للجدل، فستكون الحجة حاضرة دائما لدى المتطرفين الذي سيدعون ان عدم إصدار القانون استنادا إلى هذا النص سيكون تعطيلا له، وبالتالي تعطيل للشريعة الإسلامية، ومن ثم انتهاكا للدستور. نعم، ان النص الدستوري يفترض الإيجاب، أي ان يكون هناك قانون صادر فعلا، وليس مشروعا ساقطا، ولكن المحتجون قد يجيبون بان النية في تطبيق الشريعة الإسلامية، بضمان عدم خرقها. وتعطيل النص المقدس سيكون خرقا واضحا لهذه الشريعة المحمية دستوريا.
أما إذا صدر هذا القانون المستند إلى الشريعة والنص المقدس، فلربما يحتج البعض بأنه مخالف لمبادىء الديمقراطية، وانتهاك للحرية الشخصية، إذا كان إتيان الفعل المشار إليه في أماكن خاصة، كالبيوت والنوادي التي يتفق روادها على أساليب وأفعال معينة ترضيهم هم دون باقي أفراد المجتمع، سيما إذا كانت هذه الأفعال مقبولة لدى بعض أفراد المجتمع خارج الأمكنة الخاصة أيضا. فكيف الخروج من هذا التناقض الذي تضمنه الدستور؟
مما لاشك فيه ان هناك نقاط التقاء كثيرة بين الشرائع عموما، والشريعة إسلامية خصوصا، مع مبادىء الديمقراطية. ولكن لا احد يدعى حصول انطباق كامل بينهما. فهناك تشريعات إسلامية لا تتوافق مع الديمقراطية، مثل الاسترقاق. وهناك حقوق اكتسبت من خلال تطبيق حرفي للديمقراطية تتعارض جوهريا مع مبادىء جميع الأديان مثل زواج المثليين. ومع ذلك، فان الشريعة الإسلامية تتميز بأنها دينامية، أي ان لها القدرة على مجاراة التطور الحاصل عبر الزمن. وكذلك يقال عن الديمقراطية أنها (رحلة وليست هدفا). وسرعة تطور أيا منهما تعتمد على الطبيعة الاجتماعية ورسوخ العادات والتقاليد الشعبية، كما تعتمد على الانفتاح على المجتمعات الأخرى والتواصل الثقافي الناتج بالضرورة عن التواصل الاقتصادي والسياسي. وهذا التفاضل قد يقود إلى مجابهة حتمية بين المجتمع ومعتقداته، وينعكس على عملية صنع القرار الذي يجب ان يتوافق –بالتعريف- مع الدستور.
على ان هناك الكثير من الخلافات بين المذاهب الإسلامية مما يجعل إصدار أي قانون عرضة للقول بأنه مخالف للشريعة في نظر بعضها وان كان موافقا لها في رأي البعض الآخر. فهل سنلجأ إلى إصدار قوانين تعمل على فئة معينة دون أخرى؟ وحتى لو فعلنا ذلك، كيف سنطبق تلك القوانين مع وجود أفراد منحدرين من كلا الفئتين؟
ان الديمقراطية، التي تتمثل في انتخابات عامة توصل من يثق به الشعب إلى البرلمان، يجب ان تكون هي الحكم الوحيد. إذ ان الناس عادة ينتخبون من يعتقدون انه الأصلح لتمثيلهم، والتعبير عن أفكارهم وطموحاتهم، ويدافع عن مصالحهم. فان كانت مصلحة الناخبين في قانون معين، فهو حتما يجب ان لا يصدم مع قناعاتهم الراسخة، أو عقيدتهم الدينية، أو توجهاتهم القومية. وإذا كان الناس متدينين فلن يرضوا بقانون يضرب دينهم عرض الحائط، وهم سيحتجون وسيفعلون كل ما يستطيعون لمنع صدوره، ولا يزال لديهم خيار صندوق الاقتراع لاختيار ممثلين آخرين بدلا عن الذين فرضوا عليهم ذلك القانون فيما سبق.
والديمقراطية تعني أيضا ان النواب المنتخبين يجب ان يكونوا قريبين من الشعب يستمعون له ويتناصحون معه، وهو ما يضمن عدم انفراد النواب بالقرار، بل عليهم الرجوع باستمرار إلى الشعب، من خلال ندوات الحوار المباشر، أو الاستماع إلى وجهات النظر التي تعلن عن طريق وسائل الإعلام، أو حتى من خلال تمكين الناس العاديين من المراسلة بالطرق التقليدية مع هؤلاء النواب. ومثل هذا التواصل كفيل ان يعرف النائب بما يتوجب عليه فعله. ولن يكون عليه ان يصوت لمشروع قرار، أو ان يتقدم بمشروع قرار بناء على دستورية هذا القانون، ولكن بناء على ما سمعه من أفراد الشعب الذي يمثله، أليسوا هم مصدر السلطات؟
على ان المغزى من إقحام الشريعة في نصوص الدستور ليس خفيا. فالانتخابات التي جاءت بأعضاء الجمعية الوطنية الحالية إنما بنيت أصلا على أساس ديني، واستعملت فيها الرموز الدينية كأدوات للدعاية الانتخابية. كما ان كثير من أعضاء الجمعية الحالية، وخصوصا القياديين الذي عملوا في مجلس الحكم السابق، سرعان ما انتقدوا قانون إدارة الدولة لعدم تضمنه فقرة تشير إلى دور الدين في الدولة. وهم الآن يواجهون ما انتقدوه، فان لم يشيروا إلى ذلك الدور، فسوف يتم تعريتهم، وإظهارهم كانتهازيين، يلعبون بعواطف الشعب من اجل مصالحهم السياسية الشخصية. ورغم ان الدولة الدينية لم تكن مطلبا حتى لأكثر الأحزاب الدينية تطرفا، إلا ان الدستور بتضمنه عبارة استناد القانون إلى الشريعة سوف يحقق لها جزءا مهما من طموحاتها غير المعلنة، ويدفعها خطوة إلى الأمام. فمن يدري، كيف سيكون شكل التعديل الأول بعد إقرار الدستور. ربما سيكون بحذف الفقرتين ب وج من المادة الثانية، ليصبح صدور كل قانون متجانسا كليا مع الشريعة، وتصبح الشريعة الإسلامية –وحدها- مصدرا للتشريع.

