Monday, November 29, 2004

ليست بالاغلبية وحدها تنجح الانتخابات

توصل الباحثون من استطلاع للرأي قامت به احدى الصحف الامريكية نشر قبل فترة وجيزة، الى ان ما يزيد على 70% من الشعب العراقي يعتقدون ان الانتخابات القادمة في العراق هي لانتخاب رئيس للجمهورية. واذا صحت مثل هذه الاستطلاعات وافترصنا انها تحمل درجة ما من المصداقية، بحيث يمكن تحليل تلك المعلومات، فاننا يجب ان نتوقف قليلا لبحث اسباب جهل العامة بالعملية الانتخابية القادمة.
والواقع انك اذا اجريت مسحا بسيطا لغرض مقارنة البيانات تجد ان الكثير من الناس يجهل العملية برمتها بسبب عدم وضوحها منذ البداية، منذ اعلان قانون ادارة الدولة، ومن ثم تشكيل حكومة مؤقتة، فـ(انتخاب) مجلس وطني مؤقت، وتعيين مفوضية عليا للانتخابات، وصولا الى اعلان بدء تسجيل الناخبين والمرشحين اوائل الشهر القادم. في حين ان هناك فئة اخرى من الناس لا تكترث لمثل هذه العملية، وذلك امر طبيعي يحصل في كل بلدان العالم الديمقراطي. غير ان عدم الاكتراث هذا قد يكون ناتجا ايضا عن جهل في العملية الديمقراطية، اذ نادرا ما يكرس الانسان جزءا من وقته لفهم امر ما ثم يعزف عنه بالمرة.
ولما كانت الشفافية شعارا ومفردة مهمة في العملية الديمقراطية، التي تنتمي اليها مفردة الانتخابات الدورية، فان من دواعي العجب ان لا تحظى المسيرة الانتخابية بالاعلام الكافي. ويمكن ان نستنتج ان الاعلان عن بدء العملية الانتخابية، لم يكن لتثقيف الناخبين كما ينبغي ان يتم، بل لاعلان جدول زمني للفعاليات الانتخابية دون اكتراث لشرح النظام الانتخابي، وحمل الناخب على فهمه وبالتالي حثه على المشاركة.
والمشكلة ان هناك ناخبين مؤهلين ربما يرفضون المشاركة، لاعتقادهم ان الوقت غير مناسب لاجراء الانتخابات، من جهة بسبب تردي الوضع الامني، ومن جهة اخرى لضبابية الموقف السياسي، وخصوصا موقف المدن المضطربة، التي يعتقد الكثيرون ان الانتخابات التي تجرى بدون اشراكها ستكون بابا لمَشكلة الوضع السياسي للحكومة، وتدويم جو الازمة امام الحكومة التي ستتمخض عنها تلك الانتخابات. والانكى من ذلك ان القانون الانتخابي المزمع تطبيقه، يعتمد العراق كله منطقة انتخابية واحدة، وباستخدام قوائم ذات تمثيل نسبي. الامر الذي يعني انه يمكن دائما اهمال اية منطقة او مدينة او محافظة تحت اية ذريعة. فقوائم الاحزاب لن يشترط فيها التمثيل المتكافيء للمحافظات، وقوائم المستقلين لن تجد لها طريقا الى الفوز بسبب صعوبة التنافس مع الاحزاب على مستوى العراق اجمع، اذ لا يتوقع مثلا ان يصوت اهالي الموصل الى مرشح مستقل من ذي قار، مهما بذل من دعاية انتخابية. وسيكون الاولى بالنسبة لكل الناخبين التصويت لصالح قائمة يكون فيها عدد من الاسماء التي يعرفونها وان جهلوا القسم الاعظم منها.
