Saturday, January 22, 2005

نخسر معركة، ام نخسر الحرب؟

بدأ العد التنازلي لاجراء الانتخابات، ووضعت الخطة الامنية، واصبح تأجيل اقامتها اقرب الى المعجزة بحسب تعبير حازم الشعلان، رغم تأكد عدم اشتراك اربعة محافظات فيها بحسب وائل عبد اللطيف. ورغم ان المبدأ الاساس في الانتخابات هو معرفة الناخب بالمرشحين، الا ان الدعاية الانتخابية لم تتعد اعلان ارقام واسماء القوائم مقترنة ببعض الوعود، من العمل على احلال الامن والعدل والمساواة وتوفير الخدمات الاساسية وفرص العمل وما سوى ذلك، دون ادنى تعريف بالمرشحين انفسهم، او بطرق تحقيق الاهداف المعلن عنها.
وعلى نطاق واسع تستعمل تعابير دينية كشعارات سياسية لدعم قائمة ما. فالعفاف، وحفظ الحجاب، وتجديد بيعة الغدير، وحب الامام الحسين (ع).. اصبحت شعارات ودعايات انتخابية، لم يتورع القائمون عليها من استخدامها والتصريح بها في لافتات وملصقات تملأ الشوارع والساحات في مختلف المدن العراقية.
وفي الخارج، يعكف المثقفون الداعمون والمؤيدون للانتخابات على نشر مقالاتهم على الشبكة العالمية (مواقع الانترنت) بكثير من التعصب في بعض الاحيان. وقد وصل الامر ببعضهم حد التحامل على مجمل سكان المحافظات التي لن تستطيع المشاركة في الانتخابات واتهامهم بدعم النظام البائد، وانهم انما يقاطعون الانتخابات لانها ستحرمهم من السلطة التي طالما تمتعوا بها لعقود من الزمن.
وهكذا.. فان اجراء الانتخابات اصبح على مستوى عام بمثابة تحدٍّ لقوى الظلام والارهاب، وان اجراءها يمثل انتصارا باهرا عليها. اليس هؤلاء الارهابيون هم الذين يعترضون عليها؟ الا يقومون بكل ما يستطيعون لمنع اقامتها وتأجيلها من خلال احداث الخرق الامني، والهجوم العشوائي على القوات الامنية العراقية والمدنيين على السواء؟ فان كان ذلك صحيحا، فان الوضع الامني المتردي هو السبب في عدم اقامة، او محدودية اقامة، الانتخابات في اربعة محافظات.. وهذا يعني ان تلك القوى تحقق تقدما، وتكسب جولة. ولما كان النظام الانتخابي لا يسمح بتمثيل تلك المناطق في مرحلة لاحقة، فان الانتصار الذي تحقق لهذه الجماعات لن يعد امرا هينا.
وحتى على فرض تحقيق الامن على يد الحكومة (المنتخبة) في ما يلي من الزمن.. فان مشكلة حرمان بعض المحافظات من التمثيل ستشكل خللا كبيرا، وطعنا في شرعية الانتخابات نتيجة لغياب تلك المحافظات عنها، وستتعمق هوّة الخلاف لدرجة قد يصعب تداركها. مع العلم بان تلك الانتخابات (المنقوصة) سيثمر عنها كتابة الدستور الدائم، وخلال اشهر قليلة سيكون هناك استفتاء على هذا الدستور المقترح، ووفقا لقانون ادارة الدولة المؤقت، فان اي ثلاث محافظات تستطيع نقض الدستور، وعدم القبول به، اذا صوتت باغلبية الثلثين ضده. فان حصل ذلك، وهذا احتمال وارد، فما هو الحل؟
على انه لا توجد ضمانة لمشاركة واسعة حتى في المحافظات الاربعة عشر الاخرى.. ومنها تحديدا بغداد. فان أي خرق امني، ربما يمنع الكثيرين من التصويت.. ففي النهاية لا يعلم اغلب الناخبين لماذا ولمن يصوتون. وعلى هذا السيناريو، تصوروا حكومة تنتخب بمشاركة جزء من الاغلبية، وتغيب عنها الاقلية تماما، وتتهم في كل ساعة وحين انها غير شرعية رغم حصولها على اصوات بعض الناخبين، وفوق ذلك تفشل في الحصول على التأييد على اهم اعمالها: كتابة الدستور الدائم.
