Monday, July 25, 2011

دور التنمية الاقتصادية فـي الدعم السياسي طويل الأجل

لعل ابرز ما كان متوقعا للاقتصاد العراقي بعد تحرره من نير الطغيان هو التحولات الجذرية نحو اقتصاد مفتوح غير خاضع لسيطرة الدولة. اقتصاد تكون فيه المنافسة الحرة والعادلة هي العنصر الدافع للإنتاج، وتتغلب فيه الحاجة الى تلبية الطلب المحلي على المنتجات بطريق الاكتفاء الذاتي على الرغبة في اللجوء إلى الأسواق العالمية، حيث تصعب السيطرة على النوعية بالاضافة الى التأثيرات الوخيمة لزيادة الاعتماد على الاستيراد على حساب المنتج المحلي.
غير أن أوضاع العراق الشاذة منذ الغزو الاميركي في نيسان 2003، بدءا من التداعيات الامنية لذلك الغزو، مرورا بالقرارات السياسية المتعجلة في ما يتعلق بالاقتصاد المحلي وطريقة توزيع واردات الدولة الهائلة، وليس انتهاء بالحزبية الضيقة التي يتميز بها وقتنا الراهن والتي أصبحت العامل المحرك لكل فعاليات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بسبب هيمنتها على تلك الفعاليات بدون منازع، كل هذا قاد الى عكس مسيرة النمو الاقتصادي وتراجع أداء الاسواق في ما يتعلق بالميزان التجاري الوطني.

التركة الثقيلة
لنلق نظرة على وضع اقتصاد العراق قبل عام 2003، حينما كان القرار يصنع في دائرة ضيقة جدا، وبأمر مباشر من "القائد الضرورة". كان العراق يرزح تحت وطأة العقوبات الدولية، التي لم تكن تعني شيئا بالنسبة للنظام أكثر من تفويض السيطرة على مقدرات البلاد النفطية الى الامم المتحدة في ما يعرف ببرنامج "النفط مقابل الغذاء". أي ان هذه العقوبات في الواقع كانت سياسية، الغرض منها منع حاكم العراق وزمرته من استثمار ثروات العراق في اعادة بناء برنامجه العسكري سيىء الصيت. لكن النظام لم يحوّل واردات النفط تلك الى ما يخدم مصلحة الشعب إلا بالنزر اليسير، ما انعكس سلبا على الوضع المعيشي لعموم الشعب، وتسبب في معاناة دائمة من نقص الخدمات الاساسية، وتدهور الوضع الاقتصادي بشكل خطير. هذه هي، بطبيعة الحال، البيئة التي يزدهر فيها الفساد ويرسخ أسسه في جسد الدولة ومفاصلها، ويجد له مبررات اجتماعية تجمل وجه أدعيائه على الرغم من قبح الفعل الذي يقدمون عليه.

توطن الفساد
وهكذا فما آن تغير النظام حتى وجدت عصابات الفساد الإداري والمالي نفسها أمام احتمالية الكشف والمحاكمة او الهروب والنفي. فبدأت هذه الزمر، التي كانت ما تزال تمسك بزمام الدولة من مواقع متوسطة او متدنية، في تعطيل عجلة الإصلاح التي كان يمكن ان تسحقها في غضون سنوات قليلة، لو توافرت النية المخلصة للقضاء عليها. ومما ساعد على بقاء هذه الطبقة الفاسدة في مواقعها غياب ثقافة مكافحة الفساد على المستوى الاجتماعي، بالاضافة الى انشغال الدولة بالامور السياسية والامنية الى حد إهمال متابعة هذا الشأن الخطير، الذي كان تأثيره في نهاية الامر اكبر من كل التبعات الامنية التي مر بها العراق خلال السنوات الثماني الماضية. و أوضح دليل على ذلك اليوم تردي وضع الخدمات الاساسية من ماء وكهرباء وطرق وصرف صحي وخدمات بلدية، يضاف اليها فشل النظام التربوي، وتخلف النظام الصحي، وتضخم نسب البطالة وشيوع المحسوبية وشراء الوظائف الحكومية، وغير ذلك من المظاهر الفتاكة لتردي وضع الاقتصاد في بلد لا تعوزه الثروات المادية والبشرية لكي يكون في مصاف الدول المتقدمة، او على الاقل ان يكون بمستوى اقل الدول تمدناً في محيطه الإقليمي.
كما ادى نقص الخدمات الاساسية الى تعطيل الصناعة المحلية على بساطتها، وتهالك القطاع الزراعي مقابل ازدهار وقتي للقطاع التجاري الذي كان مجرد بوصلة تشير الى اتجاه واحد: الاستيراد من خارج العراق دون ان يعبأ القائمون على التخطيط الاقتصادي بتعديل الميزان التجاري ولو بنسبة بسيطة، من خلال تشجيع التصدير وتقديم حوافز وإغراءات للمستثمرين في هذا القطاع، مع وضع ضوابط جمركية على حركة الاستيراد لحماية الصناعة المحلية والمستهلك على حد سواء. ومن ناحية اخرى، فان المصالح الحزبية قد وجدت سبيلها الى دوائر الدولة من خلال التعيينات المستندة الى الانتماء السياسي وغير المبنية على الكفاءة، ما ادى الى عرقلة الحركة الطبيعية للتطور واستبدال العناصر السيئة بأخرى جيدة من خلال الفرز والتمحيص على اساس الاداء وليس الانتماء.