ورغم هذا وذاك، يكاد يعلن كل مسؤول في الدولة عن عزمها في المضي قدما في العملية الانتخابية، مهما تخلف عنها، ومهما كانت غير واضحة للناخبين. والرهان يقوم في الواقع على ان الاطراف المتحكمة في تلك العملية هي الاطراف المستفيدة منها. واقصد الاحزاب الكبرى من جهة، والشيعة كأغلبية من جهة اخرى. وربما قال قائل، وما الضير في ان يصر الشيعة على اجراء الانتخابات، حتى وان كانوا اغلبية؟ والحق ان الاصرار على اجراء الانتخابات هو امر رائع، ولكن يجب ان يكون متناغما. لا تستطيع اية فئة ان تعمل على ايجاد الظروف المؤاتية لها دون ان تنظر في امكانية الفئات الاخرى على توفير مثل تلك الظروف. ان مبدأ سيادة الاغلبية يصطدم في النظم الديمقراطية دائما بمدأ اخر هو حماية حقوق الاقليات. وهذا يعني ان الاغلبية لا تستطيع ان تقرر كل شيء، فقط لانها اغلبية. ومن ناحية اخرى، فان الاقليات، وان كان يجب احترام حقوقها، الا انها لا يجب ان تسعى لـ(فيتو) كل قرارات الاغلبية. والمعادلة قائمة على محاولة الاقناع ومد الجسور وسياسة الحل الوسط. وبالطبع ستكون هناك اوقات للقرار الحاسم، وعندها سيكون مثل هذا القرار مُبررا بشكل كاف.
وفي حالة الانتخابات، والتي يعلم الجميع ان الكثير من السنة قد يرفضون الاشتراك فيها، كما يبدو جليا من تصريحات كبار رجال الدين السنة، فان من الواجب بحث الامر معهم بتعمق. يجب ان يصار الى عقد مؤتمرات مشتركة، واجراء حوارات بناءة على كافة المستويات، وخاصة على المستوى الشعبي. فهل ان الحكومة مستعدة لمثل هذه الفعاليات؟ لو كانت العملية شفافة في البداية، لكان الامر اهون الان.. ولكن للاسف، فان مجلس الحكم السابق، الذي يأبى ان يتنازل عن السلطة، او ان يوسع المشاركة فيها، يعمل بكل جهد لايجاد اليات تخدم مصالح الاحزاب المشتركة في ذلك المجلس، وربما بضعة احزاب او تيارات لم تكن مشاركة فيه، ومن ثم اغلاق العملية السياسية على هذا القدر، بحث لا يوجد متسع للمستقلين، وان كانوا نظريا يتمتعون بكافة الحقوق للترشح. وفي خضم هذا لا يبدو ان تلك الاحزاب مهتمة جدا باقناع او حمل جميع العراقيين على التصويت، طالما كانت على ثقة من الحصول على نسبة كافية من المشاركة تمنع الطعن بالشرعية لمن يفوز بها مستقبلا.ان الانتخابات هي امر معقد وبالغ الصعوبة، ولا يجب الاستهانة بكل جهد يبذل لانجازه، بل على العكس، يستحق العاملون على انجاحها الشكر والعرفان. غير ان النجاح لا يكون فقط ببذل الجهود على اتجاه واحد، بل بمحاولة التحرك باتجاهات مختلفة طلبا للنجاح على كافة الصعد، وليس على صعيد دعم الاغلبية فقط.

