Wednesday, October 31, 2007

التطويع السياسي للاسطورة المدنية

حينما تطلع بنو الانسان القدماء الى السماء وجدوا عددا كبيرا من النجوم التي تتفاوت في شدة لمعانها تدور، في تراتبية زمنية سنوية لا تتغير، حول الارض كما بدا لهم. ولما كانت طبيعة البشر التساؤل، فقد افترضوا ان ذلك كله لابد ان يكون له معنى. ولم تكن لديهم اجهزة او مناظير تقرب لهم الكون الفسيح، فقاموا بتجميع النجوم في ابراج ومجاميع سموها اسماء مختلفة واعطوا لكل منها قصة، اضحت فيما يلي اسطورة توضح الغاية والمعنى من وجود المجوعات النجمية، وقبلها وجود النجوم في السماء، وسبب حركة الكواكب نسبة الى النجوم الثابتة. لقد كانت الاسطورة التي ترويها مجموعة المرأة المسلسلة مثلا حقيقة بالنسبة للناس بنفس القدر الذي تكون فيه النجوم ذاتها حقيقية. لم تكن مجرد اسطورة، بل كانت تفسيرا لظاهرة ومشاهدة لم تتوافر لهم طرق قياس علمية قادرة على رصدها.
غير ان الاسطورة ليست متعلقة فقط في امور نجهلها في السماء، بل انها تمتد لتشمل كل ما نجهل، وكل ما يخرج عن حدود علمنا المحسوس او النظري. بل انها تسشتري حتى مع وجود افكار تنظيرية ومحاولات فلسفية لايجاد تفسيرات علمية. فليس العلم المجرد الا ترفا للانسان العادي، وحتى العلم التجريبي بادواته متفاوتة التعقيد ليس الا ميدانا يخوض فيه القلة الذين عليهم ان يشرحوا بابسط العبارات نتائج عملهم، والاكثر اهمية معنى الظاهرة تحت التجربة، والتطبيقات المفيدة لها او كيفية تجنب مساوئها. وربما يلجأ بعض العلماء الى الميثولوجيا في محاولة شرح ظاهرة ما تعزيزا لوجهة نظر او اسنادا لفكرة. فالميثولوجيا التي تضم اساطير قديمة ليست الا تلخيصا لرغبات ومخاوف البشر، ومحاولات اولية لفهم ما يجري ضمن اطار ادراكي موحد.