قرارات متعجلة
من بين القرارات التي اتخذتها الدولة دون نظر كاف في العواقب قرار زيادة رواتب الموظفين بشكل كبير. فعلى الرغم من كون شريحة الموظفين هي من الشرائح الكبيرة في المجتمع الا انها ليست الشريحة الوحيدة او الاوسع. وقد عمد النظام السابق، في الفترات السابقة للحصار الاقتصادي، الى منح زيادات في الرواتب بين الحين والآخر ظهرت آثارها واضحة في إحداث تضخم اقتصادي كبير عجزت الدولة عن تخفيضه لاحقا والقي بظلاله الى الوضع المعيشي العام. لذلك توقفت الدولة عن الاستمرار في زيادة الرواتب على الرغم من تيقنها بان مثل هذا الامر كان سيحقق لها نوعا من الدعم السياسي في اوساط المنتفعين، لان النقمة المتولدة بين المحرومين كانت ستكون اكبر واشد تأثيرا على النظام وأمنه وديمومته.
ولكن الحكومات التالية للنظام السابق لم تقرأ هذه التجربة كما ينبغي، فعمدت الى تقديم رواتب ضخمة لموظفين لم يكن للكثير منهم من عمل اكثر من التوقيع على سجلات الحضور والانصراف. ولم نشهد زيادة في إنتاجية معامل القطاع العام او حتى توفرها في الاسواق المحلية بعد تلك الزيادات لكي تكون مبررا لها، او لتغطي ولو قليلا من مصاريف دوائر الدولة الباهظة. وقد تحدثت بعض التقارير عن تخصيص اكثر من ثلثي ميزانية الدولة للرواتب على مدى السنوات القليلة الماضية، وهو امر يتحدى العقل السليم، ويخرج عن منطق التخطيط العلمي للاقتصاد. فكيف للدولة ان تبني المشاريع العملاقة، وتصلح البنى التحتية، وتتصدى للدفاع عن حياض الوطن اذا كان كل ما تبقى من ميزانيتها السنوية هو مبلغ العجز المتوقع في حالة هبوط اسعار النفط العالمية؟
والأدهى من ذلك ان زيادة الرواتب قد تسببت في إحداث تضخم هائل بأسعار السلع في الاسواق المحلية ما زاد من معاناة الافراد والعوائل التي ليس لها مردود شهري ثابت، ومن قبل ذلك فشل نظام البطاقة التموينية في تحقيق القدر الادنى من المساواة بين افراد الشعب نتيجة تناقص المفردات التي توزع بموجبها شهرا بعد شهر، فادى ذلك كله الى ان يصبح الفقراء اكثر فقرا، رغم تضاعف ثروات البلاد بشكل عام.
ان تمييز شريحة الموظفين بهذا الشكل قد ادى الى تهافت جميع فئات المجتمع للحصول على وظيفة حكومية مضمومة الراتب. ولم يستطع القطاع الخاص المنهك أساسا من استقطاب الايدي العاملة او الخبرات للعمل لديه لعدم قدرته على مجاراة هبات الدولة للعاملين لديها. فكان من شأن هذا ان يحط من قدر القطاع الخاص أكثر فأكثر الى درجة نزوح رؤوس الاموال الى الخارج وخلو الساحة الداخلية من المنتجين، او تحولهم الى وسطاء تجاريين يغرقون الاسواق المحلية بالمزيد من البضائع الرديئة، طاردة الإنتاج المحلي على قلته خارج السوق، عملا بالمبدأ المعروف: العملة الردئية تطرد العملة الجيدة الى خارج السوق. أما القرار الآخر الذي تبنته الدولة وكان له تأثير لا يقل سوءا عما سبق فهو دعم الدينار العراقي مقابل الدولار الاميركي بطريق مباشر، من خلال عمليات البيع المسطير عليها التي يقوم بها البنك المركزي العراقي. وهذا يعني ان الاقتصاد المحلي لن يعمل على توفير فرص عادلة في سوق تنافسية، بل يكون خاضعا لسيطرة الدولة ومستنزفا لمقدراتها في عملية ذات تأثير دعائي قصير المدى، لكن بعواقب وخيمة على المدى البعيد. فماذا يحصل إن هبطت اسعار النفط حتى لم يعد بإمكان الدولة دعم الدينار؟ إن هبوط سعر الدينار المفاجىء سيوف يقود الى تفاعل متسلسل من التضخم والمزيد من الهبوط في القيمة قد لا تتوقف عند حد في فترة وجيزة. كما ان استمرار الدولة في تقنين الدينار هو مجرد استمرار لفعاليات كان يمارسها النظام السابق ويقع على خط التضاد مع أفكار السوق الحرة التي من شأنها ان ترفع من قدر الاقتصاد وتحقق التنمية المستدامة على المديين المتوسط والطويل.

