Thursday, December 29, 2011

حكومة الأغلبية السياسية.. انفراد بالسلطة أم انقلاب على المحاصصة؟

بعد تسارع الاحداث السياسية في العراق إثر إصدار مذكرة القبض بحق نائب الرئيس، طارق الهاشمي، وطلب رئيس الوزراء، نوري المالكي، سحب الثقة من نائبه لشؤون الخدمات، صالح المطلك، تحدث البعض عن بوادر انفراد في السلطة يعكف رئيس الحكومة على تكريسها، بينما شدد البعض الآخر على أن المالكي إنما يسعى لإقامة دولة المؤسسات التي لا يعلو فيها شخص مهما يكن منصبه أو انتماؤه السياسي على حكم القانون.
والواقع إن توقيت إثارة هذه الأزمة ربما يزيد الأمور غموضا. فهل كان المالكي ينتظر إتمام القوات الأميركية انسحابها كي ينقض على الخارجين على القانون أم أن الأدلة على تجريمهم برزت في هذا الوقت بالذات؟ يقدم لنا رئيس الوزراء دليلا على أن اتهامه نائب الرئيس لم يكن وليد الساعة، حينما قال في مؤتمر صحفي إن لديه "ملفاً" عن الهاشمي كان قد قدمه إلى الرئيس جلال طالباني قبل ثلاث سنوات. ويبدو أن هذا الأخير لم يقتنع بما ورد في الملف فردّه عليه، كما أن الأول لم يجد حيلة في حفظ الملف وعدم اتخاذ إجراء قانوني. الأمر كما يبدو سياسي بامتياز، إذ أن واجب القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يحارب الإرهابيين والمجرمين، وان كان لديه دليل على احدهم فحفظ ملفه لأسباب سياسية هو فشل في تنفذ الواجب المنوط به.
على كل حال، جلب النقاش حول هذه المسألة بالذات أفكارا كانت تطرح من حين لآخر، ولكنها برزت بقوة هذه المرة. فالمالكي اليوم يريد أن يحصل على حكومة أغلبية برلمانية بعد أن أعيته حكومة المشاركة الوطنية، أو (المحاصصة) كما أصبحت تعرف في الآونة الأخيرة. وهذا الطلب يجب ألا يؤخذ باستخفاف، وإنما هو حق. فالمحاصصة قيدت إلى حد كبير من قدرة الحكومة على التصرف إزاء المهمات المنوطة بها. وقد استحالت بعض الوزارات إلى حكومات بحد ذاتها، ولم يعد بإمكان رئيس الوزراء التدخل فيها بسبب القيود الموضوعة في أصل الاتفاق الذي أفضى إلى تشكيل الحكومة.
على أن الدستور لم ينص صراحة على توزيع المناصب بين الطوائف والأعراق بشكل محدد، ولكنه أكد ضرورة أن يتم توزيع السلطات بين كافة الأطياف حرصا على الوحدة الوطنية. وهذا هو مبدأ حكومة الوحدة الوطنية، أو المشاركة. لكن التطبيق العملي حوّل هذا اللفظ، أي (المشاركة) إلى المصطلح الأكثر بغضا لدى الشعب العراقي ألا وهو لفظ (المحاصصة).
وقد حدد الدستور كيفية انتخاب رؤساء البرلمان والجمهورية ومجلس الوزراء في مواد محددة، هي: المادة (53(، وتنص: "ينتخب مجلس النواب في أول جلسةٍ له رئيساً، ثم نائباً أول ونائباً ثانياً، بالأغلبية المطلقة"، والمادة (67) أولا، وتنص: "ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية، بأغلبية ثلثي عدد أعضائه"، والمادة (73) أولا، وتنص: "يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية"،
وهكذا، فان العقبة الرئيسة تكمن في انتخاب الرئيس، لان من الضروري الحصول على أصوات ثلثي المجلس النيابي. وهذا الأمر لن يكون سهلا إن أراد أي طرف أن يسعى إلى تشكيل حكومة الأغلبية السياسية. فعقد التحالفات بهذا الحجم للحصول على الأصوات اللازمة سوف يستغرق وقتا طويلا، وربما لا يوجد سقف للمطالبات التي سوف يتم التقدم بها. وبدون التوصل إلى انتخاب الرئيس لن يكون ممكنا تكليف رئيس للوزراء. ويمكن نظريا أن يُصار إلى انتخاب رئيس السلطة التشريعية بمعزل عن هذه التركيبة في السلطة التنفيذية، ولكن طالما كان المنصب سياديا فان تسمية من سيشغله لابد من أن يدخل في إطار مناورات تشكيل فرعي السلطة التنفيذية: رئاسة الدولة ورئاسة مجلس الوزراء. يضاف إلى هذا إن الدستور نص في المادة (67) رابعاً على: "يعرض رئيس مجلس الوزراء المكلف، أسماء أعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزاً ثقتها، عند الموافقة على الوزراء منفردين، والمنهاج الوزاري، بالأغلبية المطلقة". مما يجبر رئيس الوزراء على استشارة الكتل السياسية المشاركة في ائتلافه قبل تسمية أي وزير. إن هذا في نظري عيب كبير في الدستور، يجب تداركه وتعديله حتى تستقيم العملية السياسية. فإذا أريد من صاحب اكبر الصلاحيات في الدولة أن يتحمل مسؤولياته علينا أن نمكنه منها. على أن السيد رئيس الوزراء كان واعيا لهذا الأمر فطلب أن يُمنح صلاحية اختيار الوزراء من بين عدة مرشحين كل وزارة، ثم طلب تأجيل تعيين الوزراء الأمنيين، وكان له ما أراد. وحينما حصلت المصادقة على حكومته كان في الحقيقة قد اكتسب صلاحيات اكبر من التي منحها له الدستور، وهو الأساس الذي يبني عليه المدعون عليه بالتفرد بالسلطة.
من هذا يتبين لنا إن منصب رئيس الوزراء نفسه كان من ضمن المحاصصات اللازمة لتشكيل حكومة قابلة للتمرير من قبل البرلمان. فإذا أراد السيد رئيس الحكومة أن ينقلب على المحاصصة، وهو أمر مشروع، فيجب العودة بعملية تشكيل الحكومة إلى المربع الأول. اذ لا يمكن اليوم أن يتم رفض الطريقة التي وزعت بها المناصب السياسية بين الفرقاء، مع الاحتفاظ بمنصب رئيس مجلس الوزراء للسيد المالكي. لابأس في أن يبادر رئيس الحكومة في طلب سحب الثقة عن حكومته، وان يُعاد تكليفه برئاسة الحكومة الجديدة، إذا التزم بتقديم وزارته كاملة إلى مجلس النواب، الذي سيكون له القول الفصل، حسب الدستور، في قبول كل وزير أو رفضه. أما أن يعمل الآن على ترقيع حكوماته الممزقة بالنزاعات الحزبية من خلال إزاحة مناوئيه إلى موقع المعارضة، وتعيين مؤيديه بدلا منه، فلم يعد أمرا ممكنا في الظرف الراهن.
بالمقابل، فان الأحزاب والكتل التي تختار أن تحتل موقع المعارضة يجب أن تكون قادرة على ممارسة دورها في تصحيح مسار الحكومة، التي هي في هذه الحالة حكومة الأغلبية. ولابد من توافر الحد الأدنى من الثقة بين كافة الأطراف السياسية، وان تظهر التزامها بأحكام الدستور، حتى يمكن لنظام حكومة الأغلبية أن ينجح. وللأسف لا أرى أن هذين الشرطين متوافران حاليا.
لقد كانت نية مشرع الدستور أن يمنع أي مسؤول من التفرد بالقرار، خصوصا بعد أن عانى العراق من الدكتاتورية عقودا طويلة. لكن الطموح إلى السلطة تمكن من معظم المشاركين في العملية السياسية، حتى أعماهم عن إمكانية وقوع هذا الخطر بالآليات ذاتها التي تمنع وقوعه. وقبل توجيه الاتهام إلى شخص المالكي، على الأطراف السياسية أن تسأل نفسها: ما الذي جرى ليصل الأمر إلى هذا الحد؟ كيف يمكن لبلد دمرته الحروب والمآسي الطويلة، وتشرد أبناؤه في أصقاع الأرض، ونضبت خيراته الوفيرة، كل ذلك على يد شخص واحد انفرد بالسلطة، أقول كيف يمكن ألا تعمل جميع الأطراف من اجل أن تمنع حصول ذلك مجددا؟ يُقال: لولا النسيان لهلك الإنسان، وربما في حالتنا يمكن تعديل هذا القول ليصبح: لولا النسيان لهلك السلطان، فلربما نحصل على الإجابة عن تساؤلاتنا.

Wednesday, December 21, 2011

الشتاء العراقيّ تُدفّئه السجالات السياسية

بينما يمر خبر رحيل آخر جندي أميركي من العراق يوم الثامن عشر من شهر كانون الأول الجاري بدون ضجة إعلامية، أو حتى ذكر إخباري يزيد على شريط الأخبار أسفل الشاشة في معظم القنوات المحلية والعالمية، فإن أخباراً أخرى تحتل مساحة كبيرة في التغطية الإخبارية الإعلامية للشأن العراقي.حينما قرأت خبر الجلاء الكامل، جال في خاطري أن ما يلي سيكون خطابا رئاسيا، أو بيانا وزاريا، أو تصريحا برلمانيا سوف يقرأ بالمناسبة،

اعتزازا بالمناسبة الوطنية المميزة، فهذا اليوم هو يوم الجلاء واستعادة السيادة. لكن ما تردد من أخبار كان مختلفا للغاية.
فهذا رئيس الوزراء يحيل نائبه إلى البرلمان لإقالته بدعوى عدم اللياقة.. وماهي إلا يومان حتى يُعلن عن إصدار مذكرة إلقاء القبض بحق نائب رئيس الجمهورية بدعوى رعاية الإرهاب.
سبحان الله كيف ينقلب السحر على الساحر بين ليلة وضحاها. فبعد أن كان كلا الرجلين قطبين أساسيين في كتابة وإقرار الدستور الذي يفترض أن يكون أساس العملية السياسية الجارية في العراق، أصبحا طريدين من قبل الحكومة وخارجين على القانون.
يرى البعض أن رئيس الوزراء يتعمد أن يثير ضجة مع رموز القائمة العراقية بين الفينة والفينة لكي يغطي على فشل حكومته الذريع في حل المشاكل المستعصية التي يعانيها الشعب، من تهالك خدمات الكهرباء والماء والمجاري والطرق، إلى تفاقم مشاكل السكن والبطالة وتعطيل الصناعة والزراعة، وليس انتهاء بالخروقات الأمنية الفاضحة من آن لآخر.
بمعنى آخر إن رئيس الحكومة يعمل على صرف الانتباه عن مسؤوليته المتمثلة بزعامته للحكومة بالادعاء انه ضحية هذه الحكومة (المفروضة عليه) وفق توافقات سياسية لايد له فيها.
وإذا كان هذا الأمر صحيحا، فأين دور الشركاء في العملية السياسية؟ لماذا انزووا إلى أقبيتهم فلا ينبسون ببنت شفة للتعبير عن سخطهم من سياسة الحكومة التي هم جزء منها؟ لماذا يفاجأ الشعب بإعلان كبار مسؤولي الدولة مطلوبين للعدالة بلا مقدمات أو حتى بوادر أزمات تقدمت هذه الإعلانات؟ أما كان ينبغي لهم أن يخرجوا للعلن فيتحدثوا لنا عن هذه الاحداث وموقفهم منها؟
الظاهر إن طول جلوسهم خلف المكاتب الفارهة قد تمكن منهم حتى افقدهم حناجرهم، وأسقط أنيابهم، وقلّم أظفارهم، فما عاد بإمكانهم ان يهتفوا ضد اعتقالهم، أو يعضّوا من يحاول ذلك.
ومن يذكر مؤتمراتهم قبل أشهر قليلة، فإنهم لا تعوزهم الفصاحة في التعبير عن خلجاتهم، وانتقاد المواقف السياسية التي لا يرتضونها من الحكومة حتى صاروا جزءا منها، لهم ما لها وعليهم ما عليها.
إذا كان المالكي ينفرد بالحكم فان شركاءه هم المسؤولون عن ذلك. فلابد من أن اتفاقاتهم غير المعلنة حملت في طياتها تسليما غير مشروط لرئيس الحكومة أملا في الحصول على المناصب ذوات المردودات المالية والمعنوية العالية، والتي من شأنها أن تضمن مستقبلهم إذا آن أوان الرحيل.
قبل سبع سنوات سعى حزب طارق الهاشمي إلى إقرار الدستور في محافظة نينوى بعد أن أسقطته محافظتا الأنبار وصلاح الدين وبات على وشك السقوط كليا إن لم تمرره نينوى، حسب نصوص الدستور التي تشترط عدم اعتراض أغلبية ثلاث محافظات عليه في الاستفتاء العام حتى يمر.
وكانت الصفقة حينها أن يُصار إلى تعديل الدستور خلال أربعة أشهر. لم يحدث هذا الأمر، ولا يبدو انه سيحدث.
فالرجل بات مطلوبا للعدالة، ولن يكون هناك موجب للإيفاء بوعد مع (مجرم).
أما صالح المطلك فهو جنس من الناس يسكت دهراً لينطق كفرا، لكن هذا الأمر طرأ عليه مؤخرا. فحينما كان عضوا في لجنة كتابة الدستور لم يكن يجد أن البعثيين ربما كانوا أناسا صالحين، بل وافق عن تجريمهم ومنع حزبهم من العمل السياسي إلى الأبد، وما إلى ذلك من الفقرات الدستورية التي لا جدال في معاداتها حزب البعث وأفكاره ومنهجه. ثم فجأة أضحى المدافع عن البعثيين وعن حزب البعث، حتى طاله الاجتثاث، ليستثنى بعد ذلك في مساومة سياسية بغيضة تهزأ بعقل الناخب الذي لم يعد يفهم ما يجري. على كل حال، أنيط بالمطلك أكثر الملفات أهمية بالنسبة للمواطن العراقي: ملف الخدمات.
وطبعا، ليس بمقدوره أن يعمل على تحسين الخدمات الأساسية لأنه اكتشف أن رئيس الحكومة (دكتاتور).
أما مرجعية هذين الرجلين، القائمة العراقية، فان موقفها كان على الدوام التهديد من الانسحاب من مجلس النواب، حتى نفّذوا ذلك، وكأن هذا الأمر من حقهم. فهل انتخب الشعب ممثلين عنه ليغيبوا عن جلسات البرلمان احتجاجا على الحكومة؟ أليس هناك من طرق دستورية لمحاسبة ومساءلة الحكومة، بل سحب الثقة عنها، وإجبارها على الانصياع إلى رغبة المشرعين، وأولها أن يعين وزير لكل من الوزارات الأمنية الشاغرة الثلاث؟ بلى. لكن طرق الإثارة الإعلامية أسهل، وهي الستراتيجية التي دأبت كل من الحكومة ومعارضتها على انتهاجها. وكل منهما إنما يغطي فشله بلجوئه إلى التصعيد الإعلامي.
الشتاء قدم مبكرا هذا العام، لكن حرارة الاحداث سوف تجعله دافئا وان غاب الكهرباء عن سخاناتنا، والنفط عن مدفآتنا، وجلسنا حول موقد الفحم نتحادث عن تسعيرة الوظائف في هذه الوزارة أو تلك. ربما ستبقي لنا الفكاهات التي نتندر بها في تلك الجلسات بعض الأمل أن ما هو آت خير مما مضى.

