Sunday, November 30, 2008

القاعدة تصاب بالذعر

حدثان وقعا في زمانين ومكانين مختلفين لكنهما –على الارجح– مرتبطان. الاول، سلسلة الهجمات المنسقة في مومباي الاربعاء الماضي، والثاني التفجير الانتحاري في المسيب الجمعة الماضية. كيف يمكن لهذين الحدثين ان يتعلق احدهما بالاخر، او ان يكون بينهما اية علاقة؟ الجواب: القاعدة. فرغم ان السلطات الهندية لم تلق اللوم على القاعدة، بل على المخابرات الباكستانية، وبرغم اعلان منظمة مجهولة تسمي نفسها «مجاهدو ديكان» المسؤولية عن الهجوم، الا ان بصمات القاعدة واضحة. فقط نشرت مواقع للمدونات على الانترنت شهادات افاد بها اشخاص من داخل الفنادق التي تعرضت الى الهجمات بان المسلحين طالبوا بسجلات النزلاء وبحثوا تحديدا عن الاميركيين المقيمين في الفنادق.

كما ان من بين الاهداف الاخرى مركزاً يهودياًَ في مومباي، وكل هذه اهداف «مشروعة» للقاعدة.
اما في العراق، وفي بلدة المسيب تحديدا، فان الهجوم الانتحاري الذي وقع اثناء صلاة الجمعة في حسينية تابعة للتيار الصدري، والذي يقال ان افغانيا نفذه، فهو بلا ادنى شك من تصميم وتنفيذ تنظيم القاعدة في العراق، الذي هو ليس الا امتدادا للتنظيم الارهابي الاوسع، الذي يتخذ من جبال تورا بورا على الحدود الافغانية–الباكستانية مقراً له.
ومن المعروف ان البرلمان العراقي صادق على الاتفاقية الامنية بين العراق والولايات المتحدة برغم معارضة نواب التيار الصدري. هذه الاتفاقية يصطلح عليها احيانا اتفاقية سحب القوات، غير اني اقترح تسمية مناسبة اكثر، وهو «اتفاقية الجلاء». فتعبير «سحب القوات» مناظر لـ»استدعاء القوات»، بمعنى ان الانسحاب يأتي بعد الاستدعاء. ولكن طالما ان القوات الاميركية لم تأت بدعوة من العراق، وهي حسب القانون الدولي «قوات احتلال»، فان رحيلها هو «جلاء» عن ارض الوطن، وهي الكلمة المناظرة لكلمة «احتلال». لذلك ساشير اليها بهذا الاسم في هذا المقال.
اقول ان اتفاقية الجلاء حددت مواعيد ثابتة لرحيل القوات الاميركية، ليس للرئيس الاميركي المنتخب، باراك اوباما، أي قول فيها. نعم، يستطيع ان يعجّل من الانسحاب، او يطلب تغيير المواعيد، او يطلب تغيير بعض من بنود الاتفاقية، او يطلب الغاءها بالكامل، ولكن ايا من ذلك لن يتم الا بعد تقديم اشعار الى الحكومة العراقية قبل مدة لا تقل عن سنة. لذلك، لن تحدث تغييرات ملموسة، فعليا، قبل مضي وقت طويل.
من ناحية اخرى، طالما اعلن الرئيس المنتخب عن رغبته في ارسال المزيد من القوات الى افغانستان التي تعاني نقصاً واضحاً في القوات القتالية، حسبما اعلنت مراراً وزارة الدفاع الاميركية، وقائد القوات الاميركية في افغانستان. وبحساب بسيط، فان أي قوات تنسحب من العراق، انما ستتوجه مباشرة الى افغانستان.
لاشك ان هذه الحقيقة تثير ذعر القاعدة. سيما وان القوات التي ستأتي لمواجهتها قد اصبحت تملك خبرة اكبر في مواجهة تكتيكات القاعدة، وحرب العصابات. وربما يكون الجيش الاميركي قد طور اسلحة ووسائل حربية تتلاءم مع ظروف الحرب الجديدة، تختلف كليا عن تلك التكتيكات والاسحلة التي استخدمت عام 2001 حينما شنت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة حربها على حركة طالبان إثر هجمات 11 أيلول.
ربما تكون القاعدة قد اصيبت بالذعر ايضا من حقيقة تفرغ الولايات المتحدة لمقاتلتها وهزيمتها. ومن المعلوم ان الحرب في افغانستان تحظى بدعم دولي واسع، على العكس من الحرب في العراق. الان، سوف تكتسب الولايات المتحدة المزيد من المصداقية والتأييد، وهو ضغط آخر على الدول التي ربما تفكر في مساعدة القاعدة باي شكل من الاشكال.
في تسجيل جديد نشر على مواقع مؤيدة للقاعدة، تحدث الرجل الثاني في القاعدة، ايمن الظواهري، والذي اصبح الرجل الاول اعلاميا، تحدث عن استعداد القاعدة لملاقاة الجيش الاميركي وهزيمته. وقال في طريقة تهكمية تذكر بالقرون الوسطى: «إن كلاب أفغانستان لم تشبع بعد من لحوم الأمريكان..”، ولم نسمع ان جنديا او مدنيا اميركيا واحدا قد تـُرك لتأكله الكلاب في افغانسان. لكن هذه احدى إمارات العجز: التمني. فالظواهري يريد ان يرعب القوات الاميركية بالعبارات المجازية القوية، التي لم يعد لها اي وقع في النفوس، لا بين المؤالفين ولا المخالفين.
وفي نفس التسجيل، يتحدث الظواهري عن «خيانة» النظام السعودي على مدى السنين للقضايا المصيرية، قائلا: «الدور التاريخي التخريبي الذي يلعبه آل سعود في إفساد قضايا أمة المسلمين، بدءاً من إفساد ثورة 1936 في فلسطين وتخريب الجهاد الأفغاني والمبادرة العربية واتفاق مكة بين حماس والسلطة الفلسطينية.» متناسيا دعم السعودية لعقدين من الزمن لمنظمته الارهابية. ولكنه بات يرى ان السعودية لن تكون معه في يوم من الايام، ولن تعود الى سابق عهدها معه ابدا، مهما اشتدت عليه وطأة الحرب، او الهزيمة.
يبقى ان نربط حلقات السلسلة. القاعدة اصيبت بالذعر لقرب تعرضها الى هجوم كاسح لن تقوى عليه على الاغلب. تحاول القاعدة ان تصرف الانتباه نحو الجنوب، وتستغل العلاقات دائمة التوتر مع الهند، لتشن هجمات ضارية، تهدف الى خلخلة الوضع السياسي في الباكستان، واجبارها على الخوض في سجالات مع الهند وتشتت تركيزها على القاعدة فيما لو حاولت الولايات المتحدة ان تخطب ود الباكستان لمساعدتها في العمليات المرتقبة.
وفي نفس السياق، تريد القاعدة جر التيار الصدري في العراق الى ميدان المواجهة، لاثبات عجز القوات الامنية العراقية عن التصدي للمواجهات الطائفية اذا ما اشتعل اوارها بعد انسحاب القوات الامريكية الى الثكنات منتصف العام المقبل.
اي ان تكتيك القاعدة –ببساطة– انما يهدف الى ابقاء القوات الاميركية في العراق، في الاقل في المرحلة الراهنة، اي فترة تولي الرئيس الاميركي الجديد مقاليد السلطة في بلاده، ومحاولة استكناه نواياه الحقيقية بعيدا عن الشعارات الانتخابية التي جاءت به الى هذا الموقع.
وليس من شك في ان انشغال الولايات المتحدة في العراق قد اتاح المجال واسعا امام القاعدة لتعيد تنظيم صفوفها بعد الهزيمة المرّة التي تعرضت لها عام 2001. ومن مصلحة القاعدة ان تبقى الولايات المتحدة منشغلة عنها لاطول فترة ممكنة. لذلك فهي تسعى الان الى خلق الاوضاع التي تقود الى الاستنتاج بان جلاء القوات الاميركية عن العراق ليس خيارا صائبا.
وربما يتوجب على الرئيس المنتخب اوباما ان يتبع سياسة اكثر انفتاحا اتجاه كل من الهند وباكستان، من اجل حل الخلافات المزمنة بينهما. فجزء كبير من جهود الحرب على الارهاب يتعلق بالدول التي توظف الارهاب، باي طريقة كانت، للنيل من اعدائها، بغض النظر عن مساهتمهم فيه.
اخيرا، اتمنى ان لا تتسبب محاولات تنظيم القاعدة في العراق المستمرة لاحداث فتنة طائفية في وقوعها بالفعل. لقد عانى العراقيون على مدى عامين في الاقل ويلات هذه الفتنة، التي كادت تؤدي الى حرب طائفية لا يعلم الا الله ما كانت ستؤول اليه. هذه الامنية انما تتعلق بسواعد القوات الامنية، وبجهود الاحزاب السياسية، وببصيرة الحكومة الوطنية. واذا تحقق كل ذلك، فلن تستطيع القاعدة ان تنشر شرها بين مواطني هذا البلد العزيز، وسوف يكون عليها ان تعض ذيلها وهي تجري بحثا عن ملاذ آمن جديد

Wednesday, October 08, 2008

الجدل التاريخي بشأن التوقيت الصيفي حول العالم

في بداية ثمانينيات القرن الماضي قررت الحكومة العراقية العمل بما يسمى بالتوقيت الصيفي بتقديم التوقيت ساعة واحدة اعتبارا من الاول من نيسان من كل عام واعادتها الى وضعها السابق في الاول من تشرين الاول من نفس عام. أي على ان يتم اضافة ساعة الى نهار كل يوم من اشهر الصيف الطويلة في العراق مما يسمح باستفادة اكبر من ضوء الشمس في الصباح والاقتصاد في صرفيات الطاقة، اسوة بالكثير من البلدان في المنطقة والعالم. وقد لقي هذا القرار عند بداية تطبيقه الكثير من المعارضة، باعتبار انه يغير ايضا من اوقات الصلاة ويسبب اضطرابا في مواعيد النوم عند اول تطبيقه، وكونه جاء خلافا لما اعتاد الناس عليه طيلة حياتهم السابقة. لكن السلطة الحاكمة لم تكن تعبأ بايضاح منافع تغيير التوقيت للعامة، واعتبرت معارضة تغيير الوقت بمثابة معارضة لسياسيات النظام ككل. وهكذا تقبل الشعب الامر على مضض ثم اعتاد عليه وبدأ يدرك منافعه، دون ان ينسى كونه مفروضاً عليه بالدرجة الاساس.

