Sunday, November 15, 2009

هجوم فورت هود.. عملاً بطولياً أم انتحاراً دعائيا؟

في السادس من تشرين الثاني الجاري فتح الميجر نضال مالك حسن النار من مسدسين آليين على مجموعة من الجنود كانت تستعد لإنهاء معاملات نشرهم في افغانستان، في المركز المعد لهذا الغرض بقاعدة فورت هود، كبرى القواعد العسكرية الاميركية في العالم.
واصل الميجر اطلاق حوالي مئة رصاصة قبل ان تصيبه ضابطة صف متمرسة على القتال وتوقفه عن قتل المزيد. واسفر الهجوم عن مصرع 12 جنديا ومدنيا واحدا واصابة اثنين واربعين آخرين بجروح مختلفة قد تؤدي ببعضهم الى الإعاقة مدى الحياة.
وعلى الفور بدأت التحقيقات حول اسباب هذا الهجوم المفاجى ودوافعه الخفية وما اذا كان الميجر يعمل بمفرده ام انه كان يتقلى توجيهات او فتاوى تحضه على هذا الفعل. وتشير التقارير الاولية الى ان الميجر نضال مالك حسن، الاميركي المولد والفلسطيني الاصل، لم يكن بالشخص العنيف او المتطرف، رغم ما ذكره زملاؤه في الخدمة من ادانته الحروب في افغانستان والعراق. كما ان جيرانه والاشخاص العاملين معه اصيبوا بالصدمة لما بدر منه، حيث كان ذلك آخر ما يتوقعوا ان يفعله.
وقال ابن عم له، يعيش في القدس، في مقابلة تلفزيونية انه كان يعاني التفرقة العنصرية داخل الجيش لكونه مسلماً، على الرغم من تدرجه في سلم الرتب العسكرية ليصل الى رتبة ميجر (وهي تعادل رتبة رائد). وقياسا الى عمره البالغ 39 عاما، وتاريخ انتمائه الى الجيش الاميركي في عام 1997،لايبدو انه قد تأخر كثيرا في نيل هذه الرتبة، وهي علامة واضحة على عدم وقوعه ضحية لتفرقة بسبب الدين او العرق.
وتجري التحقيقات حاليا في علاقته المزعومة مع رجل الدين المتشدد اليمني الاصل انور العولقي، وهو المرشد الروحي لاثنين من المشاركين في هجمات 11/9، هما خالد المحضار ونواف الحازمي. حيث تشير التحريات الى انه اتصل برجل الدين هذا، الذي كان إمام جامع دار الهجرة الواقع بالقرب من العاصمة الاميركية، واشنطن، في اواخر عام 2008.
غير ان عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي يقولون انهم لم يأبهوا لهذه الاتصالات كون المجير كان يجري تحقيقات لصالح الجيش في ذلك الوقت، واعتبر من الطبيعي ان يقوم بمثل هذه الاتصالات. يذكر ان التدرج في الرتب العسكرية في القوات المسلحة الاميركية يتطلب الحصول على الموافقات الامنية بين الفينة والاخرى، وقد حصل الميجر نضال على درجة (سري)، أي انه لم يبعد سوى خطوة واحدة عن اعلى درجات الموافقات الامنية وهي (سري للغاية)، وهو ما يؤهله الحصول على معلومات سرية وحساسة.
وبناء على ما تقدم لا يبدو ان الميجر نضال كان مرتبطا بشكل مباشر مع خلية متطرفة تعمل على التخطيط لهجمات ارهابية في الولايات المتحدة. ولو كان الامر كذلك فلربما كان سيكون اكثر فائدة لتلك الخلايا من خلال المعلومات السرية التي يمكن ان يقدمها لهم، ولفترات طويلة قبل ان يفتضح امره. فالمكان الذي جرى فيه الهجوم لم يكن مغلقا على العامة، وبالتالي كان بإمكان الكثيرين القيام بما قام به دون الحاجة الى أن يكون برتبة ما في الجيش مثلا.
أما قدرته على حمل السلاح وادخاله الى القاعدة العسكرية فهو ليس بالامر المعجز كذلك، حيث ان تلك القواعد، التي يقطنها عدد كبير من الناس المدنيين والعسكريين على السواء، لا تخضع الداخلين اليها الى اجراءات تفتيش صارمة. يذكر ان قاعدة فورت هود تضم بين جنباتها اكثر من خمسين الف شخص بين مدني وعسكري.
وقال احد الجرحى انه سمع المهاجم يهتف (الله اكبر) باللغة العربية قبيل مباشرته بإطلاق النار على الجنود، وهو ما يدل عادة على هجوم انتحاري. غير ان تلك الشهادة لم تتأكد من شهود آخرين. كما ان هذا الهتاف لا يعني بالضرورة ان تلك العملية كانت (ارهابية). بل ان المسلمين يهتفون (الله اكبر) في مواقف ومناسبات شتى، وليس من العجب ان يقولها شخص يوشك على انهاء حياته، ظنا منه انه بهذا الفعل سوف ينال رضا الباري عزّ وجل. نعم، كان الميجر نضال على وشك ان يُرسل الى افغانستان، وهو ما كان يرفضه علنا. لكنه قام بالفعل بتوكيل محامٍ لغرض إخراجه من الخدمة العسكرية، أي انه اتبع الطرق القانونية للحيلولة دون ارساله للخدمة في حرب يرفضها.
بيد انه كان طبيبا نفسيا في قاعدة فورت هود، وكان يتعامل مع حالات الصدمة التي يعانيها الجنود العائدون من الخدمة في مناطق الحرب. وفي رأيي انه تأثر كثيرا بقصص هؤلاء الجنود عن فظائع الحرب. وكونه اعزبا ويعيش وحيدا ربما اثر في نفسيته وجعلته يعاني الكآبة التي تدفع الى الانتحار في بعض الاحيان. وفي اللحظة التي قرر إنهاء حياته، ربما كان يريد ان يكون هذا الانتحار امرا عاما.
يضاف الى ذلك انه ربما تأثر بالدعاية المتطرفة التي تجيز قتل الاميركيين والغربيين في أي زمان ومكان باعتبارهم كفارا، فعزم على فعل هذا الامر الذي سوف يجعله من (الشهداء) فينال المرتبة اللائقة في الحياة الآخرة، وينهي في نفس الوقت حياته التي بات يشعر بأنها تعيسة من دون ان يتعرض الى العقاب الالهي لارتكابه جرم الانتحار.
واذا قيل ان هناك تناقضا حول زعمي انه لم يكن يقوم بعمل ارهابي، ومع ذلك فقد ارتكب فعلا يندرج ضمنه، فإني أجيب بأن ليس هناك من تناقض. فالفعل الارهابي انما يكون باعتناق الفكرة المتطرفة اولا ومن ثم التخطيط للهجوم وتنفيذه. وفي حال نضال مالك حسن، ليست هناك من بوادر الى انه اعتنق الفكرة بدءا، وأرى ان هدفه كان انهاء حياته، لكنه كان مثقلا بالشعور بالذنب ان نفذه بالطرق التقليدية. ومن ثم عمل على ايجاد العذر المناسب من خلال ادبيات التطرف التي وفرت له طريقا سهلا للانتحار من دون الشعور بارتكابه إثماً.