Sunday, December 18, 2011

شكرا ايها الجندي الاميركي

ذكرت وسائل اعلام غربية ان السياسيين العراقيين لم يستطيعوا الاتفاق على تقديم الشكر الى الجيش الاميركي تقديرا لجهوده في تحرير العراق من براثن الطغيان، واحلال مباديء الديمقراطية والحرية محل الدكتاتورية والاستعباد التي رزح تحت نيرها شعب العراق ما يزيد على اربعة عقود. ومضت هذه المصادر الى القول بان العراقيين يكونون بهذا "ناكرين للجميل."
لا والله، لسنا ناكرين للجميل، ولسنا انتهازيين نصطاد فرصنا في الماء العكر. نحن شعب يحب السلام، وإن كان بيننا من يقرع للحرب طبولا، او خرج من بين ثنايانا من يدعو الى الفرقة طمعا في الوصول الى السلطة. نحن شعب ذاق القهر والحرمان دهرا طويلا، ولا نريد الا ان ننطلق في مسارنا لاعمار بلدنا وبناء وطننا. ومنذ قدمتَ الينا، ايها الجندي الاميركي، بدأنا نبصر بصيص امل بعد ان كاد الامل ينقطع عن ناظرينا الى الابد.
لا ريب في انك قدمتَ الينا غير مدعو، ولكن ليس عليك ان تغادر غير مشكور. وان كانت قيادتك جلبتك الى هنا وحمـّلتك اخطاءها، فنحن نعلم انك فعلت ما في وسعك لتجنب ان ترتكب اخطاء اخرى، ولكي تصحح ما امكنك من الخطأ الاستراتيجي الاول: القدوم الينا بلا خطة محكمة، وبلا غطاء دولي من مجلس الامن.
لكن هل علينا ان نذكر لماذا جئت، وما الذي تمخض عن ذلك؟ ربما. لنعد بالزمن الى الوراء. الى يوم قرر طاغية العراق المقبور ان يغزو الى الكويت، وقبلها خاض غمار حرب مدمرة ضد ايران دامت ثماني سنوات. نعم، كنا نحن غزاة ذات يوم. وهكذا، يصدر مجلس الامن تفويضا باخراج قوات الدكتاتور باية وسيلة، ولكنه يأبى الا ان يقود البلاد الى حرب دامية خاسرة حتى من يوم بدئها. كان شعور الشعب العراقي بالمذلة نتيجة تلك الهزيمة اكبر من خوفه من بطش الطاغية، فكانت ثورة شعبية تعمّ العراق من شماله الى جنوبه. وكانت اعلانا بالرفض لم يألفه النظام الذي تعود على الاستماع الى قصائد المديح المطولة في صالات قصوره الفارهة. ولم يوفر الطاغية جهدا في اخماد هذه الثورة.. هل سمعت بالمقابر الجماعية؟ نعم، لازالت الارض تئن بالمئات منها تتضرع الى الله ان يمنّ برحمته على اولئك الذين اهيل عليهم التراب احياء، لا لشيء الا لأنهم رفضوا الخضوع لنير الطغيان. وهو لم يتورع عن استخدام كل الوسائل المتوفرة لديه في اسكات الثورات الشعبية، حتى الاسلحة الكيميائية.. اما سمعت بـ(حلبجة)؟ يا ويلاه على اطفال ونساء ورجال وشيوخ احرقهم لهب قادم من السماء دون ان يكون لهم ملاذ منها، ارسله اليهم من كان ينبغي ان يحميهم منه.
ولكن ذلك النظام ما كان ليكتفي بكل ما سلف من المآسي، فقد عمد الى المواجهة مع المجتمع الدولي من اجل اطالة امل الحصار الاقتصادي، ليمدّ من عمر نظامه الاستبدادي البغيض، حتى تحطمت البُنى التحتية والفوقية لبلادنا ووصلت الى حافة الانهيار، وأنهك الشعب في توفير لقمة العيش وقنينة الدواء.. بات الشعب العراقي –بفعل سياسيات نظام الطغيان– الافقر في العالم، على الرغم من كونه الاغنى في الثروات المادية والبشرية.
ويوم شهدت امهات ثكلى حبل المشنقة يلتف على عنق صدام، بعد ان أخرجتَه من جحره وجلبتَه امام العدالة، صلـّيْنَ الى الله ليحميك، ايها الجندي الاميركي، وينير طريقك الذي مابرح يزداد عتمة منذ أتيتَ الى بلادنا، حتى تضافرت جهودك مع جهود ابناء القوات المسلحة العراقية فانتصرت على قوى الظلام.
كان الطريق مظلما، لان اعداء الحرية حطموا مصابيحه. وكانت كل تضحية قدمتَها شمعة تكسر هذه الظلمة، فتسيرَ ونسيرُ من ورائك، ونجري فنسبقك، ثم نبطيء فننتظرك. لقد احترت فينا، ولكنك صبرت علينا. فشكرا لك لصبرك الجميل، ولتضحيتك الكريمة.
شكرا لك لانك وضعت روحك على كفك لتحارب التمرد الذي عادى الشعب وحكومته قبل ان يعاديك. شكرا لك لانك سهرت على تدريب عناصر القوى الامنية العراقية حتى صارت قوية بما يكفي للذود عن حياض الوطن. شكرا لك لانك انفقت الاموال الطائلة في محاولة اعادة بناء البنى التحية المنهارة في وطني. شكرا لك لاخذك بيد الشعب العراقي نحو الحرية. شكرا لك لانك كشفت الفاسدين بين صفوف قواتك، ولم تخجل من ان تعلن ذلك للعلن، وتعتذر عن افعال هؤلاء المشينة، بل انك اصررت على ان تأخذ العدالة مجراها، وحاكمتَهم، والقيتَ بهم في السجن، بعد ان كانوا حراسا للسجون.
شكرا لسرجنت كرستينا، التي وقفت في ساعة متأخرة من الليل تحرس مركزا للشرطة تعرض لاطلاق نار من مسلحين مجهولين. شكرا للملازم مارك الذي قاد فصيلا للقبض على عصابة من المطلوبين الخطرين. شكرا للميجر غريغ الذي عكف على مساعدة القضاة في محاكمة المجرمين. شكرا للجنرال أدمز لانه أمر فرقته بحراسة القرى والبلدات قرب قاعدته العسكرية، فسير الدوريات ليلا ونهارا. وشكرا للدبلوماسي تشاك الذي تواصل بجد واخلاص مع الحكومتين المحلية والوطنية وقدم لهما النصح والارشاد الذي كانا بامس الحاجة اليه.
شكرا لكم ايها الرجال والنساء الذين تركتم خلفكم ازواجا وامهات وابناء لا يكاد يغمض لهم جفن خوفا عليكم، ولكنكم ابيتم الانصياع الى الخوف، ومشيتم الدرب الى آخره، وسلمتم العراق الى شعبه قادرا وأبيا كما كان وسيكون الى الابد.
الشعب العراقي غير ناكر للجميل، ولكنه خائف، فاعذرنا. نحن لازلنا خائفين من ان ينقلب السحر علينا ونعود الى الدياجير التي انقذتَنا منها بمشيئة الخالق عز وجل. ولكننا تعلمنا ان نتغلب على مخاوفنا، ونعدك باننا سوف لن نجعلك تندم على ما قدمته لنا. سوف نستمر في سعينا الى بناء وطننا وحمايته وصون حريتنا حتى تبقى فخورا بنا. شكرا لك اليها الجندي الاميركي، وانت تغادر عائدا الى وطنك، وليباركك الله.

