Monday, December 27, 2004

صلاحية النظرية التأمرية.. الايمان اول اثبات

هل تستطيع نظرية واحدة اثبات كل شيء؟ هل يمكن تفسير الكون بقانون فيزيائي واحد؟ تلك مسائل شغلت الفلسفة والعلم قرونا، وعمل عليها العديد من العباقرة عبر قرون التطور الفكري البشري. ولا تزال الاجابة غامضة، وغير كاملة، وغير مفهومة. ولا تزال هذه الاسئلة محل بحث.
اذاً كيف يمكن ترتيب النظريات، باعتبارها تفسيرات لظواهر معينة، بحيث تتساوق منطقيا؟ وهل يمكن استبعاد اية نظرية فقط لاننا لا نحبها؟ بالمقابل هل يجب اعتماد النظريات التي تعجبنا كاولوية اولى؟ بالطبع توقع النتائج هو ما يرجح نظرية على اخرى.
غير ان النظرية الشاملة، او التي تقترب من الشمولية، تستطيع في كل الاحوال توقع نتائج محددة. فلن يكون العرّاف محط اعجاب كثير اذا توقع ان تكون نصف المواليد للفترة القادمة من الذكور. لكنه سينال الكثير من التكريم اذا توقع ان يرزق الملك وريثا للعرش. فهل تقطع رقبته اذا جاء الخبر بانثى؟ سيجد تفسيرا، ولن ينال تكريما.
والتفسير لظاهرة ما ليس تكهنا، او رجما بالغيب. لكنه دائما يبدأ بهاجس. فما الذي يحمل على توقع نتيجة معينة غير الشعور، غير المفسر، بان هناك تسلسلا للاحداث يفضي في عقل الباحث الى مثل هذه النتيجة. ان العقل البشري يتفوق على نفسه في تجليات للعبقرية عبر مراحل زمنية متفاوتة. هذا التفوق ليس في نمط التفكير، وانما في توجيه التفكير نفسه. ان اعتبار ان للضوء وزنا، هو امر مفرط في الخيال بدرجة لا تحتمل التصديق.
هل يستطيع جميع البشر استيعاب فكرة ما؟ لا معنى للسؤال، فالاستيعاب، امر لا يعني الجميع. لنعد صياغة السؤال، هل يستطيع جميع البشر تقبل فكرة ما؟ ليس لديهم الخيار في ذلك. اما لانهم لا يستطيعون اثبات العكس، او لانهم، مرة اخرى، غير معنيين. النتائج وحدها هي التي تعني معظم بني الانسان.. فهل علينا ان نفهم النظرية النسبية لنرى تأثير القنبلة الذرية؟ الجميع يعتقد انها صحيحة بالقدر الكافي، فقط لانها ذات نتائج ملموسة.
لست هنا بصدد البحث في الفيزياء النظرية. ولكن العلم ممتد وحصين بدرجة تجعله مؤهلا لتفسير حتى امكانية تآمر العرّاف ليعلن جنس المولود. وهذا المدخل يقودني الى فرضية صلاحية تفسير النتائج، او الاحداث على انها نتائج، باستخدام نظرية موضوعة مسبقا كعنوان، وليس مطلوبا منها ان تتوقع او ان تتنبأ بتلك النتائج، على عكس المنهج العلمي.
المؤامرة، فكرة اقترنت مع نمط التفكير الشرقي عموما، وهي اول تفسير لحدث ما.. ليس لغياب التفسيرات الاخرى، ولكن لملائمتها، بطبيعتها الطوباوية، مع النهج الخيالي في مجتمعاتنا، العربية والاسلامية. ذلك النهج الذي اعتبره مسؤولا، الى حد كبير، في منع الاستنارة الفكرية من غزو الشارع. وليس الذنب في ذلك دائما واقعا على عاتق رجل الشارع، بل الى الدعاية المنسقة والمنظمة التي لا تعبأ بالحقائق، والتي تشوه تلك الحقائق، لخدمة مصلحة جهة متنفذة، في السلطة او خارجها.
ان اهم ميزة في المجتمع الشرقي هي الروحانية، وهي قوة مقابلة لقوة العقل، لا تنفيه ولكن تبادله الادوار احيانا. وعند وضع الايمان مقابل العقل، لا يمكن تحديد الجهة التي سيميل اليها الميزان. ان نفس المنهج العلمي، كما اسلفت، يعتمد هاجسا في عقل الباحث يدفعه للبحث في اتجاه معين.. هذا الهاجس هو في الحقيقة مظهر من مظاهر الايمان. ان قوة العقل حاسمة، ولكن المسائل ليست كذلك. وتعدد المؤثرات في قضية ما يجبر الباحث على الاختيار.
وهكذا فان الايمان بان حدث ما يجب ان يكون وراءه جهة ما، سرعان ما سينضج نظرية تأمرية تلقى قبولا واسعا. ان هذا الايمان يستبدل جزءا من التفكير المنطقي لصالح النتيجة المرجوة. وحتى المشككون لن يستطيعوا الصمود طويلا، لان النقاط المجردة عن المعنى، يمكن ان تتجمع لتشكل صورة لها معنى حقيقي.
ولكن رسم تلك الصورة انما يتم باستخدام العقل، موجها بالنتيجة المرتقبة. فاذا كان الحدث سابقا للتوقع، فلان الصورة قد تتغير في بعض التفاصيل، الا انها تبقى تحمل نفس السمات. الايمان يستطيع ان يستخدم العقل، ولذلك لا يعمل على الغائه. والعقل يتيه بين الخيارات، فلا مناص من اعتماد الايمان منطلقا للتفسير. والجدلية تتجسد دائما في الرغبة للتوصل الى حلول. ورجل الشارع، عماد تلك الجدلية، غير مستعد للتقييم، بل للتفاعل.
قبل احداث سبتمبر بفترة بسيطة كانت هناك حادثة اخرى، كان يمكن ان تفسر بالشكل الصحيح كمقدمة لتلك الاحداث. ذلك ان طائرة مصرية سقطت في المحيط الاطلسي بعد فترة وجيزة من اقلاعها من احد المطارات الامريكية. واوضحت التحقيقات ان مساعد الطيار وهو مصري الجنسية، عمد الى اسقاط تلك الطائرة لسبب غامض. وانتشرت في ذلك الوقت نظريات مؤامرة تنسب اسقاط تلك الطائرة الى الموساد، او المخابرات الامريكية، دون ان يتم اثبات ذلك، او نفيه. ولو حللت تلك الحادثة بالشكل العملي، لكانت النتيجة البسيطة ان هناك عملية تجنيد لطيارين انتحاريين، وهو ما شكّل احداث سبتمبر الدامية.
ان نظرية المؤامرة تبقى قادرة على التفسير، طالما كان العقل مشتتا بكثرة الخيارات. ولمحاولة كسر الاطار، فان اول من ينبغي فعله هو تقليل تلك الخيارات امام العقل. بمعنى ان يتم تبني منهجا علميا في التفسير، يعتمد تسلسل الاحداث، ويستخدم الهاجس الذاتي بفاعلية منطقية، ويحدد الحكم المسبق المبني على افتراضات، تحولت بسبب طول التداول الى بديهيات او مسلمات. وتلك مسؤولية مشتركة، تبدأ من الفرد وتتأكد بالدعم الحكومي. فهل آن الاوان للحكومات العربية ان تتقدم خطوة للامام، وان تشرع في الاصلاح؟ لنأمل ان تلك الحكومات قد وعت ان نظرية المؤامرة تشملها ايضا، وتسبب لها المزيد من الكوارث حتى على المستوى الداخلي، لطرحها وقائع دولية واقليمية، مشروعا وطنيا ومحليا.

Tuesday, December 14, 2004

الجهاد كنظرية اممية

لا يشك أي مسلم في مكانة (الجهاد) كأحد اصول الدين الإسلامي، وضرورته عبر مراحل ظهور وانتشار هذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها. كما وتتضافر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة على الحض على الجهاد ووصف مكانة الشهيد كنتيجة لفعل الجهاد، في الدنيا والآخرة. ولعل اكثر الأمنيات قربا للقلب لدى الكثرة الغالبة من المسلمين هي الموت استشهادا، في سوح الجهاد المقدس.
والجهاد، كما هو معروف، هو أي فعل يقدم عليه الإنسان المسلم من اجل الدفاع عن دينه في وجه الهجوم او الاعتداء الخارجي الذي يستهدف انهاء او تحديد او تهميش الدين الإسلامي وهو ما يسمى بجهاد الدفع. كما يعني ايضا المبادرة الى الحرب والسعي لفتح الأراضي والبلدان (الكافرة) من اجل هديها الى نور الدين الإسلامي الحنيف وهو ما يصطلح عليه بجهاد الطلب. وهذا يعني ان لدينا نوعين من الجهاد حسب التعريف الفقهي، نوع للدفاع ونوع للمبادرة. هذا ما كان في بداية ظهور وانتشار الدين الإسلامي، والذي مازال يصلح في نظر البعض الى هذا الوقت، بل وهو صالح الى يوم الدين كما يؤكد السلفيون.
ولست هنا بصدد البحث في صلاحية مبدأ الجهاد الدفعي او الطلبي.. او حتى من اجل اثبات صحة او خطأ ايا منهما. اذ ان من الثابت ان الجهاد في سبيل الله كان هو المبدأ الأساسي وراء الفتوح الكبرى في عصر صدر الإسلام والتي ادت الى انتشاره في بقاع شتى من المعمورة، وبالتالي تغيير الخارطة السياسية والديموغرافية التي استمرت لقرون طوال قبل ظهور الإسلام. ولان مبادئ الدين الإسلامي وروح التسامح التي اتسم بها رافقت المجاهدين في غزواتهم، لم يلق ناشرو الدين الأوائل عنتا شديدا في اقناع الناس المفتوحة اراضيهم في اعتناق الدين الجديد، بل والمحاربة في صفوفه. لقد انتشر الدين برغبة المجاهدين الجامحة للاستشهاد، وبقوة الفكر وسحر المنطق القرآني، وبالمبادئ السامية التي حملوها الى الأمم في اقطار الأرض.
وبينما توقف الفتح الحربي، وانحسرت حتى بعض البقاع المفتوحة كالأندلس، استمر الفتح الفكري، واستمرت امم تدلف الى حضرة الدين الإسلامي طواعية ودون اكراه، اقتناعا بفكر رجاله، او تمثلا بأعمالهم الجليلة. وخلال قرون من الزمن، تكونت خارطة ديموغرافية جديدة، وارتسمت خطوط معينة وحدود فاصلة، كانت الأديان عنصرا فيها وان كان عنصرها الأول القوميات. لم تكن الحروب الصليبية في حقيقتها الا حروبا سياسية استخدمت فيها الشعارات الدينية لخداع شعوب اوربا وتوحيدهم حول قضية ما، ثم جرّت عليهم بسبب ذلك الكثير من الويلات، والمزيد من الفرقة. وهكذا بعد اكثر من خمسمائة عام من ظهور الدين الإسلامي، بدأت اولى المواجهات بين الدينين العظيمين، الإسلامي والمسيحي.. بدأت تحت اهداف سياسية معروفة، وانتهت بإشعار كل من الفريقين مدى قوة الآخر، والاهم من ذلك، حدوده المقدسة.
وهكذا لم يعد هناك من ينادي بجهاد (الطلب) اليوم، فليس هناك من يفكر حتى في خوض حرب لجعل فرنسا مثلا تصبح بلدا مسلما. وانتهى على هذا الأساس مبدأ الجهاد بالطلب، او بالمبادرة. ولكن بقي النوع الثاني، الجهاد للدفع. ولاشك ان الدفاع عن النفس والعرض والأرض والمال والوطن ضد الاعتداء الغاشم، هي مبادئ سامية وحقوق مقدسة في كل اقطار الأرض، وتحث عليها جميع الأديان والشرائع السماوية والأرضية. ولكن مورد استخدام هذا الحق، مقيد بقانون ومحدد بنطاق. فأما القانون فهو العجز عن استحصال الحق او دفع الضرر الا بالقتال، وأما النطاق فهو مدى شمولية الاعتداء. فليس من الحكمة افناء النفس في الدفع منفردا ما يمكن دفعه بدون تضحيات، او بتضحيات اقل، اذا اجتمع عليه.
ورغم وضوح النيات السياسية دائما وراء الشعارات الدينية، الا ان العامة عادة ما تنخدع بها المرة تلو الأخرى.. تارة لأنها لا تفهم الا لغة الوعد الديني، وطورا لأنها اخذت تقطف بعض ثمار هذا الوعد، دنيويا على الأقل. وهذا امر عام، استخدمه البابوات في حملاتهم الصليبية، وهناك من يستخدمه في رد ما يدعي انه حملات صليبية.. وصدّام مثال حاضر في الأذهان.
فلو تصورنا ان متطرفين مسيحيين، على الشاكلة التي كانوا عليها في القرون الوسطى، من الذين نظروا الى الدين الإسلامي على انه دين (الكفر والإلحاد)، وان بيت المقدس مدنسة بيد هؤلاء (الزنادقة) وما الى ذلك من النظريات والشعارات التي استخدموها في شن الحروب الصليبية، لو تصورنا طائفة متنفذة من هؤلاء تدعو اليوم الى ابادة المسلمين كما كان يفعل اسلافهم، فماذا يمكن ان يكون عليه الحال؟ لو كانت هناك حركات تكفيرية مسيحية كما تظهر لدى المسلمين اليوم مثل تلك الحركات، فكيف سيكون شكل الجهاد، وتعرفيه لدى كل فرقة؟ اذا كانت غاية المرء المسلم، حسب نظريات التكفير المعاصرة، ان يموت شهيدا في عملية (انتحارية) ضد (كافر) ما، فماذا ستكون غاية المسيحي الورع الذي عليه ابادة (الكفرة) بأية وسيلة؟
لقد ارتكبت الحكومات الغربية، خلال تاريخها الطويل الكثير من الفضائع، التي لا ينسبها احد اليوم على الدين المسيحي.. كما ارتكب بعض الحكام المسلمين مثل تلك الفضائع دون ان تعتبر تشويها للدين الإسلامي. فالدين والسياسة سارا عبر التاريخ في خطين متوازيين، وشكلت نقاط التقاطع منعطفات كبرى غير مسار التاريخ. ويجب مع زيادة استنارة العقل البشري، العمل على الحد من التقاطع، الذي لن ينجم عليه وفق توازن القوى الراهن الا انتكاسة عظيمة لا يعلم الا الله مدى خطرها.

