Thursday, March 25, 2004

نحو الدستور الدائم: الدستور المؤقت.. لمحات وافكار

لاشك ان صدور "قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية"، او ما يعرف بالدستور المؤقت، يعد خطوة مهمة في عملية نقل السلطة وبناء المؤسسات الديمقراطية. وهو الوثيقة الاساسية التي ستحدد مستقبل العراق، وترسم الخطوط العريضة للدستور الدائم. واذا كانت جميع البلدان في العالم، سواء التي تتمتع بنظام ديمقراطي حر، او تلك التي لازالت ترزح تحت نير نظام استبدادي، اذا كانت جميع هذه البلدان تمتلك وثيقة تستند اليها في اصدار التشريعات وتحديد الصلاحيات لجميع فئات السلطة، فان الشعب العراقي ممثلا بمجلس حكمه استطاع التوصل الى وثيقة مميزة وتحمل سمات، قد لا تكون فريدة، ولكنها رائدة في منطقة الشرق الاوسط والعالم العربي على الاقل.
ان هدف هذا البحث هو محاولة استكشاف العناصر التي تجعل من قانون ادارة الدولة العراقية وثيقة مميزة، وفيما اذا كان يحقق رغبات الشعب، للمرحلة الراهنة.
واول تلك الاشارات اعطاء صفة الديمومة على الدستور (حتى وان كان مؤقتا). فقد نصت المادة الثالثة (أ) من الباب الاول الذي يبين المباديء الأساسية، على انه "لا يجوز تعديل هذا القانون الا بأكثرية ثلاثة ارباع اعضاء الجمعية الوطنية، وإجماع مجلس الرئاسة". وهذا الشرط يجعل من تعديل الدستور امرا بالغ الصعوبة، ولكن هناك فرصة لإنجاز ذلك إذا كانت هناك ظروف قاهرة تدعو لمثل هذا التعديل. ومثل هذه الديمومة كفيلة بمنع التعديل وفقا لأهواء وضغوطات قد لا تكون مبنية على أساس متين من الدراسة والبحث.
وتشير المادة الرابعة الى ان نظام الحكم في العراق "جمهوري، اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي" وتستعمل مصطلحا جديدا في قواميس المنطقة وهو "تقاسم السلطات". ان هذا الاصطلاح هو في حد ذاته قفزة الى مستوى لم تبلغه أي دولة مجاورة، حيث نجد ان السلطة مركزة في الغالب في مركزية تتراوح شدتها بين بلد وآخر. ولكن هل ان تقاسم السلطات واللامركزية هو ما يطمح اليه الشعب العراقي؟ لقد عملت الحكومات المتتالية في العراق على تكريس النظام المركزي الذي تسبب في إيجاد نظام صدام القمعي. غير ان النظام المركزي له ميزة السيطرة على جميع مجريات الامور، بضمنها الناحية الامنية، وبالتالي فهو اقدر على الاستجابة للضرورات الملحة. وطالما كان هناك تهديد امني على بلدنا، ربما كان الاجدى البحث عن نظام مركزي يستطيع فرض النظام وتعقب المجرمين. ومن ناحية ثانية فان النظام المركزي، ان عاجلا او آجلا، سيؤدي الى انتاج طغاة ونظم حكم استبدادية، تعمل على إسكات أي صوت للمعارضة، وبدلا من التهديد الامني من عصابات مجرمة تتسلل عبر الحدود، سيكون التهديد من عصابات مجرمة تتربع على السلطة. ان النظام الفيدرالي الذي يجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم او المحافظات، هو الضمانة الاكيدة ضد ظهور دكتاتورية تكون اشد خطرا من اية فوضى مرحلية قد يسببها تطبيق اللامركزية.
ولعل اكثر مواد هذا القانون اثارة للجدل المادة السابعة (أ) التي نصت على ان "الإسلام دين الدولة الرسمي ويعد مصدرا للتشريع" وليس (المصدر). المعروف ان هناك خمسة مذاهب رئيسية يتوزع عليها المسلمون. وقد بلغ الاختلاف بينها حدا يجعل من الصعب توحيد الرأي في بعض المسائل، رغم انه ليست هناك خلافات في جوهر العقيدة. غير ان التشريع يبحث في جزئيات محددة، ليتوصل الى ايجاد حل لمسالة ما. ان هذه المادة تلزم المشرعين بالعمل وفق الشريعة الاسلامية بخطوطها العريضة وثوابتها دون ان تلزمهم بالدخول في نزاعات مذهبية لترجيح حل أي مشكلة بالاستناد الى فكر مذهب معين.