ولا يخلو التاريخ الاميركي الحديث من اناس ارادوا الموت بهذه الطريقة، ونذكر منهم مهاجم الرئيس رونالد ريغان مطلع الثمانينيات، والذي انما اراد ان يكون موته حديثا لوسائل الإعلام وعامة الشعب ويصبح بذلك من المشهورين، بدل ان يلف الحبل حول رقبته في حمام منزله. ان من شأن هذه الحادثة ان تؤثر على وضع المسلمين في الولايات المتحدة كما هو متوقع.
وقال احد كبار جنرالات الجيش الاميركي انه ستجري مراجعة شاملة لكل الحالات المشابهة لحالة الميجر نضال، وان لم يحدد المسلمين على وجه الخصوص. واتكهن ان يصبح من الصعب على العرب والمسلمين ان يتدرجوا في المناصب الحكومية والعسكرية الاميركية، وربما في البلدان الغربية الاخرى نتيجة لهذه الواقعة. ان هذا الهجوم قد يلحق اذى كبيرا بين اوساط الجالية الاسلامية في الولايات المتحدة التي تكافح من اجل الاندماج مع مجتمع الدولة المضيفة، خصوصا بعد أحداث 11/9، التي لم يكد الشعب الاميركي ينساها. ففي كل مرة يحدث مثل هذا الهجوم تسعى تلك الجالية، في معظمها، الى استنكار ما حدث والبراءة منه، شعورا منها بأن أصابع الاتهام قد توجه اليها. ولسخرية الاقدار، كان الميجر نضال من بين من دانوا هجمات منهاتن.
واذا كان لي ان اقترح أمراً فإني أدعو الى مراجعة النظريات المتطرفة التي تمجد الانتحار من اجل القضية، كائنة ما تكون، والتي تقدم تبريرات غير مستندة الى منطق او تأويل صحيح عن قتل الآخرين والاستهانة بحيواتهم. على رجال الدين من الطوائف كافة ان يدينوا عمل الانتحار مهما كان الدافع. ان السماح والدعوة إلى قتل الذات من اجل القضية التي تعد –عرفا– مشروعان قد يؤديان إلى شرعنة كل القضايا الاخرى، ويسبب ضبابية في فهم المشروعية بحد ذاتها، ويخضعها لتفسيرات ذاتية قد تساعد الشخصية المضطربة على التحلل من قواعد الأخلاق الصارمة.

Saturday, October 17, 2009

جائزة نوبل لأوباما.. هل يصنع الكلام السلام؟

منحت لجنة جائزة نوبل التابعة للاكاديمية السويدية جائزة السلام لهذا العام الى الرئيس الاميركي باراك اوباما، "لجهوده في إحلال السلم العالمي، وخفض مخزون العالم من أسلحة الدمار الشامل"، حسبما جاء في بيان الاكاديمية. يذكر ان اسم الرئيس الاميركي لم يكن مطروحا من بين المرشحين، وان المرشحة الاقرب الى الفوز كانت السيناتورة الكولومبية بيداد كوردوبا، التي عملت على مدى نصف قرن من أجل ايجاد حل بالتفاوض للنزاع الجاري في بلادها.
ربما لم يكن الرئيس بحاجة الى هذه الجائزة بالقدر الذي كانت تحتاجه تلك السيناتورة المتعبة. فهو لا يمتلك تاريخا طويلا من النضال، ولم يقدم شيئا ملموسا، فيما عدا الخطب الرنانة، لكي يعد من بين القادة الذين يشار لهم بالبنان، وبالتالي من الذين ينالهم التكريم والتقدير لجهودهم الجبارة.لكن هذا هو عصر اوباما.
هذا هو الزمن الذي يتخلى فيه الناس عن التفكير المنطقي العقلاني سعيا وراء آمال اقرب الى السراب. لقد جاء الرئيس الى سدة الحكم على انه البديل الوحيد للادارة الاميركية السابقة التي وصفت بانها الاقل شعبية بين مواطنيها. واكتسح منافسيه بسهولة لا تصدق، رغم شعبيتهم الواسعة وخبرتهم السياسية العريضة. جاء بشعار التغيير الذي لا يمكن تصديقه بأي حال. لكن الناخبين صدقوه، وصوتوا له. وكان اول قرار له بعد ان ادى اليمين القانونية اغلاق معسكر غوانتانامو خلال عام. ويبدو انه لم يستشر موظفيه المعنيين بهذا الشأن، او انه تجاهل نصيحتهم. فحتى بعد مرور اكثر من ثمانية اشهر على ذلك القرار، لا يبدو انه سيطبق بسبب الصعوبات اللوجستية والمادية وقضايا حقوق الانسان بشأن المعتقلين المزمع اعادتهم الى بلدانهم.
حينما يكون المرء في المعارضة، يسهل عليه نقد اداء الحكومة، ولكن حينما يصبح في الحكومة يكتشف ان (التغيير) لا يتم بتوقيع قرار في احتفال مهيب. اما اذا تجاهل مثل هذا السياسي تلك الحقيقة البسيطة، فانه قد يحصل على جائزة نوبل تقديرا لجهوده في جرّ القلم. نعم، برّ اوباما، حتى الآن، بوعوده الانتخابية بسحب القوات القتالية من العراق.
لكن يجدر التذكر بان هذا الانسحاب يتم بموجب الاتفاقية الامنية مع العراق، والتي ابرمها سلفه جورج دبليو بوش. فهل يُعد هذا انجازا له؟ لدينا مثل عامي في العراق يقول (يجي خلاف ويركب على الاكتاف). لقد كان الانسحاب من العراق امرا لاميحص عنه، سواء تم بسنتين او بثلاث، وما كان لأي احد ان يطيل من عمر الاحتلال، شاء اوباما بذلك ام ابى. وحينما اراد الرئيس اوباما ان يتحدث الى العالم الاسلامي فانه اختار اولا الدولة العلمانية تركيا، ومن ثم مصر، التي يحكمها نظام علماني هي الاخرى. وهو تجنب بذكاء ان يذكر كلمة (ارهاب) ومشتقاتها في خطبه للمسلمين، لكي ينحي جانبا الافكار التي تربط بين الاسلام والارهاب.