Monday, November 14, 2011

خريف النظام السوري لا يوقفه الامتناع العراقي

توصلت الجامعة العربية، في دورتها الوزارية الاستثنائية، الى قرار بتجميد عضوية سوريا في تلك المنظمة التي ظلت على مدى عقود طويلة داعمة لأنظمة اعضائها بغض النظر عن الطريقة التي يحكمون بها شعوبهم. واذا كان الربيع العربي قد أثر على بعض تلك الانظمة، وأسقط بعضه الآخر، فانه قد ترك بصمة واضحة على الجامعة العربية وحولها من مجرد منتدى للملوك والرؤساء العرب الى مؤسسة شعبية تنظر في قضايا الشعوب العربية المقهورة بمزيد من التمعن والإدراك للحال البائسة التي آلت إليها.
وقد صوتت لهذا القرار ثماني عشرة دولة عضو في المنظمة، من بينها دول تحررت للتو من نير الدكتاتورية مثل تونس ومصر، ودول مازال زعماؤها يحكمون قبضتهم على مقاليد الامور فيها مثل السودان. اما الدول التي عارضت القرار فلم يكن موقفها غريبا. فاليمن يمر بنفس المرحلة التي يمر بها النظام السوري، وهو ايضا مرشح للمزيد من الضغط العربي والدولي ليفسح المجال امام شعبه الطامح الى الحصول على حق تقرير المصير، ولكي يوقف محاولاته المستميتة من اجل وضع البلاد على شفا حرب اهلية في سعيه للتشبث بالسلطة بأي ثمن.
وبالمثل، فان الحكومة اللبنانية قد أثبتت في الماضي ولاءها للنظام السوري من خلال موقفها من قرار مجلس الأمن الذي صدر بإدانة استخدام العنف ضد المتظاهرين في سوريا قبل اشهر قليلة، والذي امتنعت عن التصويت عليه، في ظاهرة غريبة تصدر عن دولة كانت تعتبر من اعرق الديمقراطيات في العالم العربي والشرق الاوسط ككل.
لكن المستعصي على الفهم هو موقف العراق. فامتناع العراق عن التصويت لصالح قرار تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية ربما يُعد رفضا للقرار اكثر منه مجرد النأي بنفسه عن الخوض في قضية سوريا. فلو كانت المسألة نزاعا بين دولتين لكان الامر مفهوما. اما ان يمتنع العراق عن الادلاء بصوته ضد القمع والطغيان والتعذيب والتهجير والقتل وانتهاك المحرمات فهذا امر عجيب. الم يعان العراق من الاضطهاد على يد نظامه السابق اربعين عاما ذاق فيها الشعب الامرين من ويلات الحروب والحصار والعزلة الدولية؟ الم يعمد ذلك النظام الى اعادة العراق نصف قرن الى الوراء وتسبب في قتل الملايين وتهجير ملايين اخرى فرّوا بجلودهم من بطشه؟ ثم، الم يكن من بين المهجرين والمهاجرين اولئك الذين تربعوا على كراسي الحكم في العراق الان بعد تحرره من سطوة النظام السابق؟ اذا، لماذا لا يتذكرون ايام سلكوا الشعاب والطرق الخطرة وتعرضوا الى شتى المخاطر في سعيهم للفرار من نظام لا يفترق كثيرا عن النظام السوري؟
تلك اسئلة محيرة. واقر باني لا اكاد استطيع ان افهم او افسر موقف العراق. يقول البعض ان موقف الحكومة العراقية انما يمثل امتدادا للاثر الايراني في المنطقة ككل وفي العراق على وجه الخصوص. والحقيقة اني لا ارى ان الحكومة العراقية مجرد بيدق في رقعة الشطرنج الايرانية. ربما تكون هناك بعض المناسبات التي يجامل فيها المسؤولون العراقيون النظام الايراني، إما لعلاقتهم الشخصية برموزها، او لكسب ود ذلك النظام وضمان عدم اسقاطهم سياسيا من قبل اولياء النظام الايراني في العراق. أي ان الاثر السياسي لايران في العراق لا يتعدى ولاءات متناثرة لا تمثل مجتمعة نسبة وافية لاحداث أثر في السياسة العراقية. كما ان هناك خصومات داخل اطراف الحكومة العراقية تجعل من الصعب على الحكومة ان تتخذ موقفا مميزا في قضية مثل دعم النظام السوري، دون ان يكون هناك توافق بينها.
واللافت ان الحكومة العراقية الحالية قد تعرضت للنظام السوري بالقدح والذم والاتهام في غير مناسبة. وهي اتهمت ذلك النظام بتغذية أعمال العنف في العراق المرة تلو الاخرى، حتى وصل الامر الى رفع شكوى ضده في المحافل العربية والدولية، وظلت العلاقة بين البلدين في حال من التلبد والجمود لفترة ليست بالقصيرة. كما ان العراق طالب النظام السوري بتسليم المطلوبين بتهم تمس امن الدولة العراقية ومنها التخطيط والتمويل لاعادة حزب البعث الى الحكم وخلخلة الوضع الامني. وفي المقابل ليس هناك موقف ضد المعارضة السورية لا في الداخل ولا في الخارج. بمعنى ان العراق لم يكن يرى في تلك المعارضة ما يهدد امنه وسيادته واستقراره، بينما كان النظام السوري على الدوام متهما بكل ذلك واكثر.
ومن كل ما تقدم فان الارجح ان موقف الحكومة العراقية يعكس وجهة نظر اغلبية الاحزاب المشاركة فيها. ذلك ان هناك تخوفا واضحا من حصول انقلاب سياسي في سوريا قد لا تكون عقباه حميدة على الوضع في العراق، من وجهة نظر الحكومة العراقية. كما ان التصعيد الدولي قد يقود الى تدخل عسكري اجنبي، وهو ما قد يفتح بابا آخر للعنف في دولة مجاورة ربما يتضرر العراق من شظاها. او قد تكون سيطرة المد الديني - الاسلامي على حركة الشارع العربي، بضمنه الرأي العام السوري، وما يحمل في ثناياه من اثارة للطائفية، هو هاجس القيادة العراقية.
وأياً يكن الامر، فان الاهم يتقدم على المهم. والاهم في هذه الحالة هو نصرة قضايا الحرية والديمقراطية والتعددية وصون حقوق الانسان. ان من الحكمة ان يقف المرء موقفا محايدا في قضايا لا تهمه. ولكن ان تقف الدول على الحياد في امور تمس معتقدها السياسي فهو نفاق واضح. وربما يؤدي مثل هذا الموقف الى فقدان الثقة بالحكومات واسقاطها سياسيا وشعبيا. فكيف لك ان تقنعني بانك غير متعطش للسلطة اذا كنت تؤازر متشبثا بها؟ والمثل العراقي يقول: "حشرٌ مع الناس عيد"، أي ان عليك ان تساير الناس في الامور التي لا تمسك مباشرة. وهو الحال مع النظام السوري، فبقاؤه ليس افضل من رحيله. وحركة التاريخ تشير الى هذا التغيير الوشيك، فهل علينا ان نقف ضد هذه الحركة الحتمية؟ لا اظن ان الحكومة العراقية قد وعت آثار الربيع العربي حتى الآن. ومن سخرية القدر ان العراق، حسب رؤية الرئيس الاميركي السابق جورج دبليو بوش، هو واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط. لكنه فشل حتى الان في اثبات ان الديمقراطية التي يحمل لواءها هي النظام الامثل للحكم. وهو فشل آخر لاميركا في منطقة الشرق الاوسط ككل وليس في العراق فحسب.

Thursday, November 03, 2011

دعوة للقضاء على الفساد الإداري من خلال النيو ميديا

من المؤسف أن يستمر ذكر العراق في صدارة الدول التي تعاني الفساد الإداري سنة تلو الأخرى. ولكن الأمر الأكثـر إيلاماً هو أن ترى مسؤولي الدولة في حالة نكران كامل لهذه القضية المهمة، إن لم تكن الأهم في الوقت الراهن. بل أنهم نادراً ما يتناولون موضوعة الفساد الإداري في إطار الحلول المطروحة أو أن يشرحوا لنا خطتهم في التصدي لتلك الظاهرة الخطيرة.

يتحدث بعض الناس، عند تناولهم موقف الحكومة الرسمي من الفساد الإداري، عن أمور مثل السماح لبعض المسؤولين بتفشي الفساد عمدا بين داوئرهم من اجل التغطية على ممارساتهم الفاسدة هم أنفسهم. بينما يقول آخرون: إن الفساد يخدم بعض الأحزاب المتنفذة لغرض الإبقاء عليها في السلطة من خلال التمويل المنتظم الذي ما كانوا ليحصلوا عليه من طريق آخر.
لكن الظاهر أن هذه الآراء، وإن حملت بعض الأجوبة، لا تستطيع أن تقدم تفسيرا شاملا لاستشراء الفساد الإداري بما يتجاوز المعدل المتعارف عليه في دول فقيرة ومتخلفة قياسا بالعراق. وهي أيضا لا توضح تخاذل الحكومة، المكونة من أحزاب متصارعة دأبت على إظهار مواطن العيب لدى بعضها البعض الآخر.
لهذا فلابد من وجود أسباب أكثر عمقا جعلت من هذه القضية عسيرة على الحل إلى هذه الدرجة. وربما يكون أهم هذه الأسباب هو كون هذه الظاهرة موروثة من النظام السابق، الذي سقط إثر الغزو الأميركي عام 2003. فقد عملت أجهزة ذلك النظام على رعاية الفساد الإداري بشكل ممنهج، بسبب عجز الدولة عن توفير ابسط سبل العيش لموظفيها. فقد كان معدل دخل الموظف العادي الشهري، على سبيل المثال، لا يكفي لسد نفقات نقله إلى دائرته أو مدرسته أو ما سواهما. واذكر أن نائبا في مجلس العموم البريطاني زار العراق إبّان فترة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق، وتحدث في مؤتمر صحفي من مستشفى، مشيدا بالأطباء العراقيين الذين قبلوا أن يعملوا في مستشفياتهم براتب لا يزيد على "ثمن بيضة في اليوم الواحد". ومن الواضح أن مثل هذا الأجر لا يقيم أودا ولا يسد رمقا. ولم يكن لدى الأطباء العراقيين من سبيل سوى العمل في المستشفيات حسب قانون التدرج الطبي، ولكنهم وجدوا موردا آخر للعيش من خلال العيادات الخاصة. أما غيرهم من الموظفين فإنهم قلما أتيح لهم العمل في القطاع الخاص، الذي عانى هو الآخر من مشاكله الخاصة نتيجة الحصار الاقتصادي.
وهكذا لجأ الكثير من الموظفين إلى ممارسات تندرج تحت مسمى الفساد الإداري، وإن لم يعدها جميع الشعب كذلك. مثال ذلك دفع مبالغ مالية، قد لا تكون كبيرة، من اجل تجاوز الدور، أو استحصال موافقات روتينية لغرض تمشية المعاملات التي، ما عدا ذلك، ليس هناك من داع لإيقافها. وتطور الأمر إلى زيادة التعقيدات الإدارية والروتينية لحمل المزيد من الناس على الدفع وتخليص معاملاتهم. وإذا لم يكن هناك ضرر مباشر على المصلحة العامة نتيجة لهذه الممارسات، فان ضررها المتراكم كان اكبر من كل قضايا الفساد المألوفة، مثل الاختلاس والرشوة والمحسوبية. لقد أدى شيوع ثقافة تجاوز الروتين الحكومي عن طريق دفع الأموال للموظفين العموميين إلى شرعنة هذه الممارسة حتى بات من الصعب إقناع كل من طرفي المعاملة، المواطن والموظف، إنها خطيئة كبيرة. فكم مرة سمعت، عزيزي القارئ، عن ممارسات مثل استحصال إجازة قيادة بدون حتى الذهاب إلى دائرة المرور؟ ومثلها لحالات جواز السفر؟ أنا واثق من أن لديكم الكثير من الأمثلة التي تغني عن المزيد من الإيضاح.
إن شيوع هذه الثقافة قد انعكس على النظام الجديد بكامل صورته، وان تغيرت الأحوال. نعم، لم يعد الموظف بحاجة إلى "الإكرامية"، بعد أن تحسنت أحوال معظم الموظفين المالية. ولكن الكثير من الموظفين كانوا في الخدمة قبل التغيير واستمروا بعده. وإذا كان هناك أمر (شرعي) تحت ظرف ما، فسيبقى شرعيا تحت كل الظروف. لان المبدأ الأساس في الأخلاق هو أنها غير نسبية. فالسرقة سرقة سواء أنفقتها على الموبقات أو لغرض إطعام الفقراء. وانه لمن دواعي الأسف الشديد أن معظم الناس يتفقون على أن الرشوة أمر خاطئ وحرام لكن الكثير منهم لا يتوانى عن دفعها من اجل الحصول على غايتهم بشكل ميسر. وهم يتفقون على تحريم السرقة والغصب وأكل مال الغير، ولكنهم لا يجدون أن الرشوة هي فعل يضم هذه الأمور الشنيعة اجمعها.
لذلك إن أردنا أن نتصدى إلى الفساد الإداري يجب علينا أن نبدأ من القاعدة: من صغار الموظفين وعامة الشعب. طبعا نحن ندرك وجود جهات متخصصة بهذا الشأن مثل هيئة النزاهة، ودوائر المفتش العام في الوزارات وديوان الرقابة المالية، وحتى منظمات المجتمع المدني. لكن الممارسات الصغيرة لا تصل في العادة إلى تلك الجهات. وحتى إن وصلت فلربما لا تجد اهتماما كافيا لكون تلك الجهات مشغولة بقضايا فساد اكبر. وبالتالي فان استمرار هذه الممارسة يعني ترسخها واستشراءها أكثر فأكثر.
إن ما ندعو إليه هو حملة منسقة، لا تقودها مؤسسات الحكومة أو البرلمان، بل يقودها المواطنون أنفسهم. تلك الحملة تشرح للناس أن تقديم الإكرامية هي عملية سرقة بشكل أو آخر، وهي غصب لحق شخص آخر، وهي بكل تأكيد أمر شنيع لا يقل عن الفساد في عقود الكهرباء أو النفط أو السلاح. فالأمر الخاطئ لا يكون صحيحا إذا كانت قيمته اقل من دينار أو ألف أو مليون مثلا.
هذه الحملة يجدر أن تروج باستخدام وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والاذعات والفضائيات، ولكن بشكل أكثر تفاعلا من خلال وسائل (نيو ميديا) وهو تعبير عن وسائل الإعلام الجديدة التي بات الناس العاديون محررين فيها مثل ما هم قراء. ومن الأمثلة على ذلك مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، وكذلك المدونات الشخصية المعروفة بـ(بلوغ). والسبب في اعتقادنا بان مثل هذه الحملة يمكن أن تؤدي في آخر الأمر الى تأخير موقع العراق على قائمة الدول التي تعاني الفساد، وذلك بأن يتحدث الناس فيها بالطريقة التي يشعرون بأنهم جزء منها، أي أنهم سوف يكونون رعاة للحملة أكثر من كونهم مجرد هدف لها. وهكذا فانك تجد من الصعب أن تخالف ما تعظ به، لكنك ربما تجد من المغري أن تخالف الوعظ الذي يلقى عليك.
وسوف أبدأ بان اطلب من كل إنسان شريف أن يقول معي "الإكرامية مثل الرشوة وكلاهما عيب وحرام".