Tuesday, August 30, 2005

معضلة الامن بين العملية السياسية والفساد الاداري

يتميز العراق في الوقت الراهن بوضع فريد. فهو بلد محتل، ولكن بموافقة الامم المتحدة، وبطلب من حكومته المنتخبة شرعيا. ومع ان هناك من يعارض الوجود الاجنبي فيه، الا ان القوات المتعددة الجنسيات التي تجوب اراضيه ليست هي الهدف الرئيس للعمليات المسلحة. والهجمات الانتحارية شبه اليومية التي اتخذت من واقع الاحتلال ذريعة، اصبحت تطال مجموعة واسعة من الاهداف خارج نطاق القوات المحتلة، وان اتخذت تلك العمليات اسم الجهاد.
وفي ظل هذه الظروف المعقدة، يقبع الشعب خلف حاجز الخوف من المجهول، يجتر ابناؤه احزان الماضي، ولا يأملون كثيرا في المستقبل. ويعبر البعض عن خيبة الامل، بينما يحاول البعض الاخر تبرير النتائج بمسببات قديمة من سطوة النظام البائد، او بمؤامرة امبرالية ضد منطقة او طائفة او غير ذلك من الاساطير التي تنسي الهمّ الحاضر، وتخفف من الشعور بالمسؤولية التي تقع على عاتق الفرد.
والواقع ان اي تغيير من نظام الى اخر لاشك ان يكون عملية صعبة. وهذا التغيير ليس قابل للتطبيق في يوم واحد، او في عام واحد، او في عقد واحد احيانا. وقد اثبتت التجارب العالمية السابقة ان الطريق نحو الديمقراطية معبد بالدم والعرق والدموع. وقد كان يمكن الاستفادة من تلك التجارب لتعزيز المسيرة الديمقراطية في العراق، ولكن ما حدث كان على العكس، مع اختلاط اجندات مختلفة في المشهد السياسي. فقد ساهمت اطراف كثيرة في تأخير العملية السياسية الصحية في الوقت الذي يرفعون شعارها.
ولنبدأ من تسليم السلطة في اواخر حزيران 2004، حيث كان من المفترض ان يؤدي الى تحسن في الوضع الامني، خصوصا وان الحكومة المعينة بالتوافق بين مجلس الحكم، والحاكم المدني الامريكي والامم المتحدة حصلت في بداية تشكيلها على دعم شعبي ودولي لا بأس به. الا ان طغيان التناحر السياسي شلّ هذه الحكومة. لقد اصبحت مغلولة بالاستحقاقات المرتقبة والمجدولة زمنيا، ومهمشة داخليا تحت عنوان الحكومة المؤقتة. وسارت تحت وابل من الانتقادات المباشرة لذوي النفوذ، والمدعومين خارجيا.
ورغم ان معالجة الخلل الامني هي مسألة فنية، لكنها تحولت الى قضية سياسية، بدءا بالعلاقة مع دول الجوار التي بدا واضحا تورطها المباشر وغير المباشر في تعميق وترسيخ الانفلات الامني في عموم البلد. وزاد في ضراوة هذا الانفلات تشابك او تقاطع المصالح الذاتية للاحزاب والتيارات المتواجدة في الساحة الداخلية. ان العصيان المدني هو تجرأ على سلطة الدولة بغض النظر عن من يقوم به.. ولكن حينما ارادت حكومة اياد علاوي التصدي له، واجهت معارضة قوية بدعوى المصالحة الوطنية واحتواء كافة التيارات. وحينما ينادي علاوي بالمصالحة، ويسعى لاحتواء تيارات اخرى يواجه بمعارضة من نوع اخر ترفض محاورة من (تلوثت ايديهم بدماء الشعب) وذلك وصف مطلق للبعثيين، ويتعرض الى حملات دعائية منسقة، تصفه بالمتعاطف مع البعثيين كونه بعثي اصلا! ولست ادري كيف توزن الامور، ولكن من المعقول افتراض ان دماء الشعب واحدة، سواء انتهكها اتباع صدام او معارضيهم.
على كل حال سارت الامور حسب المنهج المقرر، وجرت الانتخابات كما اريد لها وفاز بها من طبّل لها، وظن الشعب ان الحكومة التي تمخضت عنها ستكون مطلقة اليد في التعامل مع التمرد والهجمات العشوائية. بيد ان نيل المطالب ليس بالتمني، وكان تأخر تشيكل حكومة الجعفري اول اشارة الى الفشل الامني. فحينما يكون البلد مهددا فليس هناك وقت للمفاوضات والمساومات حول السلطة. لكن الطموح الشخصي لبعض الرموز السياسية كان اكبر من الشعور بالمحنة الوطنية. وكانت النتيجة ان الخلل الامني بدأ يستفحل ويتحول الى دولة ظل ليس لها معالم ظاهرة للعيان ولكن اثارها كانت مدمرة.
نعم، لم تكن الانتخابات هي الحل. ولن تكون كتابة الدستور واقراره حلا كذلك. فالمسألة ليست متعلقة بمن يكون في السلطة، ولكن بمن يستطيع التصدي للتمرد. واقرار الامن ليس متعلقا بمشاركة كل اطياف الشعب في القرار بقدر وجود رغبة خالصة في التضحية واحداث التغيير. ومعلوم ان التمرد مدعوم من بعض دول مجاورة للعراق بعضها على المستوى الحكومي-المخابراتي وبعضها على المستوى الشعبي، على اختلاف الاهداف بينهما. ويتطلب مواجهة مثل هذه الائتلافات سلطة وطنية حازمة تعمل على توحيد الشعب وصهره في بوتقة واحدة بدلا من تفريقه باستخدام المحاصصات الطائفية والعرقية.
وقديما قيل اذا كان رب الدار...، ولعل هذا هو الوضع اليوم في العراق. فقد انعكس الفساد السياسي على اداء الدولة واوجد فسادا اداريا غير مسبوق. ومن العجب ان وزيرا في الحكومة الحالية، وقد كان نائبا لرئيس الوزراء في الحكومة السابقة، يتحدث في مؤتمر عالمي للدول المانحة للعراق عن الفساد الاداري كونه العائق الاول في اعمار العراق، فما الذي اتخذته الدولة لمكافحته؟ اننا نقر ان التصدي للفساد الاداري هو من اصعب الامور.. ولكن هناك حالات فاضحة وواضحة. نحن لا نتحدث عن شرطي يأخذ رشوة لغض النظر عن مخالفة مرورية. نحن نتحدث عن صهاريج منتجات نفطية تهرب خارج العراق بدل ان تسلك طريقها الى منافذ التوزيع. ونتحدث عن مقاولة جسر تمنح بدون عروض الى مقاول سبق وان سجن بتهمة الفساد الاداري في عهد دولة صدام التي خلنا انها فاسدة حتى النخاع.