بيد اني ارى انه بفعله هذا أكد ان هناك نوعا من الربط، والا لماذا يتجنب وصف فعل ادى الى مقتل الابرياء بالارهاب، رغم ان الغالبية العظمى من المسلمين وصفته بهذا المسمى. ماذا يقول الشهداء في العراق وافغانستان والسعودية ومصر ولبنان والاردن والجزائر واليمن وباكستان والصومال واندونيسيا والفلبين والهند، وبلدان اخرى كثيرة، عن وقوعهم ضحية لهجمات مسلحة تحت اسم (الجهاد)؟ ماذا نقول لعوائل ضحايا هجمات منهاتن ومدريد ولندن؟ هل كان المنفذون اناسا عاديين، ام انهم ببساطة ارهابيون عاثوا في الارض فسادا، وجلبوا لاهلهم وبلدانهم حروبا ومآسي اكثر مما خدموا قضيتهم، ان كانوا يعملون على قضية ما؟ ان حقيقة كون هؤلاء الارهابيين مسلمين لا تعني ان المسلمين كلهم ارهابيون. لكن ماذا يحصل ان تجاوزت هذه الحقيقة؟ ربما تحصل على جائزة نوبل للسلام.
بل انك قد تحصل على الجائزة وان كنت تعمل على رفع المجهود الحربي في بلد تحتله. كتبت كبريات الصحف الاميركية واصفة الحرب في افغانستان بانها (حرب اوباما). ومن سخرية الاقدار ان الحرب في العراق وصفت من قبل بـ(حرب بوش). فما المبرر في زيادة القوات؟ انه القضاء على الارهاب. ان كان ذلك حقا، فأين هو مصطلح الارهاب في قاموس اوباما؟
ومن نافلة القول ان جهود نزع التسلح والحد من الاسلحة النووية لم تأت من بنات أفكار اوباما، بل انها سياسة متعبة منذ السبيعينيات. وهي ليست وليدة رغبة الولايات المتحدة في السلام، بل حاجة فرضتها الحرب الباردة التي كانت تهدد بالاشتعال في أي وقت والتحول الى حرب كونية لاهبة قد تقود الى فناء الجنس البشري، وربما كل اشكال الحياة على الارض. كيف إذاً يكون هذا هو احد مبررات الاكاديمية السويدية لمنح الجائزة لمرشح اللحظة الاخيرة؟ بان يكون هذا المرشح هو باراك اوباما.
غير انه من الانصاف القول بان اللجنة قالت ايضا في بيانها: "قليلون هم من حازوا انتباه العالم مثلما فعل أوباما، لقد أعطى العالم أملاً بالتغيير والمستقبل الأفضل.. ودبلوماسيته قامت على مبدأ أن من يقود العالم عليه أن يكون مثالا يُحتذى في القيم والمبادئ." واتفق مع هذا القول تماما، الا اني لا ارى ان في ذلك سببا كافيا لتقديمه على كل المرشحين الآخرين، الذي عملوا بجد على مدى عقود من الزمن من اجل تحقيق هذه المبادئ.ان عمر الرئيس اوباما في المنصب لايزال صغيرا، ولا يصلح الحكم على ادائه في تلك الفترة القصيرة، لا سلبا ولا ايجابا. ومن الواضح ان لجنة منح جائزة نوبل وقعت تحت تأثير شخصيته الكارزمية الطاغية، التي سحرت الولايات المتحدة والغرب عموما، ومن ثم بدأت في الانتشار في شتى انحاء المعمورة.
فما هو السر في هذه الشعبية التي قلّ نظيرها في التاريخ؟ انها الماكنة الدعائية الاميركية. تلك البروباغاندا التي روجت ضد النازنية ومن بعدها الشيوعية وصولا الى الحرب على الارهاب، تروج اليوم لرئيسها وتهلل له. لقد ادركت الولايات المتحدة، ربما عن غير وعي، ان عصرها أشرف على الزوال بعد كل تلك الحروب والازمات، بغض النظر عن المسببات والنتائج، فكان التحرك بالاتجاه المعاكس. كما ان تغيير الادارة ليس مهما بقدر تغيير الشخصية. لقد ارادت اميركا ان تثبت للعالم انها امة ريادية حتى مع تعرضها الى ازمات سياسية واقتصادية خانقة. وكان الخروج من النفق من خلال شعار التغيير: تغيير العرق اولا، ومن ثم تغيير اللهجة الخطابية، واخيرا تغيير الثوابت السابقة. فهل ستتمكن الولايات المتحدة الاميركية من تحقيق هذا التغيير المنشود؟ ربما، ولكن يجب على الاخرين ان يتغيروا ايضا. فما الفائدة من مد اليد الى ايران –مثلا– اذا كانت تسعى الى امتلاك اسلحة نووية قد تشعل سباقا للتسلح النووي في المنطقة لا تحمد عقباه، واذا كانت تعامل شعبها بالنار والحديد؟ ومن المفارقة ان الاميركيين انتقدوا اداء اوباما الضعيف اثناء الانتفاضة الايرانية، وطالبوه ان يظهر "قليلا من قوة بوش." ونحن نعلم ان مثل هذا التغيير في الانظمة الديكتاتورية ليس بالامر الهين، ان لم نقل انه مستحيل عمليا.
لقد جاء منح جائزة نوبل للسلام الى الرئيس اوباما متعجلا، وكان على اللجنة ان تتريث عاما او اثنين قبل ان تقرر صلاحيته لنيل تلك الجائزة ذات الصبغة العالمية. وان كان القصد من منح الجائزة وضع اوباما امام مسؤولية تحويل الاقوال الى افعال، فتلك مقامرة غير محسوبة. فان استطاع الرئيس اوباما ان يحدث تغييرا، فلن يكون الا ذلك بجهد اناس آخرين. وان لم يستطع فعل الكثير، فان سمعة جائزة نوبل ومصداقيتها سوف تكون على المحك.

Friday, September 04, 2009

لمحة عن الازمة الاقتصادية.. الأسباب والنتائج

اعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الاميركي اواخر الشهر الماضي انتهاء حالة الركود الاقتصادي Recession التي عصفت بالولايات المتحدة، واجزاء اخرى من العالم، خلال العام المنصرم، رسميا على الاقل. واعتبر بعض المحللين هذا الاعلان مجرد وسيلة للاستهلاك المحلي بعد ان طال امد الازمة التي أثرت في مفاصل الحياة الاميركية بشكل لم يسبق له مثيل منذ الكساد العظيم Depression الذي حدث في ثلاثينيات القرن العشرين.
وكان مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد اعلن دخول اقتصاد البلاد حالة الركود اواسط العام الماضي كتحصيل حاصل، حيث انهارت كبريات المصارف الاميركية، وسرح الآلاف من الموظفين الذين كانوا يعملون في مختلف الشركات الخاصة، وحتى من الخدمة الحكومية، بسبب عجز الموازنات المالية لتلك الهيئات، وضربت نسب البطالة ارقاما قياسية مقارنة بعقود سابقة.
ويحسن بهذه المناسبة إلقاء نظرة على اسباب هذه الازمة الاقتصادية الكبرى، ومحاولة استقراء اثرها عالميا ومحليا، وتأثيراتها المحتملة على العراق والشرق الاوسط عموما. لكن من المفيد اولا التعرف على بعض مظاهر الاقتصاد الاميركي، حيث يكمن جزء كبير من المشكلة في اصل النظام ونمط الحياة الاميركية.