وبعد زوال النظام السابق، استمرت الحكومات التالية في السير على نفس النهج، على ان يتم تقديم الساعة وتأخيرها في موعد لا يتعارض مع ايام العمل، أي يتم في اول جمعة من الشهر المعني تقديما او تأخيرا. ولم يحتج احد ولم يعارض احد. فقد مضى ربع قرن على تطبيق هذا الاجراء واصبح الناس معتادين بشكل كامل عليه.
لكن الحكومة العراقية الحالية قررت بشكل مفاجيء ايقاف العمل به في عام 2008 برغم انها اقرته في السنة السابقة لحكمها. ولم يرد ايضاح بشأن ذلك برغم ما اثاره القرار من جدل بين مؤيد ومعارض. وربما احتاج الناس الى ان يخوضوا هذا النقاش لانه لم يتح لهم ان يخوضوا فيه قبلا.
وقد بدأت بعض البلدان في هذا الشهر بالعمل بالتوقيت الشتوي، أي باعادة التوقيت ساعة الى الوراء، او الاصح اعادته الى وضعه السابق قبل العمل بالتوقيت الصيفي. وبهذه المناسبة، اردنا ان نلقي بعض الضوء على تاريخ التوقيت الصيفي، ومنافعه، وجدوى العمل به، والجدل حوله في ارجاء العالم. املا في ان يتم اعادة النظر في تطبيقه في عام القادم، على اساس من الفهم الصحيح وليس الفرض، سواء بالتطبيق او المنع.
نبذة تاريخية
انتبه الاقدمون الى قضية اختلاف طول النهار بين الصيف والشتاء وضرورة الاستفادة من ضوء النهار، فعمدوا الى اجراءات معينة لضمان ذلك. فالرومان، الذين قسموا النهار الى اثنتي عشرة ساعة، اعتمدوا الساعة المائية في توقيتهم، لكن تدريجاتها كانت مختلفة بين شهر واخر. وهكذا فان الساعة في الشتاء كانت تعادل اربعاً واربعين دقيقة مقابل خمس وسبعين دقيقة طول الساعة في الصيف. وما زالت بعض المناطق في العالم تستخدم نظام الساعات غير المتساوية الطول، كما هو الحال في مقاطعة مونت اثلوس في اليونان. لكن اختراع الساعات الميكانيكية، التي تعطي الوقت بشكل متساو ومنتظم اوقف العمل بنظام الساعات غير المتساوية.
وفي عام 1784 نشر بنجامين فرانكلين، الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في فرنسا، مقالا بدون توقيع يحث الفرنسيين على الاقتصاد في استعمال الشموع عن طريق الاستيقاظ مبكرا. ويؤثر عنه قوله: «الذهاب باكرا الى الفراش، والاستقياظ مبكرا، يجعلان من الرجل صحيحا وغنيا وحكيما». واقترح فرانكلينفي مقاله ان يتم قرع اجراس الكنائس وحرق القوارب في ساعات الصباح الاولى لايقاظ الفرنسيين. وبرغم انه لم يقترح فكرة التوقيت الصيفي (او ما يصطلح عليه احيانا بتوقيت الاقتصاد في ضوء النهارDaylight Saving Time ) الا انه اصبح ينسب اليه، حتى يقال توقيت فرانكلين (كما قيل توقيت كامل الدباغ عند اول تطبيق للتوقيت في العراق لا لشيء الا لانه تحدث عنه في برنامجه الشهير العلم للجميع).
ثم انتبه احد البنائين المعروفين في انكلترا، ويدعى وليم ويليت، في عام 1905 ان الناس يبقون نائمين في افضل ساعات النهار طوال الصيف، وذلك اثناء جولاته الصباحية قبل الافطار. كما ان ويليت كان لاعب غولف متحمساً ولم يكن يرغب في ان ينتهي وقت اللعب بسرعة عند الغسق ايام الشتاء. فقام باقتراح فكرة تقديم الوقت ساعة كاملة عند بدء موسم الصيف، في مقال نشره في عام 1907. وقد بقي يدعو لفكرته حتى وفاته بعد ثمانية أعوام من دون ان يلقى نجاحا.
وكانت المانيا ودول المحور المتحالفة معها في الحرب العالمية الاولى والدول الواقعة تحت حكمها اول من يطبق فكرة ويليت وذلك في 30 نيسان من عام 1916، تبعتها بعد ذلك بقليل كل من بريطانيا وحلفائها والكثير من الدول المحايدة. وفي عام التالي اقرت الفكرة في روسيا وبعض البلدان الاخرى، فيما تأخرت الولايات المتحدة حتى عام 1918 للعمل بالتوقيت الجديد. ومنذ ذلك الحين شهد العالم الكثير من التعديلات والتطويرات لهذا النظام الجديد في التوقيت.
التوقيت الصيفي حول العالم
تعمل جميع دول الاتحاد الاوروبي بهذا النظام في الفترة الواقعة بين آخر أحد من آذار واخر أحد من ايلول. وفي روسيا تم العمل به مرة واحدة عام 1917 ثم توقف الى ان تم اعادة العمل به عام 1981، واستمر حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وفي آخر تعديل لنظام التوقيت عام 2007 اصبحت فترة التوقيت الصيفي في الولايات المتحدة تمتد من ثاني أحد من آذار الى اول أحد من تشرين الثاني، ووافقتها كندا في هذا الاجراء، غير ان المكسيك التي بدأت العمل به في عام 1996 لم تمدد فترة التوقيت الصيفي لتتوافق مع الولايات المتحدة.
ومن الدول العربية التي تعمل بالتوقيت الصيفي الاردن ولبنان في مواعيد ثابتة بين اول آذار وآخر تشرين الاول. اما مصر فانها تقوم بتقديم الوقت ساعة كاملة منتصف ليل آخر خميس من شهر نيسان وتعيده ساعة كاملة في منتصف ليل آخر خميس من شهر ايلول، وان قامت ببعض التعديلات لمناسبة تزامن تغيير الوقت مع حلول شهر رمضان المبارك. وبدأت تونس، ضمن الجهود الرامية الى الاقتصاد بالطاقة، بالعمل بالتوقيت الصيفي في 1 آيار 2005، متتبعة خطى الاتحاد الاوروبي. فيما قررت المغرب استئناف العمل بالتوقيت الصيفي اعتبارا من 1 حزيران 2008 بعد توقف دام عشرين عاما. اما سوريا فقد طبقت هذا النظام منذ عام 2006.
وفي ايران كان هذا النظام معمولا به قبل حدوث الثورة عام 1979، حيث تم الغاؤه. لكن الحكومة الايرانية اعادت العمل به عام 1989، وظل نافذا حتى ابطله الرئيس الايراني احمدي نجاد عام 2006، غير ان مجلس الشورى مرر قانونا يقضي باعادة العمل به اعتبارا من عام 2008، برغم معارضة الرئيس.
الا ان معظم الدول الاسيوية الكبرى تعد خارج دائرة التوقيت الصيفي. فالصين طبقته اعتبارا من عام 1986 لكنها توقفت عن ذلك في عام 1992، كما انها اعتبرت البلاد بأسرها منطقة زمنية واحدة (8 ساعات قبل التوقيت العالمي، او توقيت غرنتش). كما عملت اليابان به بين عامي 1948 و1951 تحت الاحتلال الاميركي، لكنها اوقفت العمل به حال الحصول على استقلالها عام 1952، وان تزايدت الدعوات لاعادة العمل بالتوقيت الصيفي منذ عام 1990. وطبق النظام في كوريا الجنوبية على فترات متقطعة منذ عام 1948 الا انه توقف في عام 1988. اما الهند واندونيسيا وماليزيا وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، اضافة الى دول الخليج العربي، فانها لم تعمل به مطلقا.
وتم العمل بالتوقيت الصيفي في استراليا اول مرة اثناء الحرب العالمية الاولى، غير ان قرار الاستمرار به ترك الى الولايات. وفي العاصمة يطبق التوقيت بين اول أحد من تشرين الثاني واول أحد من نيسان في عام التالي. ورفضت مقاطعة غرب استراليا العمل به في ثلاثة استفتاءات شعبية في الاعوام 1975 و1984 و1992، الا ان برلمانها قرر العمل به بشكل تجريبي لمدة ثلاث سنوات تبدأ في 2006 ثم يتبعها استفتاء شعبي يقرر بشكل نهائي الاستمرار به او التوقف عنه. كذلك رفضه الشعب في استفتاء 1992 في مقاطعتي شمال استراليا وكوينزلاند.
وفي النصف الجنوبي من الكرة الارضية، تنقلب فترة اشهر التوقيت الصيفي بانقلاب الفصول. فقد طبقت بعض الولايات في البرازيل التوقيت الصيفي منذ عام 1931، وقررت ريو دي جانيرو وولايات اخرى في هذا عام (2008) ان تطبقه اعتبارا من 19 تشرين الثاني الى 15 شباط. وطبقته كولمبيا مرة واحدة بين عامي 1992 و1993 ثم توقفت عن ذلك.فيما قررت الارجنتين تطبيق التوقيت اول مرة عام 2007، بين 30 كانون الاول و16 آذار. كما بدأت دول اميركا اللاتينية حديثا بالعمل به ومن بينها تشيلي والاكوادور والاورغواي والبرغواي. الا ان بيرو وفنزويلا وغويانا لم تعمل به مطلقا. تجدر الاشارة ان التوقيت الصيفي ليس بذي تاثير يذكر في خطوط العرض الدنيا.
الجدل حول التوقيت الصيفي
كان اقتراح ويليت اصلا ينص على ان تطبيق التوقيت الصيفي يجعل الناس يقضون وقتا اكثر خارج منازلهم، وبالتالي يتم الاقتصاد في صرفيات الضوء الصناعي لانهم سوف يضطرون الى النوم ابكر عندما يعودون الى منازلهم في المساء، وهو الوقت الذي تستعمل فيه الانارة الصناعية (الشموع او المصابيح الخ). ومن الواضح ان هذا الاجراء لا يغير من طول النهار، بل يعمل على تحويل ساعة من الليل الى النهار، لكي لا تضيع هباءا.
الا انه برغم ان الاقتصاد في الطاقة كان هو السبب الرئيس في العمل بالتوقيت الصيفي فان الدراسات الحديثة لا تتفق دائما مع هذا الرأي، لا سيما مع اخذ عوامل اخرى بنظر الاعتبار مثل التغييرات المناخية واستعمال اجهزة التكييف وغيرها.
ففي عام 1975 توصلت دراسة اعدتها وزارة المواصلات الاميركية الى ان التوقيت الصيفي يوفر ما مقداره 1% من صرفيات الطاقة بين شهري آذار ونيسان. لكن في عام التالي توصلت دراسة اخرى اعدها المكتب الوطني (الاميركي) للمقاييس الى انه ليس هناك تغير ملحوظ في استهلاك الطاقة نتيجة التوقيت الصيفي.
وبالمثل توصلت دراسات في استراليا اجريت عام 2000 الى ان تطبيق التوقيت الصيفي قلل من استخدام الانارة ليلا الا انه زاد من استخدام اجهزة التكييف صباحا. وفي عام 2005 اقرت دراسة في اليابان الى انه تم التقليل من استهلاك الطاقة نتيجة استخدام الانارة بمقدار 0,02% مقابل زيادة مقدراها 0,13% في تبريد الهواء. واخيرا بينت دراسة في ولاية انديانا الاميركية ان استهلاك الطاقة زاد بمقدار 1-4% بعد تطبيق التوقيت الصيفي، استهلكت في الغالب لتكييف الهواء.