وبالعودة الى الملف الامني، فماذا يجب على الدولة ان تفعل؟ لا ادعي انني خبير في مكافحة الارهاب، او ان لي باعا في مقارعة العصيان. ولكن يمكن على الاقل اتخاذ خطوط دفاعية تمنع الهجمات او تقلل من ضراوتها، لحين شن الهجوم المضاد. ولست اقصد المتاريس وما اشبه ذلك، بل التحصين الدفاعي اللوجستي. ويمكن رسم خطة بناء على اسلوب الهجمات او هدفها. فقد يكون صعبا منع السيارات المفخخة من استهداف اماكن عشوائية، خصوصا اذا قادها انتحاري. ولكن تعرض مطار المثنى بشكل دوري الى عملية انتحارية بحزام ناسف امر محير، اذ انه بالتأكيد يمكن التصدي له. وقد يكون صعبا منع المسلحين من التجوال في شوارع بغداد، ولكن نجاحهم المرة تلو الاخرى في اصطياد مسؤولي الدولة والسفراء واعضاء المجالس وغيرهم، بالقتل والاختطاف دون ان يتركوا أي اثر هو امر يدعو للرثاء.
ولابد ان العراق قد شهد اكثر من الف عملية مسلحة، ضد قوات التحالف والشرطة والجيش، وضد العديد من الاهداف المدنية التي تطول قائمتها. والسؤال هنا، كم من هذه العمليات جرى التحقيق فيها؟ هل شخصت عائدية السيارات المفخخة؟ هل حددت جنسيات واعمار وملامح الانتحاريين؟ هل تم التحقيق في مصادر تسريب المعلومات من داخل الاجهزة الامنية؟ هل تم حصر اماكن تواجد المشبوهين ومراقبتها؟ وغير ذلك من الاسئلة التي نستطيع من خلالها تتبع بعض الخيوط وجمع الادلة للتعرف على الفاعلين او من يسندهم.
لقد هاجم تسعة عشر انتحاريا برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن، وتم التعرف عليهم جميعا، كما تم التعرف على انتحاريي انفاق لندن. وهذا هو الحال في السعودية والكويت ومصر والباكستان وتركيا، وفي اماكن كثيرة اخرى تعرضت لهجمات ارهابية. وفي كل منها كان لابد من وجود دليل او اثر يقود للفاعلين، وبدراسة الادلة المتوافرة يمكن على الاقل التوصل لجنسية المهاجم ولجهة الدعم، مما يؤدي الى تقليل احتمالية الهجوم مرة ثانية.
ان الاعتراف بوجود الفساد الاداري ليس كافيا. يجب اتخاذ خطوات فورية للحد منه، لان تأثيره لا يقع فقط ضمن تخريب الاقتصاد الوطني، بل يتعداه الى تغذية وادامة الشبكات الارهابية التي تعمل في العراق. تلك الشبكات قد تكون حرة الى درجة انها اصبحت تشكل قاعدة عالمية لتصدير الارهاب. كما يجب المبادرة في التوقع لما يمكن ان يحصل بناءا على سيناريوهات سابقة. واغلاق الطرق الدائمي ونقاط التفتيش الثابتة ليست هي الحل. يجب ان تنبذ القوات الامنية كسلها، وتخف الى الحد من تباطؤها في التعامل مع الحدث. فاذا كانت المشكلة في التجهيزات، فتجب المبادرة الى توفيرها فورا. اما مشكلة التدريب، وهي التي طالما تعذرت بها القوات متعددة الجنسيات، فلابد من وجود بعض الوحدات في القوات الامنية قد تلقت تدريبا جيدا، واستطاعت ان تكسب خبرة جيدة خلال العامين المنصرمين. فيمكن الاستفادة من هذه الوحدات بنشرها في الوحدات الاقل تدريبا للاسراع في جهوزيتها ورفع مستوى ادائها. وفي النهاية فلكي نصل الى عراق امن، يجب ان يشعر كل مواطن ان هذا هو هدف الدولة، وهذا هو ما تجهد اجهزته الامنية للقيام به، وبالتالي يندفع للتعاون معها، ويتفاعل بالشكل الذي يحوله الى مساهم رئيس في اقرار الامن.

Wednesday, July 20, 2005

تطور الديمقراطية: نموذج من اجتماعات مجلس محافظة

في السادس من حزيران 2004، وقبل يومين فقط من تسليم السلطة، وقع تفجير ارهابي بسيارة مفخخة رُكنت في شارع اربعين وسط مدينة الحلة، عند اذان المغرب حيث كان الشارع يعج بالمارة واصحاب المحال التجارية مما اوقع العشرات من الشهداء والجرحى بين رجال ونساء واطفال كانوا يظنون انهم آمنين. وما زاد الكارثة ترويعا ان التفجير وقع في منطقة تخلو من أي تواجد لقوات امريكية او قوات امن عراقية، وهي الاماكن التي كانت تستهدف عادة لحين حصول هذا الاعتداء الاثيم.
وفي ذلك الحين، كنت بحكم عملي مقربا من مجلس محافظة بابل السابق بصفة مستشار، اعمل في مجال دعم الحكم المحلي. وكنت اتولى مساعدة المجلس في اعداد المقترحات وجدول الاعمال وادارة الاجتماعات الدورية والتنسيق مع السلطة التنفيذية على مستوى المحافظة او على المستوى الوطني. وقد حظيت باحترام بالغ للدور الذي لعبته، وللخدمات التي قدمتها، مما حدا بالمجلس الى السماح لي بحضور جميع الاجتماعات، حتى اكثرها حساسية. ولم يكن غريبا ان يطلب الى الحديث او التدخل لحل نزاع ما استنادا الى النظام الداخلي او قانون ادارة الدولة المؤقت او التشريعات الناف ذ ة.