رهان التوقيتات ومأزق الانتخابات العراقية

لعل ابرز احداث الساحة العراقية منذ انهيار صنم العبودية، في التاسع من نيسان 2003، هو انتظار الانتخابات، والنظر اليها على اساس انها الحل السحري لكل مشاكل العراق، الموروثة منها والمستجدة. واكرر ان (الحدث) الذي اشير اليه هو (ترقب) الانتخابات، وليست الانتخابات ذاتها. ذلك ان حدث الانتخابات لن يكون امرا معجزا، او حاملا للحلول النهائية للمعضلات التي استعصت على حكومة الاحتلال، ومجلس الحكم، ومن ثم على الحكومة المؤقتة.
ان هذا الترقب والانتظار ربما كان نتيجة حتمية لرغبة المواطن العادي للفرار من الواقع المزري الذي آلت اليه الامور في العراق، والذي فرض ظله على عقلية وتفكير المواطن العراقي، الذي لا يجد معنى حقيقيا لكل ما يحصل، من انتشار للفساد الاداري والسياسي، وتقصير فاضح في اداء الخدمات العامة، والاهم من ذلك، تردي الوضع الامني بشكل لا سابق له. تلك الرغبة التي عزفت عليها القوى السياسية لتنشد اغنية الانتخابات ذات الايقاع الجماعي، رغم جهل الكورس باللحن والكلمات.
في البداية ترقبنا تشكيل مجلس الحكم ليمنح الحاكم الاداري الامريكي المشورة ويمنعه من ارتكاب المزيد من الحماقات، وتعزز الامل بتشكيل الوزارات.. ثم خبا املنا بعد ان وجدنا الاحزاب الممثلة في مجلس الحكم تهيمن على تلك الوزارات وتتخذها منابر اعلامية لها. ومع افلاسها الداخلي ونضوب شعبيتها، لم تأبه تلك الاحزاب للنقد الذي اخذ يرتفع صوته رويدا رويدا، حتى اصمّ الاذان احيانا. فتدهور اداء الدوائر الحكومية، بل وزاد احيانا في فساده عن حاله تحت الحكم البائد، الذي تصورنا ساذجين انه ضرب الرقم القياسي في الفساد والافساد.
وارتسمت اولى مراحل العملية السياسية مع اصدار مجلس الحكم السابق، متآزرا مع سلطة التحالف المؤقتة، اتفاق 15 تشرين الثاني 2003، والذي حدد توقيتات لانشاء مجلس وطني، واصدار قانون اساسي للفترة الانتقالية (دستور مؤقت)، ومن ثم تشكيل حكومة مؤقتة. وبما ان مجلس الحكم لم يستطع ان يكون جماهيريا بالقدر الكافي، فانه لم يكن قادرا بالمثل على (تمرير) قراره هذا بيسر. فقد احتجت قوى بالغة التأثير، متمثلة بالمرجعيات الدينية الشيعية، على طريقة تشكيل المجلس الوطني المؤقت، وطالبت بالانتخابات. وكانت تلك اولى الدعوات المباشرة التي تطرح مقابل خطة مجلس الحكم. وكرد فعل تلقائي، رفض رجال الدين من السنة اجراء انتخابات في مثل الظروف الحالية. وكانت لكل من الطرفين حجته المقنعة. اذ ان الانتخابات هي الطريقة الوحيدة لاختيار حكومة شرعية، تمثيلية، وذات مصداقية. ومن جهة اخرى فان على تلك الانتخابات لكي تحقق تلك الصفات ان تكون شاملة ونزيهة وعادلة، وهو امر غير مؤكد.
ثم عمد مجلس الحكم الى مناورة سياسية تمثلت باصدار قانون ادارة الدولة، الذي حدد موعد الانتخابات التشريعية بنهاية كانون الثاني 2005 كحد اقصى، وهو موعد يسبق بشهرين فقط موعد تلك الانتخابات حسب اتفاق 15 تشرين الثاني! ومع ذلك فانه لم يشر الى الوسيلة التي ستسلم بها السلطة. وظل الامر قيد الترقب حتى فترة وجيزة قبل موعد الثلاثين من حزيران، ليصدر مجلس الحكم (ملحقا) بقانون ادارة الدولة يحدد الكيفية التي ينشأ بها المجلس الوطني المؤقت.. وهي لا تختلف من حيث الجوهر عن الالية الاولى، بل لعلها كانت اقل شمولية، واقل تمثيلية للقوى السياسية العراقية. ويذكر العراقيون انتظارهم لتاريخ 30 حزيران وكأنه تاريخ التحول الاكبر، ذلك الذي سيعمل على تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدولة حديثة التشكيل.. ثم يتذكرون كيف اصابتهم خيبة الامل من اداء الحكومة الجديدة، التي واصل شخوص مجلس الحكم السابق التأثير فيها لكونهم نواة تلك الحكومة.
ولان مجلس الحكم السابق لم يضع في اولوياته المواطن العادي، فانه عمل على رسم شكل السلطة القادمة بالطريقة التي تضمن بقاؤه فيها. تجلى ذلك في فرض اعضاءه السابقين اعضاءً في المجلس الوطني المؤقت، لكي يبقوا في موقع الصدارة ويعملوا على منع الجهات غير المرغوب فيها من احتلال المناصب الرفيعة، وينأوا بانفسهم عن الاقصاء نتيجة افعالهم، كما هو شأن النظام الديمقراطي.
ولما كان كل شيء مؤقتا، او هكذا تم تصويره، فان مثل هذه الخدع والألاعيب السياسية لم تواجه بمعارضة شديدة، خصوصا مع احتواء المعارضة حينا، واغفالها احيانا اخرى. نعم، لم يكن مجلس الحكم جلادا ادخل الشعب العراقي زنزانات التعذيب، ولكنه لم يكن بالمقابل يهمه تضور الآلاف من مواطنيه جوعا، ولم يشعر بآلامهم ولم يتفهم قلقهم
وقبيل حل سلطة التحالف المؤقتة ومجلس الحكم، اصدرا قرارات تتعلق بتأسيس المفوضية العليا للانتخابات، والقانون الانتخابي، وتنظيم الاحزاب. ولم يطرح ايا من هذه القرارات على النقاش العلني، ولم يستشر فيه ايا من الخبراء سواء على الصعيد الوطني او الدولي. ذلك ان تلك التشريعات هدفت بالدرجة الاولى الى توجيه الانظار على الاحزاب اكثر من الشخصيات، وبالتالي تلافي السقوط السياسي المحتمل. فجاء النظام الانتخابي بطريقة القوائم ذات التمثيل النسبي، وهو امر لابأس به لولا اعتماد العراق منطقة انتخابية واحدة. اذ يمكن في هذه الحالة تجاهل اية مناطق عازفة عن الاشتراك في الانتخابات دون ان يظهر لذلك تأثير مباشر في نتائجها. كما يمكن اختيار العناصر (الموالية) ضمن القائمة دون النظر في الكفاءة والمقدرة الشخصية. فلا نجد الاحزاب، حين تطرح قوائمها للانتخابات، مهتمة كثيرا بالبرامج الانتخابية التي يفترض ان تقدمها للناخب.. فكل ما يهمها هو كيفية تشكيل تحالفات تحظى بالقدر الاكبر من الاصوات، على اساس تحزبي، او عشائري، او حتى طائفي.
واليوم تتصاعد الدعوات لتأجيل الانتخابات، ومرة اخرى لفترة محددة.. لينتقل (الترقب) من تاريخ 30 كانون القاني المقبل إلى تاريخ لاحق، ربما يمتد لستة اشهر بعده. فهل سيكون التأجيل بحد ذاته حلا لهذه الاشكالات؟ لا اعتقد. ربما سيكون المناخ بعد تلك فترة افضل من ناحية امنية، بناء على ما استطاعت تحقيقه الحكومة من تقدم في هذا المجال. ولكن علينا ان نتذكر ان الظروف الامنية كانت افضل قبل توليها السلطة، ولست بصدد تحميل الحكومة مسؤولية التردي الامني، حيث نعلم جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقها مقارنة بقصر الفترة الزمنية التي اتيحت لها. غير ان العبرة المستفادة من المسيرة غير السارة لمجلس الحكم، وللحكومة الانتقالية التي خلفته، ان الشخوص السياسية الممسكة بخيوط الاحداث، لم تكن بمستوى الوطنية المطلوب للعهد الجديد.. ليس لانها لا تمتلك تاريخا نضاليا، او انها تفتـقر إلى الكفاءة السياسية، بل لانها قدمت المصلحة الحزبية الضيقة على المصلحة العامة.
ان الرهان على الزمن لم يكن في صالح الشعب فيما سبق، فهل يمكن ان يكون في صالحه هذه المرة؟ ذلك ممكن، اذا لم يكن رهانا على التوقيت فحسب. فاذا اردنا الاصلاح ودفع عجلة الديمقراطية إلى امام، فلن يكون ذلك بتأجيل الانتخابات، ولكن باعادة النظر في النظام الانتخابي، وهو ليس من ضمن مواد قانون ادارة الدولة، أي يمكن تعديله عن طريق مجلس الوزراء وبموافقة مجلس الرئاسة والمجلس الوطني المؤقت. والتعديل المقترح هو اما بجعل كل محافظة دائرة انتخابية، بحيث تضمن كل محافظة عددا محددا من المقاعد الانتخابية يتناسب وتعداد نفوسها، او باشتراط جعل المرشحين في كل قائمة موزعين على جميع المحافظات وبنسبة السكان ايضا. ان الاقتراح الثاني قد يبدو غير عملي بالنسبة للاحزاب المحلية، او القوائم التي تشمل محافظة واحدة او مجموعة محافظات. ولكن ذلك يمكن حله باتباع طريقة حسابية تفرض على القائمة ان لا يتجاوز عدد مرشحيها المقدار المسموح لكل محافظة ممثلة فيها. فعلى سبيل المثال، لنقل ان عدد ممثلي محافظة بابل 15، والنجف 12، وكربلاء 13. فاذا تضمنت القائمة اسماء من هذه المحافظات الثلاثة فقط، فيكون اكثر عدد مسموح لها هو 40 مرشحا، وهو مجموع ممثلي هذه المحافظات. وبالطبع يمكن فرض تسلسل تسجيل المرشحين ضمن القائمة ليحقق عدالة التوزيع في حالة فوز القائمة (كما هو متوقع) باقل من النسب الكاملة. اما اذا اخذ بالاقتراح الاول، فسيكون الامر غاية في السهولة، حيث تصوت كل محافظة ضمن رقعتها الجغرافية على قوائمها الخاصة وترسل ممثليها إلى الجمعية الوطنية حسب نسبة سكانها.
ربما يقال ان الوقت غير كاف لاجراء تغييرات مثل تلك التي اقترحها، وهذا رهان اخر للتوقيتات علينا ان نواجهه بحذر. ولكن اذا تقرر اجراء التغيير لصالح دفع كل اطياف الشعب العراقي للاشتراك بالانتخابات، فلا بأس بالتأجيل عندها.. فليس التوقيت هو ما يهم في نهاية الامر، انما جدوى العملية برمتها. وعلينا التذكير ان مقدار نجاح الانتخابات هو مقياس شرعية الحكومة المشكلة بموجبها. وعلامة النجاح ليست في حضور عدد معين من الناخبين إلى الاقتراع، بل في مشاركة الجميع سواء على مستوى الطوائف او الاحزاب او المحافظات.. وهو ما يضمن قبول النتائج، والانخراط في العملية الديمقراطية الاهم: كتابة الدستور الدائم.

Monday, November 29, 2004

ليست بالاغلبية وحدها تنجح الانتخابات

توصل الباحثون من استطلاع للرأي قامت به احدى الصحف الامريكية نشر قبل فترة وجيزة، الى ان ما يزيد على 70% من الشعب العراقي يعتقدون ان الانتخابات القادمة في العراق هي لانتخاب رئيس للجمهورية. واذا صحت مثل هذه الاستطلاعات وافترصنا انها تحمل درجة ما من المصداقية، بحيث يمكن تحليل تلك المعلومات، فاننا يجب ان نتوقف قليلا لبحث اسباب جهل العامة بالعملية الانتخابية القادمة.
والواقع انك اذا اجريت مسحا بسيطا لغرض مقارنة البيانات تجد ان الكثير من الناس يجهل العملية برمتها بسبب عدم وضوحها منذ البداية، منذ اعلان قانون ادارة الدولة، ومن ثم تشكيل حكومة مؤقتة، فـ(انتخاب) مجلس وطني مؤقت، وتعيين مفوضية عليا للانتخابات، وصولا الى اعلان بدء تسجيل الناخبين والمرشحين اوائل الشهر القادم. في حين ان هناك فئة اخرى من الناس لا تكترث لمثل هذه العملية، وذلك امر طبيعي يحصل في كل بلدان العالم الديمقراطي. غير ان عدم الاكتراث هذا قد يكون ناتجا ايضا عن جهل في العملية الديمقراطية، اذ نادرا ما يكرس الانسان جزءا من وقته لفهم امر ما ثم يعزف عنه بالمرة.
ولما كانت الشفافية شعارا ومفردة مهمة في العملية الديمقراطية، التي تنتمي اليها مفردة الانتخابات الدورية، فان من دواعي العجب ان لا تحظى المسيرة الانتخابية بالاعلام الكافي. ويمكن ان نستنتج ان الاعلان عن بدء العملية الانتخابية، لم يكن لتثقيف الناخبين كما ينبغي ان يتم، بل لاعلان جدول زمني للفعاليات الانتخابية دون اكتراث لشرح النظام الانتخابي، وحمل الناخب على فهمه وبالتالي حثه على المشاركة.
والمشكلة ان هناك ناخبين مؤهلين ربما يرفضون المشاركة، لاعتقادهم ان الوقت غير مناسب لاجراء الانتخابات، من جهة بسبب تردي الوضع الامني، ومن جهة اخرى لضبابية الموقف السياسي، وخصوصا موقف المدن المضطربة، التي يعتقد الكثيرون ان الانتخابات التي تجرى بدون اشراكها ستكون بابا لمَشكلة الوضع السياسي للحكومة، وتدويم جو الازمة امام الحكومة التي ستتمخض عنها تلك الانتخابات. والانكى من ذلك ان القانون الانتخابي المزمع تطبيقه، يعتمد العراق كله منطقة انتخابية واحدة، وباستخدام قوائم ذات تمثيل نسبي. الامر الذي يعني انه يمكن دائما اهمال اية منطقة او مدينة او محافظة تحت اية ذريعة. فقوائم الاحزاب لن يشترط فيها التمثيل المتكافيء للمحافظات، وقوائم المستقلين لن تجد لها طريقا الى الفوز بسبب صعوبة التنافس مع الاحزاب على مستوى العراق اجمع، اذ لا يتوقع مثلا ان يصوت اهالي الموصل الى مرشح مستقل من ذي قار، مهما بذل من دعاية انتخابية. وسيكون الاولى بالنسبة لكل الناخبين التصويت لصالح قائمة يكون فيها عدد من الاسماء التي يعرفونها وان جهلوا القسم الاعظم منها.
ورغم هذا وذاك، يكاد يعلن كل مسؤول في الدولة عن عزمها في المضي قدما في العملية الانتخابية، مهما تخلف عنها، ومهما كانت غير واضحة للناخبين. والرهان يقوم في الواقع على ان الاطراف المتحكمة في تلك العملية هي الاطراف المستفيدة منها. واقصد الاحزاب الكبرى من جهة، والشيعة كأغلبية من جهة اخرى. وربما قال قائل، وما الضير في ان يصر الشيعة على اجراء الانتخابات، حتى وان كانوا اغلبية؟ والحق ان الاصرار على اجراء الانتخابات هو امر رائع، ولكن يجب ان يكون متناغما. لا تستطيع اية فئة ان تعمل على ايجاد الظروف المؤاتية لها دون ان تنظر في امكانية الفئات الاخرى على توفير مثل تلك الظروف. ان مبدأ سيادة الاغلبية يصطدم في النظم الديمقراطية دائما بمدأ اخر هو حماية حقوق الاقليات. وهذا يعني ان الاغلبية لا تستطيع ان تقرر كل شيء، فقط لانها اغلبية. ومن ناحية اخرى، فان الاقليات، وان كان يجب احترام حقوقها، الا انها لا يجب ان تسعى لـ(فيتو) كل قرارات الاغلبية. والمعادلة قائمة على محاولة الاقناع ومد الجسور وسياسة الحل الوسط. وبالطبع ستكون هناك اوقات للقرار الحاسم، وعندها سيكون مثل هذا القرار مُبررا بشكل كاف.
وفي حالة الانتخابات، والتي يعلم الجميع ان الكثير من السنة قد يرفضون الاشتراك فيها، كما يبدو جليا من تصريحات كبار رجال الدين السنة، فان من الواجب بحث الامر معهم بتعمق. يجب ان يصار الى عقد مؤتمرات مشتركة، واجراء حوارات بناءة على كافة المستويات، وخاصة على المستوى الشعبي. فهل ان الحكومة مستعدة لمثل هذه الفعاليات؟ لو كانت العملية شفافة في البداية، لكان الامر اهون الان.. ولكن للاسف، فان مجلس الحكم السابق، الذي يأبى ان يتنازل عن السلطة، او ان يوسع المشاركة فيها، يعمل بكل جهد لايجاد اليات تخدم مصالح الاحزاب المشتركة في ذلك المجلس، وربما بضعة احزاب او تيارات لم تكن مشاركة فيه، ومن ثم اغلاق العملية السياسية على هذا القدر، بحث لا يوجد متسع للمستقلين، وان كانوا نظريا يتمتعون بكافة الحقوق للترشح. وفي خضم هذا لا يبدو ان تلك الاحزاب مهتمة جدا باقناع او حمل جميع العراقيين على التصويت، طالما كانت على ثقة من الحصول على نسبة كافية من المشاركة تمنع الطعن بالشرعية لمن يفوز بها مستقبلا.ان الانتخابات هي امر معقد وبالغ الصعوبة، ولا يجب الاستهانة بكل جهد يبذل لانجازه، بل على العكس، يستحق العاملون على انجاحها الشكر والعرفان. غير ان النجاح لا يكون فقط ببذل الجهود على اتجاه واحد، بل بمحاولة التحرك باتجاهات مختلفة طلبا للنجاح على كافة الصعد، وليس على صعيد دعم الاغلبية فقط.