الإصلاح
وعلى هذا فاني اخلص الى ان على الدولة، إن أرادت أن تحدث إصلاحا حقيقيا، أن تتخذ قرارا شجاعا بوقف دعم الدينار، وان يكون ذلك على مراحل مدروسة بعناية لتجنب التسبب بتضخم مفاجىء يؤثر على الاقتصاد المحلي بشكل حاد ضمن مدى زمني قصير. ويجب ان يتزامن مع هذا الإجراء توفير أجواء صحية للقطاع الخاص ووضع آليات محكمة للقضاء على الفساد الإداري والمالي وتقليصه الى الحد الادنى. وبالمثل يتوجب إعادة النظر في سلم رواتب الموظفين بما يحقق العدالة في توزيع واردات الدولة بين كافة شرائح المجتمع، وليس بين العاملين لديها فحسب. وتشمل هذه العملية دراسة إمكانية تحويل بعض المعامل والمنشآت الحكومية الى القطاع الخاص من اجل إعادة تأهيلها وتشغيلها والاستفادة من قدراتها المادية والبشرية. ويمكن تحويل الفائض النقدي من هاتين الخطوتين الى صناديق لدعم الصناعة والزراعة بشكل قروض ميسرة، وبشروط تضمن توفير فرص العمل لشرائح أكثر من المجتمع. وهنا يجب التنويه الى ضرورة إصلاح القطاع المصرفي وجعله أكثر دينامية في مواكبة حركة السوق الحرة التي نتوخى الوصول إليها.
إن التفكير الضيق في المصلحة الحزبية لا يؤدي الى اكثر من دعم شعبي محدود ولفترة زمنية وجيزة. لذلك اذا كان للاحزاب السياسية ان تطمح في التربع على عرش السلطة لمدة طويلة، فان عليها ان تلجأ الى الوسائل ذات المردود طويل الامل وان تصمد امام العواقب والعراقيل المرحلية. إن أفقك في السلطة هو ليس إلا انعكاس لمنهجك في الحصول عليها. وكلما كانت نظرية السلطة لديك اكثر شمولا، كان التقبل الشعبي لك أوسع، وبالتالي كانت عوامل البقاء السياسي تميل لصالحك بشكل اكبر. وقد أثبتت تجارب التاريخ إن أكثر الحكومات استقرارا تلك التي تولي جلّ اهتمامها للتنمية والتطوير الاقتصادي، على العكس من الحكومات التي انشغلت بالتطاحن الحزبي واستدراج الأنصار بالمنافع المباشرة على حساب المصلحة العامة، حيث لم يكتب لها البقاء لمدة طويلة في عمر الزمن.

