Thursday, August 30, 2012

أفكار ومقترحات نحو إصلاح إداري شامل

يدور الحديث بين الفينة والأخرى عن ضرورة إحداث إصلاح إداري جذري وشامل في دوائر الدولة العراقية. فقد أصبحت السياقات الإدارية الروتينية عبءاً كبيراً على المواطن العادي الذي يضطر إلى قضاء أيام وأسابيع في متابعة معاملات تـُعد بسيطة بالنسبة إلى الدول الأخرى، سواء في محيطنا الإقليمي أو على المستوى العالمي.
وعلى الرغم من اعتماد بعض الدوائر الحكومية إجراءات معينة بهدف التقليل من زخم المراجعات واختصار الروتين، إلا أن هذه الإجراءات سرعان ما تحولت إلى حلقة إضافية لهذا الروتين، وأضحت خطوة زائدة في تمشية المعاملات، ومنها على سبيل المثال وحدات إدخال المعلومات على الحاسوب. فبدلا من أن يتم الاعتماد على هذه الوحدات من خلال قواعد البيانات الرصينة فهي استحالت مجرد إجراء روتيني ضمن المعاملة التي تبقى نسختها الورقية هي الأصل الوحيد، ولا ينفع وجود نسخ إلكترونية في حالة فقدانها لأي سبب. وهذا يعني أن إدخال المعلومات أو التحري عنها لا يشكل سوى إضافة للروتين الإداري وليس تخفيفا عنه. فكم منا راجع دائرة ما وطلب منه مراجعة قسم الحاسبة ليجد أن الحاسبة لا تعمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي أو بسبب عطل فني أو غياب المشغل أو غير ذلك، ما يؤدي إلى توقف هذه المعاملة عند تلك المرحلة لحين تغير الوضع، في اليوم التالي أو الأسبوع التالي.
إن هذا الأمر وارد أيضا في كل من مفاصل تمشية المعاملة، ولذلك فإن التذمر منه لن يكون سوى تذمر جزئي. بيد أن هناك إجراءات أخرى ذات تأثير أشد على المُراجع، وتسبب الكثير من الضيق وضياع الوقت والجهد. ومنها طلب صحة صدور بعض الوثائق الرسمية. ففي بداية التسعينات من القرن الماضي، وفي إطار عرقلة معاملات إصدار جوازات السفر للمواطنين الذين ضاقت بهم السبل وطمحوا في الهجرة إلى الخارج من أجل إيجاد عمل يعيلون به أنفسهم وعوائلهم، أصدرت السلطات في ذلك الوقت تعليمات باستحصال كتب "صحة صدور" بعض الوثائق المطلوبة لاستصدار جواز السفر. وكان أهم تلك الوثائق هو تأييد التسريح من الخدمة العسكرية. فكان يصار إلى توجيه كتاب إلى الوحدة العسكرية التي ينتمي إليها المواطن لتأييد تسريحه بالإضافة إلى كتاب من دائرة تجنيده. وكانت هذه الكتب الرسمية ترسل مختومة بصحبة موظف مُعتمد من الجوازات، ويتم تسلم الرد عن طريق موظف مُعتمد من قبل الدوائر المعنية. وقد كان واضحا أن هذه الخطوة مجرد محاولة لعرقلة إصدار جواز السفر، حيث أن تأييد التسريح موجود في دفتر الخدمة العسكرية للمراجع.
أما اليوم فقد أصبح هذا الإجراء قياسيا من قبل معظم الدوائر، ولشتى أنواع المعاملات. فأنت كمُراجع مطالب بإثبات صحة صدور هوية الأحوال المدنية، وشهادة الجنسية، وشهادتك الدراسية، ومعظم الكتب الرسمية التي تقدمها، وحتى إجازتك المرضية الصادرة عن مستشفى حكومي. وهذا يعني أنك مُتهم بالأصل بتزوير تلك الأوراق حتى تُـثبت العكس. والعجيب أن بعض الدوائر تعطيك كتبا موجهة إلى الدوائر الأخرى لتزويدها بكتب صحة الصدور في "ظرف مغلق ومختوم". وحينما تطلع على تلك الكتب "المختومة" تدرك أن تزويرها أسهل حتى من تزوير الكتب الأصلية. فما الداعي إذاً لهذا الإجراء؟
ولست أدعي أن جميع المراجعين يقدمون أوراقا صحيحة مئة بالمئة، لكن أليس هناك قانون للتعامل مع الأوراق المزورة؟ أليس من الأفضل التحري عن بعض تلك الأوراق بين الحين والحين، فإن تبين وجود تزوير يصار إلى إحالة هذا الشخص السيئ إلى المحاكمة بتهمة التزوير في أوراق رسمية؟ علما أن هذه هي جريمة مخلة بالشرف في القانون العراقي.