Friday, October 28, 2011

فشل قطاع المقاولات الانشائية.. الاسباب والنتائج

تحدث السيد رئيس الوزراء، نوري المالكي، لدى زيارته الى محافظة بابل مؤخرا، عن تأخر تنفيذ المشاريع التي تقوم بها المحافظة، وحتى توقفها بشكل كامل. وقال انه أُحيط علما بتلك المشاريع وانه على ثقة ان هناك مشاريع اخرى متوقفة، ومع ذلك برأ الحكومة المحلية من أي تقصير وان السبب الاساسي في توقف المشاريع يعود الى التنافس بين المقاولين عند تقديمهم عطاءاتهم، ما ادى الى خفض الاسعار بشكل كبير. وما ان يبدأ المقاول في تنفيذ العمل، بحسب المالكي، حتى يكتشف المقاول الذي تحال بعهدته مقاولة المشروع ان الاسعار التي تقدم بها خاسرة فيعمد الى التقصير في العمل وحتى الهروب من تنفيذ المقاولة الامر الذي يؤدي الى توقف العمل في المشروع تماما.
ان وجهة النظر هذه ليست مقتصرة على شخص السيد رئيس الوزراء، ولكن ربما يصرح بها بين الاونة والاخرى مسؤولون في الدولة على تعدد مستوياتهم، وهي ايضا وجهة النظر الشائعة بين عموم المواطنين الذين لا يرون في عملية تنفيذ المشاريع سوى المقاول. وفي الحقيقة، فانه قليلا ما يجري التطرق الى دور الدوائر المشرفة على المشاريع، والى تقصير بعض هذه الجهات الحكومية في الاشراف والمتابعة، وكذلك اعداد الكشوفات التخمينية المناسبة، والمخططات الهندسية المتكاملة، وتحليل الاسعار التي يتقدم بها المقاولون حتى لا تتم احالة المقاولة باسعار تعتبر عمليا خاسرة. يضاف الى ذلك تعقد سلسلة المراجع الى درجة يصبح من الصعب الوصول الى قرار من شأنه دفع عجلة العمل عند تعرضه الى ظروف تستوجب اجراء تغييرات او احتساب مستحقات للمقاول لم تكن واردة في الكشوفات الاصلية للمقاولة.
لقد اضحى قطاع المقاولات ضحية سهلة لكل اتهام بتقصير او فساد او اختلاس او ما شابه، وعبّر العديد من المقاولين عن سخطهم لهذا الوضع حتى قال احدهم: "هل جفت ارحام العراقيات عن انجاب مقاولين شرفاء، بينما هي خصبة في انجاب سياسيين نجباء؟" وهذا تساؤل اجده حق، لان من العدل عدم اخذ الكل بجريرة البعض. واذا كان وضع قطاع المقاولات الانشائية اليوم يُعد سيئا، فانه ربما شهد عصره الذهبي في فترة السبعينيات من القرن الماضي، على الرغم توجه الدولة آنذاك نحو الاشتراكية والحد من سطوة "الطبقة البرجوازية". فقد نجت هذه الفئة من عمليات المصادرة والتأميم التي شملت المعامل الكبرى للشركات "الاحتكارية" والمزارع المملوكة لكبار "الاقطاعيين" لصالح القطاع العام، حيث يكون للدولة القول الفصل في عمليات الانتاج والتسويق على مختلف مراحلها. وقد يكون السبب في هذا الى عدم قدرة الدولة على حصر رؤوس الاموال المستثمرة في قطاع المقاولات الانشائية، وايضا صعوبة الاستعانة بالقدرات الحكومية الناشئة للحلول محل القطاع الخاص في هذا المجال.
على كل حال، لم يتمتع "المقاول" بالسمعة الحسنة في ذلك الوقت كذلك كونه يمثل خطا معاكسا لتوجهات الدولة في الاستحواذ على كل مقدرات البلاد الاقتصادية والاجتماعية، كما استحوذت على شؤونه السياسية من خلال سياسة الحزب الواحد وتمجيد الشخصية ونسبة جميع الانجازات الى شخص "القائد الضرورة".
ورغم تغير السياسات الاقتصادية في العقود التالية واتجاهها نحو الخصخصة وتشجيع دور القطاع الخاص بعد ثبوت فشل القطاع العام لوحده في دفع الاقتصاد الى امام، الا ان وضع "المقاول" لم يتحسن كثيرا. فقد ولج الى هذا القطاع العديد من المغامرين الذين لم يكن لديهم خبرة كافية في هذا المجال، ولم يدفعهم الى الاستثمار في هذا القطاع سوى الرغبة في الحصول على الربح السريع من خلال تنفيذ اعمال بسيطة نسبيا باسعار عالية، وساهم في هذا الامر تفشي ظاهرة الفساد الاداري والمالي في دوائر الدولة، خصوصا في فترة التسيعينيات وما رافقها من حصار اقتصادي اصاب مقتلا لدى فئة الموظفين الحكوميين على وجه الخصوص، ومنهم من يتولى الاشراف على تنفيذ الاعمال الانشائية التي يقوم بها هؤلاء المقاولون. وهكذا اضحى قطاع المقاولات الانشائية ارضا خصبة لفساد واسع النطاق غضت الدولة طرفها عنها فاستفحل حتى صار سمة مرادفة للمقاول، وعانى من ازمة ثقة على المستويين الشعبي والرسمي، وصار من المعتاد التشكيك في نيات المقاول بالربح بغض النظر عن المصلحة العامة او التقيد بالشروط والمواصفات المعتمدة في هذا المجال.
وبعد زوال النظام السابق، وتولي القوات الاميركية زمام الامور في العراق، ظهرت بوادر اعتماد متزايد على المقاولين المحليين في تنفيذ مشاريع الاعمار الكبيرة منها والصغيرة. غير ان قصور فهم القوات الاميركية لطبيعة هذا القطاع وعدم امكانيتهم تمييز المتخصصين في هذا المجال من المُدعين، بالاضافة على التقصير الواضح في ادارة المشاريع والاشراف عليها، ادى كل ذلك على تزايد النقمة على المقاولين بدون تمييز، وحتى التجريح في وطنيتهم بعد هروب الكثير منهم الى الخارج اثر حصولهم على ارباح طائلة في فترة وجيزة.
وهكذا لم يأت تغيير النظام الا بمزيد من الويلات على قطاع المقاولات الانشائية ودفع بالمقاولين الى اتخاذ مواقف حذرة ان لم تكن سلبية من مجمل عملية اعادة الاعمار. وترك العديد من المقاولين ذوي الخبرة العمل في هذا القطاع ليمارسوا نشاطات تجارية او سواها تفاديا للنظرة السلبية تجاههم.
من كل ما تقدم يتبين لنا ان هناك ازمة ثقة تجاه المقاولين الانشائيين انعكست على طبيعة الدور الاشرافي من قبل الجهات الرقابية المناط بها تدقيق الاعمال المنجزة ما حدا بها الى وضع ضوابط صارمة لصالح تنفيذ الاعمال الانشائية بما يتوائم مع متطلبات الشروط والمواصفات الفنية. واتخذت الاجراءات الادارية طابعا روتينيا معقدا بدءا من اجراء الفحوصات المختبرية على المواد الانشائية المستعملة في التنفيذ وتدقيق الاعمال المنجزة او قيد الانجاز، مرورا بمنح التمديدات الزمنية واوامر الغيار، وصولا الى صرف السلف والمستحقات المالية، وليس انتهاءا بعملية الاستلام الاولي والنهائي للمشاريع المنجزة. ويبدو ان ما يدور في خلد الجهات الحكومية ان المقاول لا يدخر جهدا في خداعها للحصول على المزيد من الارباح.
ونظرا لرغبة الجهات الهندسية المشرفة على الاعمال التي يجري تنفيذها في درء التهمة المطروحة سلفا بالتواطؤ مع المقاول، فقد عمدت هذه الجهات الى وضع آليات معقدة من اللجان المتعددة المستويات بحيث تعمل كل منها على التحقق من عمل اللجنة الاقل مستوى من خلال الحلول –عمليا– محلها وليس مجرد تدقيق الاوليات للتأكد من مطابقة الارقام والنتائج لواقع الحال. وخلقت هذه العملية سلسلة طويلة من الاجراءات التي تستغرق وقتا طويلا قبل الوصول الى قرار يصب في مصلحة العمل.
وهكذا فليست هناك وصفة سحرية للنهوض بواقع تنفيذ الاعمال الانشائية من خلال المقاولين المتخصصين يمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها. لكن من الممكن رسم خارطة طريق يمكن ان تفضي في نهاية المطاف الى تحسين وضع هذا القطاع المهم وتعزيز دوره في اعادة اعمار البلاد. وبغية وضع مثل هذا المخطط، لابد من التخلي عن النظرة السلبية اتجاه المقاولين، والبدء في النظر الى هذه الشريحة على اساس انها ليست فقط مكملة بل اساسية من اجل عملية اعادة الاعمار، وان المقاولين وان كان غرضهم الربح، شأنهم في ذلك شأن كل فئة عاملة، الا انهم لا يقلون وطنية عن اقرانهم من ابناء الشعب.
وبالمثل، يجب النظر جديا في اجراءات الاشراف الفني على المقاولة ومحاسبة الجهات الهندسية التي يحدث تقصير في تنفيذ المشاريع التي تقوم عليها، على اعتبار ان التقصير في تنفيذ الاعمال ليس مسؤولية المقاول لوحده، وانما هناك دور اساسي للدوائر المشرفة عليه. ومن الممكن ان يصار الى تشكيل لجان تحكيم دائمية تعمل على النظر في المنازعات التي قد تنشأ بين المقاول وبين الجهات المشرفة عليه بشكل عاجل، ويكون لها القول الفصل في حل هذه المنازعات. واذا ثبت ان المقاول او من يشرف عليه قد تعمد الحاق الاذى بالمشروع، فهذه جريمة خيانة عظمى، اذ لا مبرر لان يقوم أي انسان بالاضرار بالمصلحة العامة مهما كانت الاسباب الشخصية. وعلينا ان نتذكر على الدوام انه اذا استمر الوضع الحالي للمقاولين، فلن تصبح لدينا شريحة واعية مسؤولة تتولى تنفيذ المشاريع الهندسية، بل لن يتصدى لمثل هذه الاعمال سوى مغامرين وشذاذ الآفاق الذين لا يأبهون لشيء سوى الحصول على الربح باسرع وسيلة. ويجب على الدولة ان تأخذ دورها بتصحيح المسار، لا ان تعمد الى القاء التهم على المقاولين والدفاع عن كوادرها، بدون ان يتم النظر مليا في الاسباب التي أدت الى فشل المشروع تلو الاخر.

Saturday, September 17, 2011

الثورات العربية وهاجس المد الديني

صدرت في الاونة الاخيرة تحليلات سياسية عن بعض المحللين الغربيين تعبر عن القلق من ان تؤدي الحركات الشعبية المطالبة بالحريات في منطقة الشرق الاوسط الى ظهور تيار ديني ووصوله الى سدة الحكم في بلدان المنطقة، وهو ما قد يقود الى انظمة سلفية متشددة ربما تغذي الحركات المتطرفة التي تسعى الى تقويض الانظمة الغربية وفرض رؤيتها الضيقة عليها.

وربما يُعد وصول حركة طالبان الى الحكم في نهاية القرن المنصرم مثالا على الطريقة التي تستطيع بها حركات ذات نزعة شمولية ان تستحوذ على تأييد واسع بين مواطنيها مشكلة تيارا سياسيا واسع النفوذ على الرغم ضيق افكار هذه الفئة وعدم نضجها سياسيا لقيادة البلاد باسرها.

لكن سقوط حركة طالبان السريع عقب احداث الحادي عشر من ايلول، نتيجة ايوائها تنظيم القاعدة ودعمها له، وافتقارها الى منهج سياسي-دبلوماسي للتعامل مع الدول الاخرى، لهو اوضح مثال على عدم اهلية التيارات الدينية المتشددة في التصدي للقيادة السياسية، بدءا من التنظير الى التنظيم وحتى التطبيق، بسبب ابتعادها النسبي عن هموم الشعب اليومية وترفـّعها عن الخوض في مسائل حياتية مثل توفير العيش الآمن والمرفه لمواطنيها، وتوجهها الكامل الى منطق الحروب المصيرية وفرض افكارها على شعبها اولا ومن ثم بقية الشعوب.

ولا شك ان هناك مدا دينيا يقف وراء بعض الحركات الشعبية في العالم العربي، ومنطقة الشرق الاوسط ككل، ربما يكون قد تكوّن كرد فعل عن فشل العلمانية المعتدلة في تحقيق طموحات الشعوب، او نتيجة لتفشي الفساد في مفاصل دول المنطقة، وانتشار البطالة والمحسوبية وضعف ادارة الموارد الطبيعية والبشرية لصالح تحقيق تنمية حقيقة في تلك البلاد. هذا المد الديني وجد في العودة الى الاصول اجابة مبسطة تدعو الى تطبيق المباديء الاساسية للدين المتمثلة بالعدالة والمساواة والاخاء والتسامح. وعلى الرغم من الحركات العلمانية تؤمن بمثل هذه المباديء السامية، الا انها لا تبدو، بنظر المواطن العادي، مقيدة بقانون الهي يمنعها من تجاوزها على العكس من الحركات ذات الايديولوجية القائمة على اساس تشريعية سماوية مقدسة.