ومن جهة اخرى، فان تأجيل الانتخابات يعدّ –لاشك- نصرا للارهابيين، ولكنها ليست الا معركة واحدة.. معركة كغيرها من المعارك الخاسرة التي خاضتها الحكومة المؤقتة.. فقد خسرت معركة توفير الامن الذي راهن عليه الجميع عند استلام السلطة في 30 حزيران 2004. وخسرت معركة توفير الخدمات الاساسية، وخاصة الكهرباء والوقود، وخسرت معركة تثبيت شرعيتها محليا مع توفر كل وسائل الدعم العالمي والاقليمي والعربي الذي اسبغ عليها الشرعية الكاملة.
كما ان تلك الحكومة تعترف بخسارة معركة اقامة الانتخابات في اربعة محافظات، فماذا عليها ان تنصر في معركة الانتخابات العامة، بدون اخذ كل تلك الامور بنظر الاعتبار؟ الجواب لن يكون صعبا.. فالحكومة، التي تقودها الاحزاب المشاركة في الانتخابات، لا تعبأ لكل تلك الخسارات، فالشعب هو الذي يدفع الثمن.. ولكنها غير مستعدة لخسارة معركة واحدة تكون فيها هي التي تدفع الثمن. وهي لم تنظر لهذه المعارك على انها جزء من حرب على الارهاب.. وانما حوادث متفرقة وذات غايات متباينة، والا فان أي عاقل سيقبل خسارة بعض المعارك، على ان يكسب الحرب في النهاية.

Saturday, January 08, 2005

الأحزاب تعزف على وتر الانتخابات.. والأمريكان يرقصون

في الثلاثين من كانون الثاني القادم، سيتوجه الناخبون العراقيون لاختيار ممثليهم في البرلمان، الذي اطلق عليه قانون ادارة الدولة المؤقت تسمية "الجمعية الوطنية"، لكونه جمعية تأسيسية في المقام الاول، تمهد لقيام دولة المؤسسات في العراق. وتجربة الانتخابات هذه ستكون هي الاولى التي تجرى بهذا الحجم في تاريخ الدولة العراقية، والتي ستحدد، بلا شك، مصير الشعب العراقي بشكل يفترض ان يكون ديمقراطيا.
على ان هذه الصورة الوردية لا تخفي صورة اكثر قتامة في المشهد العراقي، الذي يتأرجح بين نار الارهاب الحاضرة، وجنة الديمقراطية الموعودة.. ذلك المشهد من العنف اليومي الذي يهدد مفاصل الدولة المختلفة بدءا من قواتها الامنية، ورموزها الوطنية، مرورا بطاقاتها وكفاءاتها الابداعية والفكرية، وانتهاءا بمواطنيها العاديين، عبر استهدافات عشوائية، لا تحمل من الدلالات اكثر من عرقلة مسيرة البناء والتحرر والنهوض بالامة الى المستوى الخليق بها، كمهد لحضارة عريقة وموطن لاديان سامية.
والمواطن البسيط، في غمرة الحيرة وعدم الاستيعاب لما يجري من احداث في يومه وليلته، يعرب عن امله في المستقبل، ولا يخفي خوفه من الحاضر، وفي احيان قليلة يبدي حنينه الى الماضي. ولا تجد في الجهة المقابلة، والتي تعتمد على هذا اللبنة الاساسية (المواطن)، تلك الجهة التي تشتمل على المؤسسات الحكومية، والحزبية، والدينية، والعشائرية وما سواها، لا تجد لديها اهتماما واضحا بهاجس الشارع، او بتطلعاته وآماله. بل ربما انعزل بعضها في صومعة، ومن ثم نادت بنفسها مخلصة، ومنقذة، وخيارا وطنيا.. واستغرقت في رفع الشعارات دون ان تفعل شيئا ملموسا للبرهنة على صدق النوايا وحسن التوجه.