الاسطورة مخزن الافكار
يمكن قبول فكرة ان الاساطير هي البديل العملي لغياب التفسير العلمي بشكل مبدئي. ولكن يتوجب الحذر في اطلاق مثل هذه الاحكام. ففي العديد من الاحوال تكون القصة الاسطورية موجهة لخدمة غرض سياسي او ديني او حتى اجتماعي. والسبب في ذلك يعود الى قدرة ورغبة البشر على حفظ ونقل وتبادل الاخبار غير المألوفة على وجه الخصوص. والحديث ان امور غيبية تحدث لابطال ضخام الحجم، واكسير الحياة، والرحلات الى عالم غير معروف، وغير ذلك تنقل الفكر البشري الى مستوى مختلف من الوعي، المستوى الذي يحول الواقع المفروض الى خيال مرغوب، ويمنح الافكار التربة الخصبة لتنمو، فمنها مبدع وفاتن وجذاب ومشوق، ومنها ما لايعدو ان يكون مجرد هلوسات. سوف تقوم الخبرة الجمعية بتمييز الغث من السمين، ولن تتناقل الاجيال –اذا تركت لوحدها بدون نتدخل خارجي– الا تلك القصص المحببة التي تشرح وتبين الاسباب الكامنة وراء الاشياء، وتثبت من العبرة التي تحملها انها افضل وسيلة اتيحت للبشر خلال الفترة السابقة لعصور التنوير للتعليم ونقل المعرفة.
وعلى هذا فان الاسطورة تمثل جزءا من كيان الانسان وتراثه، ولن يكون التفسير العلمي لوحده قادرا على منع الايمان بها. بل ان الاسطورة يمكن لها ان تتغلغل في صلب النظرية العلمية لتملأ الفراغات التي لم تستطع النظرية ان تشرحها، او تركتها لحين توفر معلومات اكثر حول الموضوع. الاسطورة مثل الاعشاب التي تنمو لوحدها في اي مكان تقريبا، وتحت اي ظروف. لكن بعضا من هذه الاعشاب مفيد. ومتى ما كان تدخل الانسان واردا، فانه يحاول ان يحد من العشب الضار ويزيد من العشب النافع. وقد وجدت التجربة الانسانية ان هناك طريقة ناجعة في حمل الناس على الايمان بمبدأ او مثال اعلى من خلال تسطيره وتلقينه عبر الاجيال. تلك الاساطير، حتى في عصر غزو الفضاء وشبكة المعلومات الدولية، ليست الا حكمة موجهة تنذر وتحذر من عواقب تصرف خاطيء، او تحث وتبشر بمردود تصرف صائب. ومعلوم ان الخطأ والصواب هنا انما تكتسب معناها من ممارسة المجتمع لها، ومقدار المنفعة او المضرة العامة التي تنجم عنهما. وليس معنى ذلك ان الخير والشر نسبيان، بل ان النفع والضرر هما اللذان ينسبان الى المكان والزمان.
وقبل ان نحاول سبر التأثير السياسي على الاسطورة، سنعرض فيما يلي الى مجموعة من الاساطير الحديثة، التي يطلق عليها ايضا مصطلح الاساطير المدنية Civil Legends ونحاول ان نتفهم الغاية منها والدرس والحكمة التي تحاول ان تطلقها:

السائق الساذج
استأجرت امراة حامل على وشك الولادة سيارة اجرة لايصالها الى مستشفى الولادة. ولانها وحيدة ترجوه ان يرافقها في المستشفى لحين الوضع، ويقبل السائق ان يقدم المساعدة مدفوعا بالشفقة عليها وحبا في فعل الخير. غير ان المرأة تصرح ان والد ابنها المولود حديثا هو الرجل الذي رافقها عند دخولها المستشفى. وتثور ثائرة الرجل الذي يأبى ان يفرض عليه ابنا بهذه الطريقة، فتقوم المرأة بتقديم شكوى الى المحكمة، التي تأمر بفحص خصوبة الرجل. وهنا يأتي الجزء الاكثر تشويقا، وهو ان نتائج الفحص تؤكد ان الرجل عقيم ولا يمكن ان يكون له اولاد. ان ذلك كاف لاثبات برءاته من دعوى المرأة، ولكنه سوف يفتح ابوابا ما كان لها ان تفتح ابدا، فالرجل متزوج وله اولاد وبنات. يحمل الرجل الخبر الذي برأه ليلقيه على زوجته كالصاعقة، والتي لا تجد مناصا من الاعتراف بانه ليس والد ايا من ابنائه.
هذه القصة الاسطورية محبوكة لتنقل لنا العديد من القيم، نوجزها فيما يلي:
1- لايمكنك ان تخبيء سر الى الابد، سيظهر شيء ما في وقت ما يفضحك.
2- لا تثق بالنساء، فالتي تريد مساعدتها قد تفتري عليك، والتي تعيش معها قد تخونك.
3- لا تكن طيبا الى درجة السذاجة، اذا كانت المرأة حاملا مـُقربا فلابد ان هناك من يرافقها سواك.
4- يمكن لحادثة واحدة ان تغير حياتك بشكل ملحمي، بحيث تتمنى لو لم تحدث ابدا. ربما عليك ان ترفض فحص الخصوبة اذا كانت ابا بالفعل، الا ترى نتيجة ذلك؟