Saturday, July 09, 2011

حضور النموذج العراقي في الربيع العريي

قال احد المشاركين في برنامج حواري بث على احد القنوات الفضائية العربية ان شرارة "الربيع العربي" انطلقت من العراق، فقاطعه المذيع بالقول "ان شرارة الربيع العربي انطلقت من تونس، من حادثة ابو عزيزي وما تلاها من احداث في الشارع التونسي". فخطر لي سؤال: لماذا لم تنطلق شرارة الربيع العربي من العراق؟

والحقيقة ان لا احد تقريبا يشير الى تجربة العراق المريرة في عام 1991، عندما انتفض الشعب العراقي من شماله الى جنوبه ضد حكم الطغيان الصدامي الذي اذاقه الامرين من حروب طاحنة ومغامرات غير محسوبة ادت الى فقدان مئات الالاف من الارواح البريئة، اضافة الى تفرد "القائد الضرورة" بالسطة واسكاته لكل معارضة بطرق وحشية، ليس اقلها الحرمان من بركات النظام، وليس اكثرها الترحيل والسجن والتغييب والاعدام، مرورا باساليب التحقيق المروعة في زنزانات اجهزة الامن التابعة للنظام.
خرج الشعب في ثورة غير مسبوقة في العالم العربي على حاكم جائر بعد ان ادت مغامرته في الكويت الى تحطيم البلاد ماديا ومعنويا نتيجة الهزيمة المذلة التي وضعها فيها النظام، وما رافقها من بوادر للعزلة الدولية التي سوف تستمر الى حين سقوط النظام بعد اثنتي عشرة سنة من تلك الثورة الشعبية.

ثورة بدأها جندي في البصرة بان صوب ماسورة دبابته في وضح النهار الى صورة كبيرة لـ"القائد الرمز" ودمرها بقذيفة ربما تكون آخر ما بقي لديه من ذخيرة، وهو ما لم يجرؤ عليه من قبل أي مواطن عراقي. وفجأة تحطم حاجز الخوف، وسرعان ما تهاوت اركان النظام في معظم انحاء العراق، من الشمال الى الجنوب، مرورا بضواحي بغداد، وباتت البلاد تعيش اجواء الثورة.

لم تكن تلك الثورة سببا لانهيار النظام الصدامي، ولم تصبح مثالا لشعوب المنطقة العربية التي ترزح تحت انظمة شمويلة مماثلة. بل ان تلك الانتفاضة ربما ادت في الواقع الى تأخير الربيع العربي عشرين عاما اخرى. حينما رأت الشعوب العربية مقدار القمع الذي مارسه النظام على الشعب الذي تجرأ على رفع صوته في وجهه. ربما تكون الشعوب العربية قد وضعت في حساباتها ان انظمتها الحاكمة سوف لن تكون افضل في تعاملها مع مثل هذه الحركات من النظام الصدامي.

لكن سقوط النظام في العراق عام 2003 على ايدي قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وما تلاه من تحرر نسبي للعراقيين على مستويات عدة، بدءا من حرية التعبير عن الرأي، الى المشاركة في صنع القرار عن طريق الانتخابات البرلمانية والمحلية، كل هذا لم يكن هو الاخر سببا مباشرا في تحريك الشارع العربي للمطالبة بالمزيد من الحريات وتحسين اوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومرة اخرى يطرح السؤال نفسه، لماذا لم يصبح العراق مثالا للشعوب العربية؟

قد يكون الجواب على ذلك سهلا، نظرا لان العراق مرّ بفترات مظلمة بعد الغزو الاميركي وعانى من تفشي الارهاب وتدني مستوى الامن وسيطرة بعض العصابات على مقدرات الدولة وحتى التمكن من الوصول الى هرم السلطة والتأثير على عملية صنع القرار. كذلك شهد العراق شيوع الفساد الاداري في كافة مفاصل الدولة حتى صار امثولة في التقارير الدولية، التي لاشك ان المثقفين العرب، وحتى رجل الشارع، قد اطلعوا عليها وربطوها برد فعل انعكاسي بالتحرر والتخلص من نظام الاستبداد الشمولي. وربما ساورت الشعوب العربية المضطهدة الشكوك بانها قد لا تكون افضل حالا ان ازاحت جلاديها عن سدة الحكم.