Sunday, November 28, 2004

من المستفيد من غسل الدماغ العربي؟

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، ظهر توازن جديد للقوى على الساحة الدولية، فلم يعد الاستعمار التقليدي والرغبة في السيطرة على طرق التجارة بالاضافة الى مصادر الثروات، لم تعد هذه هي اسباب الحروب، بل تحولت الى صراع ايديولوجي تدميري يدعو كل طرف الى افناء الطرف المقابل. ونتيجة لهذا الهاجس المخيف عملت القوتان الرئيستان منذ اوائل الخمسينات وحتى زوال احدهما –الاتحاد السوفيتي– في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، عملت هاتان القوتان على خوض سباق شامل وليس في التسلح فقط، بل امتد الى التدخل في الصراعات الاقليمية ودعم الحكومات الموالية.. بحيث اصبحت اغلب بلدان العالم اما منحازة لاحدهما، او منطقة نفوذ له.. وتجد في كلتا الحالتين معارضة، قد تكون مسلحة، مدعومة من الطرف الاخر.
ان توازن القوى هذا خلق واقعا جديدا في عموم العالم، يقوم اما على مسخ الشخصية الوطنية من اجل البقاء، او على تقديم القرابين البشرية كضحايا للحروب المستمرة من اجل تلك الشخصية والهوية الوطنية. وكلا الامرين افرز نتائج عبثية وفوضوية في الشعوب، وعدم الثقة في المستقبل، وانهيار القيم التي تدعو لها الاطراف المتنازعة امام كثرة ضحايا الحروب ومشاهد الرعب والفزع لدى الابرياء.
وفي محاولتها خوض الحروب على كافة المستويات، فقد سلكت مخابرات القوتين العظميين طرقا شائنة في نظرنا الحاضر للفوز بمعارك مخابراتية، تقوض سلطة واسناد احدهما على حساب الاخر. وظهرت قصص خيالية في بعض الاحيان عن القدرات العالية لتلك المخابرات سواء على الصعيد القومي، او على الصعيد الاممي. وشاعت رهبة تلك المخابرات لدى عامة الناس، بحيث اصبح هناك اعتقاد شائع على قدرتها على تغيير الانظمة.. بل ان جميع الانظمة لابد ان تكون عميلة والا فانها ستستبدل فورا.
ولما كانت نظريات من هذا النوع تخدم اغراض الحرب الباردة، على الاقل من ناحية زرع الخوف في نفوس الفريق المقابل، فقد عملت دوائر مخابرات الطرفين على تغذيتها بشكل مستمر وباستخدام كافة القنوات، بدءا من المستوى الشعبي ومرورا باستخدام وسائل الاعلام المختلفة وانتهاءا بالمستوى القيادي للشعوب والامم.
ولازلت اذكر فلما شهيرا عرض خلال فترة السبعينات، في اوج الحرب الباردة، ضمن مجموعة من افلام التجسس التي وجدت لها ارضا خصبة واعتمادات هائلة. ذلك الفيلم هو (تلفون) بطولة النجم الشهير (تشارلز برونسن).. والذي يقوم بدور عميل مخابرات سوفييتي يعمل من اجل منع عميل اخر خائن يستغل معرفته ببعض الاسرار ليوجهها ضد اهداف حيوية في الولايات المتحدة. الفيلم يعكس مزاج التصديق في تلك الفترة، لان قصته تقوم على تدريب اناس عاديين ليكونوا انتحاريين باستخدام التنويم المغناطيسي، بحث اذا سمع احدهم من خلال التلفون بمقاطع شعرية معينة، غط في سبات عميق وذهب لتنفيذ العملية الانتحارية بدون شعور. واليوم، نعرف ان التنويم المغناطيسي وان كان يحرر العقل الباطن لدى الانسان، الا انه لا يستطيع ان يغير قناعاته الراسخة، وقيمه العليا.. والتي منها الرغبة في الحفاظ على النفس، تلك الغريزة االمتأصلة، وبالتالي لن ينجح أي تنويم مغناطيسي على حمل الانسان –على غير ارادته– على الانتحار.
ان افلاما كهذا، وكتب ومقالات ومنشورات، وبرامج تلفزيونية ومقابلات صحفية، وندوات ثقافية ومؤتمرات علمية، كانت تركز طيلة تلك الفترة على النشاط الاستخباراتي، وعلى قدرة التجنيد الخارقة التي يتمتع بها الفريقان، وعلى امكانية تحقيق الاهداف المنشودة من خلال تلك الحرب غير الباردة ولكن غير المنظورة ايضا. وانعكست هذه الدعاية الشاملة على مجتمعنا العربي بكل ثقلها. ففي اوائل القرن الماضي، لم تكن دولة واحدة عربية يحكمها اهلها، بل كانت مستعمرات يحكمها الانجليز والفرنسيون والايطاليون فضلا عن الاتراك. وحين انهزمت الامبراطورية العثمانية، اصبحت الدول العربية مستعمرات صريحة للدول التي ستشكل فيما يلي اقطاب الحربين الكبيرتين المدمرتين. ثم ينتصف القرن على تبدل اخر، حيث نشأت طبقات مثقفة في الدول العربية بدأت تطالب بالتحرر من الاستعمار، متأثرة الى حد كبير بالدعاية السوفيتية حول حرية الشعوب والشعارات البراقة من المساواة الى الحرية. وسرعان ما كانت الانقلابات المسلحة في تلك البلدان تأتي الى السلطة باناس اعتنقوا مذهب (الثورة لمن يصنعها) وبالتالي اصبحوا خلال نصف القرن التالي الصناع الوحيدين لقرارات الامة، واخمدوا كل معارضة بكافة الوسائل المتاحة.. ولم تصب الشعوب العربية بالصدمة اولا، لانها لم تدرك مقدار الخدعة التي تعرضت لها. ولكنها حين استفاقت ووجدت حالها بعد التحرر من الاستعمار ليس احسن، ان لم نقل اسوأ، من حالها قبله.. فبدأ السؤال يطرح بجرأة اكثر: ما الجدوى من كل ما يحدث؟
ربما لن تتم اجابة أي سؤال مثل هذا ابدا، فالجهل صفة الصق بالانسان من صفة العلم. وطالما كانت الامور تجري بشكل غير مفهوم لنا، فهي بالتأكيد ستكون مفهومة لاخرين، صناع السياسة ودهاقنتها، ووكالات الاستخبارات وعملائها، واجهزة الحكم الوطنية منها والعميلة. ان هؤلاء وغيرهم يمتلكون اجابات محددة، ولديهم تصورات كاملة وخطط شاملة لما حدث ويحدث وما قد يحدث في أي وقت في المستقبل. وبالطبع فان فكرة عامة مثل هذه الفكرة تخدم اهداف اجهزة الحكم الوطنية، والتي اقنعت الشعوب بعدم جدوى الثورة ضد الانظمة الفاسدة، المحمية جيدا بعلاقاتها الحميمة مع مصادر صنع القرار في الدول الكبرى، والتي ستعمل على حماية هذه الانظمة ضد أي عمل يستهدف ازاحتها عن السلطة.
لا انكر ان اسناد الانظمة العربية من الخارج كان واقعا ملموسا، غير ان المبالغة بهذا الاسناد هو ما سبب حالة اليأس والقنوط التي تحولت اليها الشعوب العربية، بحيث انطوت الى ممارسات اكثر خصوصية، ورفضت العمومية السياسية، ولجأت الى الدين كمنفذ اخير لتحرير شخصيتها المكبوتة.. ولم يكن جهاز السلطة غائبا عن مثل هذه التحولات، فعمل على الاستفادة منها مجددا.. واستعمل قضايا اقليمية، في حملات اعلامية منسقة لتبدو قضايا مصيرية، وركز الانظار حولها.. واستجابت الشعوب المغلوبة من جديد لهذه الخدعة، وانساقت مرة اخرى تحت تأثير تنويم مغناطيسي لا يعمل على الضد من الانا الاعلى، بل يستغل هذا الانا الاعلى لتقديم دفعة جديدة تنعش الفرد في لحظات الاندماج العضوي مع المجتمع.
لقد تعرض الدماغ العربي، خلال فترة النصف القرن الماضية، الى اكبر عملية غسل دماغ، بدأته قوى الاستعمار البائدة، واستأنفته بجدارة انظمة حكمه المحلية، وغذته الحرب الباردة بدون قصد. ولازالت الشعوب العربية ترزح تحت نير الجهل السياسي الذي يطبق عليها من طرفي الحكومة المعمرة، ومعارضتها المُضَللة.. وفي محاولتها للتعلم ترتكب الكثير من الاخطاء، والتي اولها التسرع في التحليل وافتقار الرؤية الواضحة، والاعتماد على فئات محددة لرسم صورة الاحداث.. لقد كانت الشعوب العربية نتيجة الضغط الاعلامي المنسق الذي تعرضت له عاجزة في اغلب الاحيان عن تصور الاحداث بدون ان يكون الفرد العربي ذاته، او المجتمع العربي مركزا له. واذا اردنا ان نخرج المواطن العربي من متاهات الافكار القبلية، ونظريات المؤامرة المستولية على العقول العربية، فعلينا ان نحمله على التفكير في سياق الاحداث كاحتماليات وارجحيات، بدلا من التفكير فيها على اساس بديهيات ومسلمات.. وهذا يعني ان هناك مجالا لحدوث امور بغير اتفاق، وليس عليه ان يعتبرها موجهة ضده. فليس العرب، وان كانوا احيانا اثرياء، هم مركز الكون، الذي تدور حوله الافلاك.

Sunday, November 21, 2004

نظرية في فوز بوش بالانتخابات الرئاسية

في يوم الانتخابات الامريكية، الثلاثاء 2 تشرين الثاني، نشرتُ في احد المواقع الالكترونية على الانترنت مقالا تنبأت به بفوز الرئيس الحالي جورج دبليو بوش في تلك الانتخابات، وبنيت هذا الاستنتاج على حقيقة ظهور اسامة بن لادن في شريط مصور موجها كلمته الى الشعب الامريكي.
ولا ادعي انني الوحيد الذي تكهن بنتيجة الانتخابات استنادا الى هذا الحدث بالذات.. فقد نشرت في مواقع عديدة، وفي بعض الصحف المطبوعة، تكهنات مماثلة في النتيجة، وان كانت مختلفة في طريقة التناول. فقد عزى الكثير من الباحثين ظهور ابن لادن في هذا الوقت إلى تخطيط مسبق مع القيادة الامريكية لمساعدة الرئيس بوش على اعادة صور احداث ايلول وبطلها ابن لادن الى الواجهة، وطالما كانت رهان بوش الاول والاخير يقوم على حربه على ما يسمى بالارهاب، الذي يفترض ان يكون ابن لادن زعيمه المطلق، فان مثل هذا الشريط كفيل باحداث اكبر الاثر على الناخبين باتجاه التصويت لبوش.
والواقع انني لا املك دليلا حسيا يفند هذه النظرية، ولا اعتقد ان احدا يستطيع ذلك باي حال. ذلك ان التآمر يقوم اساسا على تحقيق غاية ما باستخدام اساليب ووسائل قد لا تكون سليمة او حتى معقولة. فبالامكان دائما رد أي نتيجة او حدث الى تخطيط تأمري مسبق.. ونادرا ما استطعت ان اثبت لمن يجادل باستخدام مثل هذه النظريات ان نظرية المؤامرة ليست صالحة دائما لتفسير المعطيات والحوادث. الا انني اتفق انها، على تعقيدها في بعض الاحيان، تساعد معتنقها على الوصول الى راحة نفسية من جهة معرفة الاسباب على الاقل.
ولكنني لا اجد مبررا كافيا للاعتماد على نظرية المؤامرة في تفسير الاحداث التي يمكن تفسيرها بشكل اكثر سلاسة بالطرق الطبيعية. واشير هنا الى نظرية علمية تقول ان أي تفسير (علمي) لحدث ما يجب ان يكون (سهلا)، واذا كانت هناك نظريتان لتفسير حدث واحد، فالاصح منهما هي (الاسهل)، أي التي تعتمد طرقا بسيطة وغير معقدة في التفسير. فاذا قلت لصاحبي الذي ينتظرني في الطابق الارضي من بناية ما انني (سأنزل) اليه، فربما سينتظرني عند السلم، رغم ان هناك وسائل اخرى (للنزول)، منها التدلي بالحبال مثلا.
وبالعودة الى موضوعة فوز بوش بناءا على شريط ابن لادن، فان التفسير البسيط الذي اعتمدته ان ابن لادن رغب فعلا في ازاحة بوش عن السلطة، وان الرسالة وصلت الناخب الامريكي على هذا النحو وبالتالي دفعت بعض المترددين الى التصويت لصالح بوش، واستدللت بتغير اسلوب اسامة بن لادن في الخطاب الحماسي الثوري. ولو كان بوش هو من طلب من ابن لادن فعل ذلك، لطلب منه ان يظهر كما عهده الشعب الامريكي، مهددا متوعدا مزمجرا، لا هادئا ساكنا بل ووديعا ايضا.
كما ان مروجي نظرية المؤامرة لا يقولون لنا لماذا يعرفون هم تلك (الحقائق) التي يدعون معرفتها على وجه اليقين، ولا يعرف غيرهم بها، خصوصا أولئك الذين تمسهم بشكل مباشر (الامريكيون في هذه الحال).. اذ لماذا لا يتهم احد الرئيس الامريكي انه يقيم علاقات مع الارهابيين وانه يستخدمهم في حملته الانتخابية؟ اليس اثبات مثل هذا الاتهام كفيل باسقاط ترشيحه؟ بلى، لو استطاع معارضو الرئيس الامريكي، او مؤيدو خصومه اثبات هذه النظرية، ولو من جهة كونها نظرية صالحة للبحث، لما ترددوا في ذلك ابدا.
ان الفشل في تفسير الاحداث على المدى القريب، واساليب الدعاية الموروثة عن الحرب الباردة، والتعتيم وعدم الشفافية الذي تتميز به الانظمة العربية، واستخدام كل وسيلة ممكنة لابعاد تفكير المواطن العربي عن واقعه غير السار.. هي باعتقادي مسببات رئيسة لاعتناق نظرية ترجح عمل تآمري، بدل استكناه الحدث وتحليله منطقيا للوصول الى مسببات حقيقية للاحداث. وطالما وجد من يؤمن يتلك النظريات فلن يكون ممكنا البحث في الواقع العربي بشكل عام.. فالنتيجة التي يصلها اولئك (المحللون) ان هذا شيء مخطط له، وان ما سيأتي بعده مخطط له ايضا، وهكذا دواليك.. ولسنا الا احجارا في رقعة الشطرنج الكبيرة التي يلعب بها الكبار. فهل هناك واقع اكثر بؤسا من تصور حال الشعوب لا حول لها ولا قوة؟ ومن يستفيد من غسل الادمغة هذا؟