ومن موقعي هذا، فكرت في ان اعرض مشروع مقترح على المجلس، يتعلق بالتفجير الارهابي سالف الذكر، من جهة لاتخاذ اجراء ما تجاه ضحايا الحادث، وارسال رسالة تحدٍ للارهاب، ومن جهة ثانية لتقوية دور المجلس في التعامل مع المستجدات الانية وكيفية صناعة القرارت والعمل على تنفيذها. ومن الواضح ان أي قرار يصدر عن المجلس يتعلق بهذا الحادث سوف يلقى ترحابا واسعا، ولا شك ان الجميع سيكونون متعاونين في تنفيذه. فلا احد في النهاية يريد ان يظهر كمعارض لمحاربة الارهاب باي صورة.
وكان ان اعددت مسودة لمشروع قرار يصدر عن المجلس يتضمن النقاط التالية:
1- اطلاق تسمية (الفداء) على الشارع تخليدا للشهداء الذين قدموا انفسهم فداءا للوطن.
2- العمل على تطوير منطقة التفجير، مع اقامة نصب تذكاري لضحايا الحادث. ولتمويل المشروع يمكن الاستفادة من ميزانية المجلس، والمحافظة والدوائر التابعة لها، والحكومة المركزية متمثلة بالوزارت المختصة، اضافة الى جمع التبرعات ومشاركة الجهات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني بما يتاح لها.
3- تشكيل لجنة تتولى تنفيذ هذا القرار، ومن مهامها استحصال التمويل اللازم من الجهات المذكورة اعلاه، وما تراه مناسبا.
واخذت على عاتقي عرض هذه المسودة على كل عضو من اعضاء مجلس المحافظة، وشرح الابعاد التي ينطوي عليها، ومناقشته بشأن التعديلات المقترحة من اجل تطوير المقترح. واستطعت الحصول على موافقة وتوقيع 37 عضوا من الاعضاء الاربعين الذين يشكلون المجلس. والثلاثة الباقين لم يكونوا غير موافقين، ولكني ببساطة لم استطع الوصول اليهم الى حين موعد الاجتماع التالي.
وادرج المقترح على جدول اعمال الاجتماع الدوري التالي. وتوقعت ان يعرض ويمرر بسلاسة نظرا للاجماع الذي حصل عليه مسبقا، ولكن حدث ما لم اكن اتوقعه. ففي بداية كل اجتماع توجد فقرة في جدول الاعمال تتضمن موافقة المجلس على جدول الاعمال. والغاية من ذلك اتاحة الفرصة امام الاعضاء الذين لديهم اقتراحات ساخنة لطرحها، او تعديل الجدول لظرف طارئ يستوجب تقصير فترة الاجتماع، وما الى ذلك. وقبل هذا الاجتماع كانت هذه فقرة روتينية يصوت المجلس عليها عادة بدون تغيير. ولكن في هذه المرة انبرى عدد من الاعضاء الى تقديم مقترحات كثيرة وطلبوا ادراجها في بداية الاجتماع لكونها (ساخنة) ولم يكن ايا منها كذلك. لكن المجلس صوت في النهاية على التعديل، جاعلا مقترحي في ذيل جدول الاعمال على اعتبار انه ليس في حاجة الى المناقشة اصلا.
وناقش المجلس المقترحات الواحد تلو الاخر واطال الاعضاء النقاش، ونفد وقت الاجتماع دون ان يصل الدور الى المقترح المنشود، ورفعت الجلسة على هذا الواقع. فعتبت على رئيس المجلس قائلا: كنت اعتقد ان شهداء شارع اربعين يستحقون اكثر من ذلك من مجلس المحافظة. فوعدني ان تتم مناقشة هذا الاقتراح في بداية الاجتماع القادم ولن يسمح بتأخيره معتذرا انه لم ينتبه اليه. وصبرت الى الاسبوع التالي، راجيا ان تتم الموافقة على المشروع ليثبت المجلس انه يهتم لمجريات الاحداث في المحافظة.
وجاء الاسبوع التالي، وعرض مشروع القرار على الاعضاء مع تعليق رئيس المجلس: اعتقد اننا لسنا في حاجة الى مناقشة هذا المقترح، فقد وقـّعت عليه الاغلبية الساحقة من اعضاء المجلس، ولذلك ساطلب التصويت. فقاطعة احد الاعضاء، وهو يحب الحديث في كل شيء، طالبا ان يسمح بالمناقشة، لاجراء بعض التعديلات على الاقل. فوافق رئيس المجلس وطلب اليه تلاوة التعديل. وكان التعديل يتعلق بالاسم المقترح، حيث انه ادعى ان هناك بعض رجال الدين قد قرروا اطلاق اسم (الاعتصام) على شارع اربعين تيمنا باعتصام شهير استمر فترة اسبوعين احتجاجا على المحافظ الاسبق والذي ادى الى تنحيته عن منصبه، مما عدّ نصرا يجب تخليده. فقال احد الاعضاء المعتدلين ان الشارع يتكون من نصفين، وتتوسطه ساحة، وان الاعتصام وقع في احد النصفين بينما وقع التفجير في نصفه الثاني، فلا بأس من اطلاق التسميتين على نصفي الشارع ارضاء للجميع.
وتحدث عضو اخر يحسب على التيار الاسلامي المتشدد قائلا: لماذا نقوم ببناء نصب لعشرة او عشرين من الشهداء، وننسى الافا من الشهداء في المقابر الجماعية؟ اذا كان لنا ان نخلد ذكرى احد من الشهداء فالاولى ان نبدأ بشهداء المقابر الجماعية. وقالت عضوة ناشطة في مجال حقوق الانسان ان العراقيين قدموا شهداءهم قبل المقابر الجماعية بزمن طويل وباعداد تفوقها كثرة ووحشية، وذلك في حملات الاعتقالات والاعدامات التي قام بها النظام السابق خلال السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، ولذلك فهم الاولى بالتخليد، والاجدر بهذا النصب التذكاري.