Sunday, November 28, 2004

من المستفيد من غسل الدماغ العربي؟

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، ظهر توازن جديد للقوى على الساحة الدولية، فلم يعد الاستعمار التقليدي والرغبة في السيطرة على طرق التجارة بالاضافة الى مصادر الثروات، لم تعد هذه هي اسباب الحروب، بل تحولت الى صراع ايديولوجي تدميري يدعو كل طرف الى افناء الطرف المقابل. ونتيجة لهذا الهاجس المخيف عملت القوتان الرئيستان منذ اوائل الخمسينات وحتى زوال احدهما –الاتحاد السوفيتي– في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، عملت هاتان القوتان على خوض سباق شامل وليس في التسلح فقط، بل امتد الى التدخل في الصراعات الاقليمية ودعم الحكومات الموالية.. بحيث اصبحت اغلب بلدان العالم اما منحازة لاحدهما، او منطقة نفوذ له.. وتجد في كلتا الحالتين معارضة، قد تكون مسلحة، مدعومة من الطرف الاخر.
ان توازن القوى هذا خلق واقعا جديدا في عموم العالم، يقوم اما على مسخ الشخصية الوطنية من اجل البقاء، او على تقديم القرابين البشرية كضحايا للحروب المستمرة من اجل تلك الشخصية والهوية الوطنية. وكلا الامرين افرز نتائج عبثية وفوضوية في الشعوب، وعدم الثقة في المستقبل، وانهيار القيم التي تدعو لها الاطراف المتنازعة امام كثرة ضحايا الحروب ومشاهد الرعب والفزع لدى الابرياء.
وفي محاولتها خوض الحروب على كافة المستويات، فقد سلكت مخابرات القوتين العظميين طرقا شائنة في نظرنا الحاضر للفوز بمعارك مخابراتية، تقوض سلطة واسناد احدهما على حساب الاخر. وظهرت قصص خيالية في بعض الاحيان عن القدرات العالية لتلك المخابرات سواء على الصعيد القومي، او على الصعيد الاممي. وشاعت رهبة تلك المخابرات لدى عامة الناس، بحيث اصبح هناك اعتقاد شائع على قدرتها على تغيير الانظمة.. بل ان جميع الانظمة لابد ان تكون عميلة والا فانها ستستبدل فورا.
ولما كانت نظريات من هذا النوع تخدم اغراض الحرب الباردة، على الاقل من ناحية زرع الخوف في نفوس الفريق المقابل، فقد عملت دوائر مخابرات الطرفين على تغذيتها بشكل مستمر وباستخدام كافة القنوات، بدءا من المستوى الشعبي ومرورا باستخدام وسائل الاعلام المختلفة وانتهاءا بالمستوى القيادي للشعوب والامم.
ولازلت اذكر فلما شهيرا عرض خلال فترة السبعينات، في اوج الحرب الباردة، ضمن مجموعة من افلام التجسس التي وجدت لها ارضا خصبة واعتمادات هائلة. ذلك الفيلم هو (تلفون) بطولة النجم الشهير (تشارلز برونسن).. والذي يقوم بدور عميل مخابرات سوفييتي يعمل من اجل منع عميل اخر خائن يستغل معرفته ببعض الاسرار ليوجهها ضد اهداف حيوية في الولايات المتحدة. الفيلم يعكس مزاج التصديق في تلك الفترة، لان قصته تقوم على تدريب اناس عاديين ليكونوا انتحاريين باستخدام التنويم المغناطيسي، بحث اذا سمع احدهم من خلال التلفون بمقاطع شعرية معينة، غط في سبات عميق وذهب لتنفيذ العملية الانتحارية بدون شعور. واليوم، نعرف ان التنويم المغناطيسي وان كان يحرر العقل الباطن لدى الانسان، الا انه لا يستطيع ان يغير قناعاته الراسخة، وقيمه العليا.. والتي منها الرغبة في الحفاظ على النفس، تلك الغريزة االمتأصلة، وبالتالي لن ينجح أي تنويم مغناطيسي على حمل الانسان –على غير ارادته– على الانتحار.