Sunday, November 07, 2004

التوافق وطريق الفوز بالانتخابات

قبل سقوط النظام البائد، كانت المعارضة العراقية تعقد اجتماعاتها في المنفى، في لندن وبيروت وحتى في اربيل. ولم تكن تسير هذه الاجتماعات دائما على نحو طيب، فالنزاعات والخلافات كانت موجودة ولم تكن خفية حتى قبل استلام مقاليد السلطة. ولم يستطع المجتمعون ان ينتخبوا حكومة منفى، التي لو قدر لها ان تتشكل لتداركت الكثير مما حدث في العراق نتيجة قصر نظر القيادة الامريكية.
على كل حال، ان ذلك امر اصبح في ذمة التاريخ. ولكني اذ استذكره الان، فلأن اطراف المعارضة الرئيسة اصبحت فيما يلي مجلسا للحكم، ومن ثم نواة المجلس الوطني. وهي القوى الرئيسة الفاعلة في الساحة السياسية العراقية اليوم، والتي يتوقع ان تفوز بمعظم مقاعد الجمعية الوطنية عند اجراء الانتخابات في بداية العام المقبل. ان هؤلاء المختلفين بلا سلطة، قد أئتلفوا اليوم بعد ان آلت اليهم السلطة، فما الذي حدث؟
اذا القينا نظرة على انظمة الحكم عبر تطورها وجدنا انها اما انظمة فردية او جماعية، ديمقراطية او متسلطة. وهذا يعني انه ليس شرطا ان يكون الحكم الجماعي ديمقراطيا (كما هو حال الانظمة الشيوعية). كما ان الانظمة الارستقراطية الاقطاعية ليست احسن حالا وان لم تحكم بايديولوجية صارمة. والفارق بين هذه الانظمة والانظمة الديمقراطية، هو مقدار فسحة الاختلاف، ففي الانظمة الاستبدادية تكون المعارضة في درجاتها الدنيا، بينما تتصاعد درجة المعارضة مع تصاعد الوتيرة الديمقراطية. والواقع، ان القوى السياسية في الدول الديمقراطية نادرا ما تتفق، ليس فقط نتيجة لطموحاتها، ولكن ايضا لطبيعة تمثيل الناخبين المختلفين التي تحملها هذه القوى، والبشر مختلفون طبيعة. ولكن يحدث في بعض الاحيان ان يتفق حزبان او اكثر في حكومة ائتلافبة، وهذا يكون بعد معرفة وزن كل من هذه الاحزاب من خلال صندوق الاقتراع.
لقد كانت خلافات المعارضة العراقية في المنفى، خلافات صحية.. وكانت حدوثها يدل على ترسيخ لمباديء الديمقراطية.. وان كان الثمن الفشل في تشكيل حكومة المنفى. لقد ظننا حين تم تشكيل مجلس الحكم ان تلك التجارب سوف تنعكس ايجابيا على اداء المجلس بحيث تكون تلك الخلافات بناءة وهادفة، وتسير في اتجاه تثبيت اركان الديمقراطية. وفي مناسبة واحدة، اظهر مجلس الحكم خلافاته الى العلن: اصدار قانون ادارة الدولة المؤقت. وقامت الدنيا ولم تقعد، ثم تم التوقيع على هذا القانون بكل هدوء وبدون أي تغيير بعد مرور بضعة ايام فقط. وكان الامر مدعاة للعجب والاستغراب. وكان بعض المقربين من مجلس الحكم يفاخرون بان القرارات لا تتخذ بالتصويت بل بـ(التوافق) وهو نظام عمل جديد افهم منه ان بعض الاعضاء يوافقون على اصدار قرار معين اذا وافق اعضاء اخرون على اصدار قرار اخر (شيلني واشيلك).. ولان دور مجلس الحكم لم يكن رياديا كما كنا نتمنى فقد تأخر تسليم السيادة سنة كاملة. ولكن مجلس الحكم ضمن انه باق في سدة الحكم قبل ان يحل نفسه.
واليوم لم تعد هناك خلافات بين الاحزاب الرئيسة، بل توافقات تضمن لكل طرف جزءا من (الكعكة). هذا الامر ادى الى الغاء دور المسائلة في تحسين ورفع واقع عمل مؤسسات الدولة، فمثلا ليس هناك نقد من المجلس الوطني الى وزارة ما، ناهيك عن رئاسة الوزارة او الرئاسة. فقد يكلف هذا النقد غاليا في المستقبل ويخسر الاعضاء المنتقدون حليفا، سيكون مُهماً مَهما قلّ شأنه. ان التحالفات التي تجري اليوم ليست قائمة على تمثيل الناخبين، وانما على قاعدة التوافق التي اسكتت المعارضين، ولكنها لم تقنعهم. هذه التحالفات التي تعقد دون استشارة الناخبين لا تكترث باصدار برنامج انتخابي، او خوض حملة انتخابية، فليس على الناخب ان يقتنع بجدوى برنامج حزب او كيان سياسي، بل ان عليه ان يصوت بالطريقة التي سيحمل عليها حملا، وباستعمال كافة الوسائل الدنيوية وغيرها.
حينما بدأت المعارضة السابقة في الاتفاق، ولم يعد هناك اختلاف، ارتسمت لي صورة مفادها اننا ننتقل من عصر استبداي فردي الى عصر استبدادي جماعي. وليس من شك، ان رموز المعارضة السابقة هم اناس وطنيون وعانوا من تعسف وظلم النظام البائد. الا ان الساحة يجب ان لا تقتصر عليهم، فمن بقي في العراق ربما كان اكثر تعرضا للظلم، ويستحق ان يأخذ فرصته في الترشح وتمثيل الشعب بكل حرية.. وهذه هي مسؤولية تاريخية تتحملها العناصر المتنفذة للقوى السياسية الحالية. عليها ان تفتح الباب امام الجميع، لا ان تفكر في احتكار السلطة.. في هذه المرحلة على الاقل.

Tuesday, November 02, 2004

اعرف من سيفوز في الانتخابات الامريكية

اليوم يقرر الشعب الامريكي من سيكون رئيسه لفترة الاربع سنوات القادمة. فهل سيجدد الثقة بالرئيس الحالي جورج دبليو بوش، ام سيفضل اختيار المرشح الديمقراطي جون كيري؟ ربما ليس عليّ ان اتسائل كثيرا، فقد تكون الاجابة على بعد ساعات قليلة فقط. الا انني اردت ان اخمن في تلك اللحظات الاخيرة بناء على ما يبدو لي انه المنطق..
فخلال ما يقارب العشرة اشهر من الدعاية الانتخابية توفرت للناخب الامريكي فرص وافرة للحكم على المرشح الافضل من خلال ادائه في تلك الحملات الدعائية.. ومن خلال تمحيص سيرته وما قدمه في الفترة التي كان يشغل فيها منصب عام، سواء الرئيس او عضو مجلس الشيوخ. وكانت هناك الكثير من المبادرات والبرامج السياسية التي عرضها المرشحان، والتي تبادلا خلالها الاتهامات حول صدق نيتهما، او حتى امكانيتهما على تنفيذها، وحللت تلك السياسات والمناهج تحليلا دقيقا، ليس فقط من قبل الفريقين المتخاصمين، وانما من طرف ثالث مكمل واساسي في اللعبة: وسائل الاعلام.
ان نظرة شاملة على مجمل العملية الانتخابية قد توصل المرء الى نتيجة ان الشعب الامريكي قد لا يكون مخيرا في الاختيار، بل ربما يكون مجبرا على هذا الاختيار في بعض الاحيان. والسبب هو الضغط الاعلامي الهائل على الفرد بما يجعله مستلب الارادة وخائر القوى امام هذا الكم الضخم من المعلومات عن المرشحين سواء الجيدة او غير الجيدة منها، والتي تحيره وتربكه وتجعله غير قادر على التركيز. وحتى برامج المرشحين تبدو متداخلة في بعض الاحيان ولا يفصل بينها الا خيط بسيط ربما يكون غير مفهوم للمواطن العادي.
الا ان الذي يحملني على الاعتقاد انني حزرت من سيتولى مهام الرئاسة للفترة التالية، حدوث امر غير اعتيادي، وان لم تركز عليه وسائل الاعلام. ذلك هو تصويت اسامة بن لادن في تلك الانتخابات، من خلال شريطه الموجه للشعب الامريكي. فعلي حين غرة، ظهر الرجل الذي يخشاه الامريكيون اكثر ما يخشون، هادئا ساكنا، غير مهدد ولا متوعد.. ليس من مظاهر مسلحة، وليس من استشهاد بالآي الحكيم، ولاذكر لجهاد ولا لغزو.. من يكون هذا الرجل؟ يتسائل المواطن العادي. تأتيه الاجابة: انه شيخ المجاهدين، اسامة بن لادن.. فيعجب المواطن الذي اطلع فيما مضى على اشرطة اكثر تهديدا، وعلى رجل اكثر صلابة. فيقفز الاستنتاج الى ذهنه مباشرة. اذن فالمطلوب ان لا اصوت لبوش، هذه هي رسالة غريمه.. فان خسر بوش، فان القاعدة وابن لادن سيفرحون اشد الفرح.. وطالما كنت مواطنا امريكيا، ويحزنني ان ارى مثل هؤلاء يشمتون، فلن ادعهم يفعلون. سأصوت لبوش.
طبعا، انا لا اتوقع ان يفوز بوش بنسبة التسعات، ولا حتى بنسبة تفوق الـ60%، ولكنني اتحدث عن فئة من الامريكيين، لا تلتزم بالحزبية، ولا بتحليل البرامج السياسية، ولا تتابع وسائل الاعلام كثيرا بحيث باتت تلك تقرر لهم تقريبا ما ينبغي فعله.. وهؤلاء في الحقيقة هم من يشكل الفارق الحاسم، والذي سيرجح بوش، غريم ابن لادن، على كيري.. الذي لا يعرفه ولا يستطيع ان يجاريه ويلاعبه كما فعل ويفعل جورج دبليو بوش.

Monday, November 01, 2004

الدور الشعبي في تحديد النظام الانتخابي

تمثل المرحلة الراهنة التي يمر بها العراق مرحلة حاسمة، ليس فقط للطبيعة الانتقالية لشكل الحكم فيها، وانما لانعكاس الاحداث التي تجري بشكل او بآخر على شكل النظام السياسي الذي يتوقع ان يستمر لفترة طويلة تمتد لعقود من السنين.
وليس اكثر من تحديد شكل الانتخابات المزمع اجراؤها خلال شهور قليلة، ما يمكن ان يرسم ملامح الانتخابات في شكلها النهائي. فان أي نظام انتخابي سيتم اعتماده، وكما اثبتت التجربة العملية لبلدان اخرى، سيكون على الاكثر هو النظام الدائم، مع اجراء بعض التعديلات البسيطة، او ربما حتى بدون اية تعديلات اذا جاءت النتيجة متوافقة مع توجهات السلطة او الاحزاب المتنفذة. وعلى هذا، يجب التمحيص والتأكد من متانة النظام الانتخابي، ومعاملة الحالة الانتقالية بمثل ألتأني الذي تلقاه الحالة الدائمة. وللوصول الى هذه الغاية، يجب ان يتم عرض النظام الانتخابي، باستخدام وسائل الاعلام المختلفة، واستخدام مبدأ المشاركة الشعبية الواسعة، وعدم الجزم به مبدئيا.
ورغم ان الهيئة الانتخابية المستقلة تتمتع بامكانية اصدار التعليمات والانظمة الانتخابية، الا انها لا يجب ان تكون السلطة النهائية في ذلك. ينبغي ان تشترك في هذه العملية ولو بطريق المشاورة قطاعات مختلفة من الشعب، ابتداء من المجلس الوطني، مرورا بالمجالس المحلية، ومؤسسات المجتمع المدني، والنقابات، والاحزاب، والجامعات والمعاهد، والتي يمكن ان تساهم بشكل فاعل وعملي في رصد التوجهات العامة واقرار صيغ تكون مقنعة وملائمة لطبيعة المجتمع العراقي. ان قانون ادارة الدولة يصمت امام صلاحيات الهيئة، التي تشكلت في حقيقة الامر قبل استلام السيادة، وان كان هذا الامر لا يفقدها المصداقية، الا انه في نفس الوقت يحدد من صلاحياتها. نعم، ان الامم المتحدة تقوم بالاشراف على عمل الهيئة، غير ان الامم المتحدة ليست الا جهة استشارية ولا ينبغي ان تكون لها صلاحية اتخاذ القرار النهائي.
ان الغموض الذي يلف مجمل العملية الانتخابية، واولها تحديد شكل النظام الانتخابي، يبعث على الريبة، ويجعل التساؤل حول جدوى العملية في نهاية الامر تساؤلا مشروعا. فاذا اريد للانتخابات ان تؤدي الى تشكيل حكومة شرعية، حتى وان كانت انتقالية، فيجب ان تستوفي هذه الانتخابات شروطها ولو بالحد الادنى.
ولم يعد الحديث يدور همسا حول استفادة الاحزاب الرئيسية الحالية من الانتخابات، وبالتالي فهي تمارس تأثيرا استثنائيا من اجل اجرائها، بغض النظر عن اكتمال شروطها. ان ممارسة احزاب السلطة تأثيرات وضغوطات للحصول على مكاسب انتخابية هو امر شائع حتى في اعرق الديمقراطيات العالمية. ولكن في معظم تلك الاحوال تكون هذه الاحزاب ذات بعد جماهيري اكتسبته عن طريق صناديق الاقتراع في جولات سابقة. بمعنى ان كل حزب يعرف بالضبط شعبيته من خلال نسب تمثيله في البرلمان، كما يعرف شعبية الاحزاب الاخرى. وليس معنى هذا ان الاحزاب العراقية ليس لها شعبية، بل على العكس من ذلك. فمن المعروف ان معظمها قد نشأ وترعرع على قواعد شعبية واسعة. الا ان العملية الانتخابية لا تؤمن الا بالمعادلات الحسابية لتترجمها الى مقاعد برلمانية.
وهكذا يجب مراعاة الدور الشعبي، الذي يكون له في نهاية الامر القول الفصل في مجمل العملية. وحذار من الاستمرار في تجاهل شرائح المجتمع المختلفة، التي وان لم تتنبه بعد الى مخاطر التعجل، الا انها ستكتشف لاحقا اية اخطاء، مقصودة او غير مقصودة، وستعتبرها تلاعبا خطيرا بمستقبل البلاد. وعلينا ان لا نستمر بالاحتجاج بالمواعيد والتواريخ المثبتة في قانون ادارة الدولة، رغم اهمية التقيد بمجمله. اذ ان روح القانون وتوجهه هو من اجل تكوين سلطة شرعية في العراق.. وطالما كان العمل يسير في هذا الاتجاه، فلن يكون تأجيل الانتخابات لفترة محددة امرا عسيرا.
انني ادعو الهيأة الانتخابية المستقلة، والحكومة المؤقتة، والامم المتحدة، الى تقييم جدي للموقف. فان اخر من نتمناه انتخابات مستعجلة، وغير مفهومة للناخب العادي، وغير متوازنة الفرص، تكون سببا لاثارة البلبة ومشاعر الاحباط بين صفوف الشعب، الذي عاني الكثير من الاحباطات، سواء في عهد النظام البائد، او بعد تحرره منه.