كما ان الفقرة (ب) من نفس المادة نصت على ان ".. الشعب العربي فيه (العراق) جزء لا يتجزأ من الأمة العربية"، الامر الذي قد يثير حفيظة البعض باعتبار ان الغالبية في العراق هم من العرب، وعليه يجب بيان ان الشعب العراقي –وليس العربي في العراق- جزء من الامة العربية. ولكن ذلك غبن واضح لحقوق الاقليات. فليس الشعب الكردي فالعراق وحده اقلية في العراق، بل هناك اقليات اخرى، من تركمان وكلدواشوريون وغيرهم، ممن يستحق الاحترام وعدم طمس الهوية القومية لهم ودمجهم مع القومية العربية جزافا.
ان هذه المادة بفقرتيها الغت مبدأ غير عادل طالما تبجحت به الحكومات السابقة، من كون العراق بلد مسلم عربي. ان هذا المبدأ جعل هوية الأغلبية هوية للجميع. وعلينا اذا اردنا نظاما ديمقراطيا ان نقر ان حق الاغلبية يجب ان لا يتعارض مطلقا مع حقوق الاقليات. وقد عملت الاليات التالية في هذا القانون على ايجاد مثل هذا التوازن الذي هو اساس الاستقرار والتعايش السلمي.
وفي حين أقرت المادة التاسعة مبدأ "اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق"، فإنها ذهبت الى حد المساواة في طبع "الأوراق النقدية وجوازات السفر والطوابع"، وهو أمر غريب، قد يسبب تطبيقه إرباكا شديدا.
وفي الباب الثاني، الذي اختص بالحقوق الاساسية، نجد وصفا مميزا للحريات والحقوق التي يتمتع بها المواطن العراقي، من حرية التعبير، والاجتماع السلمي، وتشكيل النقابات والأحزاب، والتنقل والسفر، والتظاهر والإضراب السلمي، وحريات الفكر والضمير وممارسة العقائد الدينية، وتحريم العبودية وأعمال السخرة، والحق بالأمن والتعليم والعناية الصحية والضمان الاجتماعي، ومسؤولية الحكومة في توفير الرفاه وفرص العمل للشعب، والحماية من الاعتقال التعسفي وانتهاك الحرمة الفردية، وضمان المحاكمة العادلة العلنية السريعة، وعدم جواز محاكمة المدني امام محاكم عسكرية او إنشاء محاكم خاصة، وتحريم التعذيب الجسدي والنفسي، وحرمة الأموال العامة وصيانة الملكية الخاصة، والحق الكامل في التملك في كافة أنحاء العراق. ونقطة الاعتراض الرئيسية قد تكون في اعادة الجنسية العراقية الى المواطنين العراقيين الذين حرموا منها كما بينت ذلك بنود المادة الحادية عشرة. وهل في ذلك أي ظلم؟ الم يعمل النظام السابق على تهجير وتسفير وسلب حق المواطنة من الملايين من ابناء هذا الشعب المهضوم؟ غير ان التخوف من اعادة الجنسية الى اليهود المرحلين في عهود سابقة ليس له أساس، فالمواطنة لم تبن يوما على الانتماء الديني او المذهبي او العرقي. كما ان اليهود عاشوا في العراق مئات السنين، وليسوا حالة طارئة على الشعب العراقي. وهم موجودون في بلدان عربية واسلامية اخرى دون ان يكون لهم الدور الأساس، باعتبارهم أقلية، في إدارة شؤون بلدانهم. وليس هناك في الدين الاسلامي ما يمنع التعايش مع اليهود او الاديان الاخرى.