ففي مصر، على سبيل المثال، طالما خرجت المظاهرات والاعتصامات لفترة طويلة سابقة لما اصطلح على تسميته بالربيع العربي. ونادت هذه الحركات ذات الطابع العلماني بمحاربة الفساد واطلاق الحريات والاصلاح السياسي. وقد واجهت السلطات المصرية مثل هذه الحركات الشعبية بطرق لا تختلف كثيرا عن تلك التي استخدمتها في مواجهة الاحداث الاخيرة. وهي قد نجحت في قمع الحركات التحررية كلها باستثناء ثورة يناير التي أدت في آخر الامر الى الاطاحة بالنظام الحاكم. فما الذي حدث هذه المرة، ولماذا لم تنجح السلطة في قمع المظاهرات المناوئة لها، وهو امر خبرته على مدى عقود من الزمن؟

المفتاح للاجابة على هذا السؤال تكمن في الطريقة التي تطورت بها الحركات الدينية، ممثلة بحركة الاخوان المسلمين، التي كانت محظورة بشكل رسمي وان كانت حاضرة في المشهد السياسي المصري في كل الاوقات. فتلك الحركة وجدت لنفسها سبيلا للمصالحة غير المعلنة مع السلطة من خلال اعلانها نبذ العنف وادانتها لكل العمليات الارهابية التي شهدتها مصر في السنوات الاخيرة، وهو ما حسّن من صورتها ورفعها الى مستوى الحزب السياسي المنفتح ايديولوجيا، بدلا من الحركة المتطرفة ذات الافق الضيق. وقد ساهم هذا الامر، بالاضافة الى ايلائها بعض الاهتمام لما يشغل بال مواطنيها، في توسيع قاعدتها الوطنية وتحولها الى مؤسسة ذات بعد وطني وشعبي متجذر.

ومع ذلك، فان حركة الاخوان المسلمين فضلت البقاء في الظل طوال فترة المظاهرات التي طالبت باسقاط النظام المصري برئاسة حسني مبارك، وانضوت تحت العلم المصري الموحد، رافضة استخدام اعلامها وشعاراتها في تلك الحركة الشعبية. ومن الواضح ان سياسة الاخوان تلك قد ساهمت في التخفيف من المخاوف الغربية حول احتمال وصول حركات دينية متطرفة الى سدة الحكم في مصر إثر الحركة الشعبية التي انطلقت في يناير/كانون الثاني من هذا العام، ومن ثم اصبح من الممكن استحصال الدعم الغربي لتغيير النظام. لقد كانت النتيجة نصرا ساحقا ومفاجئا لحركة الاخوان المسلمين، الذين لم يكن يرتاب احد في حضورهم ضمن الحركة الشعبية المناوئة للنظام المصري السابق، ان لم يكونوا على رأس هذه الحركة.

واذا كان الاخوان قد قدموا لانفسهم بمثل هذه الطريقة لضمان عدم اثارة المخاوف الغربية، او حتى الاقليمية، فانهم ان استطاعوا الوصول الى السلطة بطريق الاقتراع والوسائل الديمقراطية سوف يكونون اكثر حرصا على تهدئة الهواجس المرافقة لحركتهم. ويجدر بنا تذكر ان الكثير من عناصر القاعدة قد نشأ بين احضان حركة الاخوان المسلمين وتغذى من افكارها، قبل ان تتخلى هذه الحركة عن تنظيرها السابق. وبالمثل، فقد ظهر من بينهم العديد من المتطرفين الذين نفذوا عمليات صنفت على انها ارهابية سواء في مصر او خارجها. لذلك فان مجرد اعلان نبذ العنف قد لا يكون كافيا لتحسين صورتها عالميا. وهكذا فانهم بعد ان تتاح لهم فرصة تسنم السلطة في مصر سوف يبذلون كل ما في وسعهم لاثبات اعتدالهم، لانهم يدركون انهم بدون هذه السياسية لن يكون لهم بقاء طويل الاجل، وانهم سوف يخاطرون بفقدان الدعم الشعبي ان هم قادوا البلاد الى طريق يفضي الى العزلة الدولية.

وفي اليمن تختلط الايديولوجيات بحيث لا يمكن فرز تيار سلفي او ديني متشدد او معتدل من بين الحركات التي تقف وراء تحريك الشارع اليمني ضد النظام الحاكم. لكن يبدو ان القول الفصل في ادارة تلك الحركات يكمن لدى الزعماء القبليين، وهم ليسوا بالضرورة قادة دينيين، ناهيك عن كونهم متشددين. نعم هناك حضور قوي للقاعدة في اليمن، لكن لا يبدو ان هناك دعم واسع لتلك الحركة الارهابية، وانها انما تعمل على استغلال الظرف السياسي المضطرب، وضعف الدولة المزمن، من اجل ايجاد ملاذ آمن لها هناك.
ومثل هذا الامر ينطبق على ليبيا التي حكمها معمر القذافي بالنار والحديد على مدى اربعة عقود، ولكن اركان نظامه لم يتورعوا عن التهديد بالتحالف مع الحركات الدينية المتشددة في مواجهة الثورة الليبية التي انطلقت في شهر فبراير/شباط الماضي ونجحت في تحرير معظم انحاء ليبيا من براثن الطغيان، وهي على الطريق للتحرير الكامل خلال وقت قصير. وحتى هذا الوقت لم يظهر دليل على ضلوع المتطرفين في الحركة الشعبية لتحرير البلاد وان كانت هناك توجهات ذات مسحة دينية بين الثوار.

اما في سوريا، فان الحركات الشعبية لا تخفي اصطباغها بالصبغة الدينية، كما يظهر ذلك من انطلاقها من الجوامع والمساجد واتخاذها من بعض رجال الدين رموزا لها. لكن الصبغة الدينية لا تعني بالضرورة لجوءها الى ايديولوجية متطرفة، بل قد تكون هي السبب في استمرارها رغم القمع الوحشي الذي مارسه النظام ضدها على مدى الشهور الخمسة الماضية. اذ ان الاحساس بالمهانة وفقدان الكرامة الوطنية الذي اثار الانتفاضة الشعبية قد رافقه شعور بالقيمة العليا للشهادة من اجل المباديء السامية، وان كان على الطريقة الدينية. أي ان استرخاص الارواح بداعي الشهادة قد غذى هذه الحركات اكثر مما لو كانت مجرد حركات ناجمة عن القهر والحرمان وما سواها.

وعلى هذا، فاني لا اجد مبررا كافيا للخوف من تولي متطرفين اسلاميين مقاليد السلطة في سوريا ان نجحت الثورة في الاطاحة بالنظام الحاكم. ولابد من الاشارة الى ان النظام السوري طالما دعم الحركات الارهابية المسلحة في العراق. وقد عملت السلطات السورية على فتح الحدود العراقية-السورية امام حركة السلاح والتمويل والافراد المتوجهة الى الارهابيين الذين كانوا يرومون تنفيذ عملياتهم في العراق. كما ان هذا النظام قد آوى كبار قادة الجماعات المسلحة العاملة في العراق بالاضافة الى رموز النظام العراقي السابق المطلوبين للعدالة. لذلك فان النظام السوري ليس في حالة حرب مع حركات متشددة، بل انه على النقيض من ذلك قد قدم لها الدعم المالي واللوجستي اللازمين للابقاء عليها سواء في العراق او في دول اخرى في المنطقة. وبالمقابل، فانه ليس هناك من دليل على وجود متشددين ضمن الحركة الشعبية المناوئة للنظام في سوريا، لا على المستوى الشعبي ولا على المستوى القيادي كما يتمثل ذلك في رموز المعارضة في داخل وخارج سوريا.

لقد نجمت الحركات الشعبية العربية عن عقود من الكبت والاذلال واستئثار السلطة لدى فئة محدودة عملت على استنزاف مقدرات الشعوب وتركها تعاني من الفقر والجهل والحرمان. وعلى الرغم من حضور الفكر الديني في ادبيات هذه الحركات، الا ان من المرجح انها ليست حركات دينية متطرفة، بل هي على العكس من ذلك تماما حركات معتدلة تجنح نحو العلمانية اكثر من جنوحها نحو التشدد الديني. واذا تمكنت التخلص من طغاتها فانها ستعمل على الاغلب على تحسين صورة الاسلام السياسي وفرض منطق الاعتدال الذي نادى به الدين الاسلامي الحنيف، وستعمل على استئصال شأفة التطرف والتشدد الذي عاد على منطقة الشرق الاوسط بمزيد من الحروب والمآسي والعزلة الدولية.

Friday, August 12, 2011

الصمت الذي يقتل السوريين يقتل الحرية في العالم العربي

اخيرا خرج مجلس التعاون الخليجي عن صمته ازاء المذابح التي تجري يوميا في سوريا على يد النظام المتجبر الرافض لاصوات الاصلاح والتغيير. وجاء البيان الخليجي مدينا لعنف السلطة المفرط ضد الشعب السوري بعد مضي قرابة خمسة اشهر من بدء الاحتجاجات السلمية للشعب السوري الذي الهمه ربيع الثورات العربي فهب مطالبا بالحق الاول: الحرية.

وبالمثل، فان البيان الخليجي انتظر بيانا امميا صادرا عن مجلس الامن يدين لجوء السطلة السورية الى العنف لاسكات الاصوات المطالبة بالحرية والاصلاح، لكي لا يُعد محرضا للدول الغربية للتدخل في الشأن السوري كما حدث في حالة ليبيا حينما بادرت بعض الدول الخليجية الى تبني موقف المعارضة الليبية مما سهل صدور قرار مجلس الامن الذي سمح لدول الناتو في القيام بضربات جوية "لحماية المدنيين" من بطش قوات القذافي.

لكن بطء التحرك الخليجي اتجاه الاحداث في سوريا ليس وحده ما يثير العجب، بل عدم وجود أي تحرك يذكر من قبل دول اخرى خرجت للتو من نير الدكتاتورية، مثل مصر وتونس، ودولة كان ينبغي ان تكون مثالا للديمقراطية الناشئة في الشرق الاوسط، الا وهي العراق. واكثر غرابة من ذلك ان تتخذ دولة تجذرت فيها الاعراف الديمقراطية منذ زمن طويل موقفا يناهض كل المباديء الاساسية للحرية والديمقراطية. فمن العجب ان تنآى لبنان العضو في مجلس الامن بدورته الحالية عن البيان الذي يدين النظام السوري، باعتبار ان هذا البيان يشكل تدخل في الشؤون الداخلية ولن يؤدي الى حل أي مشكلة في سوريا. الا يعد كل بيان يصدره مجلس الامن بخصوص احداث تقع في أي دولة عضو في الامم المتحدة تدخلا في شؤون تلك الدولة؟ اليس مبدأ "مجلس الامن الدولي" هو التدخل من اجل احلال الامن في أي مكان في العالم والتحرك الفاعل لمنع الصراعات التي من شأنها ان توقع خسائر في ارواح المدنيين وتهدد السلم والامن العالميين؟ لكن حكومة لبنان الحالية تأبى الا ان تبرهن عن ما يتهمه بها معارضوها: انها تابعة للنظام السوري واذنابه في المنطقة بكل بساطة.

ويقال ان دول الخليج انما اختارت الصمت عن احداث سوريا مقابل الصمت عن الاحداث في البحرين. واذا كان ذلك صحيحا، فلابد ان السياسيون العرب مازالوا يعيشون في القرن الماضي. فلم يعد بالامكان ان يتم تقايض الحريات في البلاد العربية، او في الشرق الاوسط عامة، بين السطات على طريقة "شيلني واشيلك" بعد ان قررت الشعوب ان تنتظم بطريقة ما كانت لتخطر على بال قبل سنوات قليلة مضت. فهاهي الشعوب تلجأ الى وسائل الاتصال العصرية لكي تطرح رؤيتها على الملأ وتناقشها وتتوصل بطريقة جميعة الى نقل احتجاجاتها الى الشوارع، وهي اللغة التي تفهمها الانظمة الاستبدادية التي لا تريد مشاركة او اعتراضا اوصلاحا بعد ظنت انها "ضرورية للمرحلة الراهنة" وانها "تخوض الحرب المصرية" وغير ذلك من الشعارات التي تسترت بها لتمجيد رموزها وبقاءهم على سدة الحكم الى اجل غير مسمى.