Monday, October 11, 2004

لعبة الانتخابات بين القبول والرفض

منذ سقوط النظام السابق، برزت دعوات كثيرة من اجل اجراء انتخابات تراوحت بين مسؤولي الدوائر الحكومية واعضاء مجالس محلية وصولا الى انتخابات المجلس الوطني المؤقت، دون ان تـُعد اية دراسة علمية، او القيام باي جهد يذكر للتعرف على طبيعة ونتائج الانتخابات لمنصب رسمي، وتأثير ذلك على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
وقد عدّ معظم المواطنين ان الانتخابات هي تجسيد للشرعية وبالتالي فهي الحل لمشاكل البلد المتفاقمة، خصوصا المشكلة الامنية، التي ربما كانت فريدة من نوعها في بلد لا يشهد –لحد الان- حربا اهلية ومع ذلك يقدم الضحايا يوميا بشكل يدعو للرثاء.
ولا يمكن الاعتراض على ان الانتخابات التي يتمخض عنها تشكيل هيئة تشريعية وسلطة تنفيذية، هي خير وسيلة لتسليم السلطة والحكم باسم الشعب. لكن المشكلة في الخطوات المعقدة لهذه الانتخابات. اذ ليست هذه العملية مجرد وضع بطاقة الترشيح في صندوق الاقتراع في يوم محدد.. والواقع ان هذه هي اخر مرحلة في العملية الانتخابية، والتي لا تمثل سوى جزء يسير منها.
فاذا اريد للانتخابات ان تؤدي الغرض المطلوب وجب ان تنفذ بالشكل الصحيح، والا فانها ستصبح بذرة لحرب اهلية حقيقية.. مع الاخذ بنظر الاعتبار ان لا مجال للخطأ والاعتذار بقلة الخبرة. ذلك ان الفائزين بالانتخابات سيصرون دوما على شرعية توليهم المناصب، مقابل اصرار معارضيهم، او منافسيهم، على فقدان هذه الشرعية. ويعلم العراقيون ان من بين الاسباب الرئيسة لتردي الوضع الامني هذه الايام انما يعود للطعن بشرعية الدولة القائمة، محليا على الاقل.
قبل فترة وجيزة صرح السيد رئيس الوزراء، الدكتور اياد علاوي، ان الانتخابات ستجرى حتى لو تخلف عنها بعض العراقيون.. واعطى ارقاما ليستدل على ان نسبة المتخلفين قليلة مقارنة بالراغبين في المشاركة. والحقيقة ان اية نسبة من المواطنين تحرم حقها في المشاركة، مهما تكن قليلة، يمكن ان تكون عاملا اساسيا في تقويض العملية برمتها. والمطلعون يعلمون انه غالبا ما تكون نتائج الانتخابات التي تجرى في جو ديمقراطي، متقاربة الى حد يصبح فيه الحسم لاصوات قليلة.
من جهة اخرى قد يكون من الصعب اقناع بعض المواطنين بالمشاركة، فهي حق خالص، ولا يجوز الزام أي مواطن على المشاركة. وفي هذه الحالة فان ذلك سيكون خيارا فرديا اتخذه المواطن بمحض ارادته. وهو امر يختلف تماما عن استثناء منطقة معينة او مدينة او محافظة من الدخول في العملية الانتخابية، تحت اية ذريعة.
ولكي نحقق انتخابات تحوز على رضا الشعب عموما، يجب ان يتم الوفاء بالمتطلبات الاساسية، ومن اهمها تبني قانون انتخابي وآلية انتخابية تلائم طبيعة المجتمع العراقي، وتضمن التمثيل السياسي المناسب لكافة شرائحه بشكل عادل. تتنوع الانظمة الانتخابية العالمية كثيرا، الا ان اكثرها شيوعا انظمة تقوم على الاغلبية واخرى تقوم على التمثيل النسبي. فانظمة الاغلبية -ببساطة- هي ان من يحصل على اغلبية الاصوات يأخذ كل شيء، سواء كانت الانتخابات بالترشيح الفردي او بالقوائم، حيث ان القائمة التي تحصل على الاغلبية تفوز بكاملها، بينما تخسر القائمة التي تنافسها بغض النظر عن عدد الاصوات التي نالتها. اما نظام التمثيل النسبي، المعمول به في اغلب الدول الديمقراطية، فيضمن نسبة من مقاعد الجمعية الوطنية مناظرة لعدد الاصوات التي تحصل عليها القوائم المتنافسة.
ان نظام الاغلبية قد يكون مناسبا لدوائر انتخابية ترشح نائبا واحدا، وتكون هذه الدوائر متجانسة الى حد كبير اجتماعيا وسياسيا، وحتى طائفيا وعرقيا. فان أي مرشح يفوز عن هذه الدائرة سيكون ممثلا لها بنفس القدر. بينما يكون نظام التمثيل النسبي مناسبا اكثر للدوائر الانتخابية الكبيرة، ومع استخدام اسلوب ترشيح القوائم، حيث يعمل على ترجمة الاصوات الى مقاعد في البرلمان بشكل يعكس تنوع الاطياف السياسية ويحافظ على وجود الاقليات وان كان -مع ذلك- يعطي الاغلبية اكثرية مقاعد البرلمان تبعا لنسبة الاصوات.
غير ان القانون الانتخابي، على اهميته، ليس العامل الوحيد لانجاح الانتخابات. فتقسيم الدوائر الانتخابية قد يكون امرا معضلا، ويغير بشكل حاسم نتيجة هذه الانتخابات. ويتوقف التقسيم على نوع النظام الانتخابي. فنظام الاغلبية يحتاج الى تقسيم البلد الى دوائر انتخابية كثيرة لاستيعاب التنوع وتحقيق اكبر قدر من التجانس في الدائرة الواحدة. ويحتاج هذا النظام الى كوادر متخصصة كبيرة وبالتالي توفير اعتمادات مالية عالية. بينما لا يقتضي النظام النسبي مثل هذا العدد، بل يمكن تقسيم البلد الى دوائر اقل عددا بحيث تسهل ادارة الانتخابات فيها، مما يخفض الكلف بشكل كبير. كما يمكن اعتبار جميع البلد دائرة واحدة، الا ان ذلك ليس بالامر المحمود العاقبة، اذا تحدثنا عن انتخابات لجمعية وطنية. ولكنه امر لا بأس به اذا كان لمنصب الرئيس مثلا، حيث يكون عدد المتنافسين فيه محدودا ومعروفا لجميع المواطنين. وسبب عدم تفضيله لانتخابات برلمانية، ان الاحزاب ستقدم قائمة بجميع مرشحيها في عموم البلاد ويسمح لها بتسمية من واحد الى عدد اعضاء الجمعية الوطنية (275 في هذه الحالة). سيقوم الناخب بالتصويت لقائمة ما قد يجهل معظم الاسماء التي تندرج فيها. وحتى في حالة ائتلاف الاحزاب ضمن قائمة واحدة فان ذلك يحرم الناخب حقه في معرفة من يصوت له، وبالتالي فان الامر يبدو وكأنه طبخة سياسية.
ومن الامور المهمة الاخرى، ضرورة وجود هيئة مستقلة للاشراف على مجمل العملية الانتخابية، وهي موجودة فعلا، وقد تم تشكيلها قبل حوالي اربعة اشهر. الا ان هذه الهئية يجب ان تدرب بشكل جيد، خصوصا بغياب الخبرة المحلية في هذا الاتجاه. كما يجب اعداد كوادر، دائمية اومؤقتة او كليهما، لادارة الانتخابات في المناطق، وتدريبها لتلافي الاخطاء التي قد تكون ذات تأثير مباشر على النتائج. كما يجب اجراء عملية تسجيل للناخبين، وليس الاكتفاء بالتعداد السكاني. حيث ان تسجيل الناخبين يعكس بشكل افضل الراغبين بالمشاركة، وبالتالي تدفع بالنتائج الانتخابية الى مستويات جيدة. بينما يكون الاعتماد الكلي على التعداد السكاني مبنيا على افتراض رغبة الجميع بالمشاركة، وهو امر غير واقعي. على ان التعداد السكاني مهم للوقوف على معلومات تتعلق ليس فقط باعداد المواطنين وانما بالمستوى الحضاري والثقافي والاقتصادي وما الى ذلك، مما يمكن ان يساعد في فهم طبيعة المجتمعات المحلية وتركيبتها السياسية، مما يؤدي الى تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل متوازن وعادل.
وفي عجالة اذكر امورا اخرى لا تقل اهمية عما سبق، منها توفير المراكز الانتخابية وحمايتها، منح الوقت الكافي للمرشحين والاحزاب للتعريف ببرامجها والدعاية الانتخابية، تثقيف مجتمع الناخبين حول مجمل العملية الانتخابية وحثهم على المشاركة، ضمان نزاهة الاقتراع وسريته، وغير ذلك مما يطول شرحه.
ومن بين جميع الامور التي اوردتها، لم يتحقق في الفترة المنصرمة غير تشكيل الهيئة الانتخابية من قبل الامم المتحدة، التي طلع علينا امينها العام، السيد كوفي عنان، ليصرح ان تأجيل الانتخابات قد يكون امرا جيدا مع استمرار الوضع الامني الراهن. فاذا اخذنا جميع العوامل اعلاه بنظر الاعتبار، فقد يكون مثل هذا التأجيل مفيدا. فما الحكمة في انتخابات متعجلة وغير مفهومة لمجتمع الناخبين؟ هل سيتم الاعتراف بنتائجها بشكل آلي؟ ماذا يمكن ان يحدث ان رفضها البعض؟ اية دوامة يمكن ان يجر البلد اليها اكثر من الدوامات التي هو فيها الان؟
اعتقد ان اجراء اية انتخابات هو عملية مماثلة لصنع طائرة، فاذا لم تتناغم جميع اجزائها عند تشغيلها، فلن نتوقع منها الطيران، وان كان شكلها الخارجي يحمل سمات الطائرة. مع ملاحظة ان الطائرة يمكن ان يعاد تصنيعها اذا فشلت في بعض التجارب، اما الانتخابات.. فهيهات.

Thursday, September 16, 2004

قانون السلامة الوطنية.. خطوة للامام وخطوتين للخلف

اصدر مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء مجتمعين في السادس من تموز 2004 قانونا للطوارئ تحت اسم (قانون الدفاع عن السلامة الوطنية) والذي جاء في الاسباب الموجبة له انه صدر "للظروف الامنية الخطيرة.. وضرورة التصدي الحازم للارهابيين والعابثين بالقانون".
ولاشك ان البلاد تمر اليوم بمرحلة دقيقة وتواجه تحديات مصيرية قلما تعرضت لها بلدان اخرى في العالم. هذه التحديات تتمثل في محاولة اجهاض الديمقراطية الوليدة في العراق، وافشال التجربة التي لو كتب لها النجاح لكانت مصدر خطر كبير على الانظمة الاستبدادية المحيطة بالعراق. فاذا كان دول الجوار هي التي تلعب الدور الرئيس في تغذية العنف والارهاب في العراق، كما تكرر التصريح الرسمي بذلك، واذا كانت التجربة الديمقراطية هي المستهدفة، فان من اللازم ان تكون التشريعات منصبة بهذا الاتجاه وليس باتجاه تضييق الحريات وتركيز السلطة، الامر الذي لو استمر على هذا المنوال لعاد بالبلاد الى الوراء.. الى عصر الديكتاتورية القمعية التي كانت –تحت ذريعة الامن- تستأثر بكل السلطات وتركزها في قمة هرم الحكم.
ومن المعروف ان هناك علاقة عكسية بين الحريات والامن، فكلما كانت التشريعات منصبة باتجاه تعزيز الامن، فان ذلك يكون على حساب الحد من الحريات. ولهذا يجب عدم التوسع في استخدام الذريعة الامنية.. اذ ان كبت الحريات سرعان ما سيتحول ذاته الى عنصر مقلق للامن قد لا يكون اقل خطرا من الانفلات والحرية المطلقة.
ان قانون السلامة الوطنية التي تؤكد ديباجته انه صدر استنادا الى قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية، إنما هو انتهاك لهذا القانون. فقد ورد في الفقرة (ب) من المادة الخامسة والعشرين من قانون ادارة الدولة (وهي المادة التي يشير اليها قانون السلامة الوطنية) ان الحكومة العراقية الانتقالية تختص بـ"وضع وتنفيذ سياسة الامن الوطني، بما في ذلك انشاء قوات مسلحة وادامتها لتأمين وحماية وضمان امن البلاد والدفاع عن العراق". ومن الواضح ان النية تتجه في هذا النص الى تقوية وتعزيز الجيش لمواجهة العدوان الخارجي، وليس التمرد الداخلي او اعمال التخريب سواء كانت من قبل عراقيين او اجانب يسكون في العراق. ان مواجهة مثل هذه الاعمال التي تتعرض للامن الداخلي لا تحتاج الى اصدار قانون خاص، بل الى تطبيق القانون الموجود اصلا. وهذا يقود الى صلب المشكلة الامنية في العراق، الا وهي الضعف الواضح للاجهزة الامنية وخصوصا اجهزة الشرطة الوطنية، والى عدم تطبيق القوانين السارية بحق المجرمين، او حتى ابسط المخالفين (مثلا منع قيادة السيارات التي تكون عجلة القيادة فيها على اليمين، رغم وجود قانون صريح بذلك).
من جهة اخرى، فانه لا يمكن اصدار قانون يمنح رئيس الوزراء صلاحيات واسعة (مع امكانية تخويل صلاحياته الى قادة اخرين) بحجة ان ذلك يقع ضمن "وضع وتنفيذ سياسة الامن الوطني" التي تشير اليها المادة 25، اذ ان ذلك يُعدّ توسعا في التفسير لا مبرر له. فاذا اعتمدت تفسيرات مثل تلك، فسيكون هناك في المستقبل قوانين كثيرة استنادا الى هذه المادة التي تحدد الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية. ولفظ (حصرا) يجب ان يفسر باتجاه تحديد الصلاحيات، وليس باتجاه توسيعها.
لابد من الاقرار ان هناك حاجة ماسة مواجهة التدهور الامني في الوقت الراهن، ولكن ليس بالضرورة ان يكون تصريف جميع الامور بيد رئيس الوزراء كما تريد المادة الثالثة من قانون السلامة الوطنية ان تصرح. فقد خولت هذه المادة صلاحيات "وضع قيود على حرية المواطنين والاجانب في العراق في الجرائم المشهودة". فاذا كانت الجرائم مشهودة والتهم ثابتة، فما الحاجة الى تدخل رئيس الوزراء؟ لماذا لا يتخذ القانون مسلكه الطبيعي، فيجري احتجاز المشتبه بهم وتقديمهم الى القضاء حسب الاصول؟
ان قائمة صلاحيات رئيس الوزراء التي تنص عليها المادة الثالثة، هي قائمة مرعبة حقا، وتشمل حق احتجاز المشتبه بسلوكهم ووضع القيود على حريات الانتقال والتجوال والتجمع والتجمهر والمرور والسفر، وهي حريات ضمنها قانون ادارة الدولة. كما يمكن لرئيس الوزراء فرض حظر التجوال (وان كان لفترة قصيرة) على المنطقة التي يرى انها تشهد تهديدا للامن. ويمكنه فرض قيود على الاموال ومراقبة الطرود والرسائل البريدية والبرقيات ووسائل الاتصالات ووسائل النقل والمواصلات. وقد خبر الشعب العراقي طويلا هذه المراقبات، ولا يبدو انها كانت لاسباب مختلفة جوهريا.
غير ان اكثر هذه الصلاحيات غرابة ما ورد في الفقرة السادسة من المادة الثالثة، التي تجيز لرئيس الوزراء مراقبة اعمال ووضع الحراسات على مؤسسات المجتمع المدني، وامكانية حلها او ايقافها مؤقتا. ان هذه الصلاحيات محددة بكون تلك المؤسسات قد ثبتت صلتها بالجرائم الارهابية. ومرة اخرى، لا اجد مبررا ان يكون ذلك عن طريق رئيس الوزراء، وليس القاضي المختص ضمن الرقعة الجغرافية. ان مبدأ فصل السلطات هو احد اهم مباديء الديمقراطية، والذي يعني ان تكون السلطة القضائية مستقلة تماما عن السلطة التنفيذية. نعم.. هناك تأكيد على استحصال قرار قضائي في هذا القانون، وفي هذه الحالة فان السلطة التنفيذية يجب ان تنفذ هذا القرار. أي ان تنفيذ القرار القضائي هو واجب السلطة التنفيذية، وليس صلاحية لها.
وتنص المادة السادسة من قانون السلامة الوطنية على انه "ترتبط القوات المسلحة وقوات الطوارئ والقوات الخاصة والدفاع المدني والاجهزة الامنية والاستخباراتية والمخابراتية في المنطقة محل الطواريء برئيس الوزراء مباشرة" وهذه مخالفة صريحة لنص المادة التاسعة والثلاثون (الفقرة ب) من قانون ادارة الدولة التي تعطي رئيس الوزراء القيادة العملياتية للقوات المسلحة فقط. وهنا اشارة اخرى الى مركزية لا داعي لها. وفي الحقيقة فان الاتجاه العام لقانون السلامة الوطنية هو نحو تعزيز المركزية وتقويض اللامركزية، خلافا للمادة الثانية والخمسين من قانون ادارة الدولة التي تنص على انه "يؤسس النظام الاتحادي بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية". ومن ذلك ما ورد في المادة السابعة من قانون السلامة الوطنية التي تحدد مهمات للمحكمة الجنائية (المركزية) واخرى للمحاكم الجزائية (في المناطق على ما يبدو)، فاذا لم يكن ذلك نابع عن عدم الثقة بالقضاة المحليين، فهو بالتأكيد يصب في تكريس المركزية وتركيزا للسلطة في الحكومة (الاتحادية).
كما ان القانون لا يعطي أي دور الى حكومات الاقاليم والمحافظات (ما عدا اقليم كردستان). بل ان اكثر من هذا ان المادة التاسعة اعتبرت المجلس الوطني المؤقت (الذي يجري تشكيله حاليا)، هو (جمعية استشارية) لها الحق فقط في مراقبة تنفيذ الاجراءات، خلافا للقسم الثالث من ملحق قانون ادارة الدولة الذي يمنح المجلس الوطني حق نقض الاوامر التنفيذية باغلبية الثلثين. وفي المقابل تمنح نفس المادة من قانون السلامة الوطنية صلاحيات الغاء اجراءات رئيس الوزراء الى محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية العليا، دون ان يكون هناك اساس لذلك في قانون ادارة الدولة. ان عكس الادوار هذا يؤدي الى تباطؤ في اتخاذ اجراءات لمنع التعسف. ان اللجوء الى القضاء يحتاج الى من يحرك الدعوى اصوليا، وتستغرق الاجراءات القضائية وقتا غير قصير. بعكس دور المجلس الوطني الذي يمكنه التفاعل سريعا مع الاحداث، واتخاذ اجراءات مناسبة في وقت قصير نسبيا. ان هذه التشريعات تطلق يد رئيس الوزراء بشكل كبير، وهو خطر على العملية الديمقراطية من ناحية الاخلال بالتوازنات الضرورية في السلطات.
غير ان قانون السلامة الوطنية لم يتعرض لحرية الاعلام بشكل مباشر، الا اذا اعتبرت مؤسساته واقعة تحت طائلة الفقرة 6 من المادة الثالثة التي اسلفنا ذكرها. كما انه شدد على تطبيق بعض الحقوق الاساسية مثل وجوب ان يمثل المتهم امام قاضي التحقيق خلال 24 ساعة (المادة الرابعة). ومنع القانون رئيس الوزراء من الغاء بعض او كل قانون ادارة الدولة (المادة الحادية عشرة)، وعدم امكانية استخدام الامر لتعطيل اجراء الانتخابات في المدة المحددة (المادة الثانية عشرة).
ان قانون السلامة الوطنية، رغم الترحاب الشعبي والرسمي الذي حظي به، هو قانون متعجل وغير مبرر وغير دستوري. ويمكن لتأثيره النفسي ان يعود بفائدة ما على الشعب العراقي، ولكن على حساب تحديد الحريات وفرض سلطة الدولة على مؤسسات المجتمع المدني، وتركيز السلطة بدلا من اشاعة اللامركزية. واغفل القانون الفدرالية تماما الا بما يتعلق بكردستان (وهو امر يبعث على الريبة).
وبالمقابل نقترح ان يتم الاعتماد اكثر على القوات المسلحة لحماية الحدود، واعطاء الدور الاساسي للمجالس المحلية والحكومات في المحافظات لمعالجة المشاكل المستعصية، من خلال دعم اجهزة الشرطة فيها ومنحها التخصيصات والمعدات المناسبة. والعمل على احلال دولة القانون، والاسراع ببناء المؤسسات الديمقراطية، فهي الضمانة الاكيدة للشعب العراقي ضد عودة التسلط والديكتاتورية.

