Monday, June 27, 2005

عام على تسليم السلطة: قرارات مصيرية مؤجلة

في اواخر حزيران 2006 تمر الذكرى السنوية الاولى لتسليم السلطة في العراق من قبل الحاكم المدني السابق بول برايمر. ويجدر بنا اجراء مراجعة عامة للمشهد العراقي خلال تلك السنة الحافلة بالاحداث، وانعكاساتها على حياة ومستقبل الشعب العراقي. ورغم اننا ندرك ان مثل هذه المراجعة لا يمكن ان تحصر في مقال واحد، الا اننا نحاول هنا ان نجد خطوطا عريضة لاتجاهات الاحداث، ونتوقف عند بعض الاحباطات التي حصلت، ونستشف منها الحلول المتاحة او الممكنة في قادم الايام.
وبدءا علينا ان نسلم بان مسيرة الاحداث خلال العمليات السياسية المتتالية لم تكن وليدة اللحظة، او طارئة خلال ازمان مختلفة بشكل عفوي.. بل ان تلك الاحداث تشكلت في سلسلة متعاقبة ومتوالية من السبب والنتيجة، ثم النتيجة للنتيجة وهكذا. وربما كان السبب الاول والمحرك للعمليات السياسية التالية، هو اسقاط النظام السابق بدون خطة واضحة لاحلال سلطة وطنية بديلة. ونذكر ان رغبة الولايات المتحدة الاصلية لم تكن اطلاقا متجسدة في الحكم المباشر للعراق.. بل ان الساسة الامريكيون عملوا خلال الفترة السابقة للحرب على ايجاد سلطة وحكومة منفى من خلال مؤتمرات لندن واربيل وبيروت. وكان يفترض ان يفضي مؤتمر الناصرية الى تشكيل هذه الحكومة. ولو قدر لهذا الامر ان يحصل، فمما لاشك فيه ان العملية السياسية كانت ستتخذ منحى اخر. وقد كشفت الخلافات في هذا المؤتمر، ثم في مؤتمر بغداد بعد ذلك بشهر، ان الرغبة في الاستيلاء على السلطة كانت هاجسا كبيرا لدى الساسة العائدين من الغربة، يحدوهم طموح اكبر حتى من شعاراتهم التي رفعوها خلال العشرات من السنين.
وهكذا حدث اول تغير رئيسي في السياسة الامريكية، وهو الحكم المباشر للعراق من قبل حاكم مدني، على ان يساعده مجلس (استشاري) سمي فيما بعد بمجلس الحكم. ودوليا، عملت الولايات المتحدة على تثبيت شرعية سلطتها كدولة احتلال، مع التأكيد على (سيادة) مجلس الحكم. ولقد لاحت هنا بادرة طيبة لتولي العراقيين شؤونهم، لولا اهتمام اعضاء مجلس الحكم بمستقبلهم السياسي اكثر من الرغبة في الحصول على الاستقلال.. فلقد اعتقدوا ان الاستقلال هو امر حتمي، وهو حاصل ان عاجلا ام اجلا، بينما مواقعهم غير مؤكدة. وسرى الاعتقاد ان مجلس الحكم غير قادر على تولي شؤون البلاد بسبب (غطرسة وسيطرة) الحاكم المدني. والواقع ان مجلس الحكم اعتزل مبكرا، لا خوفا من الحاكم المدني، ولكن لان اعضاءه لم يكونوا مستعدين للتضحية بما حصلوا عليه في حال حاولوا مواجهة هذا الحاكم.
ان حكم اية دولة يجب ان يكون بموجب الدستور.. وفي حالة العراق بعد انهيار نظامه السابق، انعدم أي وجود لدستور او قانون اعلى يحكم العمليات السياسية. وبقدر ما يمكن لهذا الامر ان يكون سيئا في بيئات اخرى، فانني ارى انه كان يمكن ان يكون عنصرا داعما للعملية السياسية في العراق. ذلك ان مجلس الحكم لم يكن بلا صلاحيات كما اشير اليه، اذ لم يكن هناك أي معنى للصلاحيات طالما انها غير مكتوبة او موثقة. لقد كان بامكان مجلس الحكم ان يتولى شؤون البلاد رغم انف الحاكم المدني، الذي عليه ان يقر ان المجلس لا يتجاوز اية صلاحية منصوص عليها. وهكذا تحول هذا المجلس الى متفرج لا حول له ولا قوة. ولم يستطع ان يقدم اكثر من قانون ادارة الدولة حسب الاجندة الامريكية التي كانت – مع الاسف- اكثر توفيقا في النظر الى الشأن العراقي من مجلس الحكم. ومن سخرية القدر ان معظم رموز مجلس الحكم (السابق) سيتولون شؤون البلد في ما يلي من الزمن.
ولكن العملية السياسية رافقتها المسألة الامنية، بعد ان اخذ الوضع الامني بالتردي شيئا فشيئا، دون ان يستطيع الحاكم المدني، او مجلس الحكم ان يحد منه، خصوصا بعد ان انعكس الفساد السياسي على الادارة، من تحويل الوزارات الى مؤسسات حزبية، وتثبيت مبدأ المحاصصة، وتفاقم الحالة الاقتصادية سوءا، رغم التحسن الكبير الذي شهده المواطن خلال الاشهر الاولى من الغزو/التحرير. فادرك الامريكيون انهم لن يستطيعوا ان يستمروا في حكم العراق دون ان يتسببوا في المزيد من الخراب، سواء بسبب جهلهم بالطبيعة الاجتماعية والثقافية لهذا البلد، او لكون مجرد وجود حاكم اجنبي يعد عذرا لازدياد العمليات المسلحة التي تستهدف هذا الوجود. كما انهم رغبوا في اظهار تطور ما في الساحة السياسية لاثبات صوابهم في تلك الحرب، خصوصا مع اقتراب الانتخابات الامريكية. فجاء قرار تسليم السلطة املا في ان يكون منعطفا مهما في مسيرة الاحداث، وان يفضي الى استقرار سياسي يتبعه سلسلة من المحطات في مسيرة مكتملة بدءا من الانتخابات الى صياغة الدستور ثم الانتخابات بموجب هذا الدستور المصادق عليه شعبيا.
على كل حال، تشكلت الحكومة التي تولت زمام الامور بالتوافق بين الحاكم المدني واعضاء مجلس الحكم. وكان يمكن ان تكون تلك الخطوة مفتاح الحل لو ان حكومة الدكتور اياد علاوي اتخذت القرار الاهم، وان كان الاصعب. لقد اريد لهذه الحكومة ان تكون حكومة حقيقية لتستطيع ان تنجز ما اخفق فيه مجلس الحكم والحاكم المدني، الا وهو احلال الامن في ربوع العراق. ومعلوم ان تحقيق الامن لا يتم الا بمساعدة القوات المتعددة الجنسيات. ولكن مساعدة هذه القوات لا يجب ان تكون هي الجهود الوحيدة التي تبذل في هذا الاتجاه، وانما ينبغي اعطاء قوات الامن الوطنية الفرصة لاثبات وجودها، وتحميلها المسؤولية، والا فما الفائدة من وجود حكومة وطنية اذا لم تكن تتحكم في العملية الامنية؟
لقد كان امام حكومة علاوي خيار صعب ولكنه ضروري. كان عليه ان يطلب من القوات المتعددة الجنسيات ان تلازم قواعدها، ولا تتحرك الا بطلب من حكومته. وبذلك يحمّل قوات الامن الوطنية مسؤوليتها، ويضعها امام واجباتها، مهما كانت النتائج. وفي النهاية فان المتعددة الجنسيات يمكن استدعاؤها عند الضرورة. نعم، سيكون هناك عنصر للمجازفة بالاعتماد على قوات غير مكتملة او مدربة بالشكل الكافي، ولكن ما تم انجازه لحد تلك الفترة كان ينبغي ان يكون كافيا، والا فما الداعي اصلا الى تسليم السلطة؟ لقد فشل علاوي في اتخاذ هذا القرار بسبب عدم ثقته بقواته الامنية، واستمر الوضع في التردي لان تلك القوات فقدت ثقتها بنفسها نتيجة لذلك، وبات كل شيء رهن التدخل الامريكي.. ورضخ الجميع للامر الواقع.
ان الدعوة التي وجهها المرجع الديني الاعلى للشيعة باجراء الانتخابات وجدت صدى واسعا، ليس فقط بين اتباعه من الطائفة الشيعية، ولكن ايضا من القوى الوطنية والاحزاب السياسية، علاوة على الاكراد وفئة غير يسيرة من الطائفة السنية. وحتى من عارض اجراء الانتخابات لم يفعل ذلك لعدم قناعته بها، ولكن لشكه في نجاحها ضمن التوقيتات التي رسمت لها. وعلى كل حال، فان الغالبية العظمى من الشعب العراقي اعتقدت ان تلك الانتخابات ستكون المفتاح لحل المشاكل المتفاقمة على كل الصعد الامنية والاقتصادية والاجتماعية. بينما وجدتها الولايات المتحدة فرصة مناسبة لاثبات، مرة اخرى، صواب تدخلها في العراق، وبادرة ديمقراطية غير مسبوقة في المنطقة عموما.
ورغم ان الانتخابات في الثلاثين من كانون الثاني كانت حدثا مهما، الا ان المتتبعين والمحللين السياسييين لم يتوقعوا ان تحدث تغييرا جذريا. فمن تم انتخابهم هم نفس الشخوص الذين تحكموا بالعملية السياسية منذ البداية. ومرة اخرى قفزت العملية السياسية الى الصدارة، مع اهمال ولا مبالاة غريبين بالشؤون الاكثر اهمية للمواطن العادي، ولا ادل على ذلك من استغراق تشكيل الحكومة الجديدة فترة ثلاثة اشهر، في وضع امني بالغ السوء، ناهيك عن الفساد الاداري والانهيار الاقتصادي، التي عصفت بالمواطن وجعلته في دوامة العنف والفقر وفقدان الامل.. وتحسر الكثيرون على ايام النظام السابق، كما هو شأن العراقيين بعد كل تحول.
وبمرور عام على تسليم السلطة، تولت حكومتين مختلفتين حكم العراق، دون ان يحدث أي تغيير يذكر في معالجة الخلل الامني، او في أي من النواحي الحياتية الاخرى للشعب. ورغم ان ثانيتهما كانت منتخبة ديمقراطيا، الا انها لم تستطع ان تتجاوز الخطوط التي رسمتها لها اولهما. وحينما ارادت ان تحدث تغييرا عمدت الى الهياكل الادارية في الدولة، من محافظين ومدراء شرطة ومسؤولين اخرين، فاقالت وفصلت وعزلت، دون ان يكون لهذه التغييرات اثر ملموس في تحسين الاوضاع عموما. ومن جديد فان نفس الخيار يقف امام حكومة الجعفري، عليها ان تثق بالقوات الامنية الوطنية، وتحملها مسؤوليتها.. وان تطلب من القوات المتعددة الجنسيات ان تبدأ بالانسحاب الى قواعدها، بموجب خطة مفصلة ومتفق عليها. واذا فشلت تلك الحكومة في اتخاذ هذا الاجراء فلن يكون هناك اي تغيير حقيقي الى ان تأتي حكومة تقوم به.

Thursday, June 02, 2005

الدعم الحكومي للمواد الأساسية: تدمير للاقتصاد وتأخير للتنمية

من بين الكثير من الأوضاع الشاذة التي أصبحت قاعدة في العراق على يد النظام السابق تبرز مسألة الدعم الحكومي للمواد الأساسية التي تمس حياة المواطن، وبالذات المواد الغذائية. فقد درجت الدولة على توزيع المواد الغذائية والأدوية والملابس والأدوات الاحتياطية للسيارات وغيرها بأقل من أسعارها الحقيقية تحت طائلة الدعم الحكومي معتبرة ذلك إنجازا وتسهيلا لحياة المواطن.
وفي الحقيقة فان هذا الدعم لم يسهل حياة المواطن، بل جعلها أكثر صعوبة. فقد أصبح احتكار الدولة لقطاع التجارة، علاوة على القطاعات الأخرى، سلاحا فعالا للسيطرة على حياة المواطنين بشكل مباشر، وقتلت روح المبادرة الفردية والتنافس الحر، العاملان الرئيسان في تطوير الاقتصاد الوطني، وإقامته على أسس متينة تستطيع أن تساير الحركة الاقتصادية العالمية.
وحينما وجدت الدولة أنها ستعرقل الحركة الاقتصادية باستمرارها في تقديم الدعم، فتحت الباب أمام كمية محدودة ومنتقاة من التجار لممارسة عمليات الاستيراد والتصدير، وان كان تحت إشراف الدولة أيضا. وخلق استمرار تقديم الدعم المادي للبضائع الأساسية مع وجود بضائع تجارية حالة من الازدواجية التي لم يستطع الشعب أبدا أن يفهمها. وكانت النتيجة أن غالبية الشعب العراقي اعتقد بفشل نظام الاقتصاد الحر، لما شهده من ممارسات غير شرعية ولا إنسانية من الكثير من التجار الذين كانوا في الحقيقة ربائب للنظام نفسه.
ولما جاء الحصار الاقتصادي في التسعينات كأحد نتائج السياسة المتهورة لهذا النظام، ابتدع فكرة البطاقة التموينية التي تعطي حصة لكل فرد من مجموعة محدودة من المواد الأساسية. ثم أصبحت تستغل سياسيا للضغط على فئات معينة من الشعب، والتهديد بقطعها، وتخفيض محتوياتها دون إيجاد البديل المناسب. ومع الإبقاء على مستوى الدخل الفردي متدنيا إلى ابعد حد، وغياب الحركة التجارية الفعالة، وتأخر الصناعة والزراعة بشكل مأساوي، لم يعد أمام المواطن البسيط سوى الاعتماد على هذه البطاقة التي تبقيه حيا، ولكن لا تقدم له أي شيء يليق بامكانات بلد ثري.
لقد صرف النظام البائد أموالا طائلة في دعم البطاقة التموينية بدل أن يوفر فرص العمل، ويرفع الحالة المعاشية للمواطنين.. ومن المفجع أن جزءا كبيرا من تلك الأموال كان يذهب كمصاريف إدارية، ورشاوى، وعقود وهمية، وشراء ذمم وتصرفات كثيرة غير شرعية، خصوصا بعد أن تبنتها الأمم المتحدة في برنامج النفط مقابل الغذاء، أو النفط مقابل الولاء إن شئت.
واليوم وبعد تحرر العراق من قبضة ذلك النظام الفاسد، يجدر بنا مراجعة وضع الدعم الحكومي، سواء للبطاقة التموينية أو للأشياء الأخرى التي تقدمها الدولة، كالوقود والخدمات البلدية والماء والكهرباء.. فهي تستنزف ثروة البلد في قضايا استهلاكية بدل أن توجه تلك الثروة لبناء قاعدة اقتصادية متينة تحسن وضع الفرد وتوفر فرص العمل لشريحة واسعة من المواطنين. صحيح أن إيقاف التوزيع المجاني لمفردات البطاقة التموينية سوف يؤثر سلبا على بعض المواطنين العاجزين عن توفير ابسط مستلزمات المعيشة الكريمة، إلا أن ذلك يمكن تلافيه أو الحد منه بشكل كبير، بإيجاد نظام مدروس للضمان الاجتماعي للطبقة المعوزة، أو العاجزة عن العمل. سيما وان معظم دوائر الدولة لا تعمل الآن إلا بجزء بسيط من إمكانياتها، نظرا للظروف الأمنية ولطغيان العملية السياسية على كل ما سواها. يجب البدء بالتفكير حول كيفية رفع العراق إلى مستوى الأمم الناضجة، التي تعتمد شعوبها على جهودها الذاتية في كسب قوتها، وليس على اقتناء مستلزماتها الحياتية بشكل آلي. ولا شك أن إيقاف الدعم الحكومي سيسبب ارتفاعا في أسعار المواد الغذائية، والمواد الأخرى بشكل كبير، ولكنه قد لا يكون أمرا سيئا كما يبدو. فقد قال لي احد المحللين الاقتصاديين إن ارتفاع الأسعار دلالة على قوة الاقتصاد، إذا رافقه ارتفاع في القدرة الشرائية.. ونلاحظ في هذا المقام أن الدول ذات الاقتصاد القوي كاليابان والولايات المتحدة وألمانيا والأمارات العربية المتحدة وغيرها تكون ذات مستوى أسعار أعلى من غيرها.. وبالتالي تستقطب رؤوس الأموال وتشجع التجارة وتزيد الاقتصاد قوة إلى قوته. وليس معنى ذلك أن كل ارتفاع للأسعار هو أمر جيد، فالارتفاع الناتج عن شحة المعروض هو أمر بالغ السوء. وتلك نقطة مهمة، فيجب قبل اتخاذ الإجراء الحاسم بوقف الدعم الحكومي التأكد من أن المعروض يزيد على الطلب المحلي لفترة مناسبة، مما يمنع الارتفاع الجنوني للأسعار.
ومن ناحية أخرى، فان المواطن سيسعى إلى استغلال البضاعة أو الخدمة التي يدفع تكلفتها الحقيقية بالشكل الامثل، ويرشد في استهلاك الطاقة، مما سيقلل الهدر المستمر للثروة الوطنية منذ عقود من الزمن. ويمكن أن يؤدي استقرار السوق المحلية بأسعار موازية للأسعار العالمية إلى زيادة الثقة بالاستثمار المحلي دون خوف من نكسة تسببها الدولة بتدخل غير محسوب في إدارة الدفة الاقتصادية.
إن استمرار الدعم الحكومي هو هدر لمقدرات البلد، وتأخير لعجلة التنمية، كما انه يكبح الحركة التجارية ويقيد الصناعة والزراعة بشكل كبير. ورغم أن هذا القرار لن يكون سهلا على أية قيادة، كما إن فهمه سيكون غاية في الصعوبة لمعظم أفراد الشعب، لكن اتخاذه سيكون خطوة تاريخية مهمة في رسم مستقبل العراق وبناء اقتصاده بشكل حضاري ومنفتح، بحيث لا تسيطر عليه الدولة فيصبح أداة للقهر والاستبداد من جديد.