بيد ان التأثيرات الاقتصادية للتوقيت الصيفي تتجاوز الاقتصاد في استهلاك الطاقة. ففي الولايات المتحدة تحث المحلات الكبرى على قضاء وقت خارج المنزل، طالما كان ذلك متاحا. وقد قدرت مجلة فورتشن الاميركية عام 1984 ان محلات سفن الفن الاميركية الشهيرة قد حصلت على ارباح اضافية تقدر بـ30 مليون دولار نتيجة زيادة فترة تطبيق التوقيت الصفي لسبعة اسابيع، بينما زادت ارباح منشآت الغولف بمقدار 200-300 مليون دولار لنفس الفترة. كما قدرت دراسة اجريت عام 1999 ان ارباح قطاع الترويح ازدادت 3% نتيجة التوقيت الصيفي.
على الجانب الاخر، فان التوقيت الصيفي يؤثر على المزارعين الذين لا يتعلق عملهم بساعة معينة. على سبيل المثال يتوجب حصد المحاصيل الحقلية عندما يتبخر الندى، أي ان الوصول باكرا لا يجدي نفعا. ومن القطاعات الاخرى التي يؤثر فيها التوقيت بشكل مباشر قطاع التلفزيون الذي يعتمد في ترويج الاعلان في فترة (الوقت الذهبي) التي يؤدي اختلافها بين الصيف والشتاء الى خسائر كبيرة.
ولا يعد قطاع الاستثمار اوفر حظا، فقد شهد يوم تغيير التوقيت في عام 2000 خسائر اجمالية تعادل 31 مليار دولار في اسواق الاسهم الاميركية. ويتوسع الامر ليشمل كلف تغيير برامج الحواسيب وجداول الاعمال وما اليه، حيث بلغت هذه الكلف الاضافية مبلغا يقدر بين 500 مليون الى مليار دولار في عام 2007.
على كل حال ربما يكون التأثر الايجابي الابرز للتوقيت الصيفي كامنا في نواح ٍ اخرى غير الاقتصاد. فقد قدرت دراسة وزارة النقل الاميركية عام 1975 ان معدل الوفيات نتيجة حوادث الطرق قد انخفض بمقدار 0,7% في اثناء التوقيت الصيفي، وقدرت ان النسبة الحقيقة ربما تصل الى 2%، برغم ان مراجعة محطة ان بي سي التلفزيونية لهذه الدراسة اشارت الى انه ليس هناك تغيير ملحوظ في معدل وفيات حوادث الطرق. يؤكد ذلك دراسة معهد سلامة الطرق السريعة عام 1995 التي بينت ان نسبة الانخفاض تصل الى 1,2%، من بينها 5% من حوادث السير التي يقع ضحيتها المشاة. وفي بريطانيا، اقرت دراسة ان اعتماد التوقيت المزدوج (تقديم الوقت ساعة واحدة في الشتاء وساعتين في الصيف) قد يؤدي الى تخفيض حوادث الطرق بمقدار 3-4%.
من ناحية اخرى توصلت دراسة اعدتها ادارة فرض القانون الى ان معدل الجرائم تناقص بمقدار 10-13% خلال التوقيت الصيفي في العاصمة الاميركية واشنطن. لكن منتقدي الدراسة يقولون انها شملت مدينتين فقط كما انها اقتصرت على انواع معينة من الجرائم.
وتقوم بعض البلدان باستغلال تغيير التوقيت لتذكير مواطنيها بتفقد متحسسات الحرائق قبل موسم الشتاء حيث تزداد الحرائق المنزلية نتيجة استخدام المواقد واجهزة التكييف، وكذلك تفقد مصابيح الانارة والانذار في حالات الضباب، وغيرها من المعدات الاخرى. لكن ذلك ليس متعلقا بالتوقيت الصيفي باي حال.
اما التأثيرات الصحية فهي اقل وضوحا واكثر استعصاءا على الدراسة. غير ان التوقيت الصيفي يتيح وقتا اكثر لارتياد محلات اللياقة البدنية، ويسمح بتعرض اكثر الى اشعة الشمس ما يسمح بزيادة انتاج فيتامين دي في الجلد، لكن هناك من يقول ان التعرض الزائد الى اشعة الشمس قد يؤدي الى سرطان الجلد. وبرغم ان هناك شبه اجماع على ان النهوض باكرا من النوم يقلل من الاكتئاب، غير انه من المعروف ان بدء تطبيق التوقيت يسبب ازعاجا ويقلل من فاعلية النوم في الايام الاولى، وان التعود على التوقيت الجديد قد يستمر لمدة اسبوع. وقد ادعت الحكومة الكاخازستانية ان تطبيق التوقيت الصيفي قد أدى الى مضاعفات صحية لدى مواطنيها مما حدا بها الى ايقاف العمل بهذا النظام.
يذكر ان هناك الكثير من المضاعفات الاخرى، منها ضرورة تغيير الساعات المنزلية وساعات اليد لتطابق التوقيت الجديد، والتعقيد الناتج عن استخدام بعض البلدان للتوقيت الصيفي وعدم استخدامه من قبل بلدان اخرى ما يسبب الاضطراب في حالات السفر والاجتماعات المجدولة، يضاف الى ذلك ضرورة اقفال اجهزة الحواسيب الخادمة Servers طيلة الساعة المضافة حتى لا تضطر الى قراءة الساعة نفسها مرتين او القفز ساعة للامام، والخسائر الناجمة عن هذا التوقف. ومن المضاعفات الممكنة ما يترتب على استخدام الاجهزة الطبية المعتمدة على التوقيت واحتمال تشوش معطياتها نتيجة تغيير التوقيت.
وعلى الصعيد السياسي تسبب التوقيت الصيفي في اثارة الجدل منذ ان تم اقتراحه اول مرة. ويؤثر عن وينستون تشرتشل قوله « ان فرص الصحة والسعادة تزداد كلما ابكرنا في الخلود الى النوم والنهوض من الفراش». لكن روبرتسون ديفز يرى ان «ايدي المتطهرين (طائفة مسيحية متشددة) الزرقاء متحمسة الى دفع الناس الى النوم باكرا والنهوض اصحاء واغنياء وحكماء برغم انفهم»، واطلق على التوقيت الصيفي اسم العبودي Slaving في جناس لكلمة Saving التي تعني الاقتصاد.
وبرغم ان الفكرة اجتذبت الكثير من الساسة، مثل تشرتشل ولويد جورج وماكدونالدز وادوارد السابع، الا ان البرلمان البريطاني رفض المقترح بانتظام طيلة الفترة من 1909 حتى اقراره عام 1916. وكان مجلس النواب الاميركي اكثر تشككا، فقد قدم اندرو بيتر مقترح قانون التوقيت الصيفي عام 1909 لكنه ضاع في متاهات اللجان ولم ير النور حتى عام 1918. لكن حدوث الحرب العالمية الاولى غير من المواقف المعارضة للتوقيت الصيفي، طالما انه يقع ضمن المجهود الحربي في الاقتصاد في الطاقة والحماية من الغارات الجوية وغير ذلك، فاضطرت الدول الحليفة الى تتبع مسار المانيا والعمل به فورا.
وحالما انتهت الحرب عادل الجدل من جديد. فقامت بعض البلدان بالغاء العمل به، الا ان بريطاينا احتفظت به وان قامت ببعض التعديلات بين آونة وأخرى. اما الكونغرس الاميركي فقد الغى العمل به بعد عام 1919، واعترض الرئيس وودرو ويلسون على قرار الالغاء مرتين قبل ان يتمكن الكونغرس من جمع الاصوات الكافية لتخطي اعتراض الرئيس. لكن بعض المدن الاميركية احتفظت بنظام التوقيت الصيفي محليا على البرغم من ذلك. وحينما تولى الرئاسة وارن هاردنغ اظهر معارضة لهذا النظام وامر موظفي العاصمة في عام 1922 ببدء الدوام الرسمي في الساعة الثامنة صباحا بدلا من التاسعة كبديل لتغيير التوقيت، وحذت حذوه بعض المدن الاميركية، لكن هذا الاجراء لم يستمر بعده.
ودفع الجدل السياسي حول التوقيت الصيفي المجموعات الاستثمارية الكبرى الى القيام بحملات للدفاع عنه وحتى تمديد فترة العمل به. فقد مولت مجموعة محلات سفن الفن الحملة التي ادت الى اقرار قانون تمديد فترة العمل بالتوقيت الصيفي عام 1987، كما دافع كل من شيخي ولاية ايداهو عنه عام 2005، وهي الولاية المشهورة بصناعة رقائق البطاطا المجهزة لخدمة المأكولات السريعة. وبالمثل قامت مجموعات اميركية كبرى بالدعوة الى قانون تمديد فترة التوقيت الذي اقر عام 2007.
وفي استراليا اصبحت قضية التوقيت الصيفي عام 2007 ضمن برامج السياسيين الذين تأرجح موقفهم حول الاستمرار في العمل به مجاراة لاهواء الرأي عام، بينما تزداد مطالبة قطاع الاستجمام والترويح في بريطانيا في العمل بنظام التوقيت المزدوج.
جدوى التوقيت الصيفي
في العراق
برغم ان الجدل العالمي الذي اوردناه يوفر ارضية لا بأس بها لمعارضي تطبيق التوقيت الصيفي، الا انه من غير المؤكد ان له مضارا جسيمة. فالشركات الكبرى تعمل على تضخيم الخسائر الناجمة عنه بقدر ما يعمل منافسوها على المبالغة في منافع الشركات منه. والحق اني لا ارى سوى بضعة ايام من اضطراب النوم هي كل ما يسببه التوقيت من مساويء.
اما المنافع فهي اكبر بكثير. فالشمس تشرق في العراق حوالي الساعة الخامسة في اشهر الصيف، أي قبل ما يزيد عن ثلاث ساعات من موعد الدوام الرسمي. ومن المؤكد ان الكثير من العراقيين ينهضون لصلاة الفجر قبل الشروق، ما يعني ان انهم يبقون غير منتجين او مستجمين فترة طويلة. لذلك قد يكون من الاجدى ان تستقطع ساعة من الصباح لتضاف الى المساء، ما يعطي العراقيين فترة اطول للاستجمام في المساء ويحتفظ بقدراتهم في العمل صباحا.
اما تأثير التوقيت على الفلاحين العراقيين فليس مماثلا لنظرائهم الاوربيين، الذي يعملون بنظام مختلف كليا. فالفلاح العراقي يستيقظ باكرا ويؤدي عمله بغض النظر عن التوقيت. كما ان حصاد المحاصيل في العراق لا تواجهه صعوبة حقيقة، مثل تكون الندى، الذي نادرا ما يحدث في اشهر الحصاد.
ان غياب المعطيات الرسمية الصحيحة لحوادث الطرق، والتأثيرات الصحية، والاقتصادية، وغيرها نتيجة لتغيير التوقيت في العراق، يجعل من الصعب الحكم على جدواه في العراق. لكن ذلك انما يدعو الى التطبيق والمراقبة والدراسة، لا الى الرفض. فكما بينـّا انفا، ليس للتوقيت مضرة حقيقة، بل منافع متوقعة. لذلك نأمل ان يصار الى اعادة العمل به في الاعوام القادمة مع مراقبة التأثيرات الجانبية ومحاولة دراستها بعمق حتى يمكن اطلاق حكم يستند الى ارضية صلبة فيما اذا كان مفيدا وغير مفيد.