أما إذا كان التخوف من (الصهيونية) فتلك مسألة اخرى. فليست إعادة الجنسية العراقية هي التي ستؤدي الى غزو (صهيوني) للعراق، بل ان ذلك -ان قدر له ان يحصل- فبسبب قلة وعي الافراد، وعدم شعورهم بالمسؤولية، اكثر مما يسببه قانون يسعى الى احقاق الحق ورفع الحيف عن مجموعة كبيرة من ابناء الشعب العراقي، لا يشكل اليهود بينهم سوى أقلية ضئيلة لا يعتد بها.
وقد عبر البعض عن امتعاضهم من نص المادة الثالثة عشرة (أ) من ان "الحريات العامة والخاصة مصانة" باعتبار ان ذلك يعطي الفرد الحق بتجاوز الاداب العامة. وذلك مردود بنفس النص. حيث ان الحرية العامة، التي تتطلب المحافظة على الاداب العامة، مصانة بنفس القدر الذي تصان به الحرية الخاصة.
ويبين القانون في بابه الثالث (المادة الرابعة والعشرون) كيفية بناء الحكومة الانتقالية، التي ستتكون من الجمعية الوطنية كسلطة تشريعية، ومجلس الرئاسة ومجلس الوزراء كسلطة تنفيذية، كما تشدد على فصل السلطات، وهو احد اهم المباديء الديمقراطية، والذي يحول دون تركز السلطة، وينمي دور المسائلة في تحقيق رغبات الشعب، ويمنع –قدر الامكان- تفشي الفساد الاداري والسياسي. والملاحظ ان المادة الخامسة العشرين قد حددت اختصاص الحكومة الفيدرالية بسبعة فقرات فقط، وهذا يعني ان هناك مديات واسعة لتصرف حكومات الاقاليم والمحافظات. وهذا الامر يتيح التحول الجاد نحو اللامركزية. والتشريع المحلي متاح على ان لا يتعارض مع المصلحة الوطنية المبينة في الصلاحيات المحدودة للحكومة الفيدرالية، التي من اهمها رسم السياسية الخارجية، ورسم السياسة الاقتصادية والنقدية، والكمارك والتجارة الخارجية، ووضع الميزانية العامة، والدفاع، وتنظيم المقاييس والاوزان، وادارة ثروات العراق وتوزيعها بين الاقاليم والمحافظات، والجنسية، والاتصالات.
ومما تجدر الإشارة اليه ما ورد في الفقرة (ج) من نفس المادة ".. وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات في العراق" باعتبار ذلك من اختصاص الحكومة الاتحادية. وفي الواقع فان هذه الفقرة تضع ميزانا دقيقا لعلاقة الاقاليم والمحافظات بعضها مع بعض ومع الحكومة الاتحادية. فطالما كانت الحركة التجارية واقعة ضمن نفس الاقليم فلا يمكن للحكومة الاتحادية ان تتدخل. الا ان انتشار الحركة التجارية بين المحافظات او الاقاليم قد يتعرض الى العراقيل بسبب اختلاف القوانين والتشريعات بين الاقاليم، وفي هذه الحالة يكون القانون الاتحادي هو الحكم. ان هذه الموزانة تكفل بقاء الحكومة الاتحادية قادرة على التصرف وفرض السلطة على المحافظات بنفس القدر الذي يمنعها من الاستيلاء الكامل على الصلاحيات في هذه المحافظات.
ونصت الفقرة (ب) من المادة السابعة والعشرين على انه "لا يجوز تشكيل قوات مسلحة وميليشيات ليست خاضعة مباشرة لإمرة القيادة للحكومة العراقية الانتقالية، إلا بموجب قانون اتحادي"، الأمر الذي سيؤدي الى حل جميع المليشيات غير المنخرطة في الجيش الوطني. ولا يخفى حجم الخطر الذي يمثله بقاء مليشيات مستقلة، وتهديدها للامن الوطني من جهة، وامكانية نشوء نزاع طائفي او عرقي من جهة اخرى.
