ليس بعيدا عن مبنى العيادة الشعبية، الذي شهد اعنف هجوم دموي في مدينة الحلة، وقبل ان تصل محطة تعبئة الوقود القديمة التي يتدافع فيها الناس للحصول على قنينة غاز، وعلى ضفاف شط الحلة حيث ينتصب جسر حديدي ذو اتجاه واحد، بينما تتكدس النفايات وينمو البردي بين جانبيه، يقع مجمع الاطباء.. مجموعة من البنايات ذات الطابق الواحد او الطابقين او الثلاثة طوابق، التي بنيت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تحجز خلفها بيوتا خربة تعود الى قرن مضى تحولت الى مشاف، ولكن تنتصب بينها بناية واحدة حديثة جرى انشاؤها في السنوات الاخيرة. بنايات ليس بينها اي تناسق معماري، كما تخلو من اية اشارة الى طبيعة المكان سوى لافتات عشوائية للاطباء والصيادلة والمختبرات الطبية، وما سواها.
ان لم يسعفك الحظ في الحصول على موقف لسيارتك في المرآئب القريبة، يتوجب عليك البحث بين الازقة والشوارع القريبة عن موقف، ومع ذلك فستضطر لدفع الاجرة عن ذلك الموقف. لقد تحولت جميع الشوارع والازقة في هذا المكان الضيق الى مواقف للسيارت مقابل ثمن. فهنا تنتهي الطرق بحواجز كونكريتية كئيبة، ونقاط تفتيش تبعث بعض الثقة بعدم تكرار الهجمات في تلك المنطقة التي تعج بالباعة المتجولين والمراجعين من المرضى وذويهم، الذين يحثون الخطى بحثا عن الحكيم الذي يشفي عللهم وسط مطاعم (الكص) و(بسطيات) الفاكهة التي تحتل الارصفة. تتزاحم الاكتاف بينما تجول العيون بين اللافتات المتدلية عسى ان تجد ضالتها من دون ان تضطر للسؤال. واخيرا، حينما يسقط بيديك لاتجد مفرا من استعلام البوابين الذين اتخذوا من بوابات العمارات الضيقة مقعدا يستشرف المارين وهم ينادون، كما في سوق الخضراوات: الدكتور فلان جلدية، والدكتورة فلانة نسائية.. اطفال.. مختبر فوري.. الخ. يبادرك البواب بالجواب عن سؤالك الخجول، الطبيب الذي تبحث عنه في العمارة المجاورة. تدلف الى العمارة المظلمة حتى في وضح النهار، لتجد بوابا يبيعك التذكرة ويخبرك متى ينبغي عليك المجيء. اذا كنت من سكنة المدينة فربما تفضل العودة بعد ساعات، وان لم تكن فعليك الانتظار في عيادة الطبيب.
حينما تدخل عيادة لطبيب ما، فقد لا تفاجئك الارائك التي يبدو انها جاءت منحة مجانية من مقهى قديم، ولا الستائر البالية التي لم تغسل منذ ان علقت اول مرة. لن تفاجأ بالاسلاك المتدلية على الجدران تتمايل مع لحن: الوطنية.. المولدة.. الخط الثاني. المفاجأة ربما ستكون في عدم وجود موضع لجلوسك وسط الزحام، وعنصر المفاجأة ان تسلسل تذكرتك قد يكون ثلاثون او اربعون ولكن المقاعد لا تزيد على عشرة! لكنك بعد ان تقف برهة من الزمن سوف تحصل على مقعد لمريضك وان كنت محظوظا جلست انت ايضا بعد مرور الدقائق الثقال. لن تجد محيصا عن ان تجول بناظريك في المكان بينما يعتاد أنفك على الروائح المختلفة التي تنذر بالمرض. في عيادة نموذجية تجد في احد الاركان مبردة هواء كبيرة تدوّر الهواء داخل غرفة الانتظار فتجعله اكثر رطوبة، هذا ان كانت تعمل على اية حال. وترى بعض الملصقات الطبية الحزينة التي تتحدث عن فوائد النظافة مثلا، بينما يشكو الجدار خلفها من غبار تجمع على مدى السنين حتى عاد لوناً آخر. وحينما تصل بك عيناك جهة باب غرفة الكشف، لن تخطئ طبعات الحناء حولها وعليها، أكفاً رُسمت بلون بني قاتم وقد استطالت الاصابع او تكورت، فتتذكر فيلم رعب ويتراءى لك شخصا يترنح وهو يمسح بالحائط الدم التي تضرج به، سوى ان الدم المقزز، مع ذلك، الطف لونا. لن تجد عادة موضعا للمرافق الصحية، فهذا ترف لا يليق بالمرضى. وان كنت مضطرا لقضاء الحاجة فتلك مشكلتك.
في غمرة تأملاتك، تنتبه لصوت الممرض ينادي الناس بأرقامهم، تتطلع الى تذكرتك، انه رقمي، تهب واقفا، تسمعه يقول لك "هل كنت نائما؟"، تعجب من القول، فهل هذه غرفة فندق خمس نجوم يحلو للمرء ان ينام فيها، لكنك تفضل ان لا تدخل في مجادلة لن تكسبها في اية حال.
تدخل غرفة الطبيب، تتغاضى عن الستارة الرثة، والكرسي الابيض الذي صار رماديا، ومنظر الغرفة العام الكئيب، لانك ما جئت الا لألم انهك جسدك، تشكوه للحكيم، عسى ان تجد على يديه شفاء عاجلا. يدعوك للجلوس بينما تسترسل في وصف حالتك، يطلب منك ان تسلم جسدك للسرير، تروح سماعته الطبية تجول في انحاء صدرك مداعبة وموادعة بينما تحدثك نفسك ان هذا اول الغيث. تعود للجلوس بينما تلمح قلم الطبيب مسرعا على الوصفة. تشكره وتنصرف.
ان كنت محظوظا فلن يطلب منك الطبيب تحليلا مختبريا، او اشعة، او سوناراً. وان لم تكن فسوف تعود لنفس المشاهد تمتع بها ناظريك من جديد. على كل حال، لا تخلو الوصفة من حقنة، وعليك ان تعود لزرقها لدى الممرض الذي وصفك بالنائم. يضعك خلف الستارة غير الساترة، ويخلع عنك بنطالك، ويغزو عليك حرمتك، وانت ساكت وراض، فليس اشد على الاحتمال من الالم المضني.
تخرج من المكان مسرعا قاصدا سيارتك، راجيا ان يكون ذلك اخر العهد به. هيهات. سوف تعود، وسوف تنفق هنا مالك ذليلا، تحت وطأة المرض الذي لن ينفك يعاود زيارتك، والذي يجبرك والالاف غيرك على الذهاب هناك حيث لن يرضى احد ان يذهب طوعا.