ثقافة الاستهلاك
من المعروف ان النظام الرأسمالي يشجع على الاستهلاك كوسيلة لإدامة عجلة الاقتصاد، ويحارب نزعة التوفير من خلال اشعار المواطن بنوع من الامن الاقتصادي المستند الى اقتصاد متين قادر على تجاوز الازمات المالية. والحق ان اقبال الناس على الشراء وصرف الاموال والمدخرات ليس بالامر السيىء طالما ادى ذلك الى ضخ تلك الاموال في السوق المفتوحة، وبالتالي خلق المزيد من فرص العمل في المصانع والمتاجر واسواق البورصة، واتاحة المزيد من فرص الاستثمار واجتذاب رؤوس الاموال محليا وعالميا.
بيد ان الاسراف في الصرف ليس محمودا. ومن الحكمة دائما ان يضع المرء بعضا من مدخراته تحت السجادة تحسباً لأمر طارىء او لازمة غير محسوبة. لكن المجتمع الاميركي اعتاد على نمط حياة قائم على الاستهلاك المفرط. فعلى سبيل المثال تجد بعض الناس يتحدثون عن عدم قدرتهم على زيارة جزر البهامس لقضاء اجازتهم الصيفية هذا العام بسبب الازمة الاقتصادية، على الرغم من ان الكثيرين فقدوا اعمالهم وباتوا يعتاشون على المساعدات الضئيلة التي تقدمها الدولة للعاطلين عن العمل. فحياة الرفاهية امنية صعبة التحقيق، واصعب من ذلك التخلي عنها.
خط الائتمان
يقوم الاقتصاد الاميركي على فكرة خط الائتمان Line of Credit وهو نظام دقيق يتمثل بوضع تاريخ لكل فرد يقوم على طريقة استخدامه للقروض التي تقدمها المصارف، وحتى في استخدامه بطاقة الصراف الآلي المعروفة ببطاقة الائتمان Credit Card. ولتوضيح ذلك، فان كل مواطن بمكانه ان يحصل على بطاقة الائتمان من احد المصارف او المتاجر الكبرى، وما عليه سوى ان يتسوق باستخدام تلك البطاقة وميزة التحويل الالكتروني لقيم البضائع المشتراة. وبعد مضي فترة، تبلغ شهرا في العادة، يقوم المصرف بإصدار بيان العميل ويطلب من تسديد المبالغ المترتبة بذمته. فاذا تخلف العميل عن الدفع يرسل المصرف اشعاراًلا الى هيأة الائتمان Credit Bureau يخبره بهذه الواقعة، ومن ثم يتم حسم نقاط من العميل.
فإن اراد هذا الشخص ان يقترض مالا لشراء سيارة او منزل مثلا، فإن عليه ان يقدم تاريخه الائتماني Credit History الذي يبين كيفية تعامله مع القروض واستخدامه لبطاقة الائتمان. وكلما كان عدد نقاطه اعلى انخفضت قيمة الفائدة التي يفرضها المقرضون، والعكس بالعكس. وفي بعض الاحيان لا يحصل العميل الذي يضم تاريخه الائتماني تخلفا عن الدفع لمرات عديدة على القرض مهما كانت الفائدة.
والحسنة في هذا النظام انه يجبر الفرد على مراقبة صرفياته وفقاً لدخله، لكنه يوفر في نفس الوقت اغراءات بالشراء او الاقتراض على امل الحصول على دخل اكبر، او حتى الاستمرار في الوظيفة التي يعمل بها المواطن. وليس هناك من ضمان على ذلك. فالناس يطردون من اعمالهم طوال الوقت، وحينها تنشب ازمة فردية، قد تؤدي الى ضياع آمال الانسان، وتخليه عن اعز ما يملك وهو يسعى الى سداد ديونه المتراكمة.
جشع الرأسماليين
لعل ابرز مظاهر النظام الرأسمالي هو رغبة اصحاب رؤوس الاموال في زيادة اموالهم بأية وسيلة. غير ان النظام المدرك لهذه الحقيقة يسمح بها ويغفر لها. والسبب في ذلك ان النزعة الطبيعية للإثراء هي ما يدفع الناس الى العمل والاجتهاد، ووجود اناس عصاميون تسلقوا هرم الثروة يجعلهم امثولة لغيرهم، يحثونهم على الكد والعمل آملين في تحقيق ما حققته تلك الثلة.
ويقود هذا الجشع الى تركز الثروة والى الاحتكار، وهما امران سلبيان الى حد كبير، بحيث ان النظام الرأسمالي نفسه ينطوي على آليات لمحاربتهما، وان لم تكن تلك الآليات بالمستوى المرجو منها. وهكذا فلا محيص عن تباعد الفجوة بين الاغنياء والفقراء في مثل هذا النظام، ويتزايد فيه الشعور بعدم الرضا الناتج عن فشل الناس العاديين في الاغتناء السريع، مقابل توافر امثلة تدل على امكانية ذلك. والحل يأتي في اغلب الاحيان من خلال محاكاة حياة الرفاهية التي يحلم بها المواطن، والمتمثلة بالبيوت الواسعة والسيارات الفارهة وما الى ذلك. كل ذلك من خلال القروض التي تقدمها المصارف.
النظام الضريبي
لا تملك الدولة الرأسمالية موارد خاصة بها، فجميع القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية وجميع الاستثمارات التجارية وحتى الموارد الطبيعية مملوكة للقطاع الخاص. ويقوم دخل الدولة على جباية الضرائب والرسوم من ارباب المصالح مقابل تفويضهم بالعمل والانتاج. ويعني هذا الامر ان التقصير في دفع الضرائب المستحقة، سواء للعجر عن الدفع او لعدم وجود مورد الدفع مثل تعرض المصالح الى الخسائر، يجبر الدولة على التقليل من نفقاتها. ومن اشكال تقليل النفقات ايقاف المشاريع الكبرى، والاستغناء عن خدمات الموظفين الحكوميين، وكلا الامرين يؤثر سلبا على مجمل الاقتصاد. فالدولة تبقى محركا اساسيا لحركة الاقتصاد حتى في نظام يقوم على نشاط الافراد بشكل اساس.
ومع ذلك تسعى الدول الرأسمالية الى الاحتفاظ بخزين مالي احتياطي تحسبا للازمات. الا ان استخدام هذا الخزين الاحتياطي يؤثر في قدرة الدولة على معالجة الازمات التالية. وبالتالي فإن الاستمرار في الاعتماد عليه لا يقود بالضرورة الى تحسين الوضع الاقتصادي، بل قد يزيد الطين بلة. انه وضع دقيق يصلح لحلحلة اقتصاد متعثر، ولكنه قد يفشل في مواجهة ازمة متفاقمة.