Wednesday, May 21, 2008

مشروع قانون تنصيب نقابة الصحفيين

-- قراءة في قانون حماية الصحفيين المعروض على مجلس النواب --


نشر مؤخرا نص "قانون حماية الصحفيين" الذي احاله ديوان رئاسة الوزراء الى مجلس النواب لاقراره. ورغم بحثي المكثف لم اجد نسخة على موقع مجلس الوزراء او مجلس النواب. لذلك اعتمدت النسخة المنشورة في بعض المواقع الالكترونية. واعتذر عن اي خطأ قد وقع نتيجة لذلك.
مما لاشك فيه ان هناك ضرورة لاتخاذ اجراءات لحماية الصحفيين من الاعتداء الذي يقع عليهم نتيجة عملهم الصحفي، لاسيما مع تزايد الاخطار التي يشكلها العمل الصحفي على مزاوليه في العراق، كما تثبت ذلك الارقام المرعبة لشهداء الصحافة خلال السنوات الخمس الماضية. لكن هذه الضرورة لا تبرر اصدار تشريعات متعجلة ومبتسرة واحادية الرؤية، تشريعات تحكمها مرحلة انتقالية قد تكون فوضوية في بعض الاحيان، لكنها ليست هي الظرف الواقعي طويل الامد لسن تشريعات قد تسري لاجيال تالية.
والحقيقة ان السؤال الاساس هل ان حماية الصحفي مختلفة نوعا عن حماية بقية المهن الاحترافية، مثل المهندس والطبيب والحقوقي، بل والتاجر ورجل الاعمال وسواهم. لقد كان الجميع خلال الفترة التالية لسقوط النظام السابق اهدافا منهجية للهجمات الارهابية. حدث ذلك للقضاة، والاطباء على وجه الخصوص، والارقام التي تقرر هذه الحقيقة تفوق واقعا الارقام التي تتحدث عن ضحايا الصحافة. قد يكون التركيز على الصحفي فيه استثناء مبرر نوعا ما يعود الى طبيعة العمل الذي يجعله مستهدفا في بعض الاحيان بسبب موقف "سياسي" تجاه الصحفي ذاته او وسيلته الاعلامية. وهو ما يجعله في مرتبة واحدة، حسب راي بعضهم، مع منتسبي القوات الامنية، الذين اضحوا هدفا للجماعات المسلحة بسبب وظيفتهم بالدرجة الاولى.
ذلك يعني ان الاجابة عن التساؤل الانف قد تكون بالايجاب، على الاقل في الوقت الراهن، مع الاشارة الى من شأن اي قانون للصحافة، حتى وان شرع لغرض حمايتها لابد وان يتحول بشكل او بآخر الى قيد على الصحافة اكثر منه حماية له. في الانظمة الديقراطية الصحيحة، لايوجد قانون تسنه الدولة يختص بالصحافة تحت هذا المسمى. بل ان المؤسسات الصحفية الكبرى تسن لنفسها قواعد سلوك مهنية وتجعلها معيارا لمصداقيتها. ولهذا يعدّ اي تدخل للدولة في شؤون الاعلام الحر مخاطرة كبيرة على اصل النظام الديمقراطي.
فاذا وجدنا مبررا كافيا لسن هذا القانون فلابد ان نقرر في صيغة القانون ذاته انه ذو طبيعة مؤقتة مرهونة بالظروف الحالية ويجب ان ينتهي مفعوله بانتهاء هذه المرحلة وان يعاد النظر فيه بشكل دوري للتأكد من الحاجة اليه. لقد كان العمل الصحفي اذبان العهد البائد حكرا على شريحة بسيطة، لمنع تكون اية بذرة لاعلام حر ذي رسالة يهدد بقاء النظام.
لكننا نرى ان مشروع القانون موضع البحث لايشكل تعبيرا واضحا عن استقلالية الصحافة عن السلطات الثلاث، بل يدعو الى الانضواء تحت ظل الحكومة التنفيذية في اول مادة من مواده المقترحة والتي تنص: "يعتبر اي اعتداء على الصحفي اثناء تأديه مهامه الصحفية بمثابة اعتداء على موظف حكومي اثناء تأديه واجباته الرسمية ويعاقب المعتدي بالعقوبة المقررة قانوناً على الموظف الحكومي". ذلك مؤسف حقا، فكيف يمكن ان نقرن اداء عمل حر باداء موظف حكومي؟ الا يعد ذلك معادلا للقول بان الاعتداء على الصحفي اثناء عمله الصحفي اعتداء على سلطة تنفيذية؟ اذن كيف يكون شكل السلطة الرابعة؟ وكيف لنا ان نضمن عدم استغلال الصحفي نفسه لهذه "الميزة" في اغراض شخصية؟ الا يكفي اننا نجد امثلة لاحصر لها لاستغلال الموظف الحكومي لحصانته القانونية لاغراض شخصية؟
لقد كانت هذه النقطة من الاهمية بالنسبة لنقابة الصحفيين، التي تولت اعداد مسودة القانون وعرضه على الحكومة، بحيث جعلتها في مقدمة القانون المقترح، بل حتى قبل تعريف لفظ الصحفي، الذي لايرد الا في المادة السادسة عشر: "الصحفي هو الذي يعمل في الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية ومنتمي (هكذا في الاصل والصحيح منتم ٍ) الى نقابة الصحفيين العراقيين". وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل مشروع: لماذا يتوجب على الصحفي ان ينتمي الى نقابة الصحفيين ليحصل على حقوقه "القانونية" طالما كان يزاول في واقع الامر المهنة الاحترافية للصحافة؟ الا يعطي ذلك سلطة للنقابة في تقرير من سيكون مشمولا بمهنة المتاعب ومحميا قانونا، وتمييزه بمن لا يريد العمل النقابي او الانضواء تحت اتحاد مهني لاي سبب كان؟ فهل ان المهندس الذي لا ينتمي الى نقابة المهندسين مجرد مدّع؟ وهل يجب عدم الالتفات الى النساء "المضطهدات" اللائي لاينتمين الى اتحادات النسوة؟ ان النقابة هي مجرد مؤسسة مجتمع مدني تشتمل على نشطاء يعملون لقضية عامة بغض النظر عمن يسجل فيها ويحمل بطاقاتها التعريفية. والاكثر من ذلك ان النقابة التي تدعي الوصاية على الصحفيين رفضت منح العضوية (او جعلته امر في غاية الصعوبة) للكثير ممن استشهدوا او اصيبوا في عملهم الصحفي بينما هي تتبجح الان بالمخاطر التي يتعرض لها الصحفيين، وان لم تعترف باحترافيتهم اصلا.
بيد ان النقابة تمضي الى اخذ المسالة على عاتقها الى ابعد من ذلك حيث يقتضي مشروع القانون في مادته الثانية ان: "لايعتقل الصحفي او يلقى القبض عليه بسبب عمله الصحفي الاعن طريق القضاء وبعد اعلام نقابة الصحفيين العراقيين وحضور ممثلها في التحقيق". ومرة اخرى تقرر النقابة من يشمله القانون وكيفية تطبيقه.
على كل حال، لا اجد المواد الثالثة والرابعة والخامسة مخالفة لعرف العمل الصحفي، وهي تتعلق بمنح الصحفي "حق الحصول على المعلومات التي تحتفظ بها الدوائر الحكومية والهيئات العامة لنقلها الى الجمهور"، وتعترف بحق الصحفي في "عدم الافصاح عن مصادر معلوماته"، كما انها تطالب بان لايتم "مصادرة ادوات عمل الصحفي الا باذن من المحكمة". غير ان المخالفة ترد فيما يلي في المادة السادسة التي تنص: "تتكفل الدولة بانشاء قوة فعالة لحماية الصحفيين ووسائل الاعلام"، حيث لا ارى كيف يعمل الصحفي مع وجود قوة حكومية مرافقة له. في الواقع فان مثل هذا الاجراء سوف يقيد الصحفي بالقوة التي تحميه وليس العكس. كما ان مثل هذه القوة كفيلة بان تمّكن السلطة التنفيذية من فرض سيطرة حقيقة على اداء الصحفي والوسيلة الاعلامية. تصور منع القوة المرافقة من الخروج في جولة ما ينوي الصحفي ان يقوم بها لاجراء تحقيق صحفي عن فساد دائرة ما، او لشبهة حول مسؤول حكومي، او غير ذلك من الامثلة التي ستقيد عمل الصحفي وتمنعه من الوصول الى اذيال الحقيقة وان توافر لديه بعض الامن (وهو غير مضمون قطعا).
ويؤكد ذلك نص المادة السابعة التي تطلب السماح "للصحفيين باداء عملهم دون تدخل من قبل القوات الامنية"، لكنها تستدرك بان هذا السماح مشروط بـ" مالم يكن هناك مسوغ شرعي". ولن تعدم القوات الامنية سببا لايجاد هذا المسوغ الشرعي. لقد تعرضت شخصيا ومجموعة من الصحفيين الاخرين الى اطلاق نار من قبل الشرطة (التي تعرفت علينا ودققت هوياتنا قبل ذلك) حينما هممنا ان ندخل موقعا لتفجير انتحاري في مدينة الحلة. وقد استوجب الامر تدخلا من مسؤولين حكوميين للسماح لنا بتصوير الانفجار المروع، فيما يبدو انه يصب في مصلحتهم لكشف افعال القاعدة في البلاد، اكثر من الرغبة في اتاحة الفرصة للاعلام الحر لنقل الحقيقة للعامة.
وطبعا فان المادة السابعة التي تقرر انه "على الاجهزة الامنية اجراء تحقيقات فورية في حالة تعرض اي صحفي لاي نوع من التهديد او الاذى وان تبذل الجهود لمعاقبة الجناة" هي من نافلة القول، لان هذا هو بالضبط عمل الاجهزة الامنية فيما يخص جميع المواطنين على السواء بغض النظر عن مهنتهم او انتمائهم الحرفي.
واكاد اتفق مع نصوص المواد التاسعة والعاشرة والحادية عشر التي تفرض على الدولة ان تكفل "رعاية عوائل شهداء الصحافة"، و"تخصيص راتب للصحفيين الذين يتعرضون الى الاعاقة" و"الرعاية الصحية للصحفيين وتتكفل بعلاجهم على نفقتها داخل وخارج البلاد اذا كانت الاصابة او الاعاقة بسبب العمل الصحفي" بشرط ان يكون ذلك توجها عاما للدولة فيما يخص ضحايا الاعمال الارهابية، وليس على سبيل التأمين المسبق لشريحة معينة بغية كسب ودها.
لكنني اختلف بشدة مع المادتين الثانية عشر والثالثة عشر واللتين تمنحان النقابة، من جديد، سلطة تنفيذية فيما يخص العقود مع المؤسسات الاعلامية المحلية والاجنبية العاملة في العراق وعمل الصحفي ضمن مؤسسته الاعلامية. ومصدر الاختلاف ليس نابعا من اعتراض على دور للنقابة في كل ذلك، لكن على حصر هذا الدور بها. فمن حق الصحفيين ان ينتسبوا الى اتحاد آخر غير النقابة الحالية وتبقى لهم حقوقهم القانونية المترتبة على العمل مع الوسيلة الاعلامية وحالات التعرض الى الفصل التعسفي وغيره. وذلك يجب ان ينظم بقانون اشمل للعمل وليس اخص بمهنة واحدة. غير انني ابدي اعجابا برغبة النقابة في منع الحيف عن الوقوع على الصحفي، لكنني اشعر انها غير قادرة فعلا على ذلك بسبب عدم تمكين اغلب الصحفيين، الذين يمارسون المهنة في الوقت الراهن، من الانتماء الى النقابة (او الحصول على مرتبة العضوية فيها). سيكون مدهشا حقا ان تجادل النقابة وسيلة اعلامية حول قرارها فصل محررين مثلا قاما بتغطية لم ترض المؤسسة، لكنها في الواقع ستجادل عن المنتمي لها حسب هذا القانون وتترك الاخر (الذي ربما ينظر قرار ادراجه في سجل العضوية سنوات عديدة).
واخيرا فان المادة الخامسة عشر قد وضعت النقاط على الحروف بالقول: "الصحفيون لاسلطات عليهم في اداء عملهم لغير القانون"، لكن هذا القانون ذاته وضع سلطة النقابة فوق جميع السلطات، وبذلك يمكن قراءة النص بالشكل التالي: "ان لم تكن عضوا في نقابة الصحفيين فلست صحفيا، وان كنت عضوا فيها فانت تحت رحمتنا".