وقد تكون الانتخابات المقبلة ميدانا لاثبات وجود التيارات السياسية المتعددة التي تعج بها الساحة العراقية، في فترة ما بعد سقوط الطاغية، حيث يكون صندوق الاقتراع حكما في شعبيتها ودرجة قبولها على الصعيد الاجتماعي. الا ان هذه الانتخابات، بالمقابل، قد لا تؤدي الا الى تكريس وجود بعض التجمعات او الاحزاب التي لا تمتلك بعدا جماهيريا، او حضورا شعبيا، كنتيجة لطبيعة النظام الانتخابي الذي يسمح باحتواء اطراف مختلفة ضمن القائمة الواحدة. ولن تكون هناك ضمانة لفوز التنظيم الذي يصوت له الناخب، طالما كان يمنح صوته لكل تلك الاطراف. وقد عبّر احد المرشحين عن خيبة امله حينما جاء تسلسله متأخرا في القائمة بقوله "الذين هم في ذيل القائمة انما يعملون من اجل فوز من هم في اعلاها، دون ان يكون لهم حظ وفير في الفوز"، وذلك بسبب النظام النسبي المتبع في هذه الانتخابات. ان كثيرا من الناخبين سيدلون باصواتهم لصالح قوائم ذات شخصيات متميزة من وجهة نظرهم، مهما يكن تسلسل تلك الشخصيات.
فاذا لم يكن توجه الناخبين نحو الافراد او الشخصيات في القوائم، وانما نحو البرامج الانتخابية للاحزاب التي تحتويها تلك القوائم، فان الصورة لن تكون اكثر اشراقا. انظر الى اللافتات التي تملأ الشوارع وتحمل شعارات تدل على البرامج الانتخابية لاصحابها. فهذا الحزب يؤكد انه سيعمل على توفير فرص العمل في حالة فوزه، وذاك سيكون همّه حلّ مشكلة الكهرباء (المزمنة)، وثالث يركز على توفير الخدمات، وهكذا.. وهم جميعا يتفقون على ان انتخابهم يعني احلال الامن، وانهاء الاحتلال باخراج القوات المتعددة الجنسيات.. وتلك –لعمري- دعاية انتخابية هزيلة، تستخف بعقل الناخب بشكل لا مثيل له. فحريّ بهذا الشعب، الذي يتوفر على طاقات فكرية تبز كثير من الشعوب الاخرى، ان يُخاطب اعلاميا بشكل اكثر وعيا، واقل اسفافا. سيّما وان من يدعي قدرته على احلال الامن، قد اتيحت له الفرصة في الماضي لاثبات ذلك، حيث انه اما كان ضمن مجلس الحكم السابق، او عنصرا في الحكومة الحالية.
اما شعار توفير الخدمات، فهو امر يعتبر بديهيا بالنسبة لاية حكومة، فما الذي يجعل الوعد به دعاية انتخابية؟ هل اصبحت قضايا مثل ازمة الوقود وندرة الكهرباء عصية على الحل الى هذه الدرجة؟ على اننا لا نعلم بلدا اخر في العالم يعاني من ازمات مماثلة، وبهذه الحدة سوى العراق، وما ذلك الا بسبب سوء ادارة الدولة او اهمالها. تلك الدولة التي تشكل الاحزاب المتنافسة في الانتخابات الحالية، ركنها الاساس.. وهي مع ذلك لا تعترف بالتقصير، بل على العكس ترى انها غير مسؤولة عن تلك الازمات، وان الامور لا تحل الا بحكومة (شرعية).. أي منتخبة ديمقراطيا.
وهذا هو كل ما استطاعوا ان يعرفوه عن الديمقراطية، عنوان واحد مستل من بين مجموعة عناوين هي في اصلها مترابطة ومتلاحمة. فالانتخابات هي الحل لمشاكل العراق لان الحكومة المتمخضة عنها ستكون شرعية، ومطلقة اليد، بناءا على ذلك، في التعامل مع جميع القضايا والاحداث بالشكل المناسب. غير ان هناك عناوين اخرى للديمقراطية ليست اقل، ان لم نقل انها اكثر، اهمية من الانتخابات ذاتها. فاين الشفافية الحكومية؟ اين دور مؤسسات المجتمع المدني؟ اين سيادة القانون واستقلاليته؟ واين تفعيل دور الاقليات في البناء الوطني؟ ثم اين دور الاعلام كسلطة رابعة؟ وغير ذلك مما لا يخفى على القاريء اللبيب.
فاما الشفافية، فقد غابت تماما. وحلّ محلها الفساد الاداري كنتيجة حتمية لهذا الغياب. وبات كل صغير وكبير في الدولة او خارجها، يتحدث عن موضوعة الفساد ويؤكد على القضاء على رموزه حال توفر الدليل.. وهكذا اخليت المسؤولية الرسمية، ووضعت على عاتق المواطن، الذي لا يملك حيلة في الامر.
