Wednesday, November 29, 2006

من يدفع الثمن.. وعن ماذا؟

في التاسع عشر من تشرين الثاني، وفي الساعة السابعة صباحا تحديدا، انفجرت سيارة ميني باص نوع كيا مفخخة محملة بكمية هائلة من المتفجرات في ساحة تجمع العمال الرئيسة بمنطقة باب الحسين في مدينة الحلة. تسبب الانفجار في استشهاد 26 شخصا وجرح ما يزيد على اربعين آخرين. وتفيد الرواية الرسمية بان انتحاريا (من جنسية عربية-غير عراقية) قد اقترب من العمال طالبا تشغيل عدد منهم، فما كان من هؤلاء المساكين الا ان تهافتوا عليه راجين اختيارهم للعمل في ذلك اليوم ليقوم الانتحاري بتفجير نفسه والعمال المتجمعين حوله موقعا اكبر عدد ممكن من الضحايا.
غير ان روايات اخرى قدمها شهود تفيد بان الشخص لم يكن انتحاريا، وانما هو عراقي عمل على تجميعهم في مكان واحد مؤملا اياهم بفرصة العمل، ثم انسحب متذرعا باه سيجلب معدات يحتاجها في العمل وحينما ابتعد بما فيه الكفاية فجّر السيارة لتقتل او تصيب جميع العمال الذين تجمعوا حولها.
وعلى كلا الاحتمالين، فان بصمات القاعدة تظهر واضحة على هذه العملية، التي تصنف تحت القتل الجماعي الطائفي لمصلحة الجهاد في سبيل الله وتحرير الارض من الاحتلال الامريكي. وهي تشير بوضوح الى امكانية تغلغل عناصر القاعدة الى اي مكان في العراق، وتنفيذ العملية تلو الاخرى، بنفس الاسلوب تقريبا. اذ لا يعقل ان تستهدف مناطق تجمع العمال المرة تلو الاخرى، طوال الاعوام الثلاثة الماضية، بنفس السيناريو دائما: شخص غامض يأتي ويطلب العمال، يتجمع الضحايا، تنفجر السيارة او العبوة. فاما ان يكون الناس طيبون الى درجة البلاهة، او ان هناك عاملا مهما لم يتم أخذه في الحسبان. وقد حدث ان احتجت الى تشغيل عدد من العمال ذات مرة، وقد رأيت كيف تجمعوا حولي راجين تشغيلهم، ولكني لم استطع ان اوقف سيارتي بسهولة وسطهم، فقد طـُلب مني الابتعاد بها، تحسبا لاي احتمال.. كما انني لم ابدُ لهم كمن يفكر في الانتحار او يدبر عملية لقتلهم. لقد كانوا واعين تماما لمن يتكلمون آخذين الحركات والسكنات في الاعتبار.
لم يتسن لي ان اقابل جرحى الحادث، او شهود عيان مباشرة، رغم محاولتي ذلك. ولا ادعي هنا ان ما اكتبه هو تحقيق صحفي قائم على افادات من ذوي العلاقة. بل انني اسعى الى فهم قصة اقرأها باستمرار عن عمليات تستهدف المدنيين، خصوصا التجمعات البشرية، مثل الاسواق ومجالس العزاء و(مساطر) العمال. وفي كل مرة نسمع بوقوع مثل هذا الحادث الاجرامي تتواتر الروايات بان الانتحاري او قادح الصاعق قد استطاع التغلغل بسهولة نسبية وسط هذا التجمع، الذي يبدو منفعلا لا دور له في تلك الاحداث.
نعم، يتوافر لدى المنفذين عنصر المفاجأة، وبالتالي قد لا يتاح للضحايا الوقت الكافي لادراك ما يجري فضلا عن اتخاذ اجراء ما لوقفه او الحد من أثره. لكن ذلك لا يعني، للاسف، الا ان المنفذين لديهم القدرة الكاملة على تحقيق مثل تلك المفاجأة. وتلك القدرة لا تمثل خرقا امنيا فحسب، بل هي خرق اجتماعي واقتصادي وثقافي فضلا عن الاختراق السياسي، الذي يمكن عده سبب كل تلك الويلات. اذ لو كان المجتمع واعيا بحق، لما وجد المتسللون تربة صالحة لغرس نبتتهم المسمومة. فمنذ سقوط الطاغية كان معظم الجدل الاجتماعي ضمن تركيبة المجتمع العراقي ينصب على نظرية (المظلومية السابقة) والمسؤولية عنها بدلا من التوجه نحو الفرص الجديدة في العدالة الاجتماعية، التي هي في الواقع اقتصاص عادل للحيف والجور الذي عانى منه معظم الشعب العراقي بكافة اطيافه. وقد تسبب تركيز التفكير على (المظلومية) في زيادة الاستقطاب الطائفي والعرقي على اساس تحميل الاخرين مسؤولية ما جرى. لم تكن تصفية الحسابات تجري وفق اصول قانونية وعبر منافذ رسمية، بل سُمح ضمنا بالاقتصاص الفردي، مما اضعف سلطة الدولة، وافرغ الدوائر الامنية والقضائية من مسؤوليتها المباشرة.