التضخم
يقال ان قيمة الدولار الاميركي قبل ثلاثين سنة كانت تبلغ عشرة اضعاف قيمته الحالية، وهذا هو احد معايير التضخم. انه التقلص التدريجي في قيمة العملة مع الزمن، او تضاؤل عدد البضائع التي يمكن شراؤها باستعمال نفس العملة النقدية مقارنة باوقات سابقة. وهو امر حتمي في اقتصاد استهلاكي، فالمزيد من الاموال في السوق تعني تقليل قيمتها، وزيادة الطلب على البضائع تقود الى رفع اسعارها.
وليس التضخم امرا سيئا بالضرورة. فمن النافع في بعض الاحيان ان يشعر الناس بان قيمة اموالهم المخبأة تقل مع الزمن، وبالتالي فمن الافضل ان يستثمروها في شراء البضائع، او المواد العينية ذات القيمة الثابتة نسبيا، او حتى سندات البورصة.
غير انه قد يصبح وبالا اذا تجاوز الحد الطبيعي، او اذا كانت اسعار المعروضات تزداد بشكل لا يوازي انخفاض العملة. ففي هذه الحالة تصبح قيمة المعروضات وهمية ومبنية على طلب محلي مبالغ فيه، وقد تتعرض الى الهبوط الفجائي للعودة الى المستوى المفترض. ويؤدي مثل هذا النزول الى ازمة اقتصادية تتراوح شدتها حسب حجم التعاملات بالمواد المعروضة.
ما الذي حدث في اميركا؟
في البدء كان الناس يشترون منازلهم بعد ان يكونوا قد وفروا ما يكفي لشرائها. ثم جاء النظام الائتماني ليساعدهم على الاقتراض لشراء تلك المنازل بالتقسيط. ويبلغ سعر الدار التي تباع بهذه الطريقة اكثر من ضعف السعر المقدر في معظم الاحوال، حيث يتاح للمقترض ان يسدد قرض المنزل خلال فترات تترواح بين خمسة عشر الى ثلاثين عاما.
غير ان اسعار المنازل ارتفعت خلال السنوات الاخيرة لتبلغ ضعفي او ثلاثة اضعاف سعرها في العقد الماضي. وهذه الزيادة ليست الا نتيجة لارتفاع الطلب المحلي، ولا تعود الى التضخم المالي بشكل مباشر. ودفع هذا الامر بعض الناس في الولايات المتحدة الى الاقتراض مجددا برهن بيوتهم التي باتت اكثر قيمة مقارنة بوقت شرائهم لها. كما قام الكثير من المواطنين بشراء منازل ذات قيم سوقية عالية دون التفكير في امكانية سداد اقساط القرض العقاري اذا فقدوا مصدر عيشهم لأي سبب من الاسباب.
وفي الحقيقة فإن شروط منح القروض العقارية قد تم تخفيفها وقت حكم ادارة الرئيس كلينتون، على الرغم من أن الكثيرين يشيرون بأصابع الاتهام الى ادارة الرئيس بوش في حدوث الازمة العقارية بادىء الامر. وكان الغرض من تخفيف الشروط هو منح عدد اكبر من المواطنين فرصة الحصول على منزل، دون الالتفات الى ما سيؤول اليه الامر ان عجز هؤلاء عن السداد. واغلب الظن ان المشرعين اعتقدوا ان ما يمكن ان يحصل هو حالات افلاس فردية لن تؤثر على مجمل الاقتصاد الاميركي، الذي بدا بأقوى صوره حينذاك.
ومن جهة ثانية، استغلت المصارف والجهات الدائنة جهل الكثير من المقترضين ورغبتهم الشديدة في الحصول على القرض، ففرضت شروطها الخاصة. ومن هذه الشروط مثلا ان المقترض يسدد اولا الفوائد المترتبة على القرض قبل أي شيء آخر. وهذا يعني ان المقترض قد يمضي خمس سنوات في عقار، يسدد اقساط القرض العقاري بانتظام، ثم يفشل في التسديد لبضعة اشهر، فيقوم المقرض بوضع اليد على العقار وبيعه في المزاد، وبما ان المقترض كان يدفع الفائدة اولا، فمن المحتمل ان لا يحصل على شيء. والواقع انه قد يكون قد سدد جزءا كبيرا من القرض خلال تلك المدة. انه الجشع الذي يتخفى في عقد القرض الموقع بين الطرفين، والذي لايذكر هذا الشرط الا في زاوية صغير وبحجم خط صغير او ما يعرف بالـ Fine Print.
لكن الجشع الرأسمالي يتجاوز خداع المتعاملين بعقود صعبة القراءة الى بيع ديونهم الى جهات اخرى. فعادة ما كان الدائنون يقومون ببيع كل مجموعة من الديون الى شركات اخرى. وفي كثير من الاحيان تكون تلك الشركات غير اميركية، كأن تكون صينية او اوروبية او حتى من البلدان النامية. وهذا يعني ان المدين يدفع اقساطه الشهرية الى شركة او مجموعة ربما لم يسمع بها من قبل. حتى تحولت العملية المالية المعقدة الى اشبه ببركة ماء فهناك من يصب فيها الماء وهناك من يغرف منها. ولم يعد تمييز من يدين من ومن يسدد لمن امر سهلا على الاطلاق، خصوصا حينما ينضب الماء الوارد، او تسديد الديون، عندها يصعب الاغتراف حتى لمالكي الديون الاصليين.
يشبّه الكثير من الاختصاصيين طريقة عمل النظام الائتماني بقطع الدومنيو المرتبة الواحد قرب الآخر. فحينما يسقط اولها يجبر جميع الاحجار التالية على السقوط. وهذا ما حدث بالضبط. عجز المدينون عن الايفاء بديونهم، وبلغ عددهم حدا يتجاوز قدرة الشركات الوسيطة على احتمال التسديد عنهم، وبما ان اغلبها اجنبية لم يكن هناك من فائدة في اشهار افلاسها، بل اختفت بكل بساطة من الساحة تاركة الشركات الكبرى في مواجهة الازمة المتفاقمة. حدث هذا الامر بطيئا اول الامر، واستغرق عاما كاملا دون ان يسبب في الواقع ازمة اقتصادية هائلة، لكن الانهيار حدث سريعا بعد ذلك. اذ اعلنت كبريات المصارف المختصة بالقروض العقارية، مثل AIG كبرى شركات الاقراض، افلاسها وانهارت بين يوم وليلة. سببت هذه الانهيارات المصرفية زلزالا اقتصاديا غير مسبوق، وادى الى أحجام المواطنين عن الانفاق تخوفا من استمرار الازمة لمدة طويلة. ومع انخفاض الطلب على السلع بدأت المتاجر والمصانع في مواجهة واقع غير مألوف، وهو عدم القدرة على تسويق البضائع، ومن ثم بدأت في تسريح موظفيها ما ادى الى اضافة اعباء اقتصادية جديدة. لقد بدأت عجلة الاقتصاد في التباطؤ.
