Sunday, March 27, 2005

انحراف الديمقراطية: مناقشات خارج الجمعية الوطنية

اسفرت الانتخابات الاخيرة عن فوز ثلاث كتل رئيسة، قائمة الائتلاف العراقي الموحد، التي توصف بالقائمة (الشيعية)، وقائمة التحالف الكردستاني، والقائمة العراقية التي يقودها رئيس الوزراء الحالي اياد علاوي. وهذه النتائج لا تعكس بطبيعة الحال نسب التوزيع السكاني ذاتها، فقد غاب (السنة) عن التمثيل بسبب المقاطعة او عدم القدرة على المشاركة، كما حصلت الاحزاب والاطياف الاخرى على تمثيل ضئيل لا يعتد به. وباتت الساحة العراقية حكرا على القوائم الفائزة، كما هو متوقع من اي طرف يحصل على مقاعد برلمانية.
وربما كان تأخر انعقاد الجمعية الوطنية امرا غير صحي، كون هذه الجمعية تمثل في نظر معظم العراقيين، سواء الذين شاركوا في الانتخابات او الذين لم يشاركوا، المخرج والمنقذ لحالة الفوضى الامنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد. وعبّر الكثير من المواطنين عن مرارتهم واسفهم لعدم تولي النواب المنخبين مسؤولياتهم، والاسراع في تشكيل الحكومة واحراز تقدم حاسم في العملية السياسية. الا ان جذور المشكلة تكمن في العملية الانتخابية ذاتها، وما آلت اليه من نتائج، وما افرزت من قوى سياسية.
فمنذ اعلان النتائج قبل اكثر من شهر، وربما حتى قبل ذلك دارت مفاوضات اولا ضمن قائمة الائتلاف الموحد، ثم بين الكتل الثلاثة لتسمية رئيس الوزراء، ورئيس الجمعية الوطنية، ورئيس الجمهورية ونوابه. ولم يبد احد اهتمامه بتحديد موعد انعقاد الجمعية بزعم انهم يريدون التوصل الى نتائج قبل اجتماع الجمعية، ليكون لدى الجمعية ما تتفق عليه. وهذا امر غريب تماما، فالمطلوب من الجمعية ان تناقش القضايا وتجري المفاوضات وتتخذ القرارات تحت قبة البرلمان، كأي برلمان اخر في العالم، لا ان تكون تلك المفاوضات في البيوت والمضايف والمساجد والمقار الحزبية. وتقتضي مباديء الديمقراطية، ومنها مبدأ الشفافية ان يحاط الشعب علما بما يجري، من خلال نشر وقائع اجتماعات الجمعية في وسائل الاعلام، ومنها التلفزيون، وبشكل مباشر كلما امكن.. فبهذه الطريقة يكون اعضاء الجمعية مسائلين امام الشعب، ويُضمن ولاؤهم للوطن اكثر من الكتلة او الحزب او الطائفة.
على ان الشفافية ربما كانت ثقافة جديدة علينا، ومفردة غريبة نوعا ما. فلم يكن مجلس الحكم شفافا، ولم تكن الحكومة المنصرفة شفافة، ولن نتوقع بكل بساطة ان تكون الحكومة المقبلة كذلك. ان ثقافتنا تقوم على اساس ان لدينا قادة علينا ان نثق بهم، وهم سيتخذون القرار المناسب في الوقت المناسب. ومن الواضح ان ذلك يعتمد اساسا على حسن النوايا، وسلامة التوجه، واحكام التدبير. فاذا كان لنا نفترض وجود هذه الصفات في شخص الان، فاننا لا نستطيع الجزم بدوامها عنده فيما بعد. فقد اثبتت وقائع التاريخ، الشرقي والغربي، ان الناس كثيرا ما يتغيرون بعد تبوأهم مراكز في السلطة. وقد اوجدت الديمقراطية الغربية آليات لضمان توفر الصفات الاساسية المؤهلة للمرشحين، ومن ثم استمرار توفرها لديهم.
وقد يقال ان ذلك انما ينطبق على الديمقراطية الغربية التي يتميز مواطنوها بغياب عنصر الثقة بين الافراد، وبالتالي غياب الثقة عن الحكومة.. اما المجتمعات الشرقية فهي ذات صلات اوثق، ومعايير اكثر رسوخا، وبالتالي فان الافراد والحكومات ملتزمون بوعودهم، وجديرين بالثقة. وجزء من هذا الاعتراض صحيح، وليس كله. فالمغامرة بالثقة الزائدة على اساس التربية الشرقية كثيرا ما حملت نتائج وخيمة. فالحكومات العربية قاطبة، وهي نتاج مجتمعات شرقية، غير مهتمة بالقدر الكافي بشعوبها. وليس هناك من مثال واحد على حاكم مخلص لقضية وطنه، وعامل من اجل سعادته ورفاهيته. وحتى وان وجد ذلك الحاكم، فان جميع اخطاءه ستعتبر مبررة تحت هذه الذريعة، اي كونه سليم النية.