Tuesday, May 25, 2004

كيف نبني الديمقراطية.. ولماذا؟

ربما يحمل تساؤل العنوان تناقضا ضمنيا.. فاذا كنا نفكر في طرق بناء الديمقراطية، فما الداعي لبيان ضرورتها؟ وإذا كنا نشك في هذه الضرورة فلماذا علينا التفكير في بناء الديمقراطية أصلا؟
الواقع إن الديمقراطية تكون هشة في مرحلة البناء، وتزداد صلابة مع ترسيخ مبادئها. ولذلك يحتاج بناؤها إلى الكثير من التأني في العمل، ويستغرق زمنا ليس بالقصير لإرساء مفاهيم جديدة وتغيير مفاهيم أخرى نشأت عليها أجيال متعاقبة من الشعب العراقي تحت وطأة الدكتاتورية والحكم الفردي.. وطيلة هذه المدة لن يكون للديمقراطية ثمار قريبة، بل على العكس ربما حملت عملية البناء معها الكثير من السلبيات التي تؤدي الى الشك في فائدة التطبيق، وما إذا كانت تستحق فعلا العناء. لذلك سأحاول أن ابدأ بالإجابة على التساؤل الثاني.. لماذا علينا ان نبني الديمقراطية؟
لاشك ان العراقيين عانوا طوال عقود من الزمن من أهوال حكم تسلطي فردي يصنع القرار فيه خلف أبواب مغلقة وينأى صانعوه عن المسائلة، حتى تحولت الدولة الى ساحة تجارب لقرارات فئة من غير المتعلمين والغير صالحين لتولي المسؤوليات العامة، الذين لم تكن مؤهلاتهم أكثر من قربهم من شخص (الرئيس) أو لأنهم اثبتوا ولائهم له عن طريق كبت الأصوات المعارضة بالنار والحديد إذا اقتضى الأمر. والأنكى من ذلك ان معظم هذه القرارات أصبحت تصدر عن (القائد الضرورة) شخصيا، بعد ان تلاشت المعارضة له على كافة المستويات.. وبالتالي أصبحت شطحات فكره (الملهم) نبؤات واجبة التطبيق وعلى الجميع ان يصفق لها مهما كانت النتائج المحتملة وبيلة.. حتى أن بعضها أدى إلى تقويض نظامه نفسه.
نعم.. ان الديمقراطية هي البديل عن الوضع المأساوي الذي آل اليه شعب ودولة العراق بسبب الحكم الفردي. غير ان تساؤلا آخر سرعان ما يجد طريقه. ففي دول عديدة مجاورة ليست الديمقراطية هي الخيار المطروح، بل بضعة مفاهيم منتقاة منها. فهل يجب تطبيق الديمقراطية بالمفهوم الغربي؟ وهل تصلح للتطبيق في مجتمع شرقي محافظ كالمجتمع العراقي؟
قدمتُ أن طريق تطبيق الديمقراطية كمفاهيم عليا سيكون شاقا باعتبار اننا نبدأ من الصفر (او ربما تحته) ولكننا لا نملك خيار آخر. فحتى محاولة اقتباس مفاهيم مثل مفهوم حقوق الإنسان دون أخرى مثل مفهوم الحرية الفردية، سيؤدي في النهاية الى إلغاء دور المُقتبس. وفي الدول التي تخضع لنظم حكم فردية تحاول تطبيق بعض المفاهيم بدعوى الإصلاح، إنما يكون ذلك تحت رقابة مشددة للتأكد من أن أية مساحة إضافية للحرية قد يكتسبها الشعب يجب ان لا تؤدي إلى تهديد نظام الحكم القائم. ولن تتردد قيادات هذه الدول في إيقاف أي إصلاح سيؤدي إلى مسائلة القيادة العليا، أو هز صروح السلطة وتعريضها للخطر.
وربما شعر الكثيرون، اننا قد نكون اسعد حظا إذا طبقنا نظاما مشابها للنظام المصري، او الجزائري، او حتى النظام الأردني. وكل تلك الأنظمة كانت بالمقارنة مع النظام السابق في العراق أنظمة معتدلة تستطيع ان توفر بعض الأمن والرفاهية لشعوبها. لكن المشكلة الحقيقة تكمن في ان هذه الأنظمة تأسست عبر عقود من الزمن، مرت خلالها بمراحل تحول جعلها توزان -إلى حد ما- بين الرغبة في الاحتفاظ بالسلطة وبين مصلحة الشعب، ولو في حدودها الدنيا. وقد كان بمقدور نظام صدام فسح المجال لبعض الحريات وبعض المشاركة في صنع القرار، وهو ما كان كفيلا بمنع المآسي التي حدثت من حروب وتهجير وحصار، واحتلال آخر الأمر. ولكن نرجسية صدام وعنجهيته منعته من التفكر بالنتائج بعقل منفتح.. وحدث ما حدث. فماذا علينا أن نفعل؟ أن ننصب رئيسا يكون اقل تسلطا، ولكن ليس بالضرورة أكثر ديمقراطية؟ أم أن نقيم نظاما يطبق مباديء معينة دون اخرى، مثل الانتخابات الدورية مع تقييد حرية التعبير عن الرأي؟
ومن جهة أخرى فان الشعوب في الدول مثار الجدل ليست بأحسن حالا من الشعب العراقي، لا سابقا ولا حاليا. فعنصر الأمن الذي يشكل هاجس الشعوب الأول، هو نفسه هاجس حكومات تلك الدول. فالشعوب ترغب في الأمن العام كطريق لبناء الرفاهية العامة، بينما ترغب الحكومات في الأمن لنفسها. ومتى كان هناك تهديد لأمن الناظم الحاكم، فلن يكون الأمن العام محل اهتمام كبير.
وهكذا فان انهيار نظام الحكم في العراق، برّز بشكل واضح أهمية نظام متماسك لا يكون فيه فصل بين السلطة الحاكمة والشعب، لان الحكومة تكون (من الشعب) وتعمل (لأجل الشعب) وليس لبقائها وتسلطها على حساب المصلحة العامة. وهذه هي أولى المفاهيم في النظم الديمقراطية، والتي تكرسها الانتخابات الدورية الحقيقية وغير الصورية كما هو الحال في كثير من الدول التي قد يود البعض اقتباس تجربتها.
تتضمن الديمقراطية آليات معينة تضمن تقسيم السلطات وإيجاد توازن بينها منعا لتسلط فئة او فرد، وهذه محددة بقانون أعلى (الدستور) يكون له صفة الثبوتية وان كان يمكن تعديله، إذا كانت هناك ضرورة قاهرة. ومن المباديء المهمة مبدأي سيادة القانون واستقلال القضاء. وفي جميع الدول تجد اشارات الى جميع هذه المباديء، وان كان تطبيقها صوريا فقط في الكثير منها.
ولا أريد هنا أن اسرد المباديء التي تقوم عليها الديمقراطية، ثقة بان معظم العراقيين اليوم يعلمون جلّها. ولكن ما أريده هو أن أبين كيفية جعل هذه المباديء أسسا مشتركة للعمل. فالدستور ضمانة ومرجع، ويجب أن يكتب بكثير من التمحيص وان يراجع مرات عديدة. كما يجب أن يكون الاستفتاء عليه شفافا وحرا ونزيها. يجب أن يكون لدى كل عراقي قناعة بان هذا الدستور يمثل هويته وانتماءه بقدر شعوره بأنه يمثل المصلحة الوطنية. إن شعوب العالم الديمقراطي تفخر بدساتيرها، وهو ما يجعلهم يتمسكون به.. وهذه هي أولى مراحل البناء.
ويمكن اعتبار الانتخابات بموجب الدستور المرحلة الثانية للبناء الديمقراطي. ولكن علينا أن نلاحظ مسألة مهمة هنا. فالانتخابات مهما كانت نزاهتها لا يمكن أن تضمن وصول الأصلح إلى مواقع المسؤولية. نعم، يمكن وضع الشروط والمؤهلات، ولكن لا يمكن تغيير طبيعة بعض الأفراد الجامحين إلى السلطة، والذين إذا قدر لهم التمكن منها بطريق الانتخاب دون ردعهم باليات مناسبة، فلربما ينقلبون عليها ويستأثرون بالسلطة، مما سيلحق نكسة للديمقراطية قد لا تتمكن من تجاوزها. لذلك يجب العمل على إيجاد توزان للسلطات الثلاثة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث لا يمكن لأحدها أن تنفرد بالسلطة.
إن تعدد طوائف واثنيات الشعب العراقي، والتي ربما كانت حالة متميزة في المنطقة، تجعل من الصعب إيجاد نظام متجانس على أساس الانتماء العرقي أو المذهبي. ولكن إذا اتجه التفكير إلى تشكيل تجانس يعمل لصالح المصلحة الوطنية العليا فلن يكون الأمر بهذه الصعوبة. وهذا يقتضي منا أن نفكر بمبدأ أساس في النظم الديمقراطية وهو مبدأ إمكانية التوصل إلى الحلول الوسط. وقد يعتبر البعض أن سياسة الحلول الوسط غير سليمة، باعتبار أن التسويات تعني التنازلات.. ولكن ذلك هو جوهر المشكلة، فبدون تقديم بعض التنازلات كيف يمكن التوصل إلى صيغ مرضية للجميع؟ لقد عانى الشعب العراقي، من حيث يدري أو لا يدري، من مشكلة التعنت ورفض الحلول الوسط، التي لو قدر التوصل لها لكان حاله على غير ما هو عليه الآن.
وهكذا فان الديمقراطية، بكل ما تحمله من مباديء وأسس، إنما ترجع إلى ركيزتين أساسيتين: المشاركة وإمكانية التوصل إلى حلول وسط. فالمشاركة تبدأ من صنع القرار إلى تطبيقه، من خلال الانتخابات والشفافية والمسائلة وتنمية دور وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.. بينما يكون دور إيجاد الحلول أثناء عملية صنع القرار، عن طريق فسح المجال للرأي والرأي الأخر، واحترام حقوق الأقليات، والاهم من ذلك تقديم المصلحة الوطنية على مصلحة القوميات والجماعات والأحزاب وحتى المصلحة الشخصية.
لقد قطعت عملية بناء الديمقراطية في المجتمع العراقي شوطا كبيرا، ولازال هناك الكثير من العمل من اجل رفع البناء وزيادة تماسكه ولن يكون ذلك ممكنا إلا إذا اتفق العراقيون على ضرورة هذا البناء واقروا عن قناعة بأن الدولة الديمقراطية المؤمل إقامتها في العراق والتي ينعم أبناؤها بالمساواة والحرية والرفاهية والأمن، تستحق كل هذا العناء.