عوامل اخرى
يلقي بعض المحللين باللائمة في هذه الازمة، جزئيا على الاقل، على ادارة الرئيس الاميركي السابق، كونه دفع بالبلاد الى حربين باهظتي التكلفة: افغانستان والعراق. غير ان هناك من بين المختصين من يرد بالقول ان عملية تخصيص ميزانية للدفاع لا تعتمد بشكل مباشر على الحرب. نعم هناك زيادة في النفقات نتيجة الاعمال الحربية، لكن النفقات الاصلية مستحصلة اصلا قبل الخوض في الحرب الفعلية. وهي ترصد لأعمال تطوير الاسلحة والتدريب وما شاكل ذلك. كما ان جزءا كبيرا من تلك الاسلحة يباع في الاسواق العالمية ويشكل واردا مهما للدولة. ومن المفارقات التاريخية ان الولايات المتحدة لم تنجح في تخطي آثار الكساد العظيم في الثلاثينيات الا بعد ان اشتركت فعليا في الحرب العالمية الثانية. أي ان الحرب ادت الى تطوير الاقتصاد الاميركي بدلا من التأثير سلبا عليه، كما حدث لباقي الدول المشاركة في تلك الحرب. ويصر بعض المحللين على ان الحال نفسه تكرر في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة لاحقا. لكن من الانصاف القول ان حرب العراق تحديدا كانت تسبب ضغطا هائلا على الاقتصاد الاميركي، فقد بلغت الكلفة التقديرية حوالي ترليون دولار. ولا شك في ان تلك التكاليف هي من بين العوامل التي تمنع الاقتصاد من تجاوز الازمة، ان لم تتسبب بها.
لكن هناك مشكلة ربما تكون قد اثرت بشكل اكبر وساهمت في حدوث الانهيار الاقتصادي، وهي عدم قدرة الصناعة الاميركية على المنافسة امام العملاق الصيني ودول جنوب شرق آسيا واليابان. فقد غزت البضائع القادمة من الشرق الاسواق الاميركية. حتى ان كبريات شركات التسويق الاميركية انشأت مصانعها الخاصة في الصين ودول اخرى للاستفادة من رخص الايدي العاملة والتسهيلات التي تمنحها الدول المضيفة للاستثمارات الاجنبية. وكانت هذه المنتجات تشحن خصيصا الى الاسواق الاميركية ما اكسبها ثقة المستهلك. ولم يعد بإمكان الصناعة المحلية المكلفة ان تصمد امام هذا المد المتصاعد.
ومن بين اوضح الامثلة على ذلك تعثر صناعة السيارات الاميركية الذي دام عقودا من الزمن. فعلى الرغم من انخفاض الطلب العالمي على السيارات الاميركية الا ان سمعتها المحلية كانت لابأس بها. وما حدث في الآونة الاخيرة ان المواطنين الاميركيين لم يعودوا يفضلون السيارات الاميركية، بعد ان ازدادت ثقتهم بالسيارات المستوردة الارخص ثمنا والتي تضاهيها جودة، ان لم تفقها.
ويبزر من بين العوامل الاخرى ارتفاع اسعار الوقود عالميا ليصل مستويات قياسية بين منتصف عام 2008 وأوائل عام 2009، اثرت في قدرة المستهلك على الانفاق واجبرته على ترشيد الاستهلاك. ومعنى هذا الترشيد، كما اسلفنا، ان عجلة الاقتصاد سوف تستمر في التباطؤ.
إجراءات الحكومة الاميركية
حينما حدث انهيار المصارف الكبرى، وجدت ادارة الرئيس بوش نفسها امام معضلة لم تخبرها من قبل. وبما ان عليها الاستفادة من التجارب السابقة، فقد نظرت اول الامر فيما حدث في الازمات السابقة، وبالخصوص في فترة الكساد العظيم. فقد رفضت الحكومة حينذاك ان تتدخل لحماية المصارف الغارمة، والتي وقعت تحت ضغط كبير من المودعين الذين توافدوا لسحب اموالهم. وكان رد الحكومة حينذاك ان النظام الرأسمالي سوف يصلح نفسه. وقد ثبت خطأ هذه الفكرة، وان عدم تدخل الدولة في ذلك الوقت ادى الى تفاقم الازمة بشكل خطير، دام سنوات عديدة. ثم فاز الرئيس روزفلت في الانتخابات بوعود انهاء الازمة، وقام بإطلاق مشاريع كبرى من اجل حلحلة الوضع الاقتصادي، ونجح في ذلك الى حد كبير. كما ان ادارته وضعت الاسس للنظام الاقتصادي والاجتماعي الحديث في الولايات المتحدة من خلال انشاء مجلس الاحيتاطي الفيدرالي ونظام الامن الاجتماعي لحماية العاجزين من كبار السن والمرضى والاطفال. ثم ساهمت الصناعة الحربية في وضع حد للتدهور الاقتصادي ليبدأ عصر من الازدهار في كل الميادين وضع الولايات المتحدة في قمة الدول الصناعية واتاح لها ان تتحول الى قوة عظمى.
والدرس الذي وعته ادارة بوش من هذا ان على الدولة ان تتدخل لحماية المستثمرين في اسواق الاسهم، طالما ان اغلبهم مواطنون عاديون. وقامت بالفعل برصد اموال طائلة لشراء اسهم الشركات المفلسة من اجل اعادتها للعمل من جديد، وفتحت حسابات باسم دافعي الضرائب لتتم اعادة الاموال المصروفة لحماية الشركات الغارمة من خلالها. ولكن لم يظهر اثر فوري لهذه الاجراءات، فالعملية المالية معقدة جدا. حتى ان شركة GM لصناعة السيارات، والتي حصلت على اموال كبيرة من اجل حمايتها من الافلاس، لم تستطع المقاومة وانهارت اخيرا. وسبب هذا الانهيار نوعا من زعزعة الثقة بين المواطنين الذين كانوا ينظرون الى عملاق صناعة السيارات كرمز وطني.
ومع ذلك بدأت بوادر التدخل الحكومي تظهر على الساحة، من خلال مشاريع فيدرالية منحت للولايات المختلفة، وان لم يخل الامر من تعقيدات سياسية وحزبية. ويرى بعض المحللين ان تلك الاجراءات ان لم تفلح في انهاء الازمة على الفور، فإنها ادت في الاقل الى ايقاف التدهور، وبالتالي امكانية اصلاح الوضع مع مرور الوقت.
تأثير الازمة عالمياً
على الرغم من كون الازمة الاقتصادية الاميركية محلية بالدرجة الاساس الا انها انعكست سلبا على مجمل الاقتصاد العالمي بسبب الوضع الفريد للاقتصاد الاميركي واكتسابه موقع الريادة عالميا. وقد ظهر هذا التأثير جليا في اسواق المال العالمية، في اوروبا واليابان ودول جنوب شرق آسيا. فقد انخفضت مؤشرات اسواق الاسهم بشكل حاد وسبب ذلك تباطؤا اقتصاديا كان من شأنه ان يهدد استقرار اسواق المال في انحاء المعمورة.