وفي الباب الرابع، يتم تحديد شكل السلطة التشريعة، وبيان ان وظيفتها اصدار القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية كما نصت عليه المادة الثلاثون. غير ان الفقرة (ج) من هذه المادة ضمنت نسبة 25% من مقاعد الجمعية الوطنية للنساء. والحقيقة ان هذه الفقرة وان كانت تهدف الى تشجيع دور المرأة في الحياة السياسية، الا انها ميزت ضد المرأة بشكل غير منصف، وهي تتعارض مع نص الفقرة (ب) من المادة العشرين "لا يجوز التمييز ضد أي عراقي لأغراض التصويت في الانتخابات على أساس الجنس أو الدين أو المذهب أو العرق أو المعتقد أو القومية أو اللغة أو الثروة أو المعرفة بالقراءة والكتابة". ان احتساب اية نسبة لن يعطي المرأة دورها الكامل، طالما كانت الفرصة متاحة لها للتنافس مع الرجال حسب مؤهلاتها. والامر المؤسف الذي قد ينتج عنه تطبيق هذا القانون ان العديد من المرشحات قد لا يكن مؤهلات بالقدر الكافي لعضوية الجمعية الوطنية. ورغم ان احتمال ترشح غير المؤهلين من الرجال وارد ايضا، الا ان ذلك لن يكون بدعم مباشر من قانون ادارة الدولة المؤقت. ومن يدري، فقد تفوز النساء بنسبة تزيد على هذا التحديد، وعندها لن تجد عراقيا واحدا يمانع في ذلك.
ونصت المادة السادسة والثلاثين على انه "يتم انتخاب مجلس الرئاسة بقائمة واحدة وبأغلبية ثلثي اصوات الاعضاء". وفي رأيي فان هذا الشرط من الصعوبة بمكان. اذ ان اتفاق ثلثي الاعضاء على شخص واحد هو امر غير يسير، فما بالك باتفاق الثلثين على ثلاثة أشخاص سوية؟ وما لم يتم اجراء تسويات وعقد صفقات سياسية، فلا أرى إمكانية لانتخاب مجلس الرئاسة.
وأعطت الفقرة (ج) من المادة الثالثة والثلاثون، ضمن الباب الخامس الذي يحدد شكل السلطة التنفيذية، الصلاحية الحصرية لإعداد الميزانية العامة الى مجلس الوزراء، ولكن يجوز اجراء التعديلات عليها من قبل الجمعية الوطنية وتخفيضها، دون زيادتها. ففي هذه الحالة عليها ان تقترح ذلك على مجلس الوزراء. ومثل ذلك ما نصت عليه المادة السابعة والثلاثين من انه "يمكن لمجلس الرئاسة نقض أي تشريع تصدره الجمعية الوطنية"، والتي عليها اعادة النظر في هذه القوانين وقبولها نهائيا (بدون نقض) باغلبية الثلثين. وذلك يندرج تحت طائلة الموازنات الضرورية في الصلاحيات. فمجلس الرئاسة ليس منفذا للقوانين فقط ولكن يمكن ان يكون له دور في قبولها، غير انه لا يمكن له ان يرفضها قطعيا. فنلاحظ هنا ان هناك تداخلا جزئيا في عمل هاتين السلطتين، وهو الامر الذي يمنع استئثار أي منهما في صنع القرار او تنفيذه.
وأقرت المادة التاسعة والثلاثين مبدأ تعيين قضاة المحكمة العليا، وهو الامر الذي يكفل بقائهم بعيدا عن المتغيرات السياسية، اذ ان الحكومات المنتخبة تتغير غير ان القضاة باقون في مناصبهم، دون ان يكون هناك تأثير يذكر على قراراتهم بناء على رغبات السلطة التنفيذية، وان كانت هي التي عينتهم في تلك المناصب. بالاضافة الى ذلك، لايمكن عزل القاضي الا اذا ادين بجريمة او اصيب بعجر دائم، كما ورد في المادة السابعة والاربعون، اي ان القضاة يبقون في مناصبهم مدى الحياة.
واعطت المادة الحادية والاربعين صلاحية اقالة الوزراء الى رئيس الوزراء، غير انها قرنت ذلك بموافقة الجمعية الوطنية. وفي ذلك ضمان واضح ضد تعسف رئيس الوزراء تجاه الوزراء الذين لا يتفقون معه في الرأي، مما يسمح للوزير ان يكون بموقع مسؤول وليس تابع يعبر عن رغبات رئيسه.
وفي بابه السادس يبين القانون هيكلية السلطة القضائية الاتحادية، ويشدد على استقلالية القضاء حتى عن وزراتي العدل والمالية، كما نصت على ذلك فقرات المادة الثالثة والاربعين، بان جعلت ميزانية القضاء من اختصاص الجمعية الوطنية.