ان افلاما كهذا، وكتب ومقالات ومنشورات، وبرامج تلفزيونية ومقابلات صحفية، وندوات ثقافية ومؤتمرات علمية، كانت تركز طيلة تلك الفترة على النشاط الاستخباراتي، وعلى قدرة التجنيد الخارقة التي يتمتع بها الفريقان، وعلى امكانية تحقيق الاهداف المنشودة من خلال تلك الحرب غير الباردة ولكن غير المنظورة ايضا. وانعكست هذه الدعاية الشاملة على مجتمعنا العربي بكل ثقلها. ففي اوائل القرن الماضي، لم تكن دولة واحدة عربية يحكمها اهلها، بل كانت مستعمرات يحكمها الانجليز والفرنسيون والايطاليون فضلا عن الاتراك. وحين انهزمت الامبراطورية العثمانية، اصبحت الدول العربية مستعمرات صريحة للدول التي ستشكل فيما يلي اقطاب الحربين الكبيرتين المدمرتين. ثم ينتصف القرن على تبدل اخر، حيث نشأت طبقات مثقفة في الدول العربية بدأت تطالب بالتحرر من الاستعمار، متأثرة الى حد كبير بالدعاية السوفيتية حول حرية الشعوب والشعارات البراقة من المساواة الى الحرية. وسرعان ما كانت الانقلابات المسلحة في تلك البلدان تأتي الى السلطة باناس اعتنقوا مذهب (الثورة لمن يصنعها) وبالتالي اصبحوا خلال نصف القرن التالي الصناع الوحيدين لقرارات الامة، واخمدوا كل معارضة بكافة الوسائل المتاحة.. ولم تصب الشعوب العربية بالصدمة اولا، لانها لم تدرك مقدار الخدعة التي تعرضت لها. ولكنها حين استفاقت ووجدت حالها بعد التحرر من الاستعمار ليس احسن، ان لم نقل اسوأ، من حالها قبله.. فبدأ السؤال يطرح بجرأة اكثر: ما الجدوى من كل ما يحدث؟
ربما لن تتم اجابة أي سؤال مثل هذا ابدا، فالجهل صفة الصق بالانسان من صفة العلم. وطالما كانت الامور تجري بشكل غير مفهوم لنا، فهي بالتأكيد ستكون مفهومة لاخرين، صناع السياسة ودهاقنتها، ووكالات الاستخبارات وعملائها، واجهزة الحكم الوطنية منها والعميلة. ان هؤلاء وغيرهم يمتلكون اجابات محددة، ولديهم تصورات كاملة وخطط شاملة لما حدث ويحدث وما قد يحدث في أي وقت في المستقبل. وبالطبع فان فكرة عامة مثل هذه الفكرة تخدم اهداف اجهزة الحكم الوطنية، والتي اقنعت الشعوب بعدم جدوى الثورة ضد الانظمة الفاسدة، المحمية جيدا بعلاقاتها الحميمة مع مصادر صنع القرار في الدول الكبرى، والتي ستعمل على حماية هذه الانظمة ضد أي عمل يستهدف ازاحتها عن السلطة.
لا انكر ان اسناد الانظمة العربية من الخارج كان واقعا ملموسا، غير ان المبالغة بهذا الاسناد هو ما سبب حالة اليأس والقنوط التي تحولت اليها الشعوب العربية، بحيث انطوت الى ممارسات اكثر خصوصية، ورفضت العمومية السياسية، ولجأت الى الدين كمنفذ اخير لتحرير شخصيتها المكبوتة.. ولم يكن جهاز السلطة غائبا عن مثل هذه التحولات، فعمل على الاستفادة منها مجددا.. واستعمل قضايا اقليمية، في حملات اعلامية منسقة لتبدو قضايا مصيرية، وركز الانظار حولها.. واستجابت الشعوب المغلوبة من جديد لهذه الخدعة، وانساقت مرة اخرى تحت تأثير تنويم مغناطيسي لا يعمل على الضد من الانا الاعلى، بل يستغل هذا الانا الاعلى لتقديم دفعة جديدة تنعش الفرد في لحظات الاندماج العضوي مع المجتمع.
لقد تعرض الدماغ العربي، خلال فترة النصف القرن الماضية، الى اكبر عملية غسل دماغ، بدأته قوى الاستعمار البائدة، واستأنفته بجدارة انظمة حكمه المحلية، وغذته الحرب الباردة بدون قصد. ولازالت الشعوب العربية ترزح تحت نير الجهل السياسي الذي يطبق عليها من طرفي الحكومة المعمرة، ومعارضتها المُضَللة.. وفي محاولتها للتعلم ترتكب الكثير من الاخطاء، والتي اولها التسرع في التحليل وافتقار الرؤية الواضحة، والاعتماد على فئات محددة لرسم صورة الاحداث.. لقد كانت الشعوب العربية نتيجة الضغط الاعلامي المنسق الذي تعرضت له عاجزة في اغلب الاحيان عن تصور الاحداث بدون ان يكون الفرد العربي ذاته، او المجتمع العربي مركزا له. واذا اردنا ان نخرج المواطن العربي من متاهات الافكار القبلية، ونظريات المؤامرة المستولية على العقول العربية، فعلينا ان نحمله على التفكير في سياق الاحداث كاحتماليات وارجحيات، بدلا من التفكير فيها على اساس بديهيات ومسلمات.. وهذا يعني ان هناك مجالا لحدوث امور بغير اتفاق، وليس عليه ان يعتبرها موجهة ضده. فليس العرب، وان كانوا احيانا اثرياء، هم مركز الكون، الذي تدور حوله الافلاك.