وحتى على فرض أن عدد المزورين قد أصبح كبيرا  إلى درجة يصعب معها تشخيص كل حالة على حدة، فليس من الضروري اتباع هذا الإجراء مع الكل، أو على الفور. فيمكن مثلا قبول الأوراق التي يقدمها المُراجع وتمشية المعاملة الرسمية مع إرسال كتب التحري عن تلك الأوراق بالبريد الرسمي. فمن النادر أن تكون هناك معاملة لمواطن تحمل فائدة فورية وغير قابلة للاسترداد في مرحلة لاحقة. وحتى في هذه الحالة، فإن ضياع بعض الحقوق للدولة سيكون أمرا يسيرا مقارنة مع تسهيل معاملات الآلاف من المُراجعين، وتقليل زخم الدوائر، وبالتالي الحاجة إلى المزيد من الموظفين، وهي بالتأكيد خسارة كبيرة لحقوق الدولة من خلال الرواتب التي تمنح لهؤلاء الموظفين والأموال التي تنفق في إدامة الدوائر الرسمية التي تعاني  ضغطاً كبيراً من المراجعين.
ومن الأمور الأخرى التي صارت أمرا مفروغا منه في أية معاملة قضية استنساخ الوثائق الرسمية. فقد أصبح فرضا مفروضا أن تقدم نسخة ملونة لهوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية وبطاقة السكن والبطاقة التموينية مع كل معاملة مهما كانت بسيطة. وهذا الإجراء هو الآخر من مخلفات النظام السابق الذي كان يعتمد سياسة عرقلة مراجعة الدوائر الرسمية وإرهاق كاهل الناس بالمزيد من المصاريف والجهد ضمن خطة أشمل تهدف إلى جعل حياة المواطنين أكثر صعوبة، في فترة الحصار الاقتصادي، وبالتالي المتاجرة بهذه المعاناة مع الدول التي فرضت تلك المقاطعة الاقتصادية.
وفي واقع الأمر لا أجد سبباً في طلب هذه النسخ المصورة عدا ما ذكرنا. ففي سابق الزمان كانت الدوائر تعد نموذجا يملؤه المراجع تدرج فيه أرقام تلك الوثائق، ومن ثم يقوم الموظف المختص بمطابقة هذه الأرقام وتأكيد صحتها بنفسه ثم يعيدها إلى المراجع. أما اليوم فأنت تقدم الوثائق المصورة التي نادرا ما يراها احد أو يطابقها مع الأصلية، وهي ترمى إلى الأرض حال خروجك من الدائرة الرسمية. وإن اضطررت إلى العودة والمراجعة من جديد بعد فترة فإن عليك أن تقوم بتقديم النسخ المصورة من جديد، لأن من المستحيل العثور على المعاملة السابقة. فما الفائدة إذاً من طلب هذه الوثائق؟ ربما يكون العذر الوحيد هو أن يقوم الموظف المسؤول بحماية نفسه من خلال طلب نسخ مصورة عن جميع الوثائق المطلوبة لتمشية المعاملة. ففي حالة تدقيق المعاملة من قبل الجهات الرقابية، فإن موقف ذلك الموظف سوف يكون سليما، بوجود تلك النسخ التي تثبت أن المراجع قدم الوثائق المطلوبة.
وهكذا فإن زيادة الحلقات الإدارية وتضخيم إجراءات المعاملات بهدف حماية الموظفين، واستمرارا لسياسات موروثة عن النظام السابق، قد أدت إلى جعل مراجعات المواطنين أمرا في غاية الصعوبة، وأضحت الدوائر الرسمية مكتظة بالمواطنين الذين لا يجدون في الغالب مكانا للجلوس والانتظار، بينما يطلب منهم المراجعة من الشبابيك التي ربما رُكبت عليها أجهزة التكييف، ما يجعل الوقوف هناك في أيام الصيف القائظ مرهقا إلى أبعد الحدود.