ومرة اخرى، قد تكون الاحداث في العراق بعد 2003 قد امدت من عمر حكام العرب المتسلطين على رقاب شعوبهم. لم يصبح العراق مثالا لهم لانه لم يكن يعط صورة المثال المطلوبة من بين الفوضى العارمة التي اعترته، رغم ان التغيير في العراق قد احدث نقلة هائلة في حياة الشعب العراق، من الناحيتين السياسية والاقتصادية على الاقل. لكن الفشل في كبح جماح الفتن على المستوى الاجتماعي، والذي اثارته المطاحنات السياسية، قد افضى الى تصوير العراق على انه بلد لا يمكن ان تحكمه الا دكتاتورية قادرة على التعالي على الخلافات الطائفية والعرقية، شأنه في ذلك شأن بقية شعوب المنطقة.

على كل حال، فان الانتفاضات العربية قد لا تكون "ثورات" مجيدة بكل معنى الكلمة، ولكنها بكل تأكيد حركات بوجه الطغيان استقت مدها بعيدا عن تجربة العراق، وان كانت تسعى حقيقة الى ان تصبح مثله في اقل تقدير. ربما تكون اركان الحكومة قد سهلت عملية ازاحة زين العابدين بن علي عن السلطة في تونس، وقد يكون دور الجيش المصري اكبر من يبدو في دعم انتفاضة ساحة التحرير واجبار حسني مبارك على التنحي. لكن ذلك لا يقلل من شأن الرجال والنساء الذين تجرءوا على التجمع والتظاهر ومقارعة اجهزة هذه النظم القمعية التي لا تعرف الرحمة في تعاملها مع مثل هذا الوضع.

وفي اليمن لا يزال مئات الالاف من المتظاهرين يملأون الشوارع والساحات مطالبين بتنحي علي عبد الله صالح عن الحكم، والتحول الى نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على حرية التعبير والتعددية ويحارب الفساد ويوفر الخدمات لشعبه ويعمر مدنه ويقوده الى الرخاء والازدهار. لا اشك ان الثورة في اليمن سوف تنجح في نيل مسعاها على الرغم من تمسك الرئيس ببراثن السلطة الى آخر يوم، ولجوءه الى اساليب اصبحت بالية في زمن التواصل الفوري الذي نعيشه الان.

وانتفاضة البحرين اكثر خجلا ولكنها وضعت نفسها على خارطة الثورات واجبرت الحكام على الاستماع اليها وتقديم تنازلات لم تكن في مجال التصور قبل فترة وجيزة. ومن الممكن ان يفضي الحوار بين حكومة البحرين ومعارضتها الى تحسين الحريات وتقسيم اكثر عدلا للسلطات في هذا البلد الصغير بحجمه، ولكن الكبير بموارده.
اما سوريا، فهي اشبه ما تكون عراقا عام 1991. المنتفضون في الشوارع يطالبون باسقاط النظام الشمولي، والجيش يهيل عليهم سيل الرصاص والقذائف المدفعية. بشار الاسد يقف في محفله مبجلا من زبانيته وهو يعلن ان الجيش يقوم بعمليات تطهير المدن من "الخارجين عن القانون"، الذين اعلن انهم عشرات الالاف. يعلم العراقيون ذلك، فقد خبروه. اذا تجرأت على الوقوف بوجه الطاغية فانت مجرم ومخرب وارهابي وسيكون الموت لك ولعائلتك ولجيرتك ولكل مدينتك.

غير ان سوريا 2011 غير العراق 1991. فلم يكن هناك من فيسبوك، ولا هواتف نقالة، كما لم تكن هناك قنوات فضائية. ولم تكن الاحداث في العراق عندها سوى خبرا في الاذاعات عن تحركات المنتفضين الذين لم يعلن لهم صوت ولا صورة، ولم يعلم احد لهم شكل ولا لون. كانوا اناسا من العامة لم يستطيعوا ان يوصولوا صوتهم الى العالم الا مشوها بدعايات مغرضة من اجهزة النظام الحاكم رغم تزعزع اركانه، وبتدخل سمج غير مرحب به من دول اقليمية ارادت الحصول على حصة في كعكة العراق التي بدت دسمة آنذاك.

وحينما ذبحت اجهزة النظام القمعية مئات الالاف من الابرياء واودعتهم مقابر جماعية يندى لها جبين التاريخ، لم يعلم بذلك سوى قلة من الناس خارج العراق، ولم يتحرك احد لفرض عقوبات على شخوص نظام صدام كما يحدث اليوم في سوريا وليبيا. لقد ادى التحول التقني في الاتصالات الى حقن دماء عزيزة في سوريا، كانت سوف تهدر بكل برود لو كان مايحدث الان قد حدث قبل عشرين عاما.