Wednesday, May 05, 2004

التطرف والارهاب في الميزان

منذ اقدم عصور التاريخ، كانت لدى الانسان على الدوام نزعة للخوف من المجهول، عبر عنها باشكال مختلفة ووسائل متباينة. وكان المجهول بالنسبة اليه كل ما لا يستطيع التعرف الى منشئه او سبب وجوده، او مجرد عدم فهم كنهه. فالزلازل والفيضانات والبراكين والعواصف وغيرها من الكوارث الطبيعية تشكل التهديد الاكبر لوجوده كونها تمس الكائن البشري كفرد، كما تحطم كيانه كمجتمع احيانا. وكان تفسيره الاولي لهذه الكوارث انها نتيجة غضب قوى خفية لافعال قام بها افراد من المجتمع، بعد ان اخذ يطور عقائد دينية اتخذت الشكل الوثني عموما. فعمد الى استرضاء الالهة اولا بتجسيدها كأصنام، فاله الشمس واله الريح واله الخصب واله البحر واله الزلازل وغيرها ما هي الا تعبير عن رغباته ورهبته من تلك القوى الخفية التي شعر انها تستطيع سلبه حريته او رزقه او ربما حياته. واتخذت العبادات اشكالا مختلفة، من التقرب والصلاة، الى النذور والقرابين. وربما كانت القرابين البشرية هي اشد حالات العبادة تطرفا.
التطرف.. محاولة للفهم
ان التطرف الذي احاول ان اجد تعريفا له، انما هو حالة انسانية متأصلة، يعبر بها بعض ابناء البشر عن تفسير للظواهر غير المألوفة، وعن خوفه من المجهول. فحتى في الديانات السماوية الثلاثة، نجد انماطا من العبادة المتطرفة، من الرهبنة والتصوف، التي تدعو الى كبت الشهوات والزهد في الحياة.. وتصل الى حد محاربة الذات في طريق ارتقائها الى الكمال.
ورغم ان الذين سلكوا مسلكا دينيا متطرفا كانوا قلة، الا انهم عبر العصور استطاعوا كسب تقدير اغلب ابناء جلدتهم، وكانوا امثلة تحتذى وعلامات جديرة بالتقديس. وكانوا في اغلب الاحيان اناسا مسالمين يدعون الى عبادة هادئة مطمئنة، ويأملون في اقامة مدينة فاضلة تحمل ميزاتهم، وان كانوا يدركون استحالة جمع كل بني الانسان تحت خيمة الفضيلة. ان محاربة النزعات الفطرية المتمثلة بحب الذات واشباع الشهوات وغيرها، انما هي عمل خارق يحتاج الى ارادة جبارة وعقل منفتح.
واذا كان الانسان في طريق التطور العلمي استطاع التوصل الى تفسير الكثير من الظواهر الطبيعية، بحيث لم يعد تبريرها بالغضب الالهي مقنعا للكثيرين، فقد ظلت ظواهر اخرى تحير العقول، خصوصا ما يتعلق بالحياة والموت وعجز الطب الحديث عن ايجاد علاجات لامراض تفتك باعداد غير قليلة من البشر. وبدلا من التحول عن الدين – نتيجة التطور العملي– فقد ازداد الاقبال عليه بسبب الشعور الداخلي بعقم التوجه العلمي، خصوصا في المجتمعات الاكثر فقرا وحرمانا.
ان مشكلة الشباب –كما يقول افلاطون– هي الانتقال من تطرف الى تطرف مقابل. والفضيلة انما تكمن بين رذيلتين. فالشجاعة فضيلة بين رذيلتي الجبن والتهور، والكرم فضيلة بين البخل والتبذير.. وهكذا. وكثيرا ما تجد اناسا كانوا في الماضي من مرتكبي الموبقات وانهم ربما ارتكبوا كل فاحشة ممكنة، ولكنهم تحولوا في لحظات نورانية الى دعاة لنبذ جميع الشهوات، حتى الفضلى منها، كوسيلة للخلاص الابدي والسعادة الدائمة، التي يرون انها لن تتحقق يوما في هذه الحياة الدنيا.
الارهاب وتطوره تاريخيا
ان محاولة ايجاد تعريف لمصطلح الارهاب تكتنفها صعوبات كثيرة. فالكثيرون يعتقدون ان الارهاب انما هو الاتيان بافعال ذات طابع عدواني، لفرض وجهة نظر معينة، او التنبيه حول قضية، وان من يقوم به انسان غير عابيء بما ينتج عن هذه الافعال من تدمير وخراب او قتل وجرح وتشريد. وعلى هذا فهو فعل شائن مهما كانت دوافعه او مقاصده. بينما يرى اخرون ان الارهاب انما يكون فعلا شائنا اذا قصد به الحاق الاذى بالابرياء بطريقة مستهترة غير مسؤولة. ورغم كل الاختلافات، فان افعالا مثل تفجير قطار ركاب او عمارات سكنية او ما شابه هي افعال مستنكرة على نطاق واسع.
ولما كان التدمير الواسع هدف بحد ذاته لمن يقوم بهذه العمليات، سواء من ارتكبها بنفسه، او من يحث عليها.. فان الاستنتاج يقفز الى الذهن ان هذه العمليات التي توصم بالارهاب هي اشياء مستحدثة وليست ذات جذور تاريخية، باعتبار ان التدمير باستخدام المتفجرات شيء حديث نسبيا.
غير ان حقائق التاريخ تكشف ان الارهاب قديم ايضا. فرغبة البشر في فرض عقائدهم بالقوة، سواء كانت دينية ام سياسية، ادت الى ممارسات لاضطهاد فئات معينة تخالفهم، وبالتالي اجبارها على اعتناق هذه العقائد باستخدام سيل الموت والتعذيب والتشريد الجارف.
وربما شجعت الفجوة بين الحضارات القديمة على قيام الاقل تحضرا بالهجوم على جيرانهم المنعمين بالحضارة، كما هو الحال في هجمات العيلاميين على البابليين، والهكسوس على المصريين، والمقدونيين على الاثينيين.. وهجوم المغول الكاسح على الحضارة الاسلامية اليانعة. وحتى الثورات الكبرى في التاريخ، ارتكبت اعمالا تعد ارهابية في تعبير عصرنا الحاضر، كما هو الحال في الثورتين الفرنسية والروسية البلشفية. صحيح ان بعض هذه الامثلة هي لدول تحارب دولا اخرى، الا ان الدول المهاجمة كانت في اغلب الاحيان تحت حكم دكتاتوري فردي لملك او زعيم قبيلة، وان العمليات تدبر حسب خططه وحده، وتمثل وجهة نظره وايدولوجيته.
ان مقابلة بسيطة بين الحوادث التاريخية وما يجري اليوم تثبت ان الرغبة في فرض الرأي على الاخرين، والحسد، والخوف من ضياع الهوية، هي دوافع ذات ارضية واسعة يمكن –اذا توفرت لها فرصة الظهور والتمكن– ان تنتج فئة تأتمر بامر قائد يعد رمزا لنضالها وعنوانا لرغبتها في تغيير المنهج المستهدف الى منهج متشدد لا يؤمن الا بحقائق قليلة ولا يلزم نفسه الا بالقليل من القواعد التي تعارف عليها الاخرون.
جدلية التطرف والارهاب
لا يمكن الاستنتاج بصورة مباشرة ان عدم التوصل الى علاج ناجع لمرض الايدز لحد الان هو سبب لتفجير عمارات سكنية في روسيا، ولا يدعي احد ذلك. ان متطرفا ما يستطيع ان يثبت ان ابتعاد بني البشر عن القيم السماوية ادى الى شيوع امراض فتاكة تهدد الجنس البشري، ولكنه لن يدعو الى افنائهم باستخدام اسلحة فتاكة.
من جهة اخرى، فان قادة المجموعات التي توصف بالارهابية كثيرا ما يعبرون عن غطرسة الحضارة الغربية، وعن ظلمها للشعوب الاكثر فقرا، ولذلك ابتليت بكوارث شتى منها الاوبئة التي لا يمكن علاجها.
وهكذا فان المتطرفين والارهابيين قد يلتقون عند نقطة، ولكن ليس بالضرورة ان تكون افكارهم متطابقة في غيرها. غير ان هذا الالتقاء قد يستثمر لايجاد تعاطف واسع مع القضايا التي تدعو اليها المجموعات (الارهابية)، مستغلة التعاطف الفطري مع القضايا التي يدعو اليها (المتطرفون).
ان التطرف لا يؤدي الى الارهاب.. لكنه يمهد ارضية لقيامه. واذا كان لنا ان نضع ميزانا، فان ميزان التطرف يميل نحو الخير بشكل متمهل، بينما يميل ميزان الارهاب نحو الشر بشكل حاد. والحقيقة التي يعيها البشر عموما، ان الموازين يمكن ان تتأرجح بحيث تجعل الامور ضبابية، وذلك يجعل الحكم عليها امرا بالغ الصعوبة احيانا.