وفي هذه المناسبة أود أن أعرض الطريقة التي تتم فيها مراجعة الدوائر الرسمية في الدول الغربية. فالعملية تبدأ من حجز رقم للمراجعة لدى الدخول إلى تلك الدائرة، حيث يقوم حاسوب بحساب الوقت التخميني للانتظار، ساعة أو أكثر أو أقل، ويمكنك الخروج والعودة قبل وقت قصير من حلول الموعد، أو الجلوس في الصالة الخاصة بالمراجعين التي تكون واسعة ومكيفة ومريحة. وحين يصل الدور إليك يظهر رقم المراجعة على شاشات إلكترونية وتتم المناداة عليه بمكبرات الصوت فتعرف أنه قد حان دورك. وما عليك سوى أن تملأ نموذجا يحمل المعلومات المطلوبة أثناء فترة الانتظار وتقدمها إلى الموظف المسؤول عند حلول دورك، حيث يقوم هذا الموظف بتدقيق تلك المعلومات وربما يطلب منك  تقديم الوثائق الأصلية التي يقوم بتدقيقها أصوليا ثم يعيدها إليك. وخلال دقائق بسيطة تنجز المعاملة مهما تكن. ففي تلك البلدان هناك احترام لوقت المواطن واهتمام براحته بنفس القدر الذي تحصّن الموظف من عمليات التزوير عن طريق ربط الدوائر الرسمية على اختلافها بشبكات الحواسيب المرتبطة بقواعد البيانات التي يمكن من خلالها التأكد من صحة الأوراق الرسمية.
وبغية اتباع مثل هذا النظام، يجدر بدوائرنا الرسمية المبادرة إلى حوسبة أنظمتها الإدارية بشكل جدي وليس مجرد إجراء روتيني آخر. فيمكن مثلا وضع نظام قواعد بيانات لكل المواطنين تدرج فيه هويات الأحوال المدنية وشهادات الجنسية وجوازات السفر وإجازات السوق وغير ذلك من الوثائق بحيث يمكن الولوج لهذا النظام من خلال شبكة حواسيب محصنة وعن طريق موظفين مدربين ومؤهلين لمثل هذا الإجراء. وهكذا لن تكون هناك حاجة لتقديم نسخ مصورة للوثائق أو التأكد من صحة صدورها، لأنها موجودة أصلا في قواعد البيانات تلك. وعلى الرغم من أن تطبيق هذه الخطة قد يستغرق وقتا، إلا أنه ليس بالصعوبة التي ربما يبدو عليها. فالكثير من الوثائق الرسمية الجديدة، مثل إجازة السوق، موجودة أصلا في قواعد للبيانات. ولن يكون علينا سوى ربط قواعد البيانات هذه مع بعضها وبناء نظام حاسوبي محكم يعمل على الإفادة منها، وصولا إلى نظام متكامل يسهل العملية الإدارية، ويقلل الضغط على الدوائر الرسمية، ويجعل حياة الناس أفضل.

Saturday, August 04, 2012

ثقافة الفيسبوك ودورها في انحدار المستوى الثقافي

أتاح الفضاء الألكتروني الواسع حرية مطلقة تقريبا لكل فرد في أي مجتمع أن يصبح كاتبا ومعلما ومثقِفا (بكسر القاف) لجمهور غير محدود نظريا، يتألف في معظم الأحوال من (معجبين) وأصدقاء أو أصدقاء لأصدقاء وهكذا. هذه الحرية في النشر
 التي باتت حقا غير مُنازع حوّلت بعض الناشرين إلى قدوات يحتذى بها دون المرور بالمراحل التقليدية من دراسة وإشراف وتمحيص وفحص وتدقيق من قبل ذوي الاختصاص قبل إرسال المادة إلى النشر.