على كل حال، فان الجمعية ربما تكون انعقدت الان، ولكن القضايا الرئيسة التي اخرت انقادها لم تحل. اذ ان قائمة الائتلاف الموحد، التي اتخذت رغبتها في كتابة الدستور على اسس سليمة، دعاية انتخابية، تصر على ترشيح السيد ابراهيم الجعفري لمنصب رئيس الوزراء، على اساس ان القائمة الحائزة على الاغلبية تستحق ان تنال هذا المنصب، الذي لا يتطلب سوى اغلبية الجمعية للموافقة عليه. الا انه يجب ان يُرشح من قبل مجلس الرئاسة الذي ينتخب بقائمة واحدة وباغلبية الثلثين. وهكذا، يجب على قائمة الائتلاف ان تأتلف مع قائمة اخرى للحصول على ثلثي اصوات الجمعية. واتجه نظر قائمة الائتلاف الى القائمة الكردية، الكتلة الثانية تمثيلا في الجمعية. وجاءت الفرصة للاكراد على طبق من ذهب للمطالبة بكل شيء، ولتكشف زيف الشعارات الوطنية التي حملتها جميع الاطراف.
ولان المناقشات لم تكن تحت قبة البرلمان، فهي لم تكن (شعبية)، اي يشارك فيها الشعب اما مباشرة، او من خلال ممثليه المنتخبين. ومن غير المعقول ان يشارك جميع النواب في المناقشات التي تجرى خارج الجمعية، بسبب الطبيعة الحزبية التي تفرض ان يتولى المفاوضات قياديو هذه الاحزاب. وحرم الشعب من ابداء رأيه، مرة اخرى.
والمتتبع للاحداث والاشخاص منذ انهيار نظام الاستبداد، وانفلات الحرية، يجد ان انها تتكرر المرة تلو الاخرى في غضون اشهر. فالحكومة التي استلمت زمام الامور من قوات الاحتلال، كانت في مجملها ضمن دائرة مجلس الحكم، والحكومة التي يجري التفاوض بشأنها تدور في نفس الدائرة تقريبا. بينما تبقى وتيرة العنف اليومي، وتوقف العجلة الاقتصادية، على حالها، ان لم تكن تسير نحو الاسوأ. فهل لنا ان نتوقع ان تتحسن الامور بمجيء الحكومة الجديدة؟ تلك التي سيكون عليها الوفاء باتفاقيات تجاه الاكراد نجهل طبيعتها حتى الان.
اننا اذ نرتاب بالمطالب الكردية خارج البرلمان، نرحب بها للمناقشة داخله. فمطالب جميع اطياف العراقيين مُرحب بها، شرط ان تحمل صفة الوطنية، ودلالة ذلك ان لا تكون (صفقة) سياسية تجري وراء ابواب مغلقة، وبدون مشاركة شعبية في صنع القرار. واذا كان لمثل هذه الصفقة ان تعقد، فالكرة ستنتقل الى ملعب قائمة الائتلاف، فاي وفاء بمتطلبات صفقة سياسية، ذات نتائج مصيرية، سيكون مسؤولية هذه القائمة اكثر من المطالبين انفسهم. ونرجو ان لا يتم التآمر على العراق تحت رغبة طرف او اخر في الوصول الى السلطة، وان كان اكثر الناس اهلية للحكم.
يبقى ان قائمة الائتلاف امامها خيار اخر للتخلص من عبء المطالب الكردية، والمسؤولية التاريخية عنها. وذلك بترشيح الدكتور الجعفري رئيسا للجمهورية، والدكتور اياد علاوي رئيسا للوزراء، وان كان كلاهما (شيعيا)، فقد كانت النتائج منذ البداية غير منصفة. لقد كان فوز قائمة الائتلاف كاسحا، وهو ما يحمّلها مسؤولية تمثيل الجماهير التي صوتت له على خير وجه.. ونكران الذات ليس امرا هينا، ولكنه يكون واجبا في حالات مثل انقاذ الوطن ووحدته وسيادته. على ان نيل منصب رئيس الجمهورية، لا يعد نكران للذات، ولا تضحية باي حال.. فصلاحيات الرئيس ليست محدودة، وهو ليس رئيسا شرفيا كما يصور احيانا.
ان الديمقراطية لازالت تحبو في وطننا العزيز، وما نتمناها هو ان تكبر وزهر وتثمر بصحة وعافية.. وذلك لا يتم الا على اسس سليمة وآليات محكمة. وهي ضمانة اكيدة ضد عودة الديكتاتورية اذا احترمت مؤسساتها وآلياتها، واذا اشيعت مبادئها، والتي من اهمها حق الشعب في ان يعرف، وحقه في مساءلة الحكومة، بشقيها التنفيذية والتشريعية.