Thursday, March 25, 2004

نحو الدستور الدائم: الدستور المؤقت.. لمحات وافكار

لاشك ان صدور "قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية"، او ما يعرف بالدستور المؤقت، يعد خطوة مهمة في عملية نقل السلطة وبناء المؤسسات الديمقراطية. وهو الوثيقة الاساسية التي ستحدد مستقبل العراق، وترسم الخطوط العريضة للدستور الدائم. واذا كانت جميع البلدان في العالم، سواء التي تتمتع بنظام ديمقراطي حر، او تلك التي لازالت ترزح تحت نير نظام استبدادي، اذا كانت جميع هذه البلدان تمتلك وثيقة تستند اليها في اصدار التشريعات وتحديد الصلاحيات لجميع فئات السلطة، فان الشعب العراقي ممثلا بمجلس حكمه استطاع التوصل الى وثيقة مميزة وتحمل سمات، قد لا تكون فريدة، ولكنها رائدة في منطقة الشرق الاوسط والعالم العربي على الاقل.
ان هدف هذا البحث هو محاولة استكشاف العناصر التي تجعل من قانون ادارة الدولة العراقية وثيقة مميزة، وفيما اذا كان يحقق رغبات الشعب، للمرحلة الراهنة.
واول تلك الاشارات اعطاء صفة الديمومة على الدستور (حتى وان كان مؤقتا). فقد نصت المادة الثالثة (أ) من الباب الاول الذي يبين المباديء الأساسية، على انه "لا يجوز تعديل هذا القانون الا بأكثرية ثلاثة ارباع اعضاء الجمعية الوطنية، وإجماع مجلس الرئاسة". وهذا الشرط يجعل من تعديل الدستور امرا بالغ الصعوبة، ولكن هناك فرصة لإنجاز ذلك إذا كانت هناك ظروف قاهرة تدعو لمثل هذا التعديل. ومثل هذه الديمومة كفيلة بمنع التعديل وفقا لأهواء وضغوطات قد لا تكون مبنية على أساس متين من الدراسة والبحث.
وتشير المادة الرابعة الى ان نظام الحكم في العراق "جمهوري، اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي" وتستعمل مصطلحا جديدا في قواميس المنطقة وهو "تقاسم السلطات". ان هذا الاصطلاح هو في حد ذاته قفزة الى مستوى لم تبلغه أي دولة مجاورة، حيث نجد ان السلطة مركزة في الغالب في مركزية تتراوح شدتها بين بلد وآخر. ولكن هل ان تقاسم السلطات واللامركزية هو ما يطمح اليه الشعب العراقي؟ لقد عملت الحكومات المتتالية في العراق على تكريس النظام المركزي الذي تسبب في إيجاد نظام صدام القمعي. غير ان النظام المركزي له ميزة السيطرة على جميع مجريات الامور، بضمنها الناحية الامنية، وبالتالي فهو اقدر على الاستجابة للضرورات الملحة. وطالما كان هناك تهديد امني على بلدنا، ربما كان الاجدى البحث عن نظام مركزي يستطيع فرض النظام وتعقب المجرمين. ومن ناحية ثانية فان النظام المركزي، ان عاجلا او آجلا، سيؤدي الى انتاج طغاة ونظم حكم استبدادية، تعمل على إسكات أي صوت للمعارضة، وبدلا من التهديد الامني من عصابات مجرمة تتسلل عبر الحدود، سيكون التهديد من عصابات مجرمة تتربع على السلطة. ان النظام الفيدرالي الذي يجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم او المحافظات، هو الضمانة الاكيدة ضد ظهور دكتاتورية تكون اشد خطرا من اية فوضى مرحلية قد يسببها تطبيق اللامركزية.
ولعل اكثر مواد هذا القانون اثارة للجدل المادة السابعة (أ) التي نصت على ان "الإسلام دين الدولة الرسمي ويعد مصدرا للتشريع" وليس (المصدر). المعروف ان هناك خمسة مذاهب رئيسية يتوزع عليها المسلمون. وقد بلغ الاختلاف بينها حدا يجعل من الصعب توحيد الرأي في بعض المسائل، رغم انه ليست هناك خلافات في جوهر العقيدة. غير ان التشريع يبحث في جزئيات محددة، ليتوصل الى ايجاد حل لمسالة ما. ان هذه المادة تلزم المشرعين بالعمل وفق الشريعة الاسلامية بخطوطها العريضة وثوابتها دون ان تلزمهم بالدخول في نزاعات مذهبية لترجيح حل أي مشكلة بالاستناد الى فكر مذهب معين.
كما ان الفقرة (ب) من نفس المادة نصت على ان ".. الشعب العربي فيه (العراق) جزء لا يتجزأ من الأمة العربية"، الامر الذي قد يثير حفيظة البعض باعتبار ان الغالبية في العراق هم من العرب، وعليه يجب بيان ان الشعب العراقي –وليس العربي في العراق- جزء من الامة العربية. ولكن ذلك غبن واضح لحقوق الاقليات. فليس الشعب الكردي فالعراق وحده اقلية في العراق، بل هناك اقليات اخرى، من تركمان وكلدواشوريون وغيرهم، ممن يستحق الاحترام وعدم طمس الهوية القومية لهم ودمجهم مع القومية العربية جزافا.
ان هذه المادة بفقرتيها الغت مبدأ غير عادل طالما تبجحت به الحكومات السابقة، من كون العراق بلد مسلم عربي. ان هذا المبدأ جعل هوية الأغلبية هوية للجميع. وعلينا اذا اردنا نظاما ديمقراطيا ان نقر ان حق الاغلبية يجب ان لا يتعارض مطلقا مع حقوق الاقليات. وقد عملت الاليات التالية في هذا القانون على ايجاد مثل هذا التوازن الذي هو اساس الاستقرار والتعايش السلمي.
وفي حين أقرت المادة التاسعة مبدأ "اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق"، فإنها ذهبت الى حد المساواة في طبع "الأوراق النقدية وجوازات السفر والطوابع"، وهو أمر غريب، قد يسبب تطبيقه إرباكا شديدا.
وفي الباب الثاني، الذي اختص بالحقوق الاساسية، نجد وصفا مميزا للحريات والحقوق التي يتمتع بها المواطن العراقي، من حرية التعبير، والاجتماع السلمي، وتشكيل النقابات والأحزاب، والتنقل والسفر، والتظاهر والإضراب السلمي، وحريات الفكر والضمير وممارسة العقائد الدينية، وتحريم العبودية وأعمال السخرة، والحق بالأمن والتعليم والعناية الصحية والضمان الاجتماعي، ومسؤولية الحكومة في توفير الرفاه وفرص العمل للشعب، والحماية من الاعتقال التعسفي وانتهاك الحرمة الفردية، وضمان المحاكمة العادلة العلنية السريعة، وعدم جواز محاكمة المدني امام محاكم عسكرية او إنشاء محاكم خاصة، وتحريم التعذيب الجسدي والنفسي، وحرمة الأموال العامة وصيانة الملكية الخاصة، والحق الكامل في التملك في كافة أنحاء العراق. ونقطة الاعتراض الرئيسية قد تكون في اعادة الجنسية العراقية الى المواطنين العراقيين الذين حرموا منها كما بينت ذلك بنود المادة الحادية عشرة. وهل في ذلك أي ظلم؟ الم يعمل النظام السابق على تهجير وتسفير وسلب حق المواطنة من الملايين من ابناء هذا الشعب المهضوم؟ غير ان التخوف من اعادة الجنسية الى اليهود المرحلين في عهود سابقة ليس له أساس، فالمواطنة لم تبن يوما على الانتماء الديني او المذهبي او العرقي. كما ان اليهود عاشوا في العراق مئات السنين، وليسوا حالة طارئة على الشعب العراقي. وهم موجودون في بلدان عربية واسلامية اخرى دون ان يكون لهم الدور الأساس، باعتبارهم أقلية، في إدارة شؤون بلدانهم. وليس هناك في الدين الاسلامي ما يمنع التعايش مع اليهود او الاديان الاخرى.
أما إذا كان التخوف من (الصهيونية) فتلك مسألة اخرى. فليست إعادة الجنسية العراقية هي التي ستؤدي الى غزو (صهيوني) للعراق، بل ان ذلك -ان قدر له ان يحصل- فبسبب قلة وعي الافراد، وعدم شعورهم بالمسؤولية، اكثر مما يسببه قانون يسعى الى احقاق الحق ورفع الحيف عن مجموعة كبيرة من ابناء الشعب العراقي، لا يشكل اليهود بينهم سوى أقلية ضئيلة لا يعتد بها.
وقد عبر البعض عن امتعاضهم من نص المادة الثالثة عشرة (أ) من ان "الحريات العامة والخاصة مصانة" باعتبار ان ذلك يعطي الفرد الحق بتجاوز الاداب العامة. وذلك مردود بنفس النص. حيث ان الحرية العامة، التي تتطلب المحافظة على الاداب العامة، مصانة بنفس القدر الذي تصان به الحرية الخاصة.
ويبين القانون في بابه الثالث (المادة الرابعة والعشرون) كيفية بناء الحكومة الانتقالية، التي ستتكون من الجمعية الوطنية كسلطة تشريعية، ومجلس الرئاسة ومجلس الوزراء كسلطة تنفيذية، كما تشدد على فصل السلطات، وهو احد اهم المباديء الديمقراطية، والذي يحول دون تركز السلطة، وينمي دور المسائلة في تحقيق رغبات الشعب، ويمنع –قدر الامكان- تفشي الفساد الاداري والسياسي. والملاحظ ان المادة الخامسة العشرين قد حددت اختصاص الحكومة الفيدرالية بسبعة فقرات فقط، وهذا يعني ان هناك مديات واسعة لتصرف حكومات الاقاليم والمحافظات. وهذا الامر يتيح التحول الجاد نحو اللامركزية. والتشريع المحلي متاح على ان لا يتعارض مع المصلحة الوطنية المبينة في الصلاحيات المحدودة للحكومة الفيدرالية، التي من اهمها رسم السياسية الخارجية، ورسم السياسة الاقتصادية والنقدية، والكمارك والتجارة الخارجية، ووضع الميزانية العامة، والدفاع، وتنظيم المقاييس والاوزان، وادارة ثروات العراق وتوزيعها بين الاقاليم والمحافظات، والجنسية، والاتصالات.
ومما تجدر الإشارة اليه ما ورد في الفقرة (ج) من نفس المادة ".. وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات في العراق" باعتبار ذلك من اختصاص الحكومة الاتحادية. وفي الواقع فان هذه الفقرة تضع ميزانا دقيقا لعلاقة الاقاليم والمحافظات بعضها مع بعض ومع الحكومة الاتحادية. فطالما كانت الحركة التجارية واقعة ضمن نفس الاقليم فلا يمكن للحكومة الاتحادية ان تتدخل. الا ان انتشار الحركة التجارية بين المحافظات او الاقاليم قد يتعرض الى العراقيل بسبب اختلاف القوانين والتشريعات بين الاقاليم، وفي هذه الحالة يكون القانون الاتحادي هو الحكم. ان هذه الموزانة تكفل بقاء الحكومة الاتحادية قادرة على التصرف وفرض السلطة على المحافظات بنفس القدر الذي يمنعها من الاستيلاء الكامل على الصلاحيات في هذه المحافظات.
ونصت الفقرة (ب) من المادة السابعة والعشرين على انه "لا يجوز تشكيل قوات مسلحة وميليشيات ليست خاضعة مباشرة لإمرة القيادة للحكومة العراقية الانتقالية، إلا بموجب قانون اتحادي"، الأمر الذي سيؤدي الى حل جميع المليشيات غير المنخرطة في الجيش الوطني. ولا يخفى حجم الخطر الذي يمثله بقاء مليشيات مستقلة، وتهديدها للامن الوطني من جهة، وامكانية نشوء نزاع طائفي او عرقي من جهة اخرى.
وفي الباب الرابع، يتم تحديد شكل السلطة التشريعة، وبيان ان وظيفتها اصدار القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية كما نصت عليه المادة الثلاثون. غير ان الفقرة (ج) من هذه المادة ضمنت نسبة 25% من مقاعد الجمعية الوطنية للنساء. والحقيقة ان هذه الفقرة وان كانت تهدف الى تشجيع دور المرأة في الحياة السياسية، الا انها ميزت ضد المرأة بشكل غير منصف، وهي تتعارض مع نص الفقرة (ب) من المادة العشرين "لا يجوز التمييز ضد أي عراقي لأغراض التصويت في الانتخابات على أساس الجنس أو الدين أو المذهب أو العرق أو المعتقد أو القومية أو اللغة أو الثروة أو المعرفة بالقراءة والكتابة". ان احتساب اية نسبة لن يعطي المرأة دورها الكامل، طالما كانت الفرصة متاحة لها للتنافس مع الرجال حسب مؤهلاتها. والامر المؤسف الذي قد ينتج عنه تطبيق هذا القانون ان العديد من المرشحات قد لا يكن مؤهلات بالقدر الكافي لعضوية الجمعية الوطنية. ورغم ان احتمال ترشح غير المؤهلين من الرجال وارد ايضا، الا ان ذلك لن يكون بدعم مباشر من قانون ادارة الدولة المؤقت. ومن يدري، فقد تفوز النساء بنسبة تزيد على هذا التحديد، وعندها لن تجد عراقيا واحدا يمانع في ذلك.
ونصت المادة السادسة والثلاثين على انه "يتم انتخاب مجلس الرئاسة بقائمة واحدة وبأغلبية ثلثي اصوات الاعضاء". وفي رأيي فان هذا الشرط من الصعوبة بمكان. اذ ان اتفاق ثلثي الاعضاء على شخص واحد هو امر غير يسير، فما بالك باتفاق الثلثين على ثلاثة أشخاص سوية؟ وما لم يتم اجراء تسويات وعقد صفقات سياسية، فلا أرى إمكانية لانتخاب مجلس الرئاسة.
وأعطت الفقرة (ج) من المادة الثالثة والثلاثون، ضمن الباب الخامس الذي يحدد شكل السلطة التنفيذية، الصلاحية الحصرية لإعداد الميزانية العامة الى مجلس الوزراء، ولكن يجوز اجراء التعديلات عليها من قبل الجمعية الوطنية وتخفيضها، دون زيادتها. ففي هذه الحالة عليها ان تقترح ذلك على مجلس الوزراء. ومثل ذلك ما نصت عليه المادة السابعة والثلاثين من انه "يمكن لمجلس الرئاسة نقض أي تشريع تصدره الجمعية الوطنية"، والتي عليها اعادة النظر في هذه القوانين وقبولها نهائيا (بدون نقض) باغلبية الثلثين. وذلك يندرج تحت طائلة الموازنات الضرورية في الصلاحيات. فمجلس الرئاسة ليس منفذا للقوانين فقط ولكن يمكن ان يكون له دور في قبولها، غير انه لا يمكن له ان يرفضها قطعيا. فنلاحظ هنا ان هناك تداخلا جزئيا في عمل هاتين السلطتين، وهو الامر الذي يمنع استئثار أي منهما في صنع القرار او تنفيذه.
وأقرت المادة التاسعة والثلاثين مبدأ تعيين قضاة المحكمة العليا، وهو الامر الذي يكفل بقائهم بعيدا عن المتغيرات السياسية، اذ ان الحكومات المنتخبة تتغير غير ان القضاة باقون في مناصبهم، دون ان يكون هناك تأثير يذكر على قراراتهم بناء على رغبات السلطة التنفيذية، وان كانت هي التي عينتهم في تلك المناصب. بالاضافة الى ذلك، لايمكن عزل القاضي الا اذا ادين بجريمة او اصيب بعجر دائم، كما ورد في المادة السابعة والاربعون، اي ان القضاة يبقون في مناصبهم مدى الحياة.
واعطت المادة الحادية والاربعين صلاحية اقالة الوزراء الى رئيس الوزراء، غير انها قرنت ذلك بموافقة الجمعية الوطنية. وفي ذلك ضمان واضح ضد تعسف رئيس الوزراء تجاه الوزراء الذين لا يتفقون معه في الرأي، مما يسمح للوزير ان يكون بموقع مسؤول وليس تابع يعبر عن رغبات رئيسه.
وفي بابه السادس يبين القانون هيكلية السلطة القضائية الاتحادية، ويشدد على استقلالية القضاء حتى عن وزراتي العدل والمالية، كما نصت على ذلك فقرات المادة الثالثة والاربعين، بان جعلت ميزانية القضاء من اختصاص الجمعية الوطنية.
وبموجب المادة الرابعة والاربعين سيتم تشكيل محكمة اتحادية عليا (دستورية) تعمل حصريا على النظر في الدعاوى بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم، وفي دستورية أي قانون صادر عن اية حكومة اتحادية او اقليمية، وفي كل الاحوال يجب ان تتخذ المحكمة قراراتها باغلبية الثلثين، وهو الامر الذي يبين اهمية هذا القرار الذي يفصل في النزاع بين السلطة الاتحادية وسلطة المحافظة او الاقليم.
وتؤسس المادة الخمسين من الباب السابع لهيئة وطنية تعمل على حماية حقوق الانسان، ولها صلاحيات التحقيق في تصرفات السلطات الحكومية التي تجري خلافا للقانون. وهذه تمثل انتقالة متميزة لحماية المواطن العراقي من اي ظلم او استبداد او انتهاك للحقوق.
وفي الباب الثامن، الذي تفرد في مؤسسات الحكم المحلي، تنص المادة الثانية والخمسين بشكل لا لبس فيه على انه "يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية". ولزيادة التأكيد على التحول الى اللامركزية تمنع الفقرة (أ) من المادة الخامسة والخمسين اقالة اي عضو في الحكومة المحلية على يد الحكومة الاتحادية، كما لا يكون اي محافظ، او اي عضو في مجالس المحافظات (او حتى المجالس البلدية والمحلية) خاضعا لسلطة الحكومة الاتحادية، الا قدر تعلق الامر بالصلاحيات الحصرية المبينة في المادة الخامسة والعشرين، او اذا حصل نزاع قانوني بين حكومة المحافظة والحكومة الاتحادية، والذي يجب ان يحل عن طريق المحكمة العليا بموجب المادة الثالثة والاربعين.
وفي المادة السادسة والخمسين تفصيل للصلاحيات الممنوحة لمجالس المحافظات، خصوصا في فرض الضرائب والرسوم، والمبادرة بانشاء المشروعات (الفقرة (أ)). اي ان مجلس المحافظة سيكون له ميزانيته المستقلة المكونة من الواردات الاتحادية (الميزانية العامة التي تقسم على عموم المحافظات) بالإضافة الى الضرائب والرسوم (التي يجب ان تفرض بقانون حسب نص المادة الثامنة عشرة). وفي نفس المادة (الفقرة (ب)) اشارة الى اشاعة اللامركزية في المستويات الأدنى، كمجالس الاقضية والنواحي، والتي يمكن لها ان تعمل على جباية الضرائب والمبادرة بانشاء مشاريع محلية. وسيكون بموجب الفقرة (ج) من هذه المادة على الحكومة الاتحادية ان تتخذ "اجراءات لمنح الادارات المحلية والاقليمية والمحافظات سلطات اضافية وبشكل منهجي". ان نطاق صلاحيات الحكومة المحلية غير محدد الا بالصلاحيات الحصرية للحكومة الفيدرالية، كما نصت على ذلك المادة السابعة والخمسين.
وربما سببت فقرات المادة الثالثة والخمسين بعض الارباك. ففي حين اكدت الفقرة (أ) انه "يعترف بحكومة اقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية للاراضي التي كانت تدار من قبل الحكومة المذكورة في 19 آذار 2003 الواقعة في محافظات دهوك واربيل والسليمانية وكركوك وديالي ونينوى"، نصت الفقرة (ج) على انه "تبقى حدود المحافظات الثمانية عشرة بدون تبديل خلال المرحلة الانتقالية". وربما ورد احتجاج بان محافظات كردستان كانت ثلاثة فاصبحت ستة بموجب هذا القانون. والواقع ان "الاراضي التي كانت تدار" تعني اجزاءا من المحافظة وليست عموم المحافظة. والاشارة في الفقرة (ج) الى عدم تغيير حدود المحافظات انما قصد به التأكيد على ان الاراضي الواقعة خارج محافظات كردستان الثلاثة ليست ضمن كردستان وانما تدار من قبل "حكومة كردستان"، لاغير.
وتحدد المادة الثامنة والخمسون اجراءات مفصلة لرفع الحيف عن المتضررين من النظام السابق جراء التهجير والترحيل والنفي وتغيير القومية وما شابه. وهي اجراءات لابد منها وان كانت تتطلب وقتا اطول –في واقع الحال- من مدة سريان هذا القانون. غير ان الفقرة (ب) تفترض عدم حصول اجماع من الرئاسة، وبالتالي يصار الى التحكيم او ربما تدخل الامم المتحدة. هذه الفقرة تبدو مبالغا بها، خاصة وانها الاشارة الوحيدة في هذا القانون الى حل معين في حالة عدم اجماع الرئاسة. على كل حال، فان الفقرة (ج) تؤجل النظر في مسالة كركوك الى ان يتم اقرار دستور دائم، وهو امر يبعث على الارتياح ويؤكد ان الفقرة (ب) ليست مصممة لـ(كركوك) خصوصا.
وفي المادة التاسعة والخمسين المفتتحة للباب التاسع، المخصص للمرحلة ما بعد الانتقالية وصفا لكيفية تعامل العراق مع (القوات المتعددة الجنسيات) ضمن الفترة الانتقالية، حيث "ستكون القوات المسلحة العراقية مشاركا رئيسيا في القوة المتعددة الجنسيات العاملة في العراق تحت قيادة موحدة وفقا لقرار مجلس الامن رقم 1511"، ولكن ذلك محدد الى "حين المصادقة على الدستور الدائم وانتخاب حكومة جديدة وفقا لهذا الدستور"، كما ورد في الفقرة (ب). كما تنص الفقرة (ج) على انه "ستكون للحكومة العراقية الانتقالية الصلاحية لعقد الاتفاقيات الدولية الملزمة بخصوص نشاطات القوة المتعددة الجنسيات العاملة في العراق، تحت قيادة موحدة، وطبقا لشروط قرار مجلس الامن التابع للامم المتحدة رقم 1511". والتشديد على ذكر قرار مجلس الامن 1511 في كلتا الفقرتين دلالة على كونه الاساس القانوني لاي اتفاق يجري بين حكومة العراق واية قوات اجنبية عاملة في العراق، وهذا القرار انما وضع لتنظيم وضع العراق تحت الاحتلال، ولن يكون ذي معنى بعد انتخاب حكومة وفقا للدستور الدائم، وتجسيد السيادة والشرعية الكاملة.
ولا اعتقد ان هناك فقرة اشهر من الفقرة (ج) من المادة الحادية والستون، التي تنص على انه "يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر". وقد اعترض الكثيرون على ذلك باعتبار ان هذا يعني ان اقلية من ثلاثة محافظات تستطيع الغاء قرار الاغلبية. والموضوع فيه تأمل. إن رأي ثلاثة محافظات معتبر، بل ورأي محافظة واحدة معتبر. فالقانون الاساسي في المسيرة الديمقراطية هو حق الاغلبية في القرار مع مراعاة حقوق الاقليات. حق الاغلبية مجسد في أن يُـقبل قرارهم إذا صوتوا بالموافقة بنسبة تزيد على 51%، غير ان الاقليات، اذا ارادت ان تعترض على مسودة الدستور الدائم، فعليها التصويت بالرفض بنسبة لا تقل عن 67%. وذلك يعني انه يجب التأني في كتابة الدستور بحيث لا يمنع حقوق جوهرية لاي من الطوائف والاقليات، مما يحفزهم على التصويت -بنسبة عالية- بالرفض. ان الاقلية لها الحق في رفض القرار اذا كان مجحفا، ولكن ذلك لا يعني انهم يملون على الاغلبية ارادتهم.
ان قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، هو (دستور) متميز، رغم بعض الهفوات التي نأمل تجاوزها في (الدستور الدائم)، يهدف الى وضع اسس متينة للديمقراطية، من خلال احترام حقوق الانسان، ومباديء سيادة القانون وفصل السلطات، والمسائلة، واستقلالية القضاء، وإشاعة اللامركزية، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، والعمل الفوري على رفع الظلم عن طائفة واسعة من ابناء هذا الشعب الذي عانى لعقود من الظلم والاستبداد والتعسف، هذا الشعب الذي يستحق العيش بسلام وامن والتمتع برفاهية تتناسب مع امكانات العراق المادية والبشرية.