Sunday, November 21, 2004

نظرية في فوز بوش بالانتخابات الرئاسية

في يوم الانتخابات الامريكية، الثلاثاء 2 تشرين الثاني، نشرتُ في احد المواقع الالكترونية على الانترنت مقالا تنبأت به بفوز الرئيس الحالي جورج دبليو بوش في تلك الانتخابات، وبنيت هذا الاستنتاج على حقيقة ظهور اسامة بن لادن في شريط مصور موجها كلمته الى الشعب الامريكي.
ولا ادعي انني الوحيد الذي تكهن بنتيجة الانتخابات استنادا الى هذا الحدث بالذات.. فقد نشرت في مواقع عديدة، وفي بعض الصحف المطبوعة، تكهنات مماثلة في النتيجة، وان كانت مختلفة في طريقة التناول. فقد عزى الكثير من الباحثين ظهور ابن لادن في هذا الوقت إلى تخطيط مسبق مع القيادة الامريكية لمساعدة الرئيس بوش على اعادة صور احداث ايلول وبطلها ابن لادن الى الواجهة، وطالما كانت رهان بوش الاول والاخير يقوم على حربه على ما يسمى بالارهاب، الذي يفترض ان يكون ابن لادن زعيمه المطلق، فان مثل هذا الشريط كفيل باحداث اكبر الاثر على الناخبين باتجاه التصويت لبوش.
والواقع انني لا املك دليلا حسيا يفند هذه النظرية، ولا اعتقد ان احدا يستطيع ذلك باي حال. ذلك ان التآمر يقوم اساسا على تحقيق غاية ما باستخدام اساليب ووسائل قد لا تكون سليمة او حتى معقولة. فبالامكان دائما رد أي نتيجة او حدث الى تخطيط تأمري مسبق.. ونادرا ما استطعت ان اثبت لمن يجادل باستخدام مثل هذه النظريات ان نظرية المؤامرة ليست صالحة دائما لتفسير المعطيات والحوادث. الا انني اتفق انها، على تعقيدها في بعض الاحيان، تساعد معتنقها على الوصول الى راحة نفسية من جهة معرفة الاسباب على الاقل.
ولكنني لا اجد مبررا كافيا للاعتماد على نظرية المؤامرة في تفسير الاحداث التي يمكن تفسيرها بشكل اكثر سلاسة بالطرق الطبيعية. واشير هنا الى نظرية علمية تقول ان أي تفسير (علمي) لحدث ما يجب ان يكون (سهلا)، واذا كانت هناك نظريتان لتفسير حدث واحد، فالاصح منهما هي (الاسهل)، أي التي تعتمد طرقا بسيطة وغير معقدة في التفسير. فاذا قلت لصاحبي الذي ينتظرني في الطابق الارضي من بناية ما انني (سأنزل) اليه، فربما سينتظرني عند السلم، رغم ان هناك وسائل اخرى (للنزول)، منها التدلي بالحبال مثلا.
وبالعودة الى موضوعة فوز بوش بناءا على شريط ابن لادن، فان التفسير البسيط الذي اعتمدته ان ابن لادن رغب فعلا في ازاحة بوش عن السلطة، وان الرسالة وصلت الناخب الامريكي على هذا النحو وبالتالي دفعت بعض المترددين الى التصويت لصالح بوش، واستدللت بتغير اسلوب اسامة بن لادن في الخطاب الحماسي الثوري. ولو كان بوش هو من طلب من ابن لادن فعل ذلك، لطلب منه ان يظهر كما عهده الشعب الامريكي، مهددا متوعدا مزمجرا، لا هادئا ساكنا بل ووديعا ايضا.
كما ان مروجي نظرية المؤامرة لا يقولون لنا لماذا يعرفون هم تلك (الحقائق) التي يدعون معرفتها على وجه اليقين، ولا يعرف غيرهم بها، خصوصا أولئك الذين تمسهم بشكل مباشر (الامريكيون في هذه الحال).. اذ لماذا لا يتهم احد الرئيس الامريكي انه يقيم علاقات مع الارهابيين وانه يستخدمهم في حملته الانتخابية؟ اليس اثبات مثل هذا الاتهام كفيل باسقاط ترشيحه؟ بلى، لو استطاع معارضو الرئيس الامريكي، او مؤيدو خصومه اثبات هذه النظرية، ولو من جهة كونها نظرية صالحة للبحث، لما ترددوا في ذلك ابدا.
ان الفشل في تفسير الاحداث على المدى القريب، واساليب الدعاية الموروثة عن الحرب الباردة، والتعتيم وعدم الشفافية الذي تتميز به الانظمة العربية، واستخدام كل وسيلة ممكنة لابعاد تفكير المواطن العربي عن واقعه غير السار.. هي باعتقادي مسببات رئيسة لاعتناق نظرية ترجح عمل تآمري، بدل استكناه الحدث وتحليله منطقيا للوصول الى مسببات حقيقية للاحداث. وطالما وجد من يؤمن يتلك النظريات فلن يكون ممكنا البحث في الواقع العربي بشكل عام.. فالنتيجة التي يصلها اولئك (المحللون) ان هذا شيء مخطط له، وان ما سيأتي بعده مخطط له ايضا، وهكذا دواليك.. ولسنا الا احجارا في رقعة الشطرنج الكبيرة التي يلعب بها الكبار. فهل هناك واقع اكثر بؤسا من تصور حال الشعوب لا حول لها ولا قوة؟ ومن يستفيد من غسل الادمغة هذا؟