ورغبة من احد الاعضاء المعتدلين، وهو في سلك القضاء، في ان يوجه الحديث باتجاه تفعيل المقترح لا الجدل حوله، فقد بين للاعضاء الاخرين ان المقترح يخص ضحايا شارع اربعين، وان عليهم ان يقدموا مقترحات اخرى اذا كانوا يفكرون بالضحايا الاخرين لظلم النظام السابق. وقال ان ما علينا التفكير به هو شكل اللجنة التي يجب ان تعمل على تنفيذ هذا القرار في حال صدوره. وطالب ان يضاف اسمي شخصيا الى تلك اللجنة نظرا الى انني سعيت منذ البداية في اعداد وانضاج القرار.
وكان لهذا التعديل وقع الصاعقة على احد الاعضاء، الذي كان يزهو بنفسه على الدوام ويصرح بمناسبة وبغير مناسبة انه يشرف المجلس، وان مكانه هو اسمى من ذلك بكثير. فانبرى فجأة الى الحديث بعد ان التزم الصمت طوال المناقشات الماضية. وقال: لا ادري كيف تفكرون، ولكن الا تعتقدون ان اقامة النصب هي من الاشياء الموروثة عن النظام السابق، والذي كان يسارع الى اقامة الجداريات والنصب لتمجيد شخص القائد الضرورة. وانتم مع ذلك تقلدون ذلك النظام في اجبار الناس على التبرع مما يثقل من كاهلهم وهم في احوج ما يكون الى ما يسد رمقهم. ثم، كيف تقترحون ان تشكلوا لجنة تضم اعضاء من خارج المجلس؟
وواضح ان هذا العضو، لم يكن فقط راغبا في عدم ادراج اسمي ضمن اللجنة، ولكن ايضا في نسف المشروع من اساسه وعدم تمريره. فبين له رئيس المجلس ان اللجنة ليست دائمية، ولذلك يمكن ان تضم اعضاء من خارج المجلس حسب النظام الداخلي، وتلا عليه الفقرة التي تثبت ذلك. ولكن صاحبنا استمر في الجدال واستخدم كل ما يمكن ان يجبر الاخرين على (الاقتناع)، من عدم اتاحة الفرصة لهم بالحديث، ورفع الصوت عاليا، وحتى التهجم عليهم. واضطر رئيس المجلس الى تذكيره بانه احد الاعضاء الموقعين على المقترح، فاجاب ان التوقيع لا يعني الموافقة على المقترح، وانما الموافقة على مناقشته. وكان هذا ابتكار عجيب في النظم البرلمانية، وربما سيفيد اي عضو راغب في التنصل من مقترحه طالما ان تقديمه للمقترح لا يعني انه موافق عليه!!
وفي محاولة اخرى لتسوية الوضع، اقترح احد الاعضاء، وهو متدين الا انه براغماتي، ان تحذف فقرة جمع التبرعات، وان يوجه كتاب الى كلية الفنون الجميلة لاعداد هذا النُصب التذكاري، وان تتولى ادارة المحافظة، والمحافظ الاشراف على التنفيذ، مما يلغي دور اللجنة، وبالتالي فلا داعي لها.
على كل حال استمر الجدل لساعات طوال حول نفس الاشياء التي تحدثنا عنها، واجهضت كل محاولة للتصويت، بدعوى ان المجلس بحاجة الى المزيد من النقاشات. ولم يطلب احد مني التدخل من اجل توضيح لاصل المقترح. واخيرا وجه احد الاعضاء، وهو يحظى باحترام واسع، رصاصة الرحمة الى القرار. فانتصب واقفا ليتحدث بصوت قوي جهوري حرص على ان يصل الى جميع اركان قاعة الاجتماع، قائلا: ان الشارع تمت تمسيته من قبل المرجعية الشريفة، ونحن هنا نهدر الوقت في هذه المناقشات التافهة. لذلك اقترح ان تقوم كلية الفنون الجميلة بوضع نصب في منطقة التفجير، ويطلق على النصب اسم (الفداء)، ودعى الى التصويت على ذلك، فوافق المجلس بالاجماع.
ولكن حتى هذا الكتاب لم يوجه الى الكلية المعنية، ولم تبلغ ادارة المحافظة بهذا القرار وحفظ في ارشيف المجلس، شأنه شأن العشرات من القرارات الاخرى. واعتذر الجميع مني بعد الاجتماع بانهم لم يقصدوا اسقاط المشروع، ولكنهم مسؤولون عن قراراتهم وعليهم تبريرها بالشكل الصحيح. والمصيبة ان هذا هو بالضبط ما كنت ارمي اليه في نهاية الامر.
لقد ترددت طول عام تقريبا في نشر تلك التفاصيل عن هذا الاجتماع والقرار الهزيلين، خوفا من تفسير ذلك على انه طعن في الظهر، وانني انما انشره لان المجلس انحل الان ولن يناني منه شيئا. والواقع انني لازلت اكن الاحترام لجميع اعضاءه، والذين انتخب بعضهم للدورة الحالية، ولست في صدد الطعن بما قدموه للمحافظة، فمما لاشك فيه ان المجلس قدم اكثر ما يستطيع ضمن المتاح له. ولكني وجدت ما اوردته هنا مثالا على مسيرة الديمقراطية في بلدنا وآلية تطورها. والادهى ان اداء معظم مجالس المحافظات كان على هذه الشاكلة، وليس بافضل منها المجلس الوطني المؤقت، ومن ثم الجمعية الوطنية.
ان المجالس التشريعية هي المكان الملائم لاتخاذ قرار ما بشأن قضية ما. وهي ليست ساحة للنقاشات ولتصفية الحاسابات الشخصية او الحزبية. والمجلس يراد له ان يكون كائنا عضويا، بمعنى ان يسعى ككل في انضاج القرار ليصل الى مرحلة التنفيذ، وان النقاشات يجب ان تنصب في تطوير المقترح لا في اسقاطه، او افراغه من مضمونه. فلن يجني الناخبون شيئا من النقاش الطويل، خصوصا اذا لم يفض الى اصدار قرار يتعامل مع الوضع. وعليّ ان اقول كذلك انني نادرا ما لمست مثل هذا التوجه في المجالس على اختلاف مستوياتها. وفي الفترة السابقة للانتخابات، كانت الصفة الحزبية هي الطاغية، وهناك مركزية شديدة لاشخاص بعينهم. وليس بمستغرب اقامة التحالفات، ولكنها كانت في بعض الاحيان فجة، وضد مصلحة المواطن. لقد كنت اطمح الى ان ارى مجلس محافظة قوي يقف ندا للحكومة المركزية، ولكني انتهيت الى مجلس محافظة ضعيف ومشتت. وتلك خيبة امل، ولكن احسب ان الديمقراطية ستشهد الكثير من خيبات الامل المماثلة. والشيء المهم ان تلك المجالس تكتسب الخبرة، وان كانت ابطأ مما كنا نصبو.