Saturday, April 26, 2008

مسؤولية الناخب بين القائمة الانتخابية المفتوحة والمغلقة

مع الاقتراب من موعد الانتخابات المحلية المقررة في الاول من تشرين الاول المقبل، يتزايد الجدل حول اي النظم الانتخابية هو الاصلح للمرحلة القادمة. ومن المعروف انه قد تم اعتماد نظام القائمة المغلقة في الانتخابات التي اجريت عام 2005 كلتيهما، مع اختلاف واحد: فقد كان العراق كله دائرة انتخابية واحدة في انتخابات كانون الثاني، بينما اصبحت كل محافظة دائرة انتخابية مستقلة في الانتخابات التي اعقبتها في كانون الاول 2005. ويرى الكثيرون، ان لم نقل اغلبية الناخبين، ان نظام القائمة المغلقة قد ادى الى ايصال عناصر "غير كفوءة" الى مجلس النواب، وبالتالي فقد تعالت الصيحات مطالبة باعتماد نظام القائمة المفتوحة. والحق ان نظام الانتخابات بحد ذاته ليس سببا كافيا لتبرير العجز عن انتخاب المرشحين الاكثر كفاءة. وساحاول فيما يلي ان اثبت ان المسؤولية الفردية هي العامل الاساس في اختيار المرشحين، بغض النظر عن طبيعة القانون الانتخابي.
ورغم ان النظام الانتخابي عموما اما ان يكون نظاما للتمثيل بالاغلبية او للتمثيل النسبي، الا ان هناك نظما انتخابية تعتمد مزيجا بين الاثنين. وللتوضيح، فان نظام الاغلبية يعتمد على دوائر اقتراع يتنافس فيها مرشحون عدة للفوز بمقعد واحد بطريقة الفائز يأخذ كل شيء والخاسر يخسر كل شيء. اوضح مثال على ذلك الانتخابات الامريكية. اما في التمثيل النسبي فان المرشحين يخوضون الانتخابات ضمن قوائم تمثل حزبهم، او كتلتهم، او ائتلاف منهما، وتحصل على مقاعد يماثل نسبة الاصوات التي حصلت عليها. وهذا النظام اكثر شيوعا في العديد من دول العالم الديمقراطية، وتم تطبيقه في انتخابات 2005 في العراق. وهو اكثر عدالة من نظام الاغلبية، لا سيما مع وجود الكثير من الاحزاب والتنظيمات التي تروم الحصول على تمثيل برلماني.
لكن قرار استبعاد نظام الاغلبية من الانتخابات في العراق قد تم اتخاذه لسبب آخر. فقد كان القائمون على العملية الانتخابية يخشون ان تسيطر الشخصيات الدينية والعشائرية على نتائج الانتخابات نظرا لموقعها المحترم بين المواطنين. والحجة في ذلك ان الناخب العادي سوف يجد صعوبة جمة في التصويت لصالح مرشح ما، مهما تكن كفاءته وحنكته السياسية، اذا كان يوجد في نفس الدائرة الانتخابية رجل دين مثلا. فالعالم الديني يمثل قداسة وهيبة وقناعة قبلية لدى الناخب تفوق –في بعض الحيان – قدرته على الاختيار الحر. ولذلك ارتأى الحاكم المدني السابق (بول بريمر) عندما اصدر اول قانون للانتخابات في العراق بعد سقوط النظام السابق ان يصار الى التمثيل النسبي املا في منح المرشحين من الاحزاب العلمانية والدينية والمستقلين فرصا متساوية قدر الامكان.
فهل كان ذلك القرار صائبا؟ لقد تمخضت الانتخابات الاولى، وبشكل اكبر الثانية، عن اظهار استقطاب طائفي وقومي، والالتفاف حول عباءة المفتي او الحزب القومي املا في الحصول على اكبر قدر من المكاسب السياسية من خلال التمثيل البرلماني، حتى ولو كان المرشحون غير مؤهلين عمليا لخوض هذا الغمار. بيد انني لا اجد السبب في ذلك يعود الى نظام الانتخابات الذي اعد من قبل سلطة الاحتلال. فحتى مع تسليم السلطة واجراء تغييرات على النظام الانتخابي، بقي النظام الاساس في الانتخابات هو التمثيل النسبي، او القائمة. ولعلنا نتذكر ان النقد تركز حينذاك على اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة، مما يعني ان الاصوات يتم احتسابها في جميع انحاء البلاد لصالح قائمة ما. وهذا النظام مفيد بالخصوص للاقليات التي لا تسطيع ان تجمع "حد العتبة" وهو اقل عدد اصوات ممكن للفوز بمقعد واحد، اذا خاضت الانتخابات على المستوى المحلي. ومرة اخرى لا اجد ذلك سيئا بالمرة، لكن مقاطعة الانتخابات من قبل بعض الاحزاب والتنظيمات صوّر النتائج وكأنها نتيجة لهذا النظام. كما ان الناخب سعى الى التصويت للقائمة التي "اوصته" بها مرجعيته الدينية او السياسية دون النظر والتدقيق في برامج القوائم او معرفة مرشحيها بصورة كافية.
على كل حال، فقد تم تغيير نظام الدائرة الواحدة الى الدوائر المتعددة، بحيث تكون كل محافظة دائرة انتخابية في الانتخابات الثانية، الا انه لم يحدث فرق جوهري في نتائج الانتخابات. بل على العكس تعمق الاستقطاب الطائفي والقومي وتراجع المرشحون الليبراليون ليحتلوا موقعا صغيرا في البنية السياسية يكاد يكون غير ذي تأثير بالمرة. وفي الحقيقة فان ذلك لا يختلف كثيرا عن نظام الاغلبية آنف الذكر. فقد فازت الاحزاب الدينية بمعظم او كل المقاعد المخصصة للمحافظة في مجلس النواب، كل حسب موقعه الجغرافي وتوزيعه الديموغرافي. وهكذا باءت محاولات بريمر في منع الاغلبية من الحصول على كل شيء بالفشل.
اليوم يدور النقاش حول تغيير النظام الانتخابي بحيث يتم اعتماد القائمة المفتوحة. ولا ادري ما المقصود من ذلك تحديدا. فكلما سألت احدا يتقدم بمثل هذا الاقتراح عن الآلية التي يقترحا اجد جوابا واحدا: ان يسمح للناخب بان يختار من القائمة (او القوائم) المرشحين الذين يعتقد انهم الافضل والاجدر بتولي المسؤولية. وليس لدي اعتراض من ناحية المبدأ على مثل هذا الطرح. لكن الاعتراض انما يتأتى من التطبيق العملي من النواحي التالية:
1. كم يبلغ عدد القوائم وعدد المرشحين فيها؟ في الانتخابات السابقة شاركت المئات من القوائم في المحافظات المختلفة (بعض القوائم كانت في اكثر من محافظة، لكن مرشحيها اختلفوا من محافظة الى اخرى). اذا افترضنا ان عدد القوائم المتنافسة في محافظة ما 50 قائمة (تخمين متواضع)، تحتوي على 40 مرشحا (وهو عدد افتراضي لاعضاء مجالس المحافظات، وهو متغير يعتمد على عدد السكان)، فان ذلك يعني ان عدد المرشحين قد يزيد على الفي مرشح في دائرة انتخابية واحدة. فكيف يتأتى للناخب ان يتعرف على جميع او معظم او حتى العدد الكافي من المرشحين لكي يصوت لهم؟
2. ولو افترضنا ان المرشحين الالفين ارادوا ان يخوضوا الانتخابات بشكل فردي (وهو حقيقة معنى القائمة المفتوحة) الا يتوجب عليهم ان يعقدوا الندوات واللقاءات وان يديروا الحملة الانتخابية كل على عاتقه، وان تلقى مساعدة من حزبه؟ فما هو دور القائمة في هذه الحالة؟ هل تقدم مرشحيها كفريق واحد في الحملة الانتخابية؟ اذا كيف سيتعرف الناخب على الافراد الذين سيصوت لهم اذا لم يتصل بهم بشكل او باخر؟ اي ان خوض مثل هذه الانتخابات سوف يكون عملية عسيرة على المرشح والناخب على حد سواء بسبب العدد الكبير من المرشحين، والذين يتعذر على الناخب الاحاطة بهم. وبالنتيجة سوف يلجأ الناخب الى التصويت حسب القائمة لعجزه عن التعرف الى العدد الكافي من المرشحين الذين يعتقد بأهليتهم.
3. غير ان المشكلة الاكبر تمكن في الناحية اللوجستية للانتخابات. سوف يتوجب طبع جميع الاسماء للمرشحين، مما يجعل قسيمة الاقتراع بالغة الكبر ومعقدة جدا. اذ انها يجب ان تحتوي على القوائم وافرادها جميعا. سوف يكون من الصعب جدا ايجاد المرشحين ضمن قسيمة الاقتراع، خصوصا مع حملات انتخابية غير كافية للمرشحين (آخذين بنظر الاعتبار قصر المدة الزمنية)، وتوعية انتخابية ضعيفة او حتى معدومة. كما ان عدّ الاصوات سيكون شبه مستحيل في وقت قصير. سوف يتطلب الامر عدة اشهر لفرز الاصوات والتحقق منها قبل اعلان النتائج. كما ان التحقيق في الطعون سوف يستغرق وقتا طويلا. يضاف الى ذلك عدم توافر وسائل تقنية متطورة كالحاسوب والانترنت لتسهيل عملية التصويت والفرز، مما يجعل الامر كله منوطا بالاداء البشري المحدود باي حال. والكل يتذكر كم استغرق فرز الاصوات والتحقيق في الطعون في الانتخابات الماضية، قبل اعلان النتائج النهائية وتوزيع المقاعد بين الفائزين.
وعلى هذا فليست القائمة المفتوحة هي الخيار الامثل لانتخاب ممثلي الشعب الذين سيقع على عاتقهم اخراج البلاد من محنة الطائفية وشرك التعصب الى فضاء الوطنية والانتماء الاوسع للتاريخ والحضارة المشتركة. والحق انه ليس هناك نظام انتخابي قادر على فعل ذلك بشكل آلي. يتوجب على الناخب ان يتخذ قراره اعتمادا على نفسه بالدرجة الاولى، دون الخضوع الى ضغوط دينية او اجتماعية او عرقية او غيرها.
وقد ارى في الواقع سبب التشديد في الطلب على القوائم المفتوحة كاساس للنظام الانتخابي. فقد خضع الناخب للعبة الاحزاب المتصارعة عن طريق استخدام الرموز الدينية، وظنَّ انه لم يكن في مقدوره فعل شيء ازاء ذلك. والذين يروجون للقوائم المفتوحة يرومون تشتيت التركيز على القائمة بحيث لايكون هناك معنى لان تحظى قائمة ما بدعم مرجعية دينية او غيرها، طالما ان الناخب حر في اختيار مرشحيه بين القوائم. اما اذا كان النظام الانتخابي يجبر الناخب على الاختيار من قائمة واحدة فلن يكون هناك فرق جوهري عن القوائم المغلقة.
والادهى من ذلك ان تعمد الاحزاب الى نشر قوائم باسماء "مدعومة" توزع او تفرض على الناخبين بنفس الطريقة التي فرضت فيها القوائم في الانتخابات السابقة. وفي هذه الحالة لن تكون هناك فرصة حقيقية للناخبين للادلاء باصواتهم بشكل حر وديمقراطي.
والخلاصة ان لا فائدة من تغيير النظام الانتخابي اذا لم يتغير الوعي الانتخابي ولم تتغير اولويات المواطن العادي من العشيرة والطائفة والعرق الى الوطن الاعم. لا يمكن ان يتم انتاج نظام انتخابي يرفع المسؤولية عن كاهل الناخب، او يجعل التلاعب به من قبل الاحزاب السياسية غير ممكن. واذا وعى المواطن مسؤوليته الحقة، فكل نظام انتخابي صالح، وكل ما ينتج عنها مفيد. اما اذا استمر تغييب المواطن كناخب، وتخلى هو نفسه عن المسؤولية الذاتية في التصويت، فلن يكون لتغيير النظام الانتخابي اي أثر.

Sunday, March 16, 2008

مجمع الأطباء في المدينة التأريخية (بابل): ركام من ماضٍ عليل يبحث عن الشفاء والعافية

ليس بعيدا عن مبنى العيادة الشعبية، الذي شهد اعنف هجوم دموي في مدينة الحلة، وقبل ان تصل محطة تعبئة الوقود القديمة التي يتدافع فيها الناس للحصول على قنينة غاز، وعلى ضفاف شط الحلة حيث ينتصب جسر حديدي ذو اتجاه واحد، بينما تتكدس النفايات وينمو البردي بين جانبيه، يقع مجمع الاطباء.. مجموعة من البنايات ذات الطابق الواحد او الطابقين او الثلاثة طوابق، التي بنيت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تحجز خلفها بيوتا خربة تعود الى قرن مضى تحولت الى مشاف، ولكن تنتصب بينها بناية واحدة حديثة جرى انشاؤها في السنوات الاخيرة. بنايات ليس بينها اي تناسق معماري، كما تخلو من اية اشارة الى طبيعة المكان سوى لافتات عشوائية للاطباء والصيادلة والمختبرات الطبية، وما سواها.

ان لم يسعفك الحظ في الحصول على موقف لسيارتك في المرآئب القريبة، يتوجب عليك البحث بين الازقة والشوارع القريبة عن موقف، ومع ذلك فستضطر لدفع الاجرة عن ذلك الموقف. لقد تحولت جميع الشوارع والازقة في هذا المكان الضيق الى مواقف للسيارت مقابل ثمن. فهنا تنتهي الطرق بحواجز كونكريتية كئيبة، ونقاط تفتيش تبعث بعض الثقة بعدم تكرار الهجمات في تلك المنطقة التي تعج بالباعة المتجولين والمراجعين من المرضى وذويهم، الذين يحثون الخطى بحثا عن الحكيم الذي يشفي عللهم وسط مطاعم (الكص) و(بسطيات) الفاكهة التي تحتل الارصفة. تتزاحم الاكتاف بينما تجول العيون بين اللافتات المتدلية عسى ان تجد ضالتها من دون ان تضطر للسؤال. واخيرا، حينما يسقط بيديك لاتجد مفرا من استعلام البوابين الذين اتخذوا من بوابات العمارات الضيقة مقعدا يستشرف المارين وهم ينادون، كما في سوق الخضراوات: الدكتور فلان جلدية، والدكتورة فلانة نسائية.. اطفال.. مختبر فوري.. الخ. يبادرك البواب بالجواب عن سؤالك الخجول، الطبيب الذي تبحث عنه في العمارة المجاورة. تدلف الى العمارة المظلمة حتى في وضح النهار، لتجد بوابا يبيعك التذكرة ويخبرك متى ينبغي عليك المجيء. اذا كنت من سكنة المدينة فربما تفضل العودة بعد ساعات، وان لم تكن فعليك الانتظار في عيادة الطبيب.
حينما تدخل عيادة لطبيب ما، فقد لا تفاجئك الارائك التي يبدو انها جاءت منحة مجانية من مقهى قديم، ولا الستائر البالية التي لم تغسل منذ ان علقت اول مرة. لن تفاجأ بالاسلاك المتدلية على الجدران تتمايل مع لحن: الوطنية.. المولدة.. الخط الثاني. المفاجأة ربما ستكون في عدم وجود موضع لجلوسك وسط الزحام، وعنصر المفاجأة ان تسلسل تذكرتك قد يكون ثلاثون او اربعون ولكن المقاعد لا تزيد على عشرة! لكنك بعد ان تقف برهة من الزمن سوف تحصل على مقعد لمريضك وان كنت محظوظا جلست انت ايضا بعد مرور الدقائق الثقال. لن تجد محيصا عن ان تجول بناظريك في المكان بينما يعتاد أنفك على الروائح المختلفة التي تنذر بالمرض. في عيادة نموذجية تجد في احد الاركان مبردة هواء كبيرة تدوّر الهواء داخل غرفة الانتظار فتجعله اكثر رطوبة، هذا ان كانت تعمل على اية حال. وترى بعض الملصقات الطبية الحزينة التي تتحدث عن فوائد النظافة مثلا، بينما يشكو الجدار خلفها من غبار تجمع على مدى السنين حتى عاد لوناً آخر. وحينما تصل بك عيناك جهة باب غرفة الكشف، لن تخطئ طبعات الحناء حولها وعليها، أكفاً رُسمت بلون بني قاتم وقد استطالت الاصابع او تكورت، فتتذكر فيلم رعب ويتراءى لك شخصا يترنح وهو يمسح بالحائط الدم التي تضرج به، سوى ان الدم المقزز، مع ذلك، الطف لونا. لن تجد عادة موضعا للمرافق الصحية، فهذا ترف لا يليق بالمرضى. وان كنت مضطرا لقضاء الحاجة فتلك مشكلتك.
في غمرة تأملاتك، تنتبه لصوت الممرض ينادي الناس بأرقامهم، تتطلع الى تذكرتك، انه رقمي، تهب واقفا، تسمعه يقول لك "هل كنت نائما؟"، تعجب من القول، فهل هذه غرفة فندق خمس نجوم يحلو للمرء ان ينام فيها، لكنك تفضل ان لا تدخل في مجادلة لن تكسبها في اية حال.
تدخل غرفة الطبيب، تتغاضى عن الستارة الرثة، والكرسي الابيض الذي صار رماديا، ومنظر الغرفة العام الكئيب، لانك ما جئت الا لألم انهك جسدك، تشكوه للحكيم، عسى ان تجد على يديه شفاء عاجلا. يدعوك للجلوس بينما تسترسل في وصف حالتك، يطلب منك ان تسلم جسدك للسرير، تروح سماعته الطبية تجول في انحاء صدرك مداعبة وموادعة بينما تحدثك نفسك ان هذا اول الغيث. تعود للجلوس بينما تلمح قلم الطبيب مسرعا على الوصفة. تشكره وتنصرف.
ان كنت محظوظا فلن يطلب منك الطبيب تحليلا مختبريا، او اشعة، او سوناراً. وان لم تكن فسوف تعود لنفس المشاهد تمتع بها ناظريك من جديد. على كل حال، لا تخلو الوصفة من حقنة، وعليك ان تعود لزرقها لدى الممرض الذي وصفك بالنائم. يضعك خلف الستارة غير الساترة، ويخلع عنك بنطالك، ويغزو عليك حرمتك، وانت ساكت وراض، فليس اشد على الاحتمال من الالم المضني.
تخرج من المكان مسرعا قاصدا سيارتك، راجيا ان يكون ذلك اخر العهد به. هيهات. سوف تعود، وسوف تنفق هنا مالك ذليلا، تحت وطأة المرض الذي لن ينفك يعاود زيارتك، والذي يجبرك والالاف غيرك على الذهاب هناك حيث لن يرضى احد ان يذهب طوعا.