غير ان الحكومات الغربية، بالاضافة الى اليابان والصين ودول اخرى، اتخذت اجراءات سريعة لمنع التدهور. وتقوم هذه الاجراءات اساسا على نفس المبدأ الذي اقامت عليه الحكومة الاميركية اجراءاتها. اذ سعت تلك الحكومات الى شراء الديون ومساندة الشركات ذات الاداء الضعيف لوقف التدهور ولمنع الاسواق من الدخول في حالة من الركود الشامل.
وفي منطقة الشرق الاوسط، التي رغم اهميتها كمورد اساس للنفط الخام، لم يتعد تأثير الازمة الاقتصادية على الاسواق المالية هزات خفيفة. ويعود ذلك الى ضعف تلك الاسواق وحداثة نشأتها، كما انها محلية بدرجة كبيرة، ولا تتأثر بالازمات العالمية بنفس المقدار الذي تتأثر به الاسواق الاكثر عراقة في لندن واليابان وسواهما.
الا ان اكبر تأثير على الدول النفطية، ومن بينها العراق، كان في الانخفاض الحاد لاسعار النفط. وكان هذا الامر يمثل تهديدا حقيقيا لاقتصاد هذه الدول، وربما كان كارثة بالنسبة للعراق على وجه الخصوص. فقد اقام العراق، الذي تمثل صادرات النفط اكثر من تسعين بالمئة من ميزانيته، اقام تلك الميزانية على اسعار نفط مرتفعة نسبيا. وادى انخفاض اسعار النفط العالمي الى اجبار الدولة على التخلي عن العديد من المشاريع الاستثمارية الكبرى التي كانت تأمل من خلالها انعاش الاقتصاد وتوفير فرص العمل في بلد يعاني نسب بطالة عالية مقارنة بدول الجوار.
ما العمل؟
ربما يسأل سائل عن جدوى النظام الرأسمالي اذا كان يمكن ان يتعرض الى مثل هذه الازمات الكبرى. والحقيقة ان أي نظام اقتصادي معرض الى الازمات التي قد تبلغ حد الانهيار. غير ان الرأسمالية تطرح في العادة افكاراً عن السوق الحرة وعن التنافس الفردي وعن الحد من سلطة الدولة في الشؤون المالية، يصعب معها تصور ان الحل الذي يقترحه هذا النظام يقوم على عكس هذه الافكار. لكن ما يشفع لهذا النظام ان الناس الذين يعيشون في ظله لا يفكرون، ولا يقبلون في العادة، ان يتم التخلي عن نظامهم لصالح نظام اشتراكي. وهم حاربوا في البداية فكرة تدخل الدولة بشكل مباشر في شراء الاسهم والديون السيئة، ولم تلق هذه الفكرة قبولا الا بعد ان تم توضيح مبدأ فتح حساب دافعي الضرائب المصرفي لعموم الشعب.
والدرس المستفاد من تلك الازمة الاقتصادية ان الازمات تحدث على حين غرة، وان على الناس ان يؤمنوا بانها احدى حقائق الحياة. كما ان على الدول ان تتخذ احتياطاتها لمثل هذه الازمات وترصد بوادرها وتتعامل معها بأسرع وقت.
بالنسبة للعراق، فان انعكاسات الازمة المالية الاميركية كانت شديدة ومباشرة. وربما يتوجب اعادة التفكير، الان اكثر من أي وقت مضى، في بناء الاقتصاد على سلعة واحدة هي النفط. ويجب ايجاد البدائل التي من شأنها ان تقلل الاعتماد على النفط، وان كانت قائمة عليه. مثال ذلك منح تراخيص وعقود نفطية مقابل استثمارات طويلة الاجل، سواء اكانت تلك الاستثمارات صناعية او زراعية او تجارية او حتى سياحية بما يضمن دخل اضافي للدولة والفرد يحميهما من تقلبات السوق العالمية غير المتوقعة.

Friday, March 06, 2009

حول الكاريكاتير والتعبير بالايحاء

دأبت (المدى) وصحف عراقية وعربية وعالمية اخرى على تقديم رسومات كاريكاتيرية ساخرة او ناقدة لوضع معين او لتصرف او لحالة شاذة وغير ذلك. وارى ان ذلك امر جيد يهدف الى النقد البناء والوصول الى المواطن البسيط والجهة المعنية على حد سواء.
ولعل السر في جاذبية الكاريكاتير هو سهولة قراءة اللوحة الفنية المعبرة عن حالة معينة بدون الحاجة الى قراءة تعليق طويل او شرح مسهب، وبالتالي تتوضح الفكرة من خلال تأمل بسيط لمفردات اللوحة الكاريكاتيرية، وتطلق العنان لبسمة او ضحكة تدخل البهجة –ولو مؤقتا– الى النفس بان تلك الحالة السلبية قد وضعت امام انظار الجهة المعنية، وربما سيأتي الحل قريبا.
لكني وددت ان اشير الى نقطتين مهمتين في هذا الشأن. الاولى تتعلق بنوعية العمل الفني الذي ينشر على انه لوحة كاريكاتيرية، والثانية في مدى السلبية التي يمكن ان تعرض من خلال هذا العمل بحيث يكون مؤثرا لا مقززا او باعثا على التشاؤم.
ولعل العراق قد حظي بزمرة من رسامي الكاريكاتير المبدعين الذي يمكن اعتبار اعمالهم مساوية ان لم نقل متفوقة على اعمال الفن التشكيلي لمعاصريهم ومواطنيهم، ومنهم علي المندلاوي وخضير الحميري ومؤيد نعمة وعبد الرحيم ياسر وبسام فرج ومحمد علي بربن وغيرهم كثيرون. وقد احتمل هؤلاء المبدعين وزرا ثقيلا في تجسيد هموم ومعاناة شعبهم وشرحها بطريقة سهلة ومفهومة ومؤثرة، حتى مع تعرضهم الى اخطار جسيمة في وقت من الاوقات حينما اصبحوا هدفا مشروعا للفكر المنحرف.
حينما تتأمل في اعمال كبار الفنانين، تلتفت الى انهم لجأوا في تعبيرهم عن فكرة ما الى اعتماد اسلوب الايحاء اكثر من الافصاح، وذلك في الواقع هو ما يجعل اعمالهم متميزة. اذ ان أي عمل فني لابد ان ينطوي على نوع من التشاطر بين المبدع والمتلقي، يهدف الى ايجاد اصرة تربط بينهما وتفتح سبيلا لمزيد من التواصل. فعلى سبيل المثال، لا يختلف اثنان على جمالية وجاذبية (نصب الامة) للفنان الراحل جواد سليم، وان اختلفوا في تفسير مفردات هذا العمل الفني الرائع. كما تجبرك اعمال الفنان (مؤيد محسن) على النظر اليها بامعان بحثا عن سر القصة التي تخفيها اللوحة كما لو كانت مخططا لكنز دفين.