سوف تنتصر ارادة الشعب السوري آخر الامر. سوف تتعالى الحشود على جلاديها ومن يحصد ارواح ابنائها بالرصاص الحي الموجه الى صدورهم العزل. قد يحدث ذلك بتدخل دولي، ولكنه سيكون على ايادي الرجال الساعين الى التحرر من الفكر الشوفيني الذي لا يرى صوابا في غير افعاله ولا يقبل نقدا لها.

على اني ارى ان الحركة الليبية المسلحة هي خير مثال لما كان ينبغي ان يحدث في العراق عام 1991. فما ان تحرك الشعب وثار على مغتصبي حقوقه حتى اجتمع شمله تحت قيادة موحدة، وأمنت لها موطيء قدم في مدينة بنغازي الشرقية. استطاعوا ان ينشئوا لهم قناة فضائية تنطق باسمهم وعملوا على التواصل مع العالم الخارجي. حتى انهم باتوا قادرين على استحصال بعض التمويل من تصدير النفط ومن المساعات السخية التي تقدمت بها بعض الدول العربية والغربية.

لقد استطاعت المعارضة الليبية المسلحة ان توصل صوتها للعالم، وان تضع قضيتها على طاولة مجلس الامن، واستحصلت الدعم الحربي واللوجستي من دول حلف الناتو، مستفيدة من تخبط حاكم بلدها المخبول معمر القذافي. ويبدو ان الوضع العسكري قد تحول اخيرا لصالحهم بفضل تحسن ادائهم واستمرار ضربات حلف الناتو لقوات القذافي.

كان يمكن لانتفاضة العراق عام 1991 ان تحصل على مثل هذه المكاسب لو كان لها صوت في الخارج، ليس من خلال وسائل الاتصال التي ما كان لها من وجود في ذلك الوقت، بل من خلال رموز المعارضة الذين اتخذوا من عواصم الغرب ملجأ لهم. لو انهم تواصلوا مع الشعب الثائر بشكل كافٍ، ولو انهم عملوا على طرح مسألة وطنهم المصيرية امام المحافل الدولية ومارسوا ضغوطا من اجل ايجاد حلول لها، ربما كان الوضع قد تغير، لكن الساعة لا تعود الى الوراء.

اليوم يلفظ معمر القذافي انفاسه بعد ان ظن انه مخلد في موقعه مع اولاده. وهو اتخذ من شنق شقيقه في الطغيان صدام حسين مثالا على ان بقية الحكام العرب سائرين في نفس الطريق، كما قال لهم ذلك في مؤتمر قمة دمشق. استمعوا له وضحكوا، لانهم اطمأنوا الى ان النار لن تحرقهم يوما، بعد ان شهدت شعوبها ما حدث في العراق بعد سقوط طاغيته. ولكنهم لم يتعضوا ولم يسعوا الى تخفيف قبضتهم الحديدية على السلطة، وافساح المجال لاصلاحات سياسية حقيقية.

اما بشار الاسد فقد يبقى لفترة اطول قليلا، ولكنه لن يكون اوفر حظا آخر الامر. سوف يرحل عن سوريا او ربما سيعتقل ويحاكم، وسوف يتذكر كلمات معمر، ويتمنى لو انه "اخذ الشور من راس الثور" كما يقول المثل العراقي. وسيتراءى له مشهد الحبل الملفوف على رقبة صدام وهو يسأل نفسه: هل كان يجب علي ان اتخذ من العراق مثلا؟

اذا لم يكن العراق مثالا لانتفاضات الربيع العربي فهو موجود فيها بشكل اوبآخر. واذا لم يود احد الحديث عن ديمقراطية العراق، على الرغم من كل اخفاقاتها وسلبياتها، على انها انموذج لنظام حكم يخلف الطاغية الذي يسعون لاسقاطه، فان الخيارات تصبح اضيق بعيدا عنه. وفي آخر الامر، سوف تكون نسخة منقحة من ديمقراطية العراق هي ما يسود المنطقة. سوف يتعظ الجميع من الاخطاء التي وقعت في العراق في طريقهم نحو الحرية والعدالة والمساواة، دون ان يذكروا ذلك. فالعراق كان وسيبقى المثال الصامت لثورات العرب الصدّاحة.