الشرطي المتفاني
يمر الناس الواحد تلو الاخر في طريقهم الى الدخول الى المبنى الحكومي المحصن عبر بوابة ضيقة يشرف عليها شرطي يقوم بتفتيش الوافدين بيده. وبينما هو يتفحص احدهم يتعرف الى ملامح حزام ناسف يحمله ذلك الشخص، وبينما يحاول ان ينزع هذا السلاح الرهيب يسارع الانتحاري الى اطلاق الصاعق، فما يكون من الشرطي الا ان يحتضنه ويرمي به ونفسه جانبا ليموت واياه مقللا الخسائر، ان لم يكن بالامكان منعها اصلا.
جوهر القصة ينطوي على المعاني التالية:
1- الانتحاري سلاح لا يمكن تجنبه وان أمكن كشفه.
2- الشرطة متفانون لدرجة التضحية بالنفس ان استوجبت الضرورة.
3- الارهابيون يسبقون القوى الامنية بخطوة واحدة على الاقل تتمثل في استغلالهم للانتحاريين الذين ليس لديهم شيء يخسروه.

البقال اليهودي
جلس البقالون في سوق الخضار متعجبين من تزاحم المتبضعين حول محل البقال اليهودي الذي يبيع الطماطم. ورغم انهم يعرضون نفس النوع وبذات الجودة الا انهم لا يكادون يبيعون شيئا منها. وحينما استطلعوا الامر وجدوا ان البقال اليهودي كان يبيع الطماطم بسعر التكلفة، مما اثار تساؤلات عن الغاية من ذلك، ولماذا يقوم هذا الرجل ببذل جهده في التجهيز والعرض والوزن والبيع ليجد نفسه غير رابح لشيء في النهاية. وفي آخر النهار قرروا ان يواجهوه باسئلتهم ليفهموا ما يجري وكيف لهم ان يتصرفوا ازاء ذلك. وبالفعل توجه نفر منهم عندما اقترب مغيب الشمس ليسألوه عن سبب بيعه المحصول بلا ربح، فاجاب ببساطة: من قال اني لا اربح؟ قالوا: كيف لك ان تربح وانت تبيع بسعر التكلفة؟ قال: الامر بسيط، انا اربح من بيع الصناديق الفارغة! وطالما انه يبيع اكثر من غيره، لانه يبيع ارخص من غيره، فان عدد الصناديق الفارغة سيكون كبيرا وبالتالي سيكون الربح وفيرا.
هذه القصة، التي تحكي عن عصر مميز من التنوع العرقي والديني في العراق، ربما تضمنت الاهداف التالية:
1- قد لا يكون الربح دائما بحسابات تقليدية، عليك ان تكون خلاقا في ايجاد وسائل للتنافس الاقتصادي.
2- الشخص الذكي شخص مختلف، يهودي في هذه الحالة.
3- كما ان الشخص الذكي قد يكون مكروها، رغم الحاجة اليه، تمثلها الكراهة التقليدية لليهود.

هذه ثلاثة اساطير تمثل ثلاثة خطوط: اجتماعي، وسياسي-امني، واقتصادي. ونحن نستطيع ان نجد من تلك القصص امورا مشتركة، نوردها فيما يلي:
1- تشكل الاسطورة الملحمية العنصر الاساس فيها، حيث لا يتوجب تقديم دليل ما على صحة ما ورد فيها.
2- هناك عبرة مستخلصة، تفوق الحبكة الدرامية للقصة، تجعلها محط التركيز والاهتمام، وبما يفوت الفرصة على النقد وحتى التشكيك في امكانية وقوع الحدث بالشكل المروي.
3- انكار وقوع مثل هذه الاحداث لا يغير من الامر شيئا. يمكن دائما تصور وقوعها ولو على سبيل الفرض، وبالتالي فافتراض صحة وقوعها يطغى على ما سواه، ومن ثم تكون غاية الرواية اولى بالاعتبار.