وبموجب المادة الرابعة والاربعين سيتم تشكيل محكمة اتحادية عليا (دستورية) تعمل حصريا على النظر في الدعاوى بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم، وفي دستورية أي قانون صادر عن اية حكومة اتحادية او اقليمية، وفي كل الاحوال يجب ان تتخذ المحكمة قراراتها باغلبية الثلثين، وهو الامر الذي يبين اهمية هذا القرار الذي يفصل في النزاع بين السلطة الاتحادية وسلطة المحافظة او الاقليم.
وتؤسس المادة الخمسين من الباب السابع لهيئة وطنية تعمل على حماية حقوق الانسان، ولها صلاحيات التحقيق في تصرفات السلطات الحكومية التي تجري خلافا للقانون. وهذه تمثل انتقالة متميزة لحماية المواطن العراقي من اي ظلم او استبداد او انتهاك للحقوق.
وفي الباب الثامن، الذي تفرد في مؤسسات الحكم المحلي، تنص المادة الثانية والخمسين بشكل لا لبس فيه على انه "يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية". ولزيادة التأكيد على التحول الى اللامركزية تمنع الفقرة (أ) من المادة الخامسة والخمسين اقالة اي عضو في الحكومة المحلية على يد الحكومة الاتحادية، كما لا يكون اي محافظ، او اي عضو في مجالس المحافظات (او حتى المجالس البلدية والمحلية) خاضعا لسلطة الحكومة الاتحادية، الا قدر تعلق الامر بالصلاحيات الحصرية المبينة في المادة الخامسة والعشرين، او اذا حصل نزاع قانوني بين حكومة المحافظة والحكومة الاتحادية، والذي يجب ان يحل عن طريق المحكمة العليا بموجب المادة الثالثة والاربعين.
وفي المادة السادسة والخمسين تفصيل للصلاحيات الممنوحة لمجالس المحافظات، خصوصا في فرض الضرائب والرسوم، والمبادرة بانشاء المشروعات (الفقرة (أ)). اي ان مجلس المحافظة سيكون له ميزانيته المستقلة المكونة من الواردات الاتحادية (الميزانية العامة التي تقسم على عموم المحافظات) بالإضافة الى الضرائب والرسوم (التي يجب ان تفرض بقانون حسب نص المادة الثامنة عشرة). وفي نفس المادة (الفقرة (ب)) اشارة الى اشاعة اللامركزية في المستويات الأدنى، كمجالس الاقضية والنواحي، والتي يمكن لها ان تعمل على جباية الضرائب والمبادرة بانشاء مشاريع محلية. وسيكون بموجب الفقرة (ج) من هذه المادة على الحكومة الاتحادية ان تتخذ "اجراءات لمنح الادارات المحلية والاقليمية والمحافظات سلطات اضافية وبشكل منهجي". ان نطاق صلاحيات الحكومة المحلية غير محدد الا بالصلاحيات الحصرية للحكومة الفيدرالية، كما نصت على ذلك المادة السابعة والخمسين.
وربما سببت فقرات المادة الثالثة والخمسين بعض الارباك. ففي حين اكدت الفقرة (أ) انه "يعترف بحكومة اقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للاراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 آذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك واربيل والسليمانية وكركوك وديالي ونينوى"، نصت الفقرة (ج) على انه "تبقى حدود المحافظات الثمانية عشرة بدون تبديل خلال المرحلة الانتقالية". وربما ورد احتجاج بان محافظات كردستان كانت ثلاثة فاصبحت ستة بموجب هذا القانون. والواقع ان "الاراضي التي كانت تدار" تعني اجزاءا من المحافظة وليست عموم المحافظة. والاشارة في الفقرة (ج) الى عدم تغيير حدود المحافظات انما قصد به التأكيد على ان الاراضي الواقعة خارج محافظات كردستان الثلاثة ليست ضمن كردستان وانما تدار من قبل "حكومة كردستان"، لاغير.