واما مؤسسات المجتمع المدني، فبعضها نقابات احتفظت بجمودها المتوارث، وظلت تلعب دور المساند للسلطة او لبعض احزابها، وبعضها جمعيات انشأت للحصول على التبرعات والمنح لاعضائها اولا، ومن ثم القاء الفتات للمحتاجين، وبعضها منظمات (متخصصة) في بعض المجالات كتعليم الديمقراطية والحث على الانتخابات، وان كان معظم العاملين فيها يجهلون مباديء هذين وغيرهما.
اما العنوان الكبير في الديمقراطية المتمثل بسيادة القانون، فما من شيء اكثر منه غيابا. فالقانون نادرا ما يأخذ مجراه في موارد يكون فيها البلد احوج ما يكون لتطبيقه، كمكافحة الارهاب مثلا. وقد عبّر عن غياب القانون مسؤولون رفيعون في الدولة باعلانهم عدم جواز محاكمة مجرم القرن العشرين، الطاغية صدام، بدعوى عدم شرعية الحكومة الحالية. وعلى هذا الفرض، فما شأن القضاء بذلك؟ الا يفترض ان يكون القضاء مستقلا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ وهل نمتنع عن محاكمة المجرمين اذا لم تكن الحكومة منتخبة؟ على ان الكثيرين يعتقدون ان هذا هو احد اسباب الانفلات الامني الرئيسة، فمن امن العقاب...
والحديث عن الاعلام، ودوره الريادي، قد لا يوافق عليه البعض. اذ ان الظاهر ان الحرية التي بدأ العراقيون يتمتعون بها تجلت باوضح صورها في حرية الاعلام. لكن ذلك ليس الا وهما وخداعا. فالاعلام في حقيقة الامر علاقة ثنائية، لا تتم فقط بالتعبير عن هموم وتطلعات الشارع، وانما بالاستجابة لهذه الطروحات من جانب السلطة، والاصغاء اليها بجدية واهتمام بالغين. فهل هذا هو الحال اليوم؟ الاعلاميون يتحدثون من منابرهم حول كل شيء دون خوف من مساءلة او ملاحقة، لكن بعضهم يشعر انه انما يتحول الى اداة للاستهلاك المحلي، لا غير.
ويبقى موضوع اهمال دور الاقليات اكثر المواضيع حساسية في الوقت الراهن، تجسد ذلك مسألة المشاركة في الانتخابات. فمن الناحية النظرية تعد نتائج الانتخابات مقبولة مهما تكن نسبة المشاركة، وليس هناك اشتراط لتوفر ممثلين لكافة شرائح المجتمع العراقي في الجمعية الوطنية، لا على مستوى المحافظات ولا على مستوى الطوائف. وبينما يؤكد ممثلو الطائفة الشيعية، التي تشكل الاغلبية كما هو معروف، على اجراء تلك الانتخابات، فان الكثيرين من الطائفة الكبيرة الاخرى، وهي الطائفة السنية، بات بحكم المؤكد عدم قدرتها على المشاركة فيها.. اما بسب الخلل الامني، او للتخوف من النتائج التي ربما ستؤدي الى تهميش دورها السياسي، كونها اقلية لا تؤثر في اتخاذ القرار. وكثيرا ما تلاقى محاولات تهدئة الخواطر ومدّ الجسور للتقريب بين هاتين الفئتين بالرفض المطلق. اذ ان معظم تلك المحاولات يقتضي تأجيل الانتخابات لسقف زمني محدد، او تعديل القانون الانتخابي. والحجة في هذا الرفض حاضرة دائما، اذ لا يمكن تغيير الدستور الذي حدد الموعد للانتخابات، ولا القانون الانتخابي الذي سنّ قبل تشكيل المفوضية (من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة)، و لا احد يمتلك صلاحية تغييره. فوا عجبا، اذ يُقدس القانون في مورد الانتخابات وان وضعه اجنبي، وينحى جانبا في مورد محاكمة المجرمين، وان كان عراقيا صرفا!! على ان الاخذ بالاقتراحات حول الانتخابات يعني تفويت الفرصة على العناصر المتحكمة في مجمل العملية الانتخابية في الوقت الحاضر، وهي الاحزاب التي شاركت في مجلس الحكم، خشية ظهور عناصر اخرى تنافسها وتحمل طروحات جديدة اقرب الى نبض الشارع، فتهوي بهم الى قاع سحيق لا مخرج منه. ولا يزال في المعادلة طرف اخر يدفع لاجراء االانتخابات باي ثمن، ذلك الطرف هو السلطة غير الرسمية للقوات المتعددة الجنسيات وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تريد ان تثبت صواب مشروعها في العراق، وانها انما تبني ديمقراطية في البلد (كنموذج يحتذى) بروباغانديا على الاقل. وهكذا اصبحت الانتخابات قيثارة تعزف على وترها الاحزاب، ويرقص على انغامها الامريكان، بينما الشعب العراقي يتفرج!!