Monday, June 27, 2005

عام على تسليم السلطة: قرارات مصيرية مؤجلة

في اواخر حزيران 2006 تمر الذكرى السنوية الاولى لتسليم السلطة في العراق من قبل الحاكم المدني السابق بول برايمر. ويجدر بنا اجراء مراجعة عامة للمشهد العراقي خلال تلك السنة الحافلة بالاحداث، وانعكاساتها على حياة ومستقبل الشعب العراقي. ورغم اننا ندرك ان مثل هذه المراجعة لا يمكن ان تحصر في مقال واحد، الا اننا نحاول هنا ان نجد خطوطا عريضة لاتجاهات الاحداث، ونتوقف عند بعض الاحباطات التي حصلت، ونستشف منها الحلول المتاحة او الممكنة في قادم الايام.
وبدءا علينا ان نسلم بان مسيرة الاحداث خلال العمليات السياسية المتتالية لم تكن وليدة اللحظة، او طارئة خلال ازمان مختلفة بشكل عفوي.. بل ان تلك الاحداث تشكلت في سلسلة متعاقبة ومتوالية من السبب والنتيجة، ثم النتيجة للنتيجة وهكذا. وربما كان السبب الاول والمحرك للعمليات السياسية التالية، هو اسقاط النظام السابق بدون خطة واضحة لاحلال سلطة وطنية بديلة. ونذكر ان رغبة الولايات المتحدة الاصلية لم تكن اطلاقا متجسدة في الحكم المباشر للعراق.. بل ان الساسة الامريكيون عملوا خلال الفترة السابقة للحرب على ايجاد سلطة وحكومة منفى من خلال مؤتمرات لندن واربيل وبيروت. وكان يفترض ان يفضي مؤتمر الناصرية الى تشكيل هذه الحكومة. ولو قدر لهذا الامر ان يحصل، فمما لاشك فيه ان العملية السياسية كانت ستتخذ منحى اخر. وقد كشفت الخلافات في هذا المؤتمر، ثم في مؤتمر بغداد بعد ذلك بشهر، ان الرغبة في الاستيلاء على السلطة كانت هاجسا كبيرا لدى الساسة العائدين من الغربة، يحدوهم طموح اكبر حتى من شعاراتهم التي رفعوها خلال العشرات من السنين.
وهكذا حدث اول تغير رئيسي في السياسة الامريكية، وهو الحكم المباشر للعراق من قبل حاكم مدني، على ان يساعده مجلس (استشاري) سمي فيما بعد بمجلس الحكم. ودوليا، عملت الولايات المتحدة على تثبيت شرعية سلطتها كدولة احتلال، مع التأكيد على (سيادة) مجلس الحكم. ولقد لاحت هنا بادرة طيبة لتولي العراقيين شؤونهم، لولا اهتمام اعضاء مجلس الحكم بمستقبلهم السياسي اكثر من الرغبة في الحصول على الاستقلال.. فلقد اعتقدوا ان الاستقلال هو امر حتمي، وهو حاصل ان عاجلا ام اجلا، بينما مواقعهم غير مؤكدة. وسرى الاعتقاد ان مجلس الحكم غير قادر على تولي شؤون البلاد بسبب (غطرسة وسيطرة) الحاكم المدني. والواقع ان مجلس الحكم اعتزل مبكرا، لا خوفا من الحاكم المدني، ولكن لان اعضاءه لم يكونوا مستعدين للتضحية بما حصلوا عليه في حال حاولوا مواجهة هذا الحاكم.
ان حكم اية دولة يجب ان يكون بموجب الدستور.. وفي حالة العراق بعد انهيار نظامه السابق، انعدم أي وجود لدستور او قانون اعلى يحكم العمليات السياسية. وبقدر ما يمكن لهذا الامر ان يكون سيئا في بيئات اخرى، فانني ارى انه كان يمكن ان يكون عنصرا داعما للعملية السياسية في العراق. ذلك ان مجلس الحكم لم يكن بلا صلاحيات كما اشير اليه، اذ لم يكن هناك أي معنى للصلاحيات طالما انها غير مكتوبة او موثقة. لقد كان بامكان مجلس الحكم ان يتولى شؤون البلاد رغم انف الحاكم المدني، الذي عليه ان يقر ان المجلس لا يتجاوز اية صلاحية منصوص عليها. وهكذا تحول هذا المجلس الى متفرج لا حول له ولا قوة. ولم يستطع ان يقدم اكثر من قانون ادارة الدولة حسب الاجندة الامريكية التي كانت – مع الاسف- اكثر توفيقا في النظر الى الشأن العراقي من مجلس الحكم. ومن سخرية القدر ان معظم رموز مجلس الحكم (السابق) سيتولون شؤون البلد في ما يلي من الزمن.
ولكن العملية السياسية رافقتها المسألة الامنية، بعد ان اخذ الوضع الامني بالتردي شيئا فشيئا، دون ان يستطيع الحاكم المدني، او مجلس الحكم ان يحد منه، خصوصا بعد ان انعكس الفساد السياسي على الادارة، من تحويل الوزارات الى مؤسسات حزبية، وتثبيت مبدأ المحاصصة، وتفاقم الحالة الاقتصادية سوءا، رغم التحسن الكبير الذي شهده المواطن خلال الاشهر الاولى من الغزو/التحرير. فادرك الامريكيون انهم لن يستطيعوا ان يستمروا في حكم العراق دون ان يتسببوا في المزيد من الخراب، سواء بسبب جهلهم بالطبيعة الاجتماعية والثقافية لهذا البلد، او لكون مجرد وجود حاكم اجنبي يعد عذرا لازدياد العمليات المسلحة التي تستهدف هذا الوجود. كما انهم رغبوا في اظهار تطور ما في الساحة السياسية لاثبات صوابهم في تلك الحرب، خصوصا مع اقتراب الانتخابات الامريكية. فجاء قرار تسليم السلطة املا في ان يكون منعطفا مهما في مسيرة الاحداث، وان يفضي الى استقرار سياسي يتبعه سلسلة من المحطات في مسيرة مكتملة بدءا من الانتخابات الى صياغة الدستور ثم الانتخابات بموجب هذا الدستور المصادق عليه شعبيا.