Tuesday, February 12, 2008

قراءة في قانون المساءلة والعدالة: اجتثاث البعث ام بعث الاجتثاث

اصدر مجلس الرئاسة قبل فترة وجيزة قانون المساءلة والعدالة الذي حل بذلك محل قانون اجتثاث البعث الذي اصدره الحاكم المدني السابق للعراق بول بريمر. وهكذا انتهت فترة من الجدل السياسي المرير حول هذا القانون الذي كثيرا ما اعتبر، بالاضافة الى تشريعات اخرى، مقياسا لتقدم العملية السياسية في العراق.
والواقع ان هذا القانون لا يعدو ان يكون تأخرا في العملية السياسية اكثر من كونه دافعا لها. فالبيان الذي اعلن صدور القرار نص على انه: "بناءً على ما اقره مجلس النواب... ولمضي المدة القانونية المنصوص عليها في الفقرة (خامساً/أ) من المادة مائة وثمانية وثلاثين من الدستور صدر القانون الأتي رقم (10) لسنة 2008". والمعلوم ان نائب الرئيس طارق الهاشمي رفض التوقيع على القانون، وهو ما يقودنا الى جدل قانوني. فالمادة 138/رابعا من الدستور تنص على انه: "يتخذ مجلس الرئاسة قراراته بالاجماع، ويجوز لأي عضو ان ينيب احد العضوين الآخرين مكانه". لكن اصدار هذا القانون قيد النقاش تم استنادا الى الفقرة خامسا، حسب بيان مكتب الرئاسة، التي تنص على: "أ- ترسل القوانين والقرارات التي يسنها مجلس النواب، الى مجلس الرئاسة، لغرض الموافقة عليها بالاجماع، واصدارها خلال عشرة ايام من تاريخ وصولها اليه... ب- في حالة عدم موافقة مجلس الرئاسة، تعاد القوانين والقرارات الى مجلس النواب لاعادة النظر في النواحي المعترض عليها، والتصويت عليها بالاغلبية، وترسل ثانيةً الى مجلس الرئاسة للموافقة عليها. ج- في حالة عدم موافقة مجلس الرئاسة على القوانين والقرارات ثانيةً، خلال عشرة ايام من تاريخ وصولها اليه، تعاد الى مجلس النواب، الذي له ان يقرها بأغلبية ثلاثة اخماس عدد اعضائه، غير قابلةٍ للاعتراض، وتُعد مصادقاً عليها." اي انه في هذه الحالة اعتبر مرور الفترة الزمنية المحددة في الفقرة (أ) كافيا لاعتبار القانون مصادقا عليه، بغض النظر عن الاجراءات التي اوردتها الفقرات (ب) و(ج) اللاحقتين. والواضح من نص القرة (أ) انه لابد من حصول الموافقة بالاجماع.
ان هذه المناورة هي سابقة في التشريع، ولن يتمكن مجلس الرئاسة في الواقع من فعل اي شيء حيالها في المستقبل. لقد كانت الفكرة من اصدار القرارات الرئاسية (او بالاحرى الموافقة على التشريع البرلماني) بالاجماع هو ضمان عدم انفراد كتلة حزبية او مكون ما من اطياف الشعب العراقي في اتخاذ القرارات دون مراعاة الكتل او الاطياف الاخرى. وعلى هذا، فان اعتراض الهاشمي ليس اعتراض الحزب الاسلامي او الطائفة السنية، انه اعتراض شريك في العملية السياسية، كما ان قانون المساءلة والعدالة ليس قانونا كرديا او شيعيا ولكنه قانونا يفترض ان يكون وطنيا يصب في مصلحا الشعب العراقي ككل.
تجدر الاشارة الى ان مجلس النواب يمتلك صلاحية حل (الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث) كما ورد في الفقرة ثانيا من المادة 135 من الدستور، لكن من غير الواضح فيما اذا كان يمكن دستوريا احلال هيئة محل اخرى. بيد ان الظاهر ان كلا من الهيئة المنحلة والتي تحل محلها تمارسان نفس الاختصاص فلا يبدو ان هناك تجاوزا خطيرا على الدستور. على كل حال، لقد تم تجاوز الدستور باكثر من ذلك في نصوص القانون الجديد كما سنوضح لاحقا.
على ان القانون الذي غير من تسمية الهيئة السابقة عاد واكد طبيعة عملها في مادتها الاولى/الفقرة رابعا التي تعرف الاجتثاث بانه: "الإجراءات التي تتخذها الهيئة وفقا لأحكام هذا القانون بهدف تفكيك منظومة حزب البعث في المجتمع العراقي ومؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني فكرياً وإدارياً وسياسيا وثقافياً واقتصادياً." اي ان تغيير التسمية لم تؤدِ الى نضج حقيقي في التعامل مع قضية الاجتثاث المثيرة للجدل، والتي عُدت من افدح اخطاء الحكم الامريكي في العراق، ليس من ناحية اقصاء حزب البعث عن الحياة السياسية ولكن من جهة اعتبار ان اعضاء الحزب المنحل مذنبون حتى تثبت براءتهم. ولست اقول انهم كانوا حمامة سلام، ولكن لا يمكن ان نتهم ملايين العراقيين على اساس انتماء لم يكونوا في الواقع يملكون الكثير من الخيارات سواه. والقلة المجرمة يجب ان تقدم للمحاكمة على ما ارتكبته ايديهم، اما سواهم فيجب ان تتاح لهم الفرصة لكي يعاد دمجهم ضمن مكونات الشعب العراقي وطي صفحة الماضي الرهيب في انتظار المستقبل المزهر.
والاسوأ من ذلك، ان نفس المادة الاولى قد عرفت العضو بانه: "كل شخص انتمى لحزب البعث وادى يمين الولاء له" (الفقرة سادسا) ثم تعود فتقرر ان اعوان النظام هم: "الأشخاص من المنتمين إلى حزب البعث، أو المنتسبين إلى الأجهزة القمعية، و المتعاونين معهم..." (الفقرة تاسعا). ومن الواضح ان تفسير هذه التعاريف سوف يخضع للكثير من الجدل والتسويف. وارى انه في نهاية الامر سوف يقع مليوني شخص في اقل تقدير تحت طائلة هذا القانون. واشير هنا الى مخالفة دستورية واضحة، حيث نصت الفقرة خامساً من المادة 135 على ان "مجرد العضوية في حزب البعث المنحل لا تعد اساساً كافياً للإحالة الى المحاكم، ويتمتع العضو بالمساواة امام القانون والحماية، ما لم يكن مشمولاً بأحكام اجتثاث البعث...". فان قيل انه لم ترد في هذا القانون احالة الاعضاء على المحاكم لمجرد الانتماء، قلت ان التعريف مهد السبيل لذلك، حيث ان قسم يمين الولاء الذي يجعل المرء بعثيا، يجعله في الوقت ذاته من اعوان النظام، وفي نظري فان هولاء هم من اعتى المجرمين واغلظهم.
وبينما تقر المادة الثالثة بان احد اهداف الهيئة هو: "تطهير مؤسسات القطاع الحكومي، والقطاع المختلط، ومؤسسات المجتمع المدني، والمجتمع العراقي، من منظومة حزب البعث تحت أيّ شكل من الأشكال." (الفقرة ثانياً) فان الاجراءات المتبعة في مجمل القانون تقنعنا ان الهدف الحقيقي هو تطهير هذه المؤسسات من الاشخاص الذين انتسبوا الى حزب البعث في الماضي، اكثر مما هو تطهير لها من الحزب نفسه.
ولست اجد في مواد هذا القانون ما يؤكد محاربة الفكر البعثي، ولا المنهج البعثي، المستأصل -للاسف- في دوائرنا الحكومية. فالفساد الاداري كان سلاح النظام السابق في اضعاف الاجهزة الحكومية بغية اخضاعها لسلطته المباشرة. وقل مثل ذلك عن المحسوبية، وتردي الخدمات الاساسية، واستخدام العائدات الوطنية للمصلحة الشخصية، واثارة النعرات الطائفية، وغير ذلك مما شهدناه في عهد النظام السابق، ولازال شاخصا اليوم امام اعيينا.
كما انني اجد مبررا، في الواقع، الى ايجاد نص قانوني يقرر "إحالة عناصر حزب البعث المنحل والأجهزة القمعية الذين يثبت التحقيق إدانتهم بأفعال جرمية بحق أبناء الشعب إلى المحاكم المختصة لينالوا جزاءهم العادل." (الفقرة ثالثا)، الا يعد ذلك من نافلة القول؟ اليس حريا بالمحاكم ان تستمع او تقبل شكاوى المواطنين ضد المجرمين سواء كانوا اعضاء في حزل البعث او لم يكونوا، وسواء ارتكبوا هذه الجرائم في ظل النظام السابق او قبله او بعده؟
لقد كنا نتصور ان من شأن القانون الجديد ان يرأب الصدع ويطوي الصفحة المخضبة بالدماء، لكننا وجدنا انه ما ان ينكيء جرحا حتى يقدح آخر. ولا اجد تفسيرا لنشر اسماء الاشخاص المشمولين باجراءات الاجتثاث، كما تدعو الفقرة خامسا من المادة الرابعة، سوى التشهير والتحريض، اذ تنص على: "استكمال تعريف أولئك الأفراد المشمولين بإجراءات الاجتثاث خلال مدة عمل الهيئة ونشر قائمة بإجراءات الاجتثاث المقررة في هذا القانون بحيث تجمع قائمة بأسماء جميع الأفراد الذين خضعوا لهذه الإجراءات موضحة درجة كل فرد وتاريخ صدور أمر اجتثاث البعث ذات الصلة". فاذا كان المقصود بـ(اجراءات الاجتثاث) هو تعريف العناصر المنتمية لحزب البعث، فان نشر هذه القوائم بدون توجيه تهم جنائية يعد تحريضا ضد هؤلاء الاشخاص وانتهاكا لحقوقهم الدستورية. ويجب ان لا ننسى ان المادة 19 من الدستور/الفقرة ثانياً نصت على انه: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة".
غير ان القانون الجديد يحدد في فصله الرابع اجراءات محددة ضد اعضاء حزب البعث لمجرد الانتماء. فالفقرة اولا من المادة السادسة تنص على: "إنهاء خدمات جميع الموظفين ممن كان بدرجة عضو شعبة وإحالتهم على التقاعد" بنما تنص الفقرة ثانيا على: "إحالة جميع الموظفين الذين يشغلون إحدى الدرجات الخاصة... ممن كانوا بدرجة عضو فرقه في صفوف حزب البعث على التقاعد"، ثم تسمح الفقرة سادسا "لجميع الموظفين غير ذوي الدرجات الخاصة ممن كانوا بدرجة عضو فرقة فما دون في صفوف حزب البعث بالعودة إلى دوائرهم أو الاستمرار بوظائفهم." لكن الفقرة سادسا عادت فمنعتهم من الخدمة في "الهيئات الرئاسية الثلاث ومجلس القضاء والوزارات والأجهزة الأمنية ووزارتي الخارجية والمالية." وليس في هذا فرق جوهري عن قانون بريمر رقم واحد الذي عرف لاحقا بـ(قانون اجتثاث البعث). وفي كلتا الحالتين تم التعامل مع الحزب على اساس افراده، ولم يوجه نحو الفاعلين منهم والذي تورطوا في جرائم ساعدت النظام السابق على الاستمرار واضطهاد الشعب.
واغرب ما في القانون الجديد ما نصت عليه المادة الحادية عشرة: "يحاكم حزب البعث المنحل كحزب ونظام لارتكابه الجرائم ضد الشعب العراقي." ولا ادري كيف ستتم مثل هذه المحاكمة ومن سيقبع في قفص الاتهام ومن الذي سيتولى اصدار الحكم ناهيك عن تنفيذه. واتصور ان هذه المادة حشرت حشرا لاثبات ان المقصود هو الحزب لا اعضاءه. فان كان الامر كذلك، فما هي الحاجة لهذا لقانون اصلا.
والملاحظ ان هذا القانون اتخذ شكلا تفصيليا وعرض اجراءات وهيكليات ونظم محددة لعمل هيئة المساءلة والعدالة بما يزيد عن الحاجة الفعلية. فالتشريع يؤطر عادة الهدف منه باجراءات عامة، ثم تقوم الوزارات او الهيئات الحكومية بوضع التعليمات اللازمة لتنفيذه. اما هذا القانون فقد استغرق في التفاصيل الى درجة انه حدد مسؤوليات حتى الموظفين المساعدين في الهيئة: "مكتب رئيس الهيئة :ويديره موظف بعنوان مدير ويتولى تنظيم مراسلات رئيس الهيئة ومواعيده ومقابلاته وأية مهام يكلفه رئيس الهيئة بها" (المادة الثامنة عشرة/ الفقرة اولا/1). وهذه المادة شرحت بالتفصيل هيكلية جميع دوائر الهيئة ومكاتبها وموظفيها ومؤهلاتهم وواجباتهم.
واخيرا، فقد ورد في الاسباب الموجبة للتشريع: "وللأخذ بعين الاعتبار وجود حالات انتماء صوري لبعض الفئات من الشعب إلى صفوف الحزب المنحل مع عدم إيمانها بأفكار البعث الدكتاتورية وممارساته القمعية". وهو ما لم نلمسه في هذا التشريع بتاتا. بل على العكس، اعتبر القانون ان جميع من انتموا الى حزب البعث مذنبون حتى يثبت العكس. وقد فشلت اجراءات بريمر بحق البعثيين، التي تبدو اكثر رأفة من التي وردت في هذا القانون، في الحد من نفوذهم في المجتمع ، خصوصا في المحافظات التي احتضنت نسبة كبيرة منهم. واذا كنا نريد مصالحة وطنية حقيقة، علينا ان ننتبه الى مثل هذه الحقائق، لا ان نسعى خلف شعارات براقة وخادعة في آن. فالجميع يعلم ان المجرمين الحقيقين فروا خارج البلاد ساعة احتلاله، وانهم يقودون التمرد الوحشي ضد الحكومة لانهم ليس لديهم ما يخسروه. ولست ادعوا الى الصفح عن اولئك القتلة، ولكن ارجو ان لا نعمل على دفع من لم يشأ ان يجاريهم في افعالهم الدنئية، الى الالتحاق بركبهم. لقد ندم بريمر بعد فترة وجيزة من اصداره قانون اجتثاث البعث، واطلق بدلا عنه مبادرة المصالحة الوطنية. وكان ينبغى ان يقبر ذلك القانون مع زوال سلطة الاحتلال. لكننا نجد ان قانون المساءلة والعدالة قد عمل على بعثه، وبذلك حق القول انه قانون بعث الاجتثاث.