ان ما نريده هو عملية مدروسة لاحلال الديمقراطية، من خلال تطبيق جميع مفرداتها المتبعة في الانظمة العالمية الراقية، وصولا الى نظام حكم متوازن، شفاف، مسؤول، وتمثيلي. وآخر ما نتمناه ان تستخدم بعض هذه المفردات من اجل تكريس الواقع و(تشريع) الاستيلاء على السلطة من قبل فئات بعينها، وان كلف الامر حربا اهلية لا يعلم الا الله مقدار خطرها.

Sunday, January 02, 2005

هل ان العراق وفلسطين حالة واحدة؟

كثرت في الآونة الأخيرة مقارنة القضية الفلسطينية بـ( القضية العراقية)، وظهر منظرون كثيرون تصدوا لبيان اوجه الشبه بينهما، وعناصر الترابط التي تقود الى مخطط عام يشمل ما هو اوسع من العراق وفلسطين، ولتصبح القضية قضية العرب، والإسلام.. ولشرح نظريات محكمة عن معسكرين متنافسين في حالة مواجهة مصيرية، خصوصا اذا تم ادراج القضية (الأفغانية) ضمن الصورة.
ولا شك ان هناك بعضا من التشابه بين واقعي العراق وفلسطين، وبشكل رئيسي في لغة العنف والسلاح غير المنضبط او المسيطر عليه، وان كان الكثيرون يعتقدون ان كلا من هاتين القضيتين تغذى وتدفع بتدخلات خارجية، قد تكون هي نفسها في الحالتين. وحتى نضع الأمور في سياقها الصحيح فان موضوعة الاحتلال التي تمثل عمق المأساة في الحالة الفلسطينية يجب ان لا تقارن بأي شكل بحالة (الاحتلال) الطارئة في الواقع العراقي. فـ(اسرائيل) تخالف بشكل مستمر قرارات الشرعية الدولية وترفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية بشتى الذرائع والحجج، بينما اصدرت نفس تلك الشرعية الدولية قرارات ملزمة لتأطير حالة الاحتلال في العراق وجدولتها زمنيا، وبالتالي فان مفهوم المقاومة المسلحة يكتسب شرعية قانونية وأخلاقية في حالة فلسطين، بينما يدعو الى التساؤل عن الغاية الحقيقة منها في الحالة العراقية. ذلك ان كل ما تؤدي اليه الأعمال المسلحة في العراق هو اطالة امد الاحتلال بدلا من انهائه. اذ لا يستطيع عاقل ان يطلب من القوات الأمريكية والمتحالفة معها الخروج من العراق اليوم او غدا، بسبب النتائج الوخيمة لهذا الانسحاب واحتمال حدوث حرب اهلية ونزاع مرير على السلطة، خصوصا مع تواجد هذا الكم الهائل من المليشيات المسلحة والأسلحة والذخائر الحربية المنتشرة في ارجاء العراق، والتي لا تخضع بأي شكل الى الحكومة المركزية، ان لم تكن موجهة ضدها اصلا.
والغريب ان (اسرائيل) تتعرض للنقد اللاذع والمستمر لقرارها الانسحاب من جزء من الأراضي المحتلة، وهو قطاع غزة، بسبب عزمها على هذا الانسحاب من طرف واحد، أي بدون اجراء أي ترتيبات او مفاوضات مع الجانب الفلسطيني.. بينما يراد للقوات الأمريكية ان تنسحب فورا من العراق حسب اجندة (المقاومة العراقية)!