لماذا لا تخرج مظاهرة في مصر او تونس او العراق تندد بعنف السطات في سوريا ضد شعبها الاعزل؟ هل لان هذه الشعوب مستغرقة كليا في مشاكلها الداخلية بما يمنعها من الالتفات الى الشعوب الشقيقة في محيطها الاقليمي ومواساتها في محنتها؟ لطالما اشتكى العراقيون من التجاهل العربي لمشاكله بعد الغزو الاميركي عام 2003، وتباطؤ الدول العربية في الاعتراف بالنظام الجديد فيه. اذا، لماذا لا تبادر السلطات العراقية الى اتخذا موقف حازم اتجاه السطات السورية، موقفا ينبع من التجربة العراقية الطويلة تحت الاستبداد والقمع والقتل والتشريد وكافة وسائل الاضطهاد التي شهدها العراقيون على مدى عقود طويلة من الزمن؟

لقد كانت الاحداث في كل من مصر وتونس من صنع شعوبها بلا شك، لكن النظام في كل منهما كان هو المستفيد منها. فان كان هناك من تغيير، فهو انما حدث في رأس السلطة فيهما، وربما امتد الى بعض الرموز فيها. اما طبيعة النظام فلم تتغير جذريا. وهكذا فان موقف الانظمة فيهما قد لا يكون بالضرورة مناهضا لاستخدام العنف ضد المتظاهرين في المدن والقرى السورية، او حتى مؤيدا لمطالب هذه الفعاليات الشعبية. وليس هناك من جواب سهل على موقف هذه الدول بخصوص الاحداث في سوريا.

لكن قد يكون هناك جواب سهل على موقف العراق من الاحداث في سوريا، بسهولة تحليل موقف لبنان من سوريا، وهو التأثير الايراني على كل من هذه الدول الثلاث. فايران لا تريد ان ترى حليفا قويا في المنطقة العربية يسقط ويتحول الى نظام تعددي حر. وايران مازالت لم تفق من كابوس الديمقراطية في العراق، الذي عملت بلا كلل وملل من اجل التقليل من شأنه واعاقته بكل صورة ممكنة. كما ان النظام الايراني عانى هو الاخر من انتفاضة شعبه قبل عامين والتي خرجت داعية للاصلاح. وهي لاتريد بكل تأكيد ان ترى نظاما منفتحا في سوريا يمثل الهاما آخر لشعبها للخروج مرة ثانية الى الشوارع والمطالبة بالحرية والتعددية.

بيد ان هناك امورا اخرى، ليست فقط على المستوى الحكومي بل على المستوى الشعبي ايضا. فقد يكون هناك قلق في العراق من تحول سوريا الى دولة سلفية تكون حليفا للسنة في العراق مقابل تحالف الشيعة مع ايران، وبالتالي فان الصراع التالي قد يكون مضنيا وصعبا وغير مضمون، خصوصا اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان باقي الدول في غرب العراق كلها ذات اغلبية سنية. قد لا يصرح احد بذلك خوفا من ان يوصم بالطائفية، لكن غض النظر قد لا يكون امرا حكيما حينما يراد منك ان تفتح ناظريك على كل ما يجري حولك.

لقد حدثت الانتفاضات العربية في زمن وجيز، يقل كثيرا عن قدرة الشعوب وحكامها على فهمها والتعامل معها. ولهذا فان ردات الفعل ربما تتأخر، وربما لا تأتي ابدا. ولا اتصور ان يخرج وزير الخارجية العراقي، مثلا، ببيان يدين قمع السطات السورية لشعبها. فاذا نجحت السلطات السورية في اسكات شعبها آخر الامر، فان على العراق التعامل مع حكومة جارة عدوة، اما اذا نجحت الانتفاضة السورية فانها ستكون بحاجة ماسة الى الدعم من دول الجوار الاقليمي ولن تعمل على تقييم المواقف السابقة، وبالتالي فان هذا الصمت سوف لن يكون له عواقب، ليس سوى مقتل بضعة مئات او الاف او اكثر من ذلك او اقل من ابناء الشعب السوري. واذا كان قتل الشعوب ليس مبررا كافيا للتدخل فهل يعقل ان نطالب بالتدخل لحماية الحرية؟ ليس ان كنا لا نؤمن بها حقا، والحقيقة البسيطة، ان حكومة العراق ليست اكبر دعاة الحريات في العالم العربي والشرق الاوسط، وليست مثالا للديمقراطية في المنطقة. ومن سخرية الاقدار ان حكومة العراق ربما تود ان ينتصر الطغيان في سوريا وان كانت عانت من مثيله في العراق.

Monday, July 25, 2011

دور التنمية الاقتصادية فـي الدعم السياسي طويل الأجل

لعل ابرز ما كان متوقعا للاقتصاد العراقي بعد تحرره من نير الطغيان هو التحولات الجذرية نحو اقتصاد مفتوح غير خاضع لسيطرة الدولة. اقتصاد تكون فيه المنافسة الحرة والعادلة هي العنصر الدافع للإنتاج، وتتغلب فيه الحاجة الى تلبية الطلب المحلي على المنتجات بطريق الاكتفاء الذاتي على الرغبة في اللجوء إلى الأسواق العالمية، حيث تصعب السيطرة على النوعية بالاضافة الى التأثيرات الوخيمة لزيادة الاعتماد على الاستيراد على حساب المنتج المحلي.
غير أن أوضاع العراق الشاذة منذ الغزو الاميركي في نيسان 2003، بدءا من التداعيات الامنية لذلك الغزو، مرورا بالقرارات السياسية المتعجلة في ما يتعلق بالاقتصاد المحلي وطريقة توزيع واردات الدولة الهائلة، وليس انتهاء بالحزبية الضيقة التي يتميز بها وقتنا الراهن والتي أصبحت العامل المحرك لكل فعاليات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بسبب هيمنتها على تلك الفعاليات بدون منازع، كل هذا قاد الى عكس مسيرة النمو الاقتصادي وتراجع أداء الاسواق في ما يتعلق بالميزان التجاري الوطني.

التركة الثقيلة
لنلق نظرة على وضع اقتصاد العراق قبل عام 2003، حينما كان القرار يصنع في دائرة ضيقة جدا، وبأمر مباشر من "القائد الضرورة". كان العراق يرزح تحت وطأة العقوبات الدولية، التي لم تكن تعني شيئا بالنسبة للنظام أكثر من تفويض السيطرة على مقدرات البلاد النفطية الى الامم المتحدة في ما يعرف ببرنامج "النفط مقابل الغذاء". أي ان هذه العقوبات في الواقع كانت سياسية، الغرض منها منع حاكم العراق وزمرته من استثمار ثروات العراق في اعادة بناء برنامجه العسكري سيىء الصيت. لكن النظام لم يحوّل واردات النفط تلك الى ما يخدم مصلحة الشعب إلا بالنزر اليسير، ما انعكس سلبا على الوضع المعيشي لعموم الشعب، وتسبب في معاناة دائمة من نقص الخدمات الاساسية، وتدهور الوضع الاقتصادي بشكل خطير. هذه هي، بطبيعة الحال، البيئة التي يزدهر فيها الفساد ويرسخ أسسه في جسد الدولة ومفاصلها، ويجد له مبررات اجتماعية تجمل وجه أدعيائه على الرغم من قبح الفعل الذي يقدمون عليه.

توطن الفساد
وهكذا فما آن تغير النظام حتى وجدت عصابات الفساد الإداري والمالي نفسها أمام احتمالية الكشف والمحاكمة او الهروب والنفي. فبدأت هذه الزمر، التي كانت ما تزال تمسك بزمام الدولة من مواقع متوسطة او متدنية، في تعطيل عجلة الإصلاح التي كان يمكن ان تسحقها في غضون سنوات قليلة، لو توافرت النية المخلصة للقضاء عليها. ومما ساعد على بقاء هذه الطبقة الفاسدة في مواقعها غياب ثقافة مكافحة الفساد على المستوى الاجتماعي، بالاضافة الى انشغال الدولة بالامور السياسية والامنية الى حد إهمال متابعة هذا الشأن الخطير، الذي كان تأثيره في نهاية الامر اكبر من كل التبعات الامنية التي مر بها العراق خلال السنوات الثماني الماضية. و أوضح دليل على ذلك اليوم تردي وضع الخدمات الاساسية من ماء وكهرباء وطرق وصرف صحي وخدمات بلدية، يضاف اليها فشل النظام التربوي، وتخلف النظام الصحي، وتضخم نسب البطالة وشيوع المحسوبية وشراء الوظائف الحكومية، وغير ذلك من المظاهر الفتاكة لتردي وضع الاقتصاد في بلد لا تعوزه الثروات المادية والبشرية لكي يكون في مصاف الدول المتقدمة، او على الاقل ان يكون بمستوى اقل الدول تمدناً في محيطه الإقليمي.
كما ادى نقص الخدمات الاساسية الى تعطيل الصناعة المحلية على بساطتها، وتهالك القطاع الزراعي مقابل ازدهار وقتي للقطاع التجاري الذي كان مجرد بوصلة تشير الى اتجاه واحد: الاستيراد من خارج العراق دون ان يعبأ القائمون على التخطيط الاقتصادي بتعديل الميزان التجاري ولو بنسبة بسيطة، من خلال تشجيع التصدير وتقديم حوافز وإغراءات للمستثمرين في هذا القطاع، مع وضع ضوابط جمركية على حركة الاستيراد لحماية الصناعة المحلية والمستهلك على حد سواء. ومن ناحية اخرى، فان المصالح الحزبية قد وجدت سبيلها الى دوائر الدولة من خلال التعيينات المستندة الى الانتماء السياسي وغير المبنية على الكفاءة، ما ادى الى عرقلة الحركة الطبيعية للتطور واستبدال العناصر السيئة بأخرى جيدة من خلال الفرز والتمحيص على اساس الاداء وليس الانتماء.

قرارات متعجلة
من بين القرارات التي اتخذتها الدولة دون نظر كاف في العواقب قرار زيادة رواتب الموظفين بشكل كبير. فعلى الرغم من كون شريحة الموظفين هي من الشرائح الكبيرة في المجتمع الا انها ليست الشريحة الوحيدة او الاوسع. وقد عمد النظام السابق، في الفترات السابقة للحصار الاقتصادي، الى منح زيادات في الرواتب بين الحين والآخر ظهرت آثارها واضحة في إحداث تضخم اقتصادي كبير عجزت الدولة عن تخفيضه لاحقا والقي بظلاله الى الوضع المعيشي العام. لذلك توقفت الدولة عن الاستمرار في زيادة الرواتب على الرغم من تيقنها بان مثل هذا الامر كان سيحقق لها نوعا من الدعم السياسي في اوساط المنتفعين، لان النقمة المتولدة بين المحرومين كانت ستكون اكبر واشد تأثيرا على النظام وأمنه وديمومته.
ولكن الحكومات التالية للنظام السابق لم تقرأ هذه التجربة كما ينبغي، فعمدت الى تقديم رواتب ضخمة لموظفين لم يكن للكثير منهم من عمل اكثر من التوقيع على سجلات الحضور والانصراف. ولم نشهد زيادة في إنتاجية معامل القطاع العام او حتى توفرها في الاسواق المحلية بعد تلك الزيادات لكي تكون مبررا لها، او لتغطي ولو قليلا من مصاريف دوائر الدولة الباهظة. وقد تحدثت بعض التقارير عن تخصيص اكثر من ثلثي ميزانية الدولة للرواتب على مدى السنوات القليلة الماضية، وهو امر يتحدى العقل السليم، ويخرج عن منطق التخطيط العلمي للاقتصاد. فكيف للدولة ان تبني المشاريع العملاقة، وتصلح البنى التحتية، وتتصدى للدفاع عن حياض الوطن اذا كان كل ما تبقى من ميزانيتها السنوية هو مبلغ العجز المتوقع في حالة هبوط اسعار النفط العالمية؟
والأدهى من ذلك ان زيادة الرواتب قد تسببت في إحداث تضخم هائل بأسعار السلع في الاسواق المحلية ما زاد من معاناة الافراد والعوائل التي ليس لها مردود شهري ثابت، ومن قبل ذلك فشل نظام البطاقة التموينية في تحقيق القدر الادنى من المساواة بين افراد الشعب نتيجة تناقص المفردات التي توزع بموجبها شهرا بعد شهر، فادى ذلك كله الى ان يصبح الفقراء اكثر فقرا، رغم تضاعف ثروات البلاد بشكل عام.
ان تمييز شريحة الموظفين بهذا الشكل قد ادى الى تهافت جميع فئات المجتمع للحصول على وظيفة حكومية مضمومة الراتب. ولم يستطع القطاع الخاص المنهك أساسا من استقطاب الايدي العاملة او الخبرات للعمل لديه لعدم قدرته على مجاراة هبات الدولة للعاملين لديها. فكان من شأن هذا ان يحط من قدر القطاع الخاص أكثر فأكثر الى درجة نزوح رؤوس الاموال الى الخارج وخلو الساحة الداخلية من المنتجين، او تحولهم الى وسطاء تجاريين يغرقون الاسواق المحلية بالمزيد من البضائع الرديئة، طاردة الإنتاج المحلي على قلته خارج السوق، عملا بالمبدأ المعروف: العملة الردئية تطرد العملة الجيدة الى خارج السوق. أما القرار الآخر الذي تبنته الدولة وكان له تأثير لا يقل سوءا عما سبق فهو دعم الدينار العراقي مقابل الدولار الاميركي بطريق مباشر، من خلال عمليات البيع المسطير عليها التي يقوم بها البنك المركزي العراقي. وهذا يعني ان الاقتصاد المحلي لن يعمل على توفير فرص عادلة في سوق تنافسية، بل يكون خاضعا لسيطرة الدولة ومستنزفا لمقدراتها في عملية ذات تأثير دعائي قصير المدى، لكن بعواقب وخيمة على المدى البعيد. فماذا يحصل إن هبطت اسعار النفط حتى لم يعد بإمكان الدولة دعم الدينار؟ إن هبوط سعر الدينار المفاجىء سيوف يقود الى تفاعل متسلسل من التضخم والمزيد من الهبوط في القيمة قد لا تتوقف عند حد في فترة وجيزة. كما ان استمرار الدولة في تقنين الدينار هو مجرد استمرار لفعاليات كان يمارسها النظام السابق ويقع على خط التضاد مع أفكار السوق الحرة التي من شأنها ان ترفع من قدر الاقتصاد وتحقق التنمية المستدامة على المديين المتوسط والطويل.