وتحدد المادة الثامنة والخمسون اجراءات مفصلة لرفع الحيف عن المتضررين من النظام السابق جراء التهجير والترحيل والنفي وتغيير القومية وما شابه. وهي اجراءات لابد منها وان كانت تتطلب وقتا اطول –في واقع الحال- من مدة سريان هذا القانون. غير ان الفقرة (ب) تفترض عدم حصول اجماع من الرئاسة، وبالتالي يصار الى التحكيم او ربما تدخل الامم المتحدة. هذه الفقرة تبدو مبالغا بها، خاصة وانها الاشارة الوحيدة في هذا القانون الى حل معين في حالة عدم اجماع الرئاسة. على كل حال، فان الفقرة (ج) تؤجل النظر في مسالة كركوك الى ان يتم اقرار دستور دائم، وهو امر يبعث على الارتياح ويؤكد ان الفقرة (ب) ليست مصممة لـ(كركوك) خصوصا.
وفي المادة التاسعة والخمسين المفتتحة للباب التاسع، المخصص للمرحلة ما بعد الانتقالية وصفا لكيفية تعامل العراق مع (القوات المتعددة الجنسيات) ضمن الفترة الانتقالية، حيث "ستكون القوات المسلحة العراقية مشاركا رئيسيا في القوة المتعددة الجنسيات العاملة في العراق تحت قيادة موحدة وفقا لقرار مجلس الامن رقم 1511"، ولكن ذلك محدد الى "حين المصادقة على الدستور الدائم وانتخاب حكومة جديدة وفقا لهذا الدستور"، كما ورد في الفقرة (ب). كما تنص الفقرة (ج) على انه "ستكون للحكومة العراقية الانتقالية الصلاحية لعقد الاتفاقيات الدولية الملزمة بخصوص نشاطات القوة المتعددة الجنسيات العاملة في العراق، تحت قيادة موحدة، وطبقا لشروط قرار مجلس الامن التابع للامم المتحدة رقم 1511". والتشديد على ذكر قرار مجلس الامن 1511 في كلتا الفقرتين دلالة على كونه الاساس القانوني لاي اتفاق يجري بين حكومة العراق واية قوات اجنبية عاملة في العراق، وهذا القرار انما وضع لتنظيم وضع العراق تحت الاحتلال، ولن يكون ذي معنى بعد انتخاب حكومة وفقا للدستور الدائم، وتجسيد السيادة والشرعية الكاملة.
ولا اعتقد ان هناك فقرة اشهر من الفقرة (ج) من المادة الحادية والستون، التي تنص على انه "يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر". وقد اعترض الكثيرون على ذلك باعتبار ان هذا يعني ان اقلية من ثلاثة محافظات تستطيع الغاء قرار الاغلبية. والموضوع فيه تأمل. إن رأي ثلاثة محافظات معتبر، بل ورأي محافظة واحدة معتبر. فالقانون الاساسي في المسيرة الديمقراطية هو حق الاغلبية في القرار مع مراعاة حقوق الاقليات. حق الاغلبية مجسد في أن يُـقبل قرارهم إذا صوتوا بالموافقة بنسبة تزيد على 51%، غير ان الاقليات، اذا ارادت ان تعترض على مسودة الدستور الدائم، فعليها التصويت بالرفض بنسبة لا تقل عن 67%. وذلك يعني انه يجب التأني في كتابة الدستور بحيث لا يمنع حقوق جوهرية لاي من الطوائف والاقليات، مما يحفزهم على التصويت -بنسبة عالية- بالرفض. ان الاقلية لها الحق في رفض القرار اذا كان مجحفا، ولكن ذلك لا يعني انهم يملون على الاغلبية ارادتهم.
ان قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، هو (دستور) متميز، رغم بعض الهفوات التي نأمل تجاوزها في (الدستور الدائم)، يهدف الى وضع اسس متينة للديمقراطية، من خلال احترام حقوق الانسان، ومباديء سيادة القانون وفصل السلطات، والمسائلة، واستقلالية القضاء، وإشاعة اللامركزية، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، والعمل الفوري على رفع الظلم عن طائفة واسعة من ابناء هذا الشعب الذي عانى لعقود من الظلم والاستبداد والتعسف، هذا الشعب الذي يستحق العيش بسلام وامن والتمتع برفاهية تتناسب مع امكانات العراق المادية والبشرية.