في ماضي الأيام كان يتوجب على الكاتب أن يعرض المادة الثقافية التي ينوي نشرها على محرر ومصحح لغوي قبل أن تجد طريقها إلى النشر حرصا على الذوق العام، وتأكيدا على رفع المستوى الثقافي بين جمهور المتلقين. أما اليوم فقد أصبح من السهل أن يقوم شخص نصف متعلم بكتابة (مقال) دون مراعاة لأبسط قواعد الكتابة، مستعملا لغة ركيكة تمتلئ بالألفاظ الدارجة غير الفصيحة، ويضمنها أفكارا قد تكون مجرد مقتبسات محرفة تارة غير منسوبة وطورا منسوبة لغير قائلها. والأنكى من ذلك الأسلوب الظاهري في الكتابة بالألوان واستخدام أدوات الخط العريض والمائل وغيرها، وتكبير حجم الخط في بعض الأحيان، حتى يصبح الشكل العام مشوها وغير متسق بالمرة مع واحدة من أساسيات الكتابة: جمال المظهر الخارجي.
وقد ساعد الفيسبوك على شيوع مثل هذه الأساليب المتدنية ثقافيا بين جيل الشباب بالأخص، وأقنعت الكثيرين أن هذا هو كل ما يتطلبه الأمر للوصول إلى عقول الجمهور المستهدف وبالتأكيد قلوبهم. وبما أن مقياس نجاح مثل هذا الكاتب لا يتعدى عدد مرات الإعجاب (لايك) التي يحصل عليها، فليس عليه أن يكون كاتبا محنكا أو أن يحتوي مقاله على مادة جيدة، بل يكفي أن يضع صورة مرفقة بمقاله العتيد، ويطلب إبداء الإعجاب إما مباشرة أو احتيالا، بان يطلب من المستخدم ضغط توليفة من الأحرف في لوح الكتابة بالحاسوب تؤدي في النهاية إلى ترك بصمتك الدالة على الموافقة وإن لم تكن تريد ذلك فعلا.
يضاف إلى كل هذا إمكانية إعادة النشر من قبل الأصدقاء أو من تصل إليه المادة المنشورة باستخدام أداة المشاركة (شير)، وهي وسيلة تأثير أخرى لا تعتمد على جودة المادة المنشورة بالضرورة. كما أن تطبيق الفيسبوك يقوم بإعادة نشر المادة أو الصورة إذا فتحها مستخدم ما بغرض الاطلاع عليها، ووضع   إشارة  عليها (تاغ)، ما يؤدي إلى المزيد من النشر غير المقصود أو الموجه من الأساس.
وهكذا تجد نفسك وأنت تتصفح الفيسبوك وسط خضم من أمواج غير متجانسة ولا متسقة مع سياق محدد. بعضها مقولات نسبت إلى غير قائليها، أو حتى إلى من لا يتوقع أن يتفوه بها، للدلالة على فكرة يقصدها الناشر دون مراعاة لأبسط شروط الأمانة العلمية والأدبية. وربما تصعقك صورة مركبة باستخدام تطبيقات معالجة الصور يراد منها إثبات نظرية دينية، أو عقيدة ما. وقد يعمد احدهم إلى إغراق الصفحة بالعشرات من مواده التي يعتبرها مهمة، وان لم تكن ذات قيمة في واقع الحال، ما يحرمك من مواد سابقة قد تكون أفضل منها.
وقد لاحظت من خلال استخدامي الفيسبوك فترة غير قليلة أن الكثير من الكتاب الملتزمين إما رفضوه بداية، أو هجروه آخر الأمر. وأجد هذا الأمر مفهوما؛ فأنت لا تريد أن تعقد ندوة ثقافية في سوق (الهرج)، ولا أن تنشر مقالا في لوحة إعلانات. علاوة على ذلك فإن حيز التعليقات غير المنضبط قد يجلب لك الكثير من الصداع رغم الفائدة الجمة المتحصلة من الحوار والتبادل الفكري بمثل هذه الأدوات.
ولم يكن الفيسبوك هو التطبيق الأول الذي يعاني  مثل هذه الآفات. فقد سبقته إلى ذلك المجموعات البريدية التي تستخدم جمهورا من عناونين ألكترونية مشتراة أو مسلوبة لإقحام مواد بعينها على متلقين ليس بيدهم حيلة غير محو المادة أو وضعها في سلة المتطفلين. وربما كان السلف الأكثر قربا والذي لا يزال معمولا به هو ما يعرف بالمدونات (بلوغز)، والتي هي في الواقع صفحات شخصية لأفراد قد يكونون من الكتاب المُجيدين، أو مجرد مهرجين ساعين إلى اجتذاب الجمهور بأية طريقة تتاح لهم.