Sunday, November 07, 2004

التوافق وطريق الفوز بالانتخابات

قبل سقوط النظام البائد، كانت المعارضة العراقية تعقد اجتماعاتها في المنفى، في لندن وبيروت وحتى في اربيل. ولم تكن تسير هذه الاجتماعات دائما على نحو طيب، فالنزاعات والخلافات كانت موجودة ولم تكن خفية حتى قبل استلام مقاليد السلطة. ولم يستطع المجتمعون ان ينتخبوا حكومة منفى، التي لو قدر لها ان تتشكل لتداركت الكثير مما حدث في العراق نتيجة قصر نظر القيادة الامريكية.
على كل حال، ان ذلك امر اصبح في ذمة التاريخ. ولكني اذ استذكره الان، فلأن اطراف المعارضة الرئيسة اصبحت فيما يلي مجلسا للحكم، ومن ثم نواة المجلس الوطني. وهي القوى الرئيسة الفاعلة في الساحة السياسية العراقية اليوم، والتي يتوقع ان تفوز بمعظم مقاعد الجمعية الوطنية عند اجراء الانتخابات في بداية العام المقبل. ان هؤلاء المختلفين بلا سلطة، قد أئتلفوا اليوم بعد ان آلت اليهم السلطة، فما الذي حدث؟
اذا القينا نظرة على انظمة الحكم عبر تطورها وجدنا انها اما انظمة فردية او جماعية، ديمقراطية او متسلطة. وهذا يعني انه ليس شرطا ان يكون الحكم الجماعي ديمقراطيا (كما هو حال الانظمة الشيوعية). كما ان الانظمة الارستقراطية الاقطاعية ليست احسن حالا وان لم تحكم بايديولوجية صارمة. والفارق بين هذه الانظمة والانظمة الديمقراطية، هو مقدار فسحة الاختلاف، ففي الانظمة الاستبدادية تكون المعارضة في درجاتها الدنيا، بينما تتصاعد درجة المعارضة مع تصاعد الوتيرة الديمقراطية. والواقع، ان القوى السياسية في الدول الديمقراطية نادرا ما تتفق، ليس فقط نتيجة لطموحاتها، ولكن ايضا لطبيعة تمثيل الناخبين المختلفين التي تحملها هذه القوى، والبشر مختلفون طبيعة. ولكن يحدث في بعض الاحيان ان يتفق حزبان او اكثر في حكومة ائتلافبة، وهذا يكون بعد معرفة وزن كل من هذه الاحزاب من خلال صندوق الاقتراع.
لقد كانت خلافات المعارضة العراقية في المنفى، خلافات صحية.. وكانت حدوثها يدل على ترسيخ لمباديء الديمقراطية.. وان كان الثمن الفشل في تشكيل حكومة المنفى. لقد ظننا حين تم تشكيل مجلس الحكم ان تلك التجارب سوف تنعكس ايجابيا على اداء المجلس بحيث تكون تلك الخلافات بناءة وهادفة، وتسير في اتجاه تثبيت اركان الديمقراطية. وفي مناسبة واحدة، اظهر مجلس الحكم خلافاته الى العلن: اصدار قانون ادارة الدولة المؤقت. وقامت الدنيا ولم تقعد، ثم تم التوقيع على هذا القانون بكل هدوء وبدون أي تغيير بعد مرور بضعة ايام فقط. وكان الامر مدعاة للعجب والاستغراب. وكان بعض المقربين من مجلس الحكم يفاخرون بان القرارات لا تتخذ بالتصويت بل بـ(التوافق) وهو نظام عمل جديد افهم منه ان بعض الاعضاء يوافقون على اصدار قرار معين اذا وافق اعضاء اخرون على اصدار قرار اخر (شيلني واشيلك).. ولان دور مجلس الحكم لم يكن رياديا كما كنا نتمنى فقد تأخر تسليم السيادة سنة كاملة. ولكن مجلس الحكم ضمن انه باق في سدة الحكم قبل ان يحل نفسه.
واليوم لم تعد هناك خلافات بين الاحزاب الرئيسة، بل توافقات تضمن لكل طرف جزءا من (الكعكة). هذا الامر ادى الى الغاء دور المسائلة في تحسين ورفع واقع عمل مؤسسات الدولة، فمثلا ليس هناك نقد من المجلس الوطني الى وزارة ما، ناهيك عن رئاسة الوزارة او الرئاسة. فقد يكلف هذا النقد غاليا في المستقبل ويخسر الاعضاء المنتقدون حليفا، سيكون مُهماً مَهما قلّ شأنه. ان التحالفات التي تجري اليوم ليست قائمة على تمثيل الناخبين، وانما على قاعدة التوافق التي اسكتت المعارضين، ولكنها لم تقنعهم. هذه التحالفات التي تعقد دون استشارة الناخبين لا تكترث باصدار برنامج انتخابي، او خوض حملة انتخابية، فليس على الناخب ان يقتنع بجدوى برنامج حزب او كيان سياسي، بل ان عليه ان يصوت بالطريقة التي سيحمل عليها حملا، وباستعمال كافة الوسائل الدنيوية وغيرها.
حينما بدأت المعارضة السابقة في الاتفاق، ولم يعد هناك اختلاف، ارتسمت لي صورة مفادها اننا ننتقل من عصر استبداي فردي الى عصر استبدادي جماعي. وليس من شك، ان رموز المعارضة السابقة هم اناس وطنيون وعانوا من تعسف وظلم النظام البائد. الا ان الساحة يجب ان لا تقتصر عليهم، فمن بقي في العراق ربما كان اكثر تعرضا للظلم، ويستحق ان يأخذ فرصته في الترشح وتمثيل الشعب بكل حرية.. وهذه هي مسؤولية تاريخية تتحملها العناصر المتنفذة للقوى السياسية الحالية. عليها ان تفتح الباب امام الجميع، لا ان تفكر في احتكار السلطة.. في هذه المرحلة على الاقل.