على كل حال، تشكلت الحكومة التي تولت زمام الامور بالتوافق بين الحاكم المدني واعضاء مجلس الحكم. وكان يمكن ان تكون تلك الخطوة مفتاح الحل لو ان حكومة الدكتور اياد علاوي اتخذت القرار الاهم، وان كان الاصعب. لقد اريد لهذه الحكومة ان تكون حكومة حقيقية لتستطيع ان تنجز ما اخفق فيه مجلس الحكم والحاكم المدني، الا وهو احلال الامن في ربوع العراق. ومعلوم ان تحقيق الامن لا يتم الا بمساعدة القوات المتعددة الجنسيات. ولكن مساعدة هذه القوات لا يجب ان تكون هي الجهود الوحيدة التي تبذل في هذا الاتجاه، وانما ينبغي اعطاء قوات الامن الوطنية الفرصة لاثبات وجودها، وتحميلها المسؤولية، والا فما الفائدة من وجود حكومة وطنية اذا لم تكن تتحكم في العملية الامنية؟
لقد كان امام حكومة علاوي خيار صعب ولكنه ضروري. كان عليه ان يطلب من القوات المتعددة الجنسيات ان تلازم قواعدها، ولا تتحرك الا بطلب من حكومته. وبذلك يحمّل قوات الامن الوطنية مسؤوليتها، ويضعها امام واجباتها، مهما كانت النتائج. وفي النهاية فان المتعددة الجنسيات يمكن استدعاؤها عند الضرورة. نعم، سيكون هناك عنصر للمجازفة بالاعتماد على قوات غير مكتملة او مدربة بالشكل الكافي، ولكن ما تم انجازه لحد تلك الفترة كان ينبغي ان يكون كافيا، والا فما الداعي اصلا الى تسليم السلطة؟ لقد فشل علاوي في اتخاذ هذا القرار بسبب عدم ثقته بقواته الامنية، واستمر الوضع في التردي لان تلك القوات فقدت ثقتها بنفسها نتيجة لذلك، وبات كل شيء رهن التدخل الامريكي.. ورضخ الجميع للامر الواقع.
ان الدعوة التي وجهها المرجع الديني الاعلى للشيعة باجراء الانتخابات وجدت صدى واسعا، ليس فقط بين اتباعه من الطائفة الشيعية، ولكن ايضا من القوى الوطنية والاحزاب السياسية، علاوة على الاكراد وفئة غير يسيرة من الطائفة السنية. وحتى من عارض اجراء الانتخابات لم يفعل ذلك لعدم قناعته بها، ولكن لشكه في نجاحها ضمن التوقيتات التي رسمت لها. وعلى كل حال، فان الغالبية العظمى من الشعب العراقي اعتقدت ان تلك الانتخابات ستكون المفتاح لحل المشاكل المتفاقمة على كل الصعد الامنية والاقتصادية والاجتماعية. بينما وجدتها الولايات المتحدة فرصة مناسبة لاثبات، مرة اخرى، صواب تدخلها في العراق، وبادرة ديمقراطية غير مسبوقة في المنطقة عموما.
ورغم ان الانتخابات في الثلاثين من كانون الثاني كانت حدثا مهما، الا ان المتتبعين والمحللين السياسييين لم يتوقعوا ان تحدث تغييرا جذريا. فمن تم انتخابهم هم نفس الشخوص الذين تحكموا بالعملية السياسية منذ البداية. ومرة اخرى قفزت العملية السياسية الى الصدارة، مع اهمال ولا مبالاة غريبين بالشؤون الاكثر اهمية للمواطن العادي، ولا ادل على ذلك من استغراق تشكيل الحكومة الجديدة فترة ثلاثة اشهر، في وضع امني بالغ السوء، ناهيك عن الفساد الاداري والانهيار الاقتصادي، التي عصفت بالمواطن وجعلته في دوامة العنف والفقر وفقدان الامل.. وتحسر الكثيرون على ايام النظام السابق، كما هو شأن العراقيين بعد كل تحول.
وبمرور عام على تسليم السلطة، تولت حكومتين مختلفتين حكم العراق، دون ان يحدث أي تغيير يذكر في معالجة الخلل الامني، او في أي من النواحي الحياتية الاخرى للشعب. ورغم ان ثانيتهما كانت منتخبة ديمقراطيا، الا انها لم تستطع ان تتجاوز الخطوط التي رسمتها لها اولهما. وحينما ارادت ان تحدث تغييرا عمدت الى الهياكل الادارية في الدولة، من محافظين ومدراء شرطة ومسؤولين اخرين، فاقالت وفصلت وعزلت، دون ان يكون لهذه التغييرات اثر ملموس في تحسين الاوضاع عموما. ومن جديد فان نفس الخيار يقف امام حكومة الجعفري، عليها ان تثق بالقوات الامنية الوطنية، وتحملها مسؤوليتها.. وان تطلب من القوات المتعددة الجنسيات ان تبدأ بالانسحاب الى قواعدها، بموجب خطة مفصلة ومتفق عليها. واذا فشلت تلك الحكومة في اتخاذ هذا الاجراء فلن يكون هناك اي تغيير حقيقي الى ان تأتي حكومة تقوم به.

Thursday, June 02, 2005

الدعم الحكومي للمواد الأساسية: تدمير للاقتصاد وتأخير للتنمية

من بين الكثير من الأوضاع الشاذة التي أصبحت قاعدة في العراق على يد النظام السابق تبرز مسألة الدعم الحكومي للمواد الأساسية التي تمس حياة المواطن، وبالذات المواد الغذائية. فقد درجت الدولة على توزيع المواد الغذائية والأدوية والملابس والأدوات الاحتياطية للسيارات وغيرها بأقل من أسعارها الحقيقية تحت طائلة الدعم الحكومي معتبرة ذلك إنجازا وتسهيلا لحياة المواطن.