Monday, January 14, 2008

اصلاح التقويم اليولياني ومراحل التحول نحو التقويم الغريغوري

يعتبر التقويم الغريغوري اكثر التقاويم استعمالا في العالم اليوم. وهو عبارة عن اصلاح للتقويم القديم الذي وضعه يوليوس قيصر. وكان اول من اقترحه الطبيب والفيلسوف والفلكي والمؤرخ الويسيوس ليليوس من كالابريا في جنوب ايطاليا، ثم اصدر البابا غريغوري الثامن امرا بابويا بتطبيقه في 24 شباط 1582. يحتوي التقويم الغريغوري على نفس نظام ترقيم الاشهر والسنوات لسلفه التقويم اليولياني، وبالمثل فانه يعتمد في حساب السنين على مولد المسيح. وبسبب ان السنة اليوليانية اطول قليلا من الواقع، فان موعد الانقلاب الربيعي خصوصا كان يتأخر مع مرور السنين مسببا تأخير موعد الاحتفال بعيد الفصح لدى المسيحيين. وقد اصلح التقويم الغريغوري هذا الخطأ باسقاط 10 ايام من التقويم السابق حتى يتواءم مع التوقيت الحقيقي للفصول،

كما تم اعتماد القاعدة التالية في حساب السنوات الكبيسة: تكون السنوات التي تقبل القسمة على 4 سنوات كبيسة ما عدا التي تقبل القسمة على 100 تكون سنوات عادية، غير ان السنوات التي تقبل القسمة على 400 تبقى كبيسة. وعلى هذا فان السنوات 1700، 1800، 1900 لم تكن كبيسة بينما كانت سنة 2000 كبيسة. والتغيير هنا هو انه حسب التقويم اليولياني فان كل سنة تقبل القسمة على 4 هي سنة كبيسة من دون استثناء.
يعتمد النظام الغريغوري على احتساب كل 146,097 يوماً مساويا لمدة 400 سنة (وهو ايضا مساوٍ لفترة 20,871 اسبوع بالتمام)، وهذا يعني انه يجب اعتماد 303 سنوات اعتيادية (ذات 365 يوما) مقابل 97 سنة كبيسة (ذات 366 يوما) في كل 400 سنة. ومن المعلوم انه في السنة الكبيسة يتم اضافة يوم واحد الى شهر شباط ليكون 29 يوما بينما يكون طوله 28 يوما في السنوات الاعتيادية.
الدافع لاصلاح التقويم
يعود السبب في اجراء الاصلاح الى رغبة الكنيسة الكاثوليكية الى الاحتفال بعيد الفصح (او عيد القيامة) في نفس الوقت الذي اقرّه المجمع الكنسي الاول، والذي عقد في نكايا التركية برعاية الامبراطور قسطنطين الاول عام 325 للميلاد. وكانت الكنيسة في الاسكندرية تحتفل بعيد الفصح في اول يوم أحد بعد اليوم الرابع عشر للقمر على ان يكون بعد الانقلاب الربيعي الذي اعتبروه موافقا لـ 21 آذار. اما كنيسة روما فقد كانت تعتبر 25 آذار هو يوم الانقلاب الربيعي حتى عام 342. وحسب كنيسة الاسكندرية فان عيد الفصح قد يقع بين 22 آذار و25 نيسان. لكن كنيسة روما منعت الاحتفال بعيد الفصح بعد 21 نيسان لانه يوم الاحتفال بعيد تأسيس روما وعيد الرعاة وهي مهرجانات وثنية. وعلى هذا يكون عيد الفصح لدى كنيسة روما بين 20 آذار و19 نيسان. وعلى الرغم من الاختلاف بين الكنيستين، فقد كانت هناك دائما طرق لتوحيد يوم الاحتفال. وبحلول القرن العاشر الميلادي فان جميع الكنائس اعتمدت طريقة الاسكندرية في الاحتفال بالعيد باستثناء المناطق الشرقية في الامبراطورية البيزنطية.
اضافة الى ذلك فان احتساب الشهر القمري كان مثبتا حسب التقويم اليولياني بدورة من 19 سنة. اي ان كل 19 سنة شمسية تعادل 235 شهرا قمريا، بهامش خطأ يبلغ ساعتين عن الطول الحقيقي، او يوم واحد كل 310 سنوات. وهكذا، فقد بلغ الفرق بحلول القرن السادس عشر اربعة ايام كاملة.
نتيجة لذلك قرر المجمع الكنسي المنعقد في ترنت عام 1563 تصحيح الخطأ في التقويم لاعادة يوم الانقلاب الربيعي الى ما كان عليه حين انعقد المجمع الكنسي الاول عام 325. وتوجب اجراء التصحيح على مرحلتين، الاولى ايجاد الطول الحقيقي للسنة الشمسية، وقد تم تحديد القيمة بـ 365.2425 يوما (وهي اكثر قليلا من القيمة الحقيقية البالغة 365.24219 يوما، الامر الذي دعى العالم البريطاني السير جون هيرشل في القرن التاسع عشر الى اقتراح ان يتم اسقاط سنة كبيسة اخرى كل 4000 سنة لتعويض الفرق – اي ان يكون العام 4000 سنة اعتيادية رغم انها تقبل القسسمة على 400).
اما المرحلة الثانية فقد تمثلت بانشاء نظام تقويم جديد بسيط نسبيا. وقد اقترح العالم ليليوس اسقاط عشرة ايام من التقويم واحتساب 97 سنة كبيسة كل 400 سنة (بدلا من 100 سنة كبيسة حسب التقويم القديم، كما تقدم آنفا). كما تم تعديل دورة الـ19 سنة الشمسية المقابلة للاشهر القمرية باضافة يوم واحد كل 300 او 400 سنة (ثماني مرات في مدة 2500 عام) الى جانب التصحيحات التي ستجري على الاعوام 1700، 1800، 1900، 2100، الخ، وهي التي اعتبرت سنوات غير كبيسة. وقد اقترح ليليوس ان يتم اعتبار جميع السنوات العشر الكبيسة التالية (في مدة اربعين عاما) سنوات اعتيادية لغرض تطبيق التصحيح، غير ان البابا غريغوري اراد ان يكون التصحيح دفعة واحدة وليس بالتدريج. وهكذا، فقد تم اصدار امر بابوي باعتبار يوم الجمعة 5 تشرين الاول 1582 حسب التقويم اليولياني القديم هو يوم 15 تشرين الاول 1582 حسب التقويم الجديد.
مراحل تطبيق التقويم الغريغوري
برغم ان اصلاحات غريغوري للتقويم قد اتخذت شكل امر باوبوي الا ان تنفيذها كان بحاجة الى اوامر من السلطات المدنية في كل بلد ليصبح لها تأثير قانوني. وهي وان اصبحت قانونا في الكنيسة الكاثوليكية، لم تعرها الكنائس البروتستانتية او الكنائس الارثوذكسية او الكنائس الاخرى اهتماما يذكر. نتج عن ذلك ان الاحتفال بعيد الفصح كان يجري في ايام مختلفة باختلاف الكنائس المسيحية.
في البدء تم تطبيق التقويم الغريغوري في اربعة بلدان كاثوليكية هي اسبانيا والبرتغال واتحاد بولندا – ليتوانيا بالاضافة الى ايطاليا. تبع ذلك مستعمرات كل من اسبانيا والبرتغال بسبب بطئ حركة المواصلات عندذاك. ثم تحولت فرنسا الى التقويم الجديد باعتبار يوم الاثنين 20 كانون الاول 1582 لاحقا ليوم الاحد 9 كانون الاول 1582. كما تحولت ولايتين فقط من ولايات الاراضي المنخفضة السبعة هما هولندا وزيلندا الى التقويم الغريغوري في كانون الاول من ذلك العام برغم انها اقطارا بروتستانتية.
بيد ان معظم البلدان غير الكاثوليكية عارضت مبدئيا تطبيق فكرة ذات مصدر كاثوليكي، خصوصا في فترة (الاصلاحات المقابلة) التي كان البابا غريغوري من اشد المتحمسين لها. وقد خشي بعض البروتستانتيين ان يكون التقويم الجديد مجرد وسيلة لاعادتهم الى حضيرة الكنيسة الكاثوليكية. كما عارضت التشيك تطبيق التقويم الجديد لكونه مفروض من قبل عائلة هابسبورغ المالكة. كذلك الحال في ايرلندا الكاثوليكية التي كان نبلاؤها يخوضون حرب الاعوام التسعة ضد الحكومة الايرلندية المعينة من قبل الملكة اليزابيث، ملكة بريطانيا البروتستانتية. وقد طلبوا اذنا خاصا من البابا بتعليق تطبيق التقويم الجديد حتى لا يظهروا بمظهر العاصي في عين البابا.
وفي مطلع عام 1700 اعتمدت كل من الدنمارك والنرويج والولايات الالمانية البروتستانتية التقويم الجديد، لكنهم لم يأخذوا باصلاحات الاشهر القمرية. ولغرض المحافظة على تحديد عيد الفصح فانهم قرروا ان يعتمدوا على جداول العالم الفلكي كبلر التي اصدرها عام 1627. غير انهم عادوا وتبنوا الجزء المتعلق بالاشهر القمرية من الاصلاحات عام 1776. كما اعتمدت الولايات المتبقية من جمهورية الاراضي المنخفضة التقويم الجديد عام 1700.
اما السويد فقد اتخذت طريقة ثانية في تطبيق التقويم عام 1700. حيث قررت اغفال السنوات الكبيسة جميعا بين عامي 1700 و1740 (لان الفرق اصبح 11 يوما عندئذ). نتج عن ذلك ان التقويم السويدي اصبح غير متوافق مع كل من التقويم اليولياني والتقويم الغريغوري على مدى 40 عاما، مسببا الكثير من الفوضى في تأريخ الاحداث خلال هذه السنوات. ومما زاد الطين بلة ان النظام طبق بشكل سيء حيث لم يتم اغفال السنوات الكبيسة بين عامي 1704 و1708. وعليه فقد قرر الملك جارلس الثاني عشر التخلي عن التطبيق التدريجي للتقويم، لكنه اعاد العمل بالتقويم اليولياني بدلا من التقدم باتجاه التقويم الغريغوري. ولغرض التوافق مع التقويم القديم فقد تقرر ان يكون شباط من عام 1712 ذا 30 يوما لاضافة اليومين التي الغيت سابقا. غير ان السويد طبقت النظام الغريغوري اخيرا عام 1753، ولحقت بها في كل ذلك فنلندا حيث انها كانت تحت الحكم السويدي.
اما بريطانيا والامبراطورية البريطانية (بضمنها المستعمرات الغربية التي اصبحت الولايات المتحدة الامريكية) فقد تبنت التقويم الجديد عام 1752 بالغاء 11 يوما من تقويمها، ليكون يوم الخميس 14 ايلول 1752 لاحقا ليوم الابعاء 2 ايلول. وتم تطبيق التغيير في الاسكا عام 1867 بعد ان اشترت الولايات المتحدة هذه المقاطعة من روسيا. وفي روسيا ذاتها تأخر تطبيق التقويم الغريغوري حتى عام 1918، بعد عام واحد من ثورة اكتوبر. وكانت اليونان اخر بلدان اوربا الشرقية الارثوذكسية في تطبيق التقويم الجديد في عام 1923.
وفي اسيا، كانت اليابان اول من طبقه عام 1873، تلتها كوريا عام 1896، ثم الصين عام 1912، لكن امراء الحرب المختلفين فيها اتخذوا تقاويم مختلفة. وبعد توحيد الصين تحت قيادة الحزب الوطني الصيني فقد اتخذت الحكومة قرارها بوضع التقويم الغريغوري موضع التنفيذ اعتبارا من الاول من كانون الثاني 1929.
عيد الميلاد بين الكنائس الغربية والشرقية
وبالرغم من توالي تطبيق التقويم الغريغوري في البلدان المختلفة، رفضت الكنائس الارثوذكسية الاعتراف به. بدلا من ذلك قررت ان تعتمد تقويما يوليانيا معدلا، باسقاط 13 يوم من عام 1923. ثم وضعت طريقة ثانية لاحتساب السنوات الكبيسة من شأنها ان تبقى متوافقة مع التقويم الغريغوري حتى عام 2800. وقد اختارت البطرياركيات في القسطنيطينة والاسكندرية وانطاكيا واليونان وقبرص ورومانيا وبولندا وبلغاريا ان تتحول الى التقويم المعدل بينما رفضته بطرياركيات القدس وروسيا وصربيا وجورجيا.
وهكذا فان هذه الكنائس تحتفل بيوم مولد المسيح الموافق 25 كانون الاول حسب التقويم اليولياني وهو ما يقابل 7 كانون الثاني في التقويم الغريغوري. بينما استمرت جميع الكنائس الشرقية الارثوذكسية الاخرى (القبطية، والاثيوبية، والاريتيرية، والسريانية، والارمنية) بالاضافة الى الكنيسة الاشورية في الاحتفال بمناسباتها في مواقيت ثابتة حسب التقويم اليولياني. هناك استثناء واحد بين الكنائس الشرقية الارثوذكسية وهي الكنيسة الفنلندية، حيث اعتمدت التقويم الغريغوري رسميا، مما جعلها عرضة للانتقاد بين باقي الكنائس الشرقية.
تبعة تغيير التقويم في العراق والبلدان العربية والاسلامية
تحولت تركيا الى التقويم الغريغوري عام 1925، بعد ان كانت تعتمد التقويم الهجري القمري، ضمن سياسيات مصطفى كمال اتاتورك العلمانية. اما باقي البلدان العربية والاسلامية فقد احتفظت بتقويمها الهجري الى ان تغيرت انظمتها السياسية في اواسط ونهايات القرن العشرين، حيث تم اعتماد التقويم الغريغوري بشكل آلي. ومن هنا نشأ المصطلح المعروف بـ(كانون العرب، او شباط العرب، او آب العرب، الخ) في العراق.
فقد كان التقويم الميلادي ثانويا في العراق اثناء الاحتلال العثماني شأنه في ذلك شأن باقي الدول الاسلامية، ومنها تركيا. ولكن التقويم الميلادي مفيد من ناحية ضبط مواقيت الزراعة والحصاد، بالاضافة الى توقعات الفصول والانواء الجوية، اذ ان التقويم الهجري يعتمد على الاشهر القمرية في الاساس وهي لا تتوافق مع حركة الارض حول الشمس، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها في مثل هذه الامور.
وقد اكتسب الشعب العراقي خبرة في تحديد مواعيد التغيرات بدقة متناهية، بل واعطى تسميات معينة لهذه التغيرات مثل (جويريد، المربعانية، برد العجوز، غرور المعيدي، وغيرها) بالاضافة الى تقسيم شهر آب المذهل الى ثلاثة اقسام (العشرة الاولى: حار جدا، والعشرة الثانية: حار صباحا معتدل مساءا، والعشرة الثالثة: تفتح للشتاء بابا). هذه المواسم عينت على مدى قرون حسب التقويم اليولياني الذي كان ثانويا في الدولة العثمانية ومستعمراتها. ومع قدوم الاستعمار البريطاني وتحول التقويم الثانوي الى الغريغوري، نشأ اختلاف في التوقيتات مقداره 13 يوم، هي مقدار تأخر التقويم اليولياني عن الغريغوري. لذلك حين تسأل كيف يكون الطقس حارا رغم اننا في شهر ايلول، غالبا ما يقال لك ان ايلول العرب لم يأت بعد، وانه يأتي متأخرا عشرة او احد عشر يوما عن ايلول الغرب. كما ان الكنائس في العراق، وهي التي كانت تضبط السنة الميلادية، لم تتحول الى التقويم الغريغوري كما مر آنفا، ولذلك لم يلتفت العراقيون الى حدوث مثل هذا التغيير الا بعد الاحتلال البريطاني. ومن الممكن انهم لم يسعوا الى تغيير التوقيتات تبعا للتقويم الجديد كجزء من عملية المقاومة للاحتلال.