الإصلاح
وعلى هذا فاني اخلص الى ان على الدولة، إن أرادت أن تحدث إصلاحا حقيقيا، أن تتخذ قرارا شجاعا بوقف دعم الدينار، وان يكون ذلك على مراحل مدروسة بعناية لتجنب التسبب بتضخم مفاجىء يؤثر على الاقتصاد المحلي بشكل حاد ضمن مدى زمني قصير. ويجب ان يتزامن مع هذا الإجراء توفير أجواء صحية للقطاع الخاص ووضع آليات محكمة للقضاء على الفساد الإداري والمالي وتقليصه الى الحد الادنى. وبالمثل يتوجب إعادة النظر في سلم رواتب الموظفين بما يحقق العدالة في توزيع واردات الدولة بين كافة شرائح المجتمع، وليس بين العاملين لديها فحسب. وتشمل هذه العملية دراسة إمكانية تحويل بعض المعامل والمنشآت الحكومية الى القطاع الخاص من اجل إعادة تأهيلها وتشغيلها والاستفادة من قدراتها المادية والبشرية. ويمكن تحويل الفائض النقدي من هاتين الخطوتين الى صناديق لدعم الصناعة والزراعة بشكل قروض ميسرة، وبشروط تضمن توفير فرص العمل لشرائح أكثر من المجتمع. وهنا يجب التنويه الى ضرورة إصلاح القطاع المصرفي وجعله أكثر دينامية في مواكبة حركة السوق الحرة التي نتوخى الوصول إليها.
إن التفكير الضيق في المصلحة الحزبية لا يؤدي الى اكثر من دعم شعبي محدود ولفترة زمنية وجيزة. لذلك اذا كان للاحزاب السياسية ان تطمح في التربع على عرش السلطة لمدة طويلة، فان عليها ان تلجأ الى الوسائل ذات المردود طويل الامل وان تصمد امام العواقب والعراقيل المرحلية. إن أفقك في السلطة هو ليس إلا انعكاس لمنهجك في الحصول عليها. وكلما كانت نظرية السلطة لديك اكثر شمولا، كان التقبل الشعبي لك أوسع، وبالتالي كانت عوامل البقاء السياسي تميل لصالحك بشكل اكبر. وقد أثبتت تجارب التاريخ إن أكثر الحكومات استقرارا تلك التي تولي جلّ اهتمامها للتنمية والتطوير الاقتصادي، على العكس من الحكومات التي انشغلت بالتطاحن الحزبي واستدراج الأنصار بالمنافع المباشرة على حساب المصلحة العامة، حيث لم يكتب لها البقاء لمدة طويلة في عمر الزمن.

Saturday, July 09, 2011

حضور النموذج العراقي في الربيع العريي

قال احد المشاركين في برنامج حواري بث على احد القنوات الفضائية العربية ان شرارة "الربيع العربي" انطلقت من العراق، فقاطعه المذيع بالقول "ان شرارة الربيع العربي انطلقت من تونس، من حادثة ابو عزيزي وما تلاها من احداث في الشارع التونسي". فخطر لي سؤال: لماذا لم تنطلق شرارة الربيع العربي من العراق؟

والحقيقة ان لا احد تقريبا يشير الى تجربة العراق المريرة في عام 1991، عندما انتفض الشعب العراقي من شماله الى جنوبه ضد حكم الطغيان الصدامي الذي اذاقه الامرين من حروب طاحنة ومغامرات غير محسوبة ادت الى فقدان مئات الالاف من الارواح البريئة، اضافة الى تفرد "القائد الضرورة" بالسطة واسكاته لكل معارضة بطرق وحشية، ليس اقلها الحرمان من بركات النظام، وليس اكثرها الترحيل والسجن والتغييب والاعدام، مرورا باساليب التحقيق المروعة في زنزانات اجهزة الامن التابعة للنظام.
خرج الشعب في ثورة غير مسبوقة في العالم العربي على حاكم جائر بعد ان ادت مغامرته في الكويت الى تحطيم البلاد ماديا ومعنويا نتيجة الهزيمة المذلة التي وضعها فيها النظام، وما رافقها من بوادر للعزلة الدولية التي سوف تستمر الى حين سقوط النظام بعد اثنتي عشرة سنة من تلك الثورة الشعبية.

ثورة بدأها جندي في البصرة بان صوب ماسورة دبابته في وضح النهار الى صورة كبيرة لـ"القائد الرمز" ودمرها بقذيفة ربما تكون آخر ما بقي لديه من ذخيرة، وهو ما لم يجرؤ عليه من قبل أي مواطن عراقي. وفجأة تحطم حاجز الخوف، وسرعان ما تهاوت اركان النظام في معظم انحاء العراق، من الشمال الى الجنوب، مرورا بضواحي بغداد، وباتت البلاد تعيش اجواء الثورة.

لم تكن تلك الثورة سببا لانهيار النظام الصدامي، ولم تصبح مثالا لشعوب المنطقة العربية التي ترزح تحت انظمة شمويلة مماثلة. بل ان تلك الانتفاضة ربما ادت في الواقع الى تأخير الربيع العربي عشرين عاما اخرى. حينما رأت الشعوب العربية مقدار القمع الذي مارسه النظام على الشعب الذي تجرأ على رفع صوته في وجهه. ربما تكون الشعوب العربية قد وضعت في حساباتها ان انظمتها الحاكمة سوف لن تكون افضل في تعاملها مع مثل هذه الحركات من النظام الصدامي.

لكن سقوط النظام في العراق عام 2003 على ايدي قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وما تلاه من تحرر نسبي للعراقيين على مستويات عدة، بدءا من حرية التعبير عن الرأي، الى المشاركة في صنع القرار عن طريق الانتخابات البرلمانية والمحلية، كل هذا لم يكن هو الاخر سببا مباشرا في تحريك الشارع العربي للمطالبة بالمزيد من الحريات وتحسين اوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومرة اخرى يطرح السؤال نفسه، لماذا لم يصبح العراق مثالا للشعوب العربية؟

قد يكون الجواب على ذلك سهلا، نظرا لان العراق مرّ بفترات مظلمة بعد الغزو الاميركي وعانى من تفشي الارهاب وتدني مستوى الامن وسيطرة بعض العصابات على مقدرات الدولة وحتى التمكن من الوصول الى هرم السلطة والتأثير على عملية صنع القرار. كذلك شهد العراق شيوع الفساد الاداري في كافة مفاصل الدولة حتى صار امثولة في التقارير الدولية، التي لاشك ان المثقفين العرب، وحتى رجل الشارع، قد اطلعوا عليها وربطوها برد فعل انعكاسي بالتحرر والتخلص من نظام الاستبداد الشمولي. وربما ساورت الشعوب العربية المضطهدة الشكوك بانها قد لا تكون افضل حالا ان ازاحت جلاديها عن سدة الحكم.

ومرة اخرى، قد تكون الاحداث في العراق بعد 2003 قد امدت من عمر حكام العرب المتسلطين على رقاب شعوبهم. لم يصبح العراق مثالا لهم لانه لم يكن يعط صورة المثال المطلوبة من بين الفوضى العارمة التي اعترته، رغم ان التغيير في العراق قد احدث نقلة هائلة في حياة الشعب العراق، من الناحيتين السياسية والاقتصادية على الاقل. لكن الفشل في كبح جماح الفتن على المستوى الاجتماعي، والذي اثارته المطاحنات السياسية، قد افضى الى تصوير العراق على انه بلد لا يمكن ان تحكمه الا دكتاتورية قادرة على التعالي على الخلافات الطائفية والعرقية، شأنه في ذلك شأن بقية شعوب المنطقة.

على كل حال، فان الانتفاضات العربية قد لا تكون "ثورات" مجيدة بكل معنى الكلمة، ولكنها بكل تأكيد حركات بوجه الطغيان استقت مدها بعيدا عن تجربة العراق، وان كانت تسعى حقيقة الى ان تصبح مثله في اقل تقدير. ربما تكون اركان الحكومة قد سهلت عملية ازاحة زين العابدين بن علي عن السلطة في تونس، وقد يكون دور الجيش المصري اكبر من يبدو في دعم انتفاضة ساحة التحرير واجبار حسني مبارك على التنحي. لكن ذلك لا يقلل من شأن الرجال والنساء الذين تجرءوا على التجمع والتظاهر ومقارعة اجهزة هذه النظم القمعية التي لا تعرف الرحمة في تعاملها مع مثل هذا الوضع.

وفي اليمن لا يزال مئات الالاف من المتظاهرين يملأون الشوارع والساحات مطالبين بتنحي علي عبد الله صالح عن الحكم، والتحول الى نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على حرية التعبير والتعددية ويحارب الفساد ويوفر الخدمات لشعبه ويعمر مدنه ويقوده الى الرخاء والازدهار. لا اشك ان الثورة في اليمن سوف تنجح في نيل مسعاها على الرغم من تمسك الرئيس ببراثن السلطة الى آخر يوم، ولجوءه الى اساليب اصبحت بالية في زمن التواصل الفوري الذي نعيشه الان.

وانتفاضة البحرين اكثر خجلا ولكنها وضعت نفسها على خارطة الثورات واجبرت الحكام على الاستماع اليها وتقديم تنازلات لم تكن في مجال التصور قبل فترة وجيزة. ومن الممكن ان يفضي الحوار بين حكومة البحرين ومعارضتها الى تحسين الحريات وتقسيم اكثر عدلا للسلطات في هذا البلد الصغير بحجمه، ولكن الكبير بموارده.
اما سوريا، فهي اشبه ما تكون عراقا عام 1991. المنتفضون في الشوارع يطالبون باسقاط النظام الشمولي، والجيش يهيل عليهم سيل الرصاص والقذائف المدفعية. بشار الاسد يقف في محفله مبجلا من زبانيته وهو يعلن ان الجيش يقوم بعمليات تطهير المدن من "الخارجين عن القانون"، الذين اعلن انهم عشرات الالاف. يعلم العراقيون ذلك، فقد خبروه. اذا تجرأت على الوقوف بوجه الطاغية فانت مجرم ومخرب وارهابي وسيكون الموت لك ولعائلتك ولجيرتك ولكل مدينتك.

غير ان سوريا 2011 غير العراق 1991. فلم يكن هناك من فيسبوك، ولا هواتف نقالة، كما لم تكن هناك قنوات فضائية. ولم تكن الاحداث في العراق عندها سوى خبرا في الاذاعات عن تحركات المنتفضين الذين لم يعلن لهم صوت ولا صورة، ولم يعلم احد لهم شكل ولا لون. كانوا اناسا من العامة لم يستطيعوا ان يوصولوا صوتهم الى العالم الا مشوها بدعايات مغرضة من اجهزة النظام الحاكم رغم تزعزع اركانه، وبتدخل سمج غير مرحب به من دول اقليمية ارادت الحصول على حصة في كعكة العراق التي بدت دسمة آنذاك.

وحينما ذبحت اجهزة النظام القمعية مئات الالاف من الابرياء واودعتهم مقابر جماعية يندى لها جبين التاريخ، لم يعلم بذلك سوى قلة من الناس خارج العراق، ولم يتحرك احد لفرض عقوبات على شخوص نظام صدام كما يحدث اليوم في سوريا وليبيا. لقد ادى التحول التقني في الاتصالات الى حقن دماء عزيزة في سوريا، كانت سوف تهدر بكل برود لو كان مايحدث الان قد حدث قبل عشرين عاما.