وفي الحقيقة فان هذا الدعم لم يسهل حياة المواطن، بل جعلها أكثر صعوبة. فقد أصبح احتكار الدولة لقطاع التجارة، علاوة على القطاعات الأخرى، سلاحا فعالا للسيطرة على حياة المواطنين بشكل مباشر، وقتلت روح المبادرة الفردية والتنافس الحر، العاملان الرئيسان في تطوير الاقتصاد الوطني، وإقامته على أسس متينة تستطيع أن تساير الحركة الاقتصادية العالمية.
وحينما وجدت الدولة أنها ستعرقل الحركة الاقتصادية باستمرارها في تقديم الدعم، فتحت الباب أمام كمية محدودة ومنتقاة من التجار لممارسة عمليات الاستيراد والتصدير، وان كان تحت إشراف الدولة أيضا. وخلق استمرار تقديم الدعم المادي للبضائع الأساسية مع وجود بضائع تجارية حالة من الازدواجية التي لم يستطع الشعب أبدا أن يفهمها. وكانت النتيجة أن غالبية الشعب العراقي اعتقد بفشل نظام الاقتصاد الحر، لما شهده من ممارسات غير شرعية ولا إنسانية من الكثير من التجار الذين كانوا في الحقيقة ربائب للنظام نفسه.
ولما جاء الحصار الاقتصادي في التسعينات كأحد نتائج السياسة المتهورة لهذا النظام، ابتدع فكرة البطاقة التموينية التي تعطي حصة لكل فرد من مجموعة محدودة من المواد الأساسية. ثم أصبحت تستغل سياسيا للضغط على فئات معينة من الشعب، والتهديد بقطعها، وتخفيض محتوياتها دون إيجاد البديل المناسب. ومع الإبقاء على مستوى الدخل الفردي متدنيا إلى ابعد حد، وغياب الحركة التجارية الفعالة، وتأخر الصناعة والزراعة بشكل مأساوي، لم يعد أمام المواطن البسيط سوى الاعتماد على هذه البطاقة التي تبقيه حيا، ولكن لا تقدم له أي شيء يليق بامكانات بلد ثري.
لقد صرف النظام البائد أموالا طائلة في دعم البطاقة التموينية بدل أن يوفر فرص العمل، ويرفع الحالة المعاشية للمواطنين.. ومن المفجع أن جزءا كبيرا من تلك الأموال كان يذهب كمصاريف إدارية، ورشاوى، وعقود وهمية، وشراء ذمم وتصرفات كثيرة غير شرعية، خصوصا بعد أن تبنتها الأمم المتحدة في برنامج النفط مقابل الغذاء، أو النفط مقابل الولاء إن شئت.
واليوم وبعد تحرر العراق من قبضة ذلك النظام الفاسد، يجدر بنا مراجعة وضع الدعم الحكومي، سواء للبطاقة التموينية أو للأشياء الأخرى التي تقدمها الدولة، كالوقود والخدمات البلدية والماء والكهرباء.. فهي تستنزف ثروة البلد في قضايا استهلاكية بدل أن توجه تلك الثروة لبناء قاعدة اقتصادية متينة تحسن وضع الفرد وتوفر فرص العمل لشريحة واسعة من المواطنين. صحيح أن إيقاف التوزيع المجاني لمفردات البطاقة التموينية سوف يؤثر سلبا على بعض المواطنين العاجزين عن توفير ابسط مستلزمات المعيشة الكريمة، إلا أن ذلك يمكن تلافيه أو الحد منه بشكل كبير، بإيجاد نظام مدروس للضمان الاجتماعي للطبقة المعوزة، أو العاجزة عن العمل. سيما وان معظم دوائر الدولة لا تعمل الآن إلا بجزء بسيط من إمكانياتها، نظرا للظروف الأمنية ولطغيان العملية السياسية على كل ما سواها. يجب البدء بالتفكير حول كيفية رفع العراق إلى مستوى الأمم الناضجة، التي تعتمد شعوبها على جهودها الذاتية في كسب قوتها، وليس على اقتناء مستلزماتها الحياتية بشكل آلي. ولا شك أن إيقاف الدعم الحكومي سيسبب ارتفاعا في أسعار المواد الغذائية، والمواد الأخرى بشكل كبير، ولكنه قد لا يكون أمرا سيئا كما يبدو. فقد قال لي احد المحللين الاقتصاديين إن ارتفاع الأسعار دلالة على قوة الاقتصاد، إذا رافقه ارتفاع في القدرة الشرائية.. ونلاحظ في هذا المقام أن الدول ذات الاقتصاد القوي كاليابان والولايات المتحدة وألمانيا والأمارات العربية المتحدة وغيرها تكون ذات مستوى أسعار أعلى من غيرها.. وبالتالي تستقطب رؤوس الأموال وتشجع التجارة وتزيد الاقتصاد قوة إلى قوته. وليس معنى ذلك أن كل ارتفاع للأسعار هو أمر جيد، فالارتفاع الناتج عن شحة المعروض هو أمر بالغ السوء. وتلك نقطة مهمة، فيجب قبل اتخاذ الإجراء الحاسم بوقف الدعم الحكومي التأكد من أن المعروض يزيد على الطلب المحلي لفترة مناسبة، مما يمنع الارتفاع الجنوني للأسعار.
ومن ناحية أخرى، فان المواطن سيسعى إلى استغلال البضاعة أو الخدمة التي يدفع تكلفتها الحقيقية بالشكل الامثل، ويرشد في استهلاك الطاقة، مما سيقلل الهدر المستمر للثروة الوطنية منذ عقود من الزمن. ويمكن أن يؤدي استقرار السوق المحلية بأسعار موازية للأسعار العالمية إلى زيادة الثقة بالاستثمار المحلي دون خوف من نكسة تسببها الدولة بتدخل غير محسوب في إدارة الدفة الاقتصادية.
إن استمرار الدعم الحكومي هو هدر لمقدرات البلد، وتأخير لعجلة التنمية، كما انه يكبح الحركة التجارية ويقيد الصناعة والزراعة بشكل كبير. ورغم أن هذا القرار لن يكون سهلا على أية قيادة، كما إن فهمه سيكون غاية في الصعوبة لمعظم أفراد الشعب، لكن اتخاذه سيكون خطوة تاريخية مهمة في رسم مستقبل العراق وبناء اقتصاده بشكل حضاري ومنفتح، بحيث لا تسيطر عليه الدولة فيصبح أداة للقهر والاستبداد من جديد.