غير أن أدوات الفيسبوك، وانتشار استخدامه على نطاق واسع بين الشباب، جعلته الأخطر على المستوى الثقافي بشكل عام، والذي أزعم انه في انحدار متزايد منذ بداية عصر التبادل المعلوماتي الفوري، الذي يحلو لنا أن نطلق عليه اسم الانترنت. وبفضل الفيسبوك، فان هذا التدني في مجالات الثقافة والعلوم والآداب قد أصبح واقعا يتأكد يوما بعد يوم.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، إلا أنني لا أدعو إلى مقاطعة الفيسبوك، أو محاربته، أو منعه بأي شكل من الأشكال. فإيماني بالحرية الفكرية يمنعني من طلب وضع رقابة على أية وسيلة إعلامية مهما تكن. لكنني أدعو إلى نوع من التثقيف ونشر الوعي حول مخاطر الفيسبوك على المستوى الثقافي العام، وطرائق تجنب الوقوع في مطبات ما يبدو لغير العين الفاحصة حقائق لا يدانيها شك. يمكن أن تبدأ حملة التوعية هذه في المدرسة، والبيت، قبل أن تتحول إلى حملة يرفع لواءها الشباب أنفسهم. هؤلاء الشباب ربما رغبوا في أن يحوزوا قدرا كبيرا من الثقافة الرصينة، لكنهم إنما يجهلون كيف يحصلون عليها. وعلى المربين أن ينهضوا بهذا الأمر، كما نهضوا به في كل عصر، وواجهوا كل تحدٍ بصبر وجلد، حتى آلت إبداعات الأولين ألينا. وعلينا أن نحافظ على تلك الدرر وعلى الذوق السليم الذي بدونه لن يصبح لإرثنا الثقافي العظيم من معنى.

Saturday, July 28, 2012

العراق في صدارة الدول الأكثر فشلاً .. المشاكل والحلول

أصدرت مجلة السياسة الخارجية (فورن بولسي)، وهي أحد إصدارات جريدة الواشنطن بوست المستقلة، تصنيفها لأكثر الدول فشلا في العام الماضي (2011). وقد ورد اسم العراق في المرتبة التاسعة، بعد الصومال وتشاد والسودان والكونغو وهاييتي وزمبابوي وأفغانستان وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وقد وضع معدّو الدراسة تصنيفهم اعتمادا على اثني عشر مؤشرا هي: الضغوط الديموغرافية، قضايا النازحين، التذمر الجماعي، الهجرة، التنمية غير المتوازنة، الانحدار الاقتصادي، نزع الشرعية عن الدولة، الخدمات العامة، حقوق الإنسان، الحالة الأمنية، النزاع الطائفي، والتفاعل الدولي.
وللمقارنة، فإن باكستان جاءت في المرتبة الثانية عشرة تليها اليمن، بينما حلت كوريا الشمالية في المرتبة الثانية والعشرين. أما مصر فقد احتلت المرتبة الخامسة والثلاثين، جاءت بعدها بعشر مراتب إيران، بينما قبعت سوريا، رغم استمرار حالة الثورة فيها معظم العام الماضي، في المرتبة الثامنة والأربعين.
ولابد من الإشارة إلى أن العراق حقق تقدما مضطردا، وان لم يكن كبيرا طوال، الأعوام الأربعة السابقة لهذا التقرير. فقد كان تصنيفه خامسا في عام 2008، ثم حلّ سادسا في عام 2009، فسابعا عام 2010، ليصبح تاسعا عام 2011. ويعود الفضل في هذا التقدم إلى حصول تحسن في الوضع الأمني، وانخفاض نسبة الهجرة، والانخراط في المجتمع الدولي، وتخفيف الضغوط الديموغرافية، وتراجع وتيرة التذمر العام. وفي المقابل، فان هناك تراجعا في قضايا مثل التمنية، وتوفير الخدمات العامة، بينما بقيت معظم القضايا الأخرى في حال مراوحة خلال هذه السنوات الأربع.