سوف تنتصر ارادة الشعب السوري آخر الامر. سوف تتعالى الحشود على جلاديها ومن يحصد ارواح ابنائها بالرصاص الحي الموجه الى صدورهم العزل. قد يحدث ذلك بتدخل دولي، ولكنه سيكون على ايادي الرجال الساعين الى التحرر من الفكر الشوفيني الذي لا يرى صوابا في غير افعاله ولا يقبل نقدا لها.

على اني ارى ان الحركة الليبية المسلحة هي خير مثال لما كان ينبغي ان يحدث في العراق عام 1991. فما ان تحرك الشعب وثار على مغتصبي حقوقه حتى اجتمع شمله تحت قيادة موحدة، وأمنت لها موطيء قدم في مدينة بنغازي الشرقية. استطاعوا ان ينشئوا لهم قناة فضائية تنطق باسمهم وعملوا على التواصل مع العالم الخارجي. حتى انهم باتوا قادرين على استحصال بعض التمويل من تصدير النفط ومن المساعات السخية التي تقدمت بها بعض الدول العربية والغربية.

لقد استطاعت المعارضة الليبية المسلحة ان توصل صوتها للعالم، وان تضع قضيتها على طاولة مجلس الامن، واستحصلت الدعم الحربي واللوجستي من دول حلف الناتو، مستفيدة من تخبط حاكم بلدها المخبول معمر القذافي. ويبدو ان الوضع العسكري قد تحول اخيرا لصالحهم بفضل تحسن ادائهم واستمرار ضربات حلف الناتو لقوات القذافي.

كان يمكن لانتفاضة العراق عام 1991 ان تحصل على مثل هذه المكاسب لو كان لها صوت في الخارج، ليس من خلال وسائل الاتصال التي ما كان لها من وجود في ذلك الوقت، بل من خلال رموز المعارضة الذين اتخذوا من عواصم الغرب ملجأ لهم. لو انهم تواصلوا مع الشعب الثائر بشكل كافٍ، ولو انهم عملوا على طرح مسألة وطنهم المصيرية امام المحافل الدولية ومارسوا ضغوطا من اجل ايجاد حلول لها، ربما كان الوضع قد تغير، لكن الساعة لا تعود الى الوراء.

اليوم يلفظ معمر القذافي انفاسه بعد ان ظن انه مخلد في موقعه مع اولاده. وهو اتخذ من شنق شقيقه في الطغيان صدام حسين مثالا على ان بقية الحكام العرب سائرين في نفس الطريق، كما قال لهم ذلك في مؤتمر قمة دمشق. استمعوا له وضحكوا، لانهم اطمأنوا الى ان النار لن تحرقهم يوما، بعد ان شهدت شعوبها ما حدث في العراق بعد سقوط طاغيته. ولكنهم لم يتعضوا ولم يسعوا الى تخفيف قبضتهم الحديدية على السلطة، وافساح المجال لاصلاحات سياسية حقيقية.

اما بشار الاسد فقد يبقى لفترة اطول قليلا، ولكنه لن يكون اوفر حظا آخر الامر. سوف يرحل عن سوريا او ربما سيعتقل ويحاكم، وسوف يتذكر كلمات معمر، ويتمنى لو انه "اخذ الشور من راس الثور" كما يقول المثل العراقي. وسيتراءى له مشهد الحبل الملفوف على رقبة صدام وهو يسأل نفسه: هل كان يجب علي ان اتخذ من العراق مثلا؟

اذا لم يكن العراق مثالا لانتفاضات الربيع العربي فهو موجود فيها بشكل اوبآخر. واذا لم يود احد الحديث عن ديمقراطية العراق، على الرغم من كل اخفاقاتها وسلبياتها، على انها انموذج لنظام حكم يخلف الطاغية الذي يسعون لاسقاطه، فان الخيارات تصبح اضيق بعيدا عنه. وفي آخر الامر، سوف تكون نسخة منقحة من ديمقراطية العراق هي ما يسود المنطقة. سوف يتعظ الجميع من الاخطاء التي وقعت في العراق في طريقهم نحو الحرية والعدالة والمساواة، دون ان يذكروا ذلك. فالعراق كان وسيبقى المثال الصامت لثورات العرب الصدّاحة.

Saturday, May 07, 2011

حول اتفاقية الانسحاب..هل من ضرورة لتمديد بقاء القوات الأميركية؟

مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأميركية النهائي من العراق بموجب الاتفاقية الأمنية التي وقعت بين البلدين أواخر عام 2008، والتي تنص على مغادرة آخر جندي أميركي الأراضي العراقية بحلول نهاية عام 2011، فان الشكوك بدأت تحوم في إمكانية تطبيق هذا الأمر في واقع الحال. وعبّر العديد من السياسيين والمثقفين فضلا عن شريحة واسعة من أفراد الشعب العراقي عن قلقهم من لجوء الحكومة العراقية إلى طلب تمديد بقاء عدد محدود من القوات الأميركية لحماية الأمن الوطني.

هذه القضية تأتي في سياق متوافق مع مسيرة كل المشاريع في العراق الجديد. وأعني بذلك مواجهة أصحاب القرار للمسائل الحيوية كأنها حدثت للتو، أو أنها لم تكن موجودة وظهرت للعيان بين ليلة وضحاها. فالكل يعلم بمشاكل العراق المختلفة، بدأ من نقص الخدمات الأساسية، مرورا بتلكؤ مشاريع الإعمار وتفاقم مشاكل البطالة، وليس انتهاءً بعدم جاهزية القوات المسلحة لحماية حدود العراق من الاعتداء الخارجي.
لكن هذا التباطؤ في اتخاذ التدابير اللازمة للوقوف بوجه التحديات التي يمر بها العراق، على المستويين السياسي والأمني، ليس مشكلة الحكومة وحدها. فالتركيبة المعقدة لهيكل الحكومة ربما فرضت عليها نوعا من العجز عن القيام بالأمور العاجلة والاستجابة الفورية للطوارئ، بالإضافة إلى عدم القدرة على وضع الخطط المتأنية للمدى القريب والمتوسط والطويل.
على كل حال، وصلنا اليوم إلى النقطة التي لم نكن نتمناها، وهي خيار طلب التمديد، مع كل الانعكاسات السلبية لمثل هذا الخيار على الوضع الأمني الداخلي، بعد تصاعد التهديدات من القوى المحلية بالعودة إلى المقاومة المسلحة إن تقرر إبقاء قوات أميركية في العراق في ما بعد 2011.
فهل أن لهذا الخيار ما يبرره أساسا، أو أن اعتماده سيقود إلى النتائج المتوخاة منه؟ إذا كان الإبقاء على قوات أميركية في العراق أمرا ملحا لمنع اعتداء خارجي، فان ذلك يعني بالضرورة أن بقاء هذه القوات سيمتد إلى اجل غير مسمى، خصوصا مع أن ذلك يتماشى مع المصالح الأميركية التي تريد البقاء قريبا من مصادر التهديد لأمنها ومصالحها الاقتصادية. وبما أن إيران هي في الوقت الراهن اكبر تهديد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فان العراق هو خير موقع لمنع إيران من توسيع نفوذها غربا، وبالتالي اكتسابها المزيد من الزخم لتحدي القوة العظمى الأولى في العالم.
إذاً، بقاء القوات الأميركية قد يمنع إيران من التدخل العسكري في العراق، لكنه لن يمنعها من السعي لتوطيد نفوذها في هذا البلد. وقد أضحى العراق، منذ الاحتلال الأميركي عام2003، مجالا حيويا للجمهورية الإسلامية، بعد أن حاصرتها القوات الأميركية من الشرق في افغانسان ومن الغرب في العراق.
لذلك فان التواجد العسكري الأميركي في العراق قد يدفع إيران إلى استئناف دعمها الجماعات المسلحة في أجزاء عديدة من العراق لتقويض الجهود الأميركية في مساعدة الحكومة العراقية، ولإحداث خسائر كبيرة بين صفوفها، الأمر الذي سيجبر الولايات المتحدة على الانسحاب النهائي من العراق. فقبل كل شيء، جاء قبول أميركا بجدولة انسحابها من العراق بعد تصاعد الغضب الشعبي داخل الولايات المتحدة على الحرب في العراق، بعد تفاقم الخسائر البشرية والاقتصادية الأميركية، حتى بات الرأي العام الأميركي يعتبر هذه الحرب غير ضرورية ولا مبررة. وإذا كانت القيادات الأميركية قد طلبت من العراق تحديد موقفه من رحيلها أو تجديد الاتفاقية الأمنية، فإنها إنما تنظر إلى الأحداث الراهنة، حيث لم تعد تعاني خسائر فادحة في الأرواح والنفقات. لكن مراجعة سريعة للأحداث في السنوات القليلة الماضية تكشف عن الكابوس المرعب الذي كان على الجنود والقادة الأميركيين التعامل معه كل يوم.
على أن التهديد الأمني الإيراني للعراق قد يكون أمرا مبالغا فيه. فمثل ما تؤكد المقولة المأثورة: "ليست هناك صداقات دائمة أو عداوات دائمة بين الدول، بل مصالح دائمة"، فان مصلحة إيران الدائمة هي في تجنب النزاع مع العراق، وهي مصلحة دائمة للعراق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فان الإمكانات العسكرية العراقية المتاحة حاليا قد تكون كافية للتعامل مع حالات التحرش على الحدود، كما أثبتت ذلك في العديد من المناسبات السابقة. وإذا كان السؤال عن تحدٍ امني اكبر من ذلك، مثل الغزو أو الاجتياح، فالجواب ليس في إبقاء القوات الأميركية، بل العمل جديا على تجهيز القوات المسلحة الرادعة لمثل هذا التهديد، في غياب القوات الأميركية. نعم سوف يستغرق هذا الأمر سنين عدة من التجهيز والإعداد والتدريب، لكنه سوف يسير بخطىً ثابتة وبمراحل محكومة بأولويات المخاطر المحيطة، وسوف يقلل من أخطار التهديدات الخارجية في كل مرحلة من هذه المراحل وصولا إلى حالة الاستقرار الأمني التام.
بطبيعة الحال، ليست إيران وحدها ما يمثل تهديدا كامنا لأمن العراق، بل ربما تكون جميع الدول المجاورة تهديدا محتملا، خصوصا الجارة التركية التي طالما أرسلت قواتها داخل الحدود العراقية بذريعة تعقب معارضيها. ويصح هنا ما أسلفنا من ضرورة التصدي لهذا التهديد بالتجهيز المتعدد المراحل لجيش العراق وتمكينه من الوقوف بوجه هذه التهديدات بالصورة المناسبة.
أما التهديد الأمني الداخلي، فمن الواضح أن القوات الأمنية العراقية قد أصبحت العنصر الأساسي في التعامل معه، ولم يعد للقوات الأميركية سوى دور محدود فيه. لقد تزايدت الثقة الشعبية بأداء القوات الأمنية منذ نجاحها في إخماد الفتن الطائفية قبل أعوام قليلة، وارتفعت معنويات هذه القوى الأمنية ومستوى تدريبها وتسليحها بحيث لم تعد هناك حاجة أساسية لمعونة خارجية.
كما أن من المستبعد حدوث سيناريو متشائم، بعودة العنف إلى بعض مناطق العراق التي ما زالت تعاني تواجد فلول القاعدة بين ظهرانيها، أو تعرضه إلى اعتداء غاشم من الدول المجاورة، بسبب تغير الظروف الجيو-سياسية في منطقة الشرق الأوسط، وخروج الشعوب العربية بالخصوص بوجه أنظمتها المتعسفة للمطالبة بالمزيد من الحريات. فإن تحققت مطالب هذه الحركات الثورية سيكون ذلك بمثابة تطمين مضاف للهواجس من انتكاس الوضع الأمني في العراق، طالما أن الأنظمة الجديدة ستكون اقل دكتاتورية إن لم تكن أكثر ديموقراطية. ومن المعلوم أن الأنظمة المنفتحة تميل إلى نبذ العنف أو مساندته في علاقاتها مع الدول الأخرى وتفضل تشجيع حركة التبادل الاقتصادي في ما بينها، والتي تعود بنفع اكبر على الشعوب من المغامرات غير المحسوبة للحكومات المتسلطة.
وعلى هذا أخلص إلى القول انه ليست هناك من حاجة ملحة لتمديد بقاء القوات الأميركية في العراق، سواء حافظا على الأمن الداخلي أو الدفاع عن حياضه أمام تهديد خارجي. وقد آن الأوان لان يكون العراق، مرة أخرى، بلدا مستقلا معتمدا على ذاته في تحقيق أمنه ورفاهية شعبه، وان تتحمل حكومته وشعبه مسؤوليتهما في هذا الشأن بدون تأثير سياسي أو عسكري قادم من الخارج، حتى وان كان ذلك من أصدقاء ساهموا في تحرير العراق من الطغيان ووضعه على جادة الحرية والديمقراطية.