غير ان العمل السوريالي قد لا يكون دائما بهذه الجاذبية. ويعرف الفنانون المحترفون انهم باتباعهم هذه المدرسة قد لا يصلون الى الشعبية التي يأملون فيها. فعامة الناس لا تحبذ الوقوف طويلا امام اللوحة للتأمل فيها وفك رموزها.
واذا كان لي ان اضع العمل الكاريكاتيري في تصنيف معين، لما ترددت ان اضعه ضمن مدرسة سوريالية-تجريدية-انطباعية مجتمعة. قد يكون هذا تناقض وهدم لفكرة اختلاف هذه المدارس الفنية في الاصول والفروع. لكن هناك شيئا مشتركا –على كل حال– بينها، وهو انها ليست (واقعية)، بمعنى انها لا تهتم للتفاصيل الدقيقة التي تعبر عن الشخصية او الحدث او المكان.
وهكذا فان طبيعة الرسم الكاريكاتيري قد تكون خليطا من هذه المدارس، او احدها ان شئت، ولكنها لا يجب ان تكون لوحة بورتوريت او تجسيدا حيا لموقع او حدث معينين. فان اخترت ان تكون لوحة سوريالية، لابأس ان تجعل الشخصية ذات اجنحة مثلا، او بعينين تتصلان بنابضين يقفزان الى الخارج تعبيرا عن التعجب والذهول. وان كانت تجريدية انطقت الكرسي بكلمات لم يجرؤ على قولها من يجلس عليه. وان كانت اللوحة انطباعية رسمت كل شيء كما يبدو لك بعين غير مدققة مع اضافات نقدية او ملاحظات ساخرة. وفي كل من هذه النماذج يمكن لك ان تضع تعبيرا او اقتباسات كلامية للشخوص، كما تـُحبب المبالغة بشكل خاص لانها تضفي جاذبية وتلفت الانظار الى اللوحة، مما يزيد من تأثيرها على المتلقي.
لكن السؤال ما مقدار الاقتباسات الكلامية التي يستطيع الفنان ان يضعها في لوحته دون ان يقلل من اهمية العمل الفني. لا شك ان اكثر انواع الكاريكاتير اثارة للمخيلة هو من يدرج تحته عنوان (بلا تعليق)، في اشارة الى ان اللوحة تعبر عن نفسها. وكثيرا ما يقال (اللوحة خير من الف كلمة). وان كان هذا صحيحا، فما هو الداعي في ان يغرق بعض الفنانين لوحاتهم بالتعليقات والاشارات والاستعارات اللفظية، لتوضح الشخصية وما يصدر عنها من قول وتصرف؟ الا يندرج هذا في باب الطرفة المرسومة اكثر مما هو عمل فني ايحائي يقوم على التواصل بين الفنان وجمهوره؟
نشرت (المدى) في عددها 1450 الصادر في 7 آذار 2009، وفي الصفحة الخامسة (في الشأن المحلي) رسما كاريكاتيريا يحمل توقيع (قاسم09). موضوع اللوحة يقوم على ان مياه الشرب التي تصل الى بيوت الناس في محافظة بابل تكون ممزوجة بالماء الخابط ومياه المجاري. وقد رسم الفنان ثلاثة انابيب تلتقي عند حنفية ماء واحدة وقد وقف مواطن مذهول امامها. اضطر الفنان الى ان يكتب على كل من الانابيب اسم الخدمة التي يقدمها، فكتب (ماء اسالة) على احدها و(ماء خابط) على الاخر و(مياه مجاري) على الثالث. كما ان طريقته في شرح ان هذا الامر يحدث في محافظة بابل لم تتعد الاشارة الكتابية للشخصية بان كتب فوقها (المواطن البابلي). ثم رسم علامة الاستفهام على الحنفية دون ان يكون لها معنى محدد.
لعل الفكرة قد وصلت اسرع مما ينبغي، وبالتالي فان التأثير المنشود كان اقل مما يرتجى. اذ كان بامكان الفنان ان يعمد الى رسم الانابيب بصورة تشير الى طبيعتها بدلا من شرح عملها كتابيا. فالمعروف ان انابيب المجاري كبيرة نسبيا، وان انابيب الماء الخابط اصغر قطرا ولكنها بالتأكيد اكبر من مياه الاسالة. كما كان يمكن للفنان ان يصور المواطن مرتديا قميصا يحمل رسم اسد بابل مثلا، وهو ما كان سيشير الى سكنه بطريقة اكثر ايحائية. نعم في مثل هذه اللوحة التي اقترح سوف يكون من الضروري وضع تعليق معين لتسهيل قراءتها، وكنت ساقترح تعبيرا مثل: نحو تكامل في خدمات المياه...
غير ان هذه اللوحة بالذات تحمل معنى غير محبب الى النفس. فمجرد تصور ان مياه الشرب تتلوث في طريقها الى البيوت سوف يكون كافيا للتعبير عن الفكرة، اكثر من تصور الاختلاط الكامل بين الماء المخصص للشرب، ومياه المجاري القذرة. وهو ما يطرح السؤال الاخر عن كمية السلبية التي يمكن ان يقترحها العمل الكاريكاتيري بحيث لا يتجاوز الذوق العام، ولا يفقد تأثيره في كل من المواطن الذي هو محور الفكرة، والمسؤول الذي يستهدف بها.
يجب الاقرار ان العمل الكاريكاتيري يقوم على السخرية والمبالغة في السلبيات التي يعيشها المواطن. لكن المبالغات الزائدة عن الحد تفقد العمل رونقه وجاذبيته وقدرته الى التأثير المحكم. اذكر، في هذا الصدد، عملا للفنان الراحل محمد علي بربن في اوائل الثمانينيات، يجسد (طبقة بيض) تحلق في السماء، يتطلع اليها رجل على الارض ويقول لصاحبه، مشيرا اليها: "طبقة الاوزون"، في اشارة ذكية الى ارتفاع اسعار البيض في الوقت الذي كانت اخبار فتحة الاوزون المكتشفة حديثا تتواتر كل يوم. ولازالت تلك اللوحة تجلب لي البسمة كلما تذكرتها، رغم ان اسعار البيض لم تنخفض، ورغم ان الناس تناست فتحة الاوزون.
وهكذا فان اللوحة الكاريكاتيرية يجب ان تنطوي على توازن دقيق بين الافصاح الساذج والغموض المشوق، وبين المبالغة الطريفة والافراط في السلبية. يجب ان لا تتحول اللوحة الى محض تعبيرات كلامية، لكنها لا ينبغي ان تكون رموزا هيروغليفية يصعب فكها. فالتوازن عنصر ضروري في العمل الفني عامة، ولا يستثنى من ذلك الرسم الكاريكاتيري.