لاشك  في أن العراق قد مرّ بظروف غير اعتيادية منذ ثمانينات القرن الماضي، من حروب وانتفاضات وقمع وحصار، وصولا إلى الغزو الأميركي عام 2003، الذي كان مصدرا للكثير من عوامل الفشل ضمن الدولة العراقية بسبب قصور عقلية المحتل عن فهم طبيعة تنظيم هذه الدولة، ولاعتماده على ثلة من "المستشارين" غير الخبيرين في الشأن العراقي، وإن كان بعضهم من أصل عراقي، إلا أن جلّ ما قدموه كان لمصلحة شخوصهم، أو أحزابهم، أو لطائفتهم، وندر أن فكروا في تقديم المصلحة الوطنية العليا. هذا المبدأ الذي بتنا نطلق عليه "المحاصصة" كان من اشد الأمور التي جاءت مع الاحتلال، ولكنها ترسخت في ظله ولم ترحل مع جلائه.
بيد أن نظرة على قائمة الدول التي أوردنا بعضها تشعرنا بالأسى لتقدم بلدنا عليها، مثل اليمن التي أمضت عاما مليئا بالفوضى السياسية والأمنية قبل أن تنتقل إلى نوع من الحكم التوافقي، وما رافق هذه الاحداث من سيطرة تنظيم القاعدة على مناطق واسعة من البلاد، ومن المعروف أن هذا التنظيم يتبنى نهجا فوضويا في إدارة المناطق التابعة له، الأمر الذي يفسر تقدم أفغانستان والصومال على رأس تصنيف أكثر الدول فشلا. ومن الملاحظ أن جميع الدول التي تقدمت العراق هي من الدول الأقل قدرة من الناحية الاقتصادية، كما أنها ليست بذات إمكانات بشرية وفكرية كبيرة، على خلاف العراق. يضاف إلى ذلك إن معظم هذه الدول يمر بظروف أمنية خطرة للغاية أو تخضع لأنظمة فاشية تنتمي إلى حقبة عفا عليها الزمن، في الوقت الذي تمضي الأمم قدما في تواصلها عبر وسائل الاتصال الحديثة. وربما كان كل هذا مبررا كافيا لتصنيفها على رأس القائمة. أما العراق، فعلى الرغم من كل المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي مازال يعانيها، فهو يتمتع بقدرات ثقافية واجتماعية واقتصادية كان من الأحرى أن تمنعه من تبوُّء مركز متقدم في تصنيف الدول الأكثر فشلا. ألا ترى أن دولة مثل كوريا الشمالية، قد استطاعت أن تتخطى المراكز   العشرين الأولى، على الرغم من العزلة الدولية التي تخضع لها، وانهيار اقتصادها، ونظام حكمها الشمولي الذي لابد انه يقتل الروح الإبداعية لدى شعبها.
من الممكن أن نضع قائمة طويلة بالأسباب التي أدت إلى أن يحتل العراق مركزه الحالي في قائمة الدول الأكثر فشلا. وربما تضمنت هذه القائمة أمورا مثل النزاعات السياسية المستمرة التي تعوق عمل الدولة، وسوء إدارة الموارد المادية والبشرية، وانتشار الفساد على نحو غير مسبوق في هذه البلاد. كما أن أداء السلطة التشريعية ليس بالمستوى المطلوب كنتيجة للتطاحن السياسي، بينما تخضع الكثير من القنوات القانونية إلى ضغوطات سياسية تحد من دورها المرجو في عملية بناء دولة القانون.
لكني أعتقد أن أكبر مشاكل البلاد إنما تأتي من ضعف المفاصل الإدارية للدولة بكافة مستوياتها، التي تصبح أكثر سوءا مع النزول إلى المستويات الأدنى في الهرم الإداري. إن طبيعة بناء الدولة الإداري الحالي قد جعل من الصعب على المشاريع التنموية أن تنجز خلال أوقات معقولة، إن كان لها أن تنجز على الإطلاق. وأدت النظم الإدارية المعقدة إلى إيجاد بيئة غير جاذبة للاستثمار الأجنبي، وثبّطت من قدرات الاستثمار المحلي. فعلى الرغم من تضاعف أعداد الموظفين الإداريين والفنيين خلال السنوات الأخيرة إلا أن الملاحظ أن الأداء قد انخفض بشكل عام عما كان عليه قبل عشرة أعوام مثلا، وهذا ليس من باب المقارنة مع نظام الحكم السابق. فعلى الأرجح إن الكثير من الروتين الإداري الذي بات لا غنى عنه اليوم قد ترسخ تحت ظل النظام السابق، ولكن يبدو أن ما من قدرة سياسية أو تشريعية على تجاوز هذا الروتين عن طريق إعادة النظر في النظم واللوائح والتعليمات والقوانين المرتجلة التي صدرت عن أركان النظام السابق وكان المقصود منها وضع المزيد من العوائق أمام الشعب وجعل حياته أصعب ضمن نهج سياسي موجه لمنع الأفراد والجماعات من الانتفاضة والثورة على هذا النظام.