ان التدخل الخارجي كان واحدا من اهم اسباب تعقيد القضية الفلسطينية، خصوصا بعد قيام السلطة الفلسطينية. فقد ادى دعم الفصائل المسلحة الى اضعاف تلك السلطة، وفقدانها التوازن احيانا في التعامل مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. فاللغة التي يتكلم بها السلاح هي لغة الغوغاء، وهي لا تحتكم الى منطق ولا يردعها رادع. فإذا كانت تلك الأطراف الخارجية قد نجحت في توجيه الأنظار الى خارج بلدانها وصرف مواطنيها عن مسائلتها.. فان نفس تلك الأطراف تسعى اليوم الى تعزيز تلك التوجهات من خلال خلق (القضية العراقية)، والتي اصبحت تمثل بالنسبة لها منفذا للتنفيس السياسي لمواطنيها المحرومين، والمُضللين على حد سواء. وصار العراق ساحة لتصفية الحسابات واستعراض القوى، وميدانا لحرق المعارضة الداخلية، تحت شعارات القضية الكبرى، وحروب المصير وما شابه.
ومن ناحية اخرى فان المشروع الديمقراطي في العراق لابد ان يكون مصدر ازعاج لدول الحزب الواحد والقائد الضرورة المحيطة بالعراق. تلك التي قهرت شعوبها لعقود من الزمن وعملت على استنزاف مقدراته في خدمة مصالحها الذاتية.. بل ربما انفقت تلك المقدرات، على شحتها احيانا، في دعم (قضية) هذا البلد او ذاك، تحت شعارات المصير المشترك.
في بداية الثمانينيات، خضت مناقشة مع طالب فلسطيني زميل لي في الجامعة، وكان يطالب العرب بدعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب المركزية، وان حلّ هذه القضية يقع على عاتق العرب عموما، نظرا لظلم الاحتلال الإسرائيلي وكوارثه والجرائم التي تحلّ بالشعب الفلسطيني نتيجة هذا الاحتلال. وقد تعاطفت معه وأيدته في طرحه بشأن العمل العربي المشترك. وقلت له: ان البلدان العربية، وان لم تكن مُحتلة من قوى خارجية، الا انها تواجه احيانا ظلما على يد حكامها قد يفوق ما يتعرض له الشعب الفلسطيني.. فأجاب على الفور: هذا شأن داخلي، ولا شأن لنا به!
ان هذا الرأي المُصرّح به من طالب جامعي انما هو رأي كل مسؤول عربي في ذلك الوقت، واعتقد انه لا يزال، بشيء من التحفظ. فأن يتعرض الشعب العربي في هذا البلد او ذاك الى القهر على يد حكامه فهو امر داخلي، ولا شأن للبلدان العربية به، بخلاف ما قد يواجه بلد عربي ما من قوى اجنبية. ولكن هل هذا هو رأي الشعوب العربية؟ هل سأل احد معتقلا أيُّ السياط اشدُّ عليك، سياط بلدك، ام سياط المحتلين؟
ولكن الحكام العرب تواطؤا على تعريفات محددة، لأنهم جميعا كانوا يستفيدون منها، ولم يكلفوا انفسهم عناء سؤال شعوبهم.. ومع مرور الزمن اصبحت التعريفات بديهيات تدرس للشعب نصف الجاهل، ثم غزت افكار التطرف تلك الشعوب المُتعبة، لتنقل الواقع المزري الى احلام طوباوية، والوعد ببديل سماوي عن العذاب الأرضي، ولن يكون هناك فرق عند التضحية بالنفس، طالما كانت هذه التضحية طريقا الى الخلود. ونظرت بعض القيادات العربية الى مثل هذه الأفكار بعين الرضا، بل وقدمت لها التسهيلات والدعم.. طالما كان نتائج اعمالها على المدى المنظور ستكون خارج الحدود، وتأخذ العناصر المرشحة للثورة عليها الى محرقة بعيدة، فتضرب عصفورين بحجر.
لقد قال صدام يوما: "العراق وفلسطين حالة واحدة"، وأصبح هذا القول شعارا فيما بعد، وترتبت عليه نتائج يعرفها العراقيون. ولكي يكون العراق وفلسطين حالة واحدة، يجب ان يكون العراق ومصر حالة واحدة، والكويت وسوريا حالة واحدة.. الخ. لا يمكن تجزئة الحالات بداعي الهجمة الأجنبية، فالموت والتعذيب والقهر والحرمان والامتهان واحد في فهم الشعوب، لا فرق عن أي جهة صدر.