وحينما فشلت الدولة في فرض هيبتها بمنع التصرف الفردي والتصدي له، بل وغض النظر عن تلك الممارسات، تداعت سلطتها على الشؤون الاخرى. فمن المضحك ان تسجن مرتشيا، سرق بضع ملايين من الدنانير (او الدولارات-لا فرق) وتترك قتلة يجوبون الشوارع و(يطبقون) القانون بايديهم، ان شئت. وما دام القتل جائزا تحت مسميات معينة، فهو جائز تحت كل المسميات. لو وقع عليك حيف في وقت ما، واتيح لك الاقتصاص فماذا تفعل؟ اجريت لقاءا صحفيا بعد سقوط النظام مع احد ضحاياه وقد تم قطع لسانه. ووجهت اليه ذلك السؤال، فاجاب: "سابحث عن المخبر الامني في المنطقة التي كنت اسكنها والذي قام بالتبليغ عني حينما تكلمت بالسوء عن وحشية النظام البائد، مما ادى الى الحكم بقطع لساني". لقد كان ذلك المخبر سببا في المزيد من المصائب للعديد من الناس الذين ربما لا يتاح لنا التحدث اليهم. ولكن كيف سنعلم انه بالفعل هو من قام بذلك؟ وما هو دور الاخرين الذي ساهموا في ايقاع الضرر على الضحية هنا؟ وماذا بشأن القانون نفسه الذي سنه نظام صدام والقاضي بقطع اللسان لمن يتكلم بالسوء عنه؟ لقد توانت المحاكم اولا، ومن قم القوات الامنية، عن اتخاذ اجراءات لتقديم المتهمين الى العدالة. وفيما عدا صدام نفسه وبضعة من اعوانه قدموا للمحاكمة في قضيتي الدجيل والانفال، لم نسمع عن محاكما اخرى على اي مستوى.
ان الفشل في بسط سلطة الدولة هو في الحقيقة اعلان صريح عن غيابها وفتح الباب لذوي المصالح الخاصة، مهما تكن عقائدهم وانتماءاتهم في الحلول محلها. وساعد التطاحن السياسي على اشاعة وتغذية الاصطفاف الطائفي، مستفيدا حينا من الهواجس الجمعية لدى الشرائح المختلفة للشعب العراق، ومسببا في الواقع تلك الهواجس احيانا اخرى. وفي ظل الانهيار الكامل لكافة مرافق هذه الدولة الهزيلة، فليس من المستغرب ان تعلن القاعدة قيام امارتها، وارسال رسائل تحذيرية لمناوئيها. وطالما ان العراق يمتلك طبيعة جغرافية مختلفة تماما عن افغانستان، فمن غير المعقول ان يتحول الى مأوى للقاعدة فقط لان لديها بعض الاتباع في البلاد. ومن المعلوم ان الطبيعة الجبلية في شمال العراق، والتي يمكن ان تساعد القاعدة على التخفي بين الكهوف والوديان كما هو الحال في افغانستان، لم تستقطب القاعدة اليها بسبب افتقاد عنصري الاسناد الاجتماعي والثقافي الضروريين لاخفاء نشاطات منظمة مثل القاعدة. هناك صمت عن ما يجري في بعض المدن العراقية على مختلف المستويات الرسمية وغير الرسمية، ناتج عن صمت عما جرى ويجري في مدن اخرى تحت عنوان المظلومية.
انفجرت السيارة المفخخة وسط تجمع العمال، هذه هي الحقيقة الوحيدة التي نعلمها. نحن نجهل ما اذا كان التفجير انتحاريا، او عن بعد. نجهل كيف دخلت السيارة وكيف توقفت هناك. نجهل الحوار الذي دار قبيل وقوع الحدث. وجهلنا ليس بسبب غياب الشهود وفقدان الوقائع، وانما بسبب غياب وعينا. وما لم نستحضر الوعي مرة اخرى، ونحكم العقل والقانون، فلا يعلم الا الله الهاوية السحيقة التي سننجر اليها. ومن اكثر الحقائق مرارة، ان المظلومين جروا على انفسهم المزيد من الظلم باتخاذهم سواعدهم اداة للقانون، وتدميرهم الدولة التي لو تأنوا في بنائها، لانصفتهم ايما انصاف.