وإذا أردنا أن نحدث تغييرا حقيقيا في نظام الدولة الإداري الحالي فعلينا أن نبدأ بالقاعدة الإدارية: الموظف الأول المسؤول عن تمشية معاملات الأفراد والشركات وما إلى ذلك. يجب أن ننظر في كيفية جعل هذا الموظف مسؤولاً بشكل حقيقي، وليس عن طريق المعاملات الورقية الكثيرة التي تهدف إلى إزاحة المسؤولية عنه في واقع الأمر. ثم يتدرج الأمر صعودا مع مدراء أكفاء قادرين على اتخاذ قرارات دون التخوف من الملاحقة القانونية، إلى هيئات إدارية ذات بُعد تنظيري يسمح لها بوضع مشاريع القوانين المناسبة لحماية المستويات المختلفة من الهيكل الإداري، أو إلغاء لوائح موروثة غير ذات قيمة في الوقت الحالي إن لم تكن عبءاً على الواقع الإداري للدولة.
وغني عن الذكر أن القدرة الاقتصادية لأي بلد لم تكن يوما ولن تكون أهم عوامل نجاحه. بل على العكس من ذلك، قد تكون سببا لفشله إن لم تتم إدارة الموارد بالشكل الصحيح. فأقل أقطار العالم غنى بالثروة الطبيعية، مثل اليابان، لم تمنعها من تصدر قائمة الدول الصناعية المتطورة.
أدرك أن هذا التغيير سوف يكون صعبا ويقتضي الكثير من العمل الشاق، تشريعيا وسياسيا، قبل أن يمكن  بدء العمل الإداري ذاته. لكن علينا أن نبدأ من نقطة  إذا ما أردنا أن ندرأ عن أنفسنا تهمة الدولة الفاشلة، وكلما تأخرنا في الانطلاق في تلك البداية  أصبح التغيير أصعب. وعلينا ألا ننسى أن تحسين أداء الدولة إداريا سوف ينعكس أولا وأخيرا على المواطن، الذي يفترض أن يصب كل ما يفعله النظام في مصلحته.

Monday, June 04, 2012

الإرهاب فـي سوريا صناعة حكومية

حادثان وقعا في سوريا استحوذا على اهتمام وسائل الإعلام العالمية والعربية  في الأيام الماضية. الأول اختطاف مجموعة من الزوار اللبنانيين في سوريا،  والثاني ما اصطلح على تسميته بمجزرة الحولة. وكلا الحادثين وقعا بينما تقوم  بعثة الأمم المتحدة بمزاولة أعمالها الرقابية ومحاولة إيجاد مخرج للازمة  السورية الدموية التي تجاوزت العام ببضعة أشهر.

وفي الوقت الذي اتهمت السلطة السورية قوات "الجيش السوري الحر" والقاعدة بالقيام بهذه الأعمال الإرهابية، فان قوات المعارضة تنكر بشدة أنها يمكن أن تقوم بمثل هذه الأعمال الوحشية، وبدورها توجه الاتهام إلى القوات الحكومية بارتكاب هذه الجرائم.
إن محاولة معرفة الحقيقة تكاد تكون مستحيلة عمليا بسبب طبيعة العمليات العسكرية التي تجري في المنطقة، ولعجز المراقبين الدوليين عن القيام بتحقيق جنائي متخصص خارج التأثيرات السياسية من الأطراف المحلية والإقليمية والأممية، وهم الطرف الوحيد الذي قد تكون له مصداقية مقبولة بما يكفي لإجراء بمثل هذا التحقيق.
بيد أننا يمكن أن نحلل تلك الاحداث من منظور سياسي، لا تقني.
فالقيام بأي عملية ضد أية جهة يستوجب توفر