Tuesday, November 02, 2004

اعرف من سيفوز في الانتخابات الامريكية

اليوم يقرر الشعب الامريكي من سيكون رئيسه لفترة الاربع سنوات القادمة. فهل سيجدد الثقة بالرئيس الحالي جورج دبليو بوش، ام سيفضل اختيار المرشح الديمقراطي جون كيري؟ ربما ليس عليّ ان اتسائل كثيرا، فقد تكون الاجابة على بعد ساعات قليلة فقط. الا انني اردت ان اخمن في تلك اللحظات الاخيرة بناء على ما يبدو لي انه المنطق..
فخلال ما يقارب العشرة اشهر من الدعاية الانتخابية توفرت للناخب الامريكي فرص وافرة للحكم على المرشح الافضل من خلال ادائه في تلك الحملات الدعائية.. ومن خلال تمحيص سيرته وما قدمه في الفترة التي كان يشغل فيها منصب عام، سواء الرئيس او عضو مجلس الشيوخ. وكانت هناك الكثير من المبادرات والبرامج السياسية التي عرضها المرشحان، والتي تبادلا خلالها الاتهامات حول صدق نيتهما، او حتى امكانيتهما على تنفيذها، وحللت تلك السياسات والمناهج تحليلا دقيقا، ليس فقط من قبل الفريقين المتخاصمين، وانما من طرف ثالث مكمل واساسي في اللعبة: وسائل الاعلام.
ان نظرة شاملة على مجمل العملية الانتخابية قد توصل المرء الى نتيجة ان الشعب الامريكي قد لا يكون مخيرا في الاختيار، بل ربما يكون مجبرا على هذا الاختيار في بعض الاحيان. والسبب هو الضغط الاعلامي الهائل على الفرد بما يجعله مستلب الارادة وخائر القوى امام هذا الكم الضخم من المعلومات عن المرشحين سواء الجيدة او غير الجيدة منها، والتي تحيره وتربكه وتجعله غير قادر على التركيز. وحتى برامج المرشحين تبدو متداخلة في بعض الاحيان ولا يفصل بينها الا خيط بسيط ربما يكون غير مفهوم للمواطن العادي.
الا ان الذي يحملني على الاعتقاد انني حزرت من سيتولى مهام الرئاسة للفترة التالية، حدوث امر غير اعتيادي، وان لم تركز عليه وسائل الاعلام. ذلك هو تصويت اسامة بن لادن في تلك الانتخابات، من خلال شريطه الموجه للشعب الامريكي. فعلي حين غرة، ظهر الرجل الذي يخشاه الامريكيون اكثر ما يخشون، هادئا ساكنا، غير مهدد ولا متوعد.. ليس من مظاهر مسلحة، وليس من استشهاد بالآي الحكيم، ولاذكر لجهاد ولا لغزو.. من يكون هذا الرجل؟ يتسائل المواطن العادي. تأتيه الاجابة: انه شيخ المجاهدين، اسامة بن لادن.. فيعجب المواطن الذي اطلع فيما مضى على اشرطة اكثر تهديدا، وعلى رجل اكثر صلابة. فيقفز الاستنتاج الى ذهنه مباشرة. اذن فالمطلوب ان لا اصوت لبوش، هذه هي رسالة غريمه.. فان خسر بوش، فان القاعدة وابن لادن سيفرحون اشد الفرح.. وطالما كنت مواطنا امريكيا، ويحزنني ان ارى مثل هؤلاء يشمتون، فلن ادعهم يفعلون. سأصوت لبوش.
طبعا، انا لا اتوقع ان يفوز بوش بنسبة التسعات، ولا حتى بنسبة تفوق الـ60%، ولكنني اتحدث عن فئة من الامريكيين، لا تلتزم بالحزبية، ولا بتحليل البرامج السياسية، ولا تتابع وسائل الاعلام كثيرا بحيث باتت تلك تقرر لهم تقريبا ما ينبغي فعله.. وهؤلاء في الحقيقة هم من يشكل الفارق الحاسم، والذي سيرجح بوش، غريم ابن لادن، على كيري.. الذي لا يعرفه ولا يستطيع ان يجاريه ويلاعبه كما فعل ويفعل جورج دبليو بوش.

Monday, November 01, 2004

الدور الشعبي في تحديد النظام الانتخابي

تمثل المرحلة الراهنة التي يمر بها العراق مرحلة حاسمة، ليس فقط للطبيعة الانتقالية لشكل الحكم فيها، وانما لانعكاس الاحداث التي تجري بشكل او بآخر على شكل النظام السياسي الذي يتوقع ان يستمر لفترة طويلة تمتد لعقود من السنين.
وليس اكثر من تحديد شكل الانتخابات المزمع اجراؤها خلال شهور قليلة، ما يمكن ان يرسم ملامح الانتخابات في شكلها النهائي. فان أي نظام انتخابي سيتم اعتماده، وكما اثبتت التجربة العملية لبلدان اخرى، سيكون على الاكثر هو النظام الدائم، مع اجراء بعض التعديلات البسيطة، او ربما حتى بدون اية تعديلات اذا جاءت النتيجة متوافقة مع توجهات السلطة او الاحزاب المتنفذة. وعلى هذا، يجب التمحيص والتأكد من متانة النظام الانتخابي، ومعاملة الحالة الانتقالية بمثل ألتأني الذي تلقاه الحالة الدائمة. وللوصول الى هذه الغاية، يجب ان يتم عرض النظام الانتخابي، باستخدام وسائل الاعلام المختلفة، واستخدام مبدأ المشاركة الشعبية الواسعة، وعدم الجزم به مبدئيا.
ورغم ان الهيئة الانتخابية المستقلة تتمتع بامكانية اصدار التعليمات والانظمة الانتخابية، الا انها لا يجب ان تكون السلطة النهائية في ذلك. ينبغي ان تشترك في هذه العملية ولو بطريق المشاورة قطاعات مختلفة من الشعب، ابتداء من المجلس الوطني، مرورا بالمجالس المحلية، ومؤسسات المجتمع المدني، والنقابات، والاحزاب، والجامعات والمعاهد، والتي يمكن ان تساهم بشكل فاعل وعملي في رصد التوجهات العامة واقرار صيغ تكون مقنعة وملائمة لطبيعة المجتمع العراقي. ان قانون ادارة الدولة يصمت امام صلاحيات الهيئة، التي تشكلت في حقيقة الامر قبل استلام السيادة، وان كان هذا الامر لا يفقدها المصداقية، الا انه في نفس الوقت يحدد من صلاحياتها. نعم، ان الامم المتحدة تقوم بالاشراف على عمل الهيئة، غير ان الامم المتحدة ليست الا جهة استشارية ولا ينبغي ان تكون لها صلاحية اتخاذ القرار النهائي.
ان الغموض الذي يلف مجمل العملية الانتخابية، واولها تحديد شكل النظام الانتخابي، يبعث على الريبة، ويجعل التساؤل حول جدوى العملية في نهاية الامر تساؤلا مشروعا. فاذا اريد للانتخابات ان تؤدي الى تشكيل حكومة شرعية، حتى وان كانت انتقالية، فيجب ان تستوفي هذه الانتخابات شروطها ولو بالحد الادنى.
ولم يعد الحديث يدور همسا حول استفادة الاحزاب الرئيسية الحالية من الانتخابات، وبالتالي فهي تمارس تأثيرا استثنائيا من اجل اجرائها، بغض النظر عن اكتمال شروطها. ان ممارسة احزاب السلطة تأثيرات وضغوطات للحصول على مكاسب انتخابية هو امر شائع حتى في اعرق الديمقراطيات العالمية. ولكن في معظم تلك الاحوال تكون هذه الاحزاب ذات بعد جماهيري اكتسبته عن طريق صناديق الاقتراع في جولات سابقة. بمعنى ان كل حزب يعرف بالضبط شعبيته من خلال نسب تمثيله في البرلمان، كما يعرف شعبية الاحزاب الاخرى. وليس معنى هذا ان الاحزاب العراقية ليس لها شعبية، بل على العكس من ذلك. فمن المعروف ان معظمها قد نشأ وترعرع على قواعد شعبية واسعة. الا ان العملية الانتخابية لا تؤمن الا بالمعادلات الحسابية لتترجمها الى مقاعد برلمانية.
وهكذا يجب مراعاة الدور الشعبي، الذي يكون له في نهاية الامر القول الفصل في مجمل العملية. وحذار من الاستمرار في تجاهل شرائح المجتمع المختلفة، التي وان لم تتنبه بعد الى مخاطر التعجل، الا انها ستكتشف لاحقا اية اخطاء، مقصودة او غير مقصودة، وستعتبرها تلاعبا خطيرا بمستقبل البلاد. وعلينا ان لا نستمر بالاحتجاج بالمواعيد والتواريخ المثبتة في قانون ادارة الدولة، رغم اهمية التقيد بمجمله. اذ ان روح القانون وتوجهه هو من اجل تكوين سلطة شرعية في العراق.. وطالما كان العمل يسير في هذا الاتجاه، فلن يكون تأجيل الانتخابات لفترة محددة امرا عسيرا.
انني ادعو الهيأة الانتخابية المستقلة، والحكومة المؤقتة، والامم المتحدة، الى تقييم جدي للموقف. فان اخر من نتمناه انتخابات مستعجلة، وغير مفهومة للناخب العادي، وغير متوازنة الفرص، تكون سببا لاثارة البلبة ومشاعر الاحباط بين صفوف الشعب، الذي عاني الكثير من الاحباطات، سواء في عهد النظام البائد، او بعد تحرره منه.