من الاسطورة الى الامثال الشعبيةان هذه العناصر تشكل معنى الاسطورة وروحها، وتمثل دروسا توجيهية للمجتمع، بمختلف مراحله العمرية، وتمايزاته الاقتصادية، وتنوعه الثقافي وحتى الاثني. هذه الاساطير تمثل احد تجارب المجتمع التراكمية التي تتحول بتقادم الزمن الى امثال تـُقال، ثم تـُشرح فيما يلي بالقصة التي بسببها قيلت. فمثلا يمكن ان يضرب المثل بسائق سيارة الاجرة (ولنطلق عليه اسما ما مثل كريم) فيقال، بعد عقود من السنين: "اكثر سذاجة من كريم السائق"، وعن زوجته: "أخون من زوجة كريم السائق". وربما يذهب الشرطي الشهيد مثلا بالقول: "أشجع من شرطي التفتيش"، واليهودي في الذكاء: "اذكى من اليهودي البقال".

من الاشاعة الى الاسطورةان الاسطورة المدنية تمثل حاجة اجتماعية ووسيلة تعليمية غير مؤذية عموما، ما لم تستخدم بشكل واع ومتعمد لاثارة مخاوف وهواجس الناس، بغية السيطرة عليهم وتوجيههم بالطريقة التي يراها مروجوها، سواء كانت السلطة الحاكمة او احزاب او تنظيمات سياسية معينة تسعى للهيمنة على المجتمع في سعيها لتولي السلطة. وهي بذلك تتحول الى ما نطلق عليه الاشاعة، وتضيع القيمة التعليمية والخلاصة المعنوية لصالح اهداف مرحلية وغايات سياسية لا تعيش اكثر من عمر اصحابها. وربما تدوم القصص الموجهة سياسيا اكثر من ذلك بسبب تركزها في عقول الناس وبالتالي تتحول الى اداة سلبية تحبط من العزم، وتثبط الهمم، وتشيع جوا من السوادوية والكآبة والشعور بالذنب والرغبة في جلد الذات، او حتى عقدة النقص الجمعية وتقديس تفوق الاخر كنتيجة لذلك.
هذا الخطر الذي تنطوي عليه مثل هذه الاشاعات التي تتحول الى اساطير مدنية سلبية لا يقل باي حال عن منع التعليم عن الاطفال في المدارس، فهو اضافة الى ذلك، اشاعة للجهل لدى الراشدين كذلك. وفي مجتمع قابل للخضوع بسهولة لمثل هذه الاساطير تكون مسؤولية التنوير ورفع الوعي العام كبيرة من قبل اجهزة الدولة (المبنية ديمقراطيا)، ولكن بنفس الدرجة ايضا على المثقفين والمبدعين ووسائل الاعلام. ونحن نجد ان قسما كبيرا من هذه الفئات اليوم يؤمن بنظرية المؤامرة، التي هي ليست الا انعكاس اخر لاسطورة سلبية لا يمكن التحقق منها ومع ذلك توصل غاية تعليمية مفادها ان الآخر عدو مهما فعل ومهما بذل في سبيل التقرب الينا. وعلى هذا فان مسؤولية المثقف يجب ان تكون نقدية قبل ان تكون (ترديدية)، بمعنى ان الواجب، في ضوء ما تقدم اعلاه، ان نفحص القصص المتواردة، خصوصا الاقرب الينا تاريخا، لنسبر الغاية منها، ونتعرف على اتجهاها العام، وفيما اذا كانت مجرد تجربة اجتماعية تتطور الى اسطورة ومن ثم حكمة ملخصة بلاغيا على شكل مثل او قول ماثور، ام انها وضعت عن عمد متخطية السلسلة الثقافية الطبيعية للمجتمع، ومن ثم تـُسير سياسيا للسيطرة على هذه السلسلة ذاتها واخضاع المجتمع لتوجهات محددة تفرضها قوى داخلية او خارجية او مشتركة بينهما، تعمل على خفض مستوى الادراك والتقليل من حجم المعارضة المحتملة من خلال تغييب الوعي العام. هذه المسؤولية ينبغي ان تكون ذاتية اولا قبل ان تكون تضامنية او تكافؤية. ومع اعتبار الكل منفعلا، فلابد من وجود اجزاء غير منفعلة تماما، تكون لها القدرة على ان تكون فاعلة مقابل اجزاء اخرى قدّر لها ان تكون فاعلة دوما.