Monday, January 07, 2008

اشكالية الاعلام الحر في مواجهة اعلام الدولة

عطفا على مقال الاستاذ عبد الزهرة زكي المنشور في المدى (العدد 1119 الصادر في 29 كانون الاول 2007) والموسوم "الاستقطاب والخلافات الحادة تعيق استقلال الاعلام"، اود الاشارة الى قضيتين تمثلان عقبة كأداء في تطور الاعلام كصناعة وتقضيان على امال استقلالية السلطة الرابعة، حتى بعد ان تتحرر البلاد من نير الارهاب والعصابات الاجرامية.

القضية الاولى: اعلام الحكومة
لقد كان تشكيل شبكة الاعلام العراقي نقطة تحول في ايجاد نظام اعلامي غير خاضع لسلطة الدولة وان كان يتلقى تمويله منها، متخذا هيئة الاذاعة البريطانية مثالا يحتذى في هذا المضمار. لكن ظروف توفير التمويل والنزاعات حول تعيين قياداتها متمثلة في رؤوساء مؤسساتها الاعلامية أنحت جانبا الهدف المرجو منها والمتمثل في اعلام مستقل يعمل على اصلاح شؤون الدولة كموسسة شبه دستورية محمية بمفهوم حرية التعبير، لتحدد اهدافا مرحلية طغت عليها الظروف الخاصة والحرب الشرسة ضد الارهاب.
وقد سعت الشبكة فيما يلي الى استقطاب وسائل الاعلام المطبوعة المحلية التي نشأت بعد تغيير النظام والتي كانت بأمس الحاجة الى الاعانات للاستمرار نظرا لغياب التمويل الذاتي من الاعلانات (كما اوضح الاستاذ عبد الزهرة في مقاله). وبما ان القسم الاعظم من صحفيي قبل التغيير كانوا موظفين في وزارة الاعلام المنحلة، وانهم فقدوا مورد عيشهم نتيجة هذا الاجراء، فقد كان تعيينهم على كادر الشبكة يمثل بديلا مناسبا. غير ان ذلك ادى الى عواقب غير حميدة. فقد بدأت الصحف والاذاعات المحلية تفقد خصوصيتها بالتدريج عبر تحولها الى منفذ لسياسة شبكة الاعلام العراقي، بل انها حولت حتى وارادتها المتواضعة الى الشبكة لكي تغطي جزءا من تكاليفها.
ان المطالع لواقع المؤسسات الاعلامية اليوم يستطيع ببساطة ان يستنتج ان تلفزيون العراقية، واذاعة جمهورية العراق، وجريدة الصباح، وقسما كبيرا من صحف المحافظات انما تمثل وجهة النظر الحكومية الرسمية. ويظهر ذلك جليا في تبني القضايا المختلفة في سياق بروباغاندي تعبوي، يبتعد عن النقد البناء والرقابة الدستورية على الاداء الحكومي، ليقترب من لغة التلميع والتبرير والخطاب الموجه الفاقد لاسس التعليم الاجتماعي لمصلحة التغييب الجمعي خلف تهديدات الحفاظ على الكيان والمنجزات.

القضية الثانية: اعلام الطوائف
ربما كان تحول شبكة الاعلام العراقي عن غايتها المرجوة قد دفع اقطاب المعارضة، سواء المعترف بها كأحزاب برلمانية او خارج البرلمان ام تلك التي تبنت العنف وسيلة لتحقيق مآربها غير المعلنة في اكثر الاحيان، دفعها الى تأسيس وسائلها الاعلامية بنفس الهيكيلة تقريبا. فالمتتبعون اليوم يعرفون تبعية كل جريدة او اذاعة او تلفزيون، ويستطيعون ان يحللوا موادها الاعلامية استنادا الى ذلك، رغم انها في الغالب لا تفصح عن هويتها وانتماءها الحزبي او الطائفي. ولعل السبب في اخفاء الهوية لا يكمن في عدم الثقة في الجهة التي تتحدث باسمها بقدر ما يتعلق بالرغبة في مصادرة الرأي والقضية وتصويرها على انها ممثلة لكل العراق. وليس في ذلك من ضير ان تم في النور، وبعد تعريف الانتماءات احتراما لشخصية المواطن، وتقديسا لمعنى الرأي والرأي الاخر.

وهكذا فبين اعلام حكومي موجه، يلمع صورة الاداء الحكومي ويدلس مواطن الفشل فيها، وبين اعلام محكوم بعقيدة الرفض الجازم لكل ما يتأتى من الحكومة، ضاعت المهنية والتبس على المواطن فهم الحقيقة، التي هي قبل ذلك مشوشة بما يكفي لاربكاه، وبالتالي فقد ثقته في معظم وسائل الاعلام المحلية وييم وجهه شطر الصحافة العربية والاجنبية يتخذها مصدرا لمعلوماته، وينصت لتحليلاتها المقتضبة حينا والمسهبة احيانا حول امور كان الاحرى ان تناقش على قناة فضائية او في صحيفة تصدر في العراق.
كل ذلك قاد جيلا من الصحفيين الشباب الى اللجوء الى الوسائل الاعلامية الاجنبية رغبة في تحقيق هدف الاستقلالية والمهنية الذي يصبو اليه اي صحفي جاد. ويجب الاعتراف ان ذلك يسجل تراجعا عن مكتسبات ازاحة النظام القمعي السابق، حينما كان امثال هذا الجيل يغادرون البلاد طمعا في فرصة افضل بشروط اعدل.