قبل سقوط النظام البائد، كانت المعارضة العراقية تعقد اجتماعاتها في المنفى، في لندن وبيروت وحتى في اربيل. ولم تكن تسير هذه الاجتماعات دائما على نحو طيب، فالنزاعات والخلافات كانت موجودة ولم تكن خفية حتى قبل استلام مقاليد السلطة. ولم يستطع المجتمعون ان ينتخبوا حكومة منفى، التي لو قدر لها ان تتشكل لتداركت الكثير مما حدث في العراق نتيجة قصر نظر القيادة الامريكية.
على كل حال، ان ذلك امر اصبح في ذمة التاريخ. ولكني اذ استذكره الان، فلأن اطراف المعارضة الرئيسة اصبحت فيما يلي مجلسا للحكم، ومن ثم نواة المجلس الوطني. وهي القوى الرئيسة الفاعلة في الساحة السياسية العراقية اليوم، والتي يتوقع ان تفوز بمعظم مقاعد الجمعية الوطنية عند اجراء الانتخابات في بداية العام المقبل. ان هؤلاء المختلفين بلا سلطة، قد أئتلفوا اليوم بعد ان آلت اليهم السلطة، فما الذي حدث؟
اذا القينا نظرة على انظمة الحكم عبر تطورها وجدنا انها اما انظمة فردية او جماعية، ديمقراطية او متسلطة. وهذا يعني انه ليس شرطا ان يكون الحكم الجماعي ديمقراطيا (كما هو حال الانظمة الشيوعية). كما ان الانظمة الارستقراطية الاقطاعية ليست احسن حالا وان لم تحكم بايديولوجية صارمة. والفارق بين هذه الانظمة والانظمة الديمقراطية، هو مقدار فسحة الاختلاف، ففي الانظمة الاستبدادية تكون المعارضة في درجاتها الدنيا، بينما تتصاعد درجة المعارضة مع تصاعد الوتيرة الديمقراطية. والواقع، ان القوى السياسية في الدول الديمقراطية نادرا ما تتفق، ليس فقط نتيجة لطموحاتها، ولكن ايضا لطبيعة تمثيل الناخبين المختلفين التي تحملها هذه القوى، والبشر مختلفون طبيعة. ولكن يحدث في بعض الاحيان ان يتفق حزبان او اكثر في حكومة ائتلافبة، وهذا يكون بعد معرفة وزن كل من هذه الاحزاب من خلال صندوق الاقتراع.
لقد كانت خلافات المعارضة العراقية في المنفى، خلافات صحية.. وكانت حدوثها يدل على ترسيخ لمباديء الديمقراطية.. وان كان الثمن الفشل في تشكيل حكومة المنفى. لقد ظننا حين تم تشكيل مجلس الحكم ان تلك التجارب سوف تنعكس ايجابيا على اداء المجلس بحيث تكون تلك الخلافات بناءة وهادفة، وتسير في اتجاه تثبيت اركان الديمقراطية. وفي مناسبة واحدة، اظهر مجلس الحكم خلافاته الى العلن: اصدار قانون ادارة الدولة المؤقت. وقامت الدنيا ولم تقعد، ثم تم التوقيع على هذا القانون بكل هدوء وبدون أي تغيير بعد مرور بضعة ايام فقط. وكان الامر مدعاة للعجب والاستغراب. وكان بعض المقربين من مجلس الحكم يفاخرون بان القرارات لا تتخذ بالتصويت بل بـ(التوافق) وهو نظام عمل جديد افهم منه ان بعض الاعضاء يوافقون على اصدار قرار معين اذا وافق اعضاء اخرون على اصدار قرار اخر (شيلني واشيلك).. ولان دور مجلس الحكم لم يكن رياديا كما كنا نتمنى فقد تأخر تسليم السيادة سنة كاملة. ولكن مجلس الحكم ضمن انه باق في سدة الحكم قبل ان يحل نفسه.
واليوم لم تعد هناك خلافات بين الاحزاب الرئيسة، بل توافقات تضمن لكل طرف جزءا من (الكعكة). هذا الامر ادى الى الغاء دور المسائلة في تحسين ورفع واقع عمل مؤسسات الدولة، فمثلا ليس هناك نقد من المجلس الوطني الى وزارة ما، ناهيك عن رئاسة الوزارة او الرئاسة. فقد يكلف هذا النقد غاليا في المستقبل ويخسر الاعضاء المنتقدون حليفا، سيكون مُهماً مَهما قلّ شأنه. ان التحالفات التي تجري اليوم ليست قائمة على تمثيل الناخبين، وانما على قاعدة التوافق التي اسكتت المعارضين، ولكنها لم تقنعهم. هذه التحالفات التي تعقد دون استشارة الناخبين لا تكترث باصدار برنامج انتخابي، او خوض حملة انتخابية، فليس على الناخب ان يقتنع بجدوى برنامج حزب او كيان سياسي، بل ان عليه ان يصوت بالطريقة التي سيحمل عليها حملا، وباستعمال كافة الوسائل الدنيوية وغيرها.
حينما بدأت المعارضة السابقة في الاتفاق، ولم يعد هناك اختلاف، ارتسمت لي صورة مفادها اننا ننتقل من عصر استبداي فردي الى عصر استبدادي جماعي. وليس من شك، ان رموز المعارضة السابقة هم اناس وطنيون وعانوا من تعسف وظلم النظام البائد. الا ان الساحة يجب ان لا تقتصر عليهم، فمن بقي في العراق ربما كان اكثر تعرضا للظلم، ويستحق ان يأخذ فرصته في الترشح وتمثيل الشعب بكل حرية.. وهذه هي مسؤولية تاريخية تتحملها العناصر المتنفذة للقوى السياسية الحالية. عليها ان تفتح الباب امام الجميع، لا ان تفكر في احتكار السلطة.. في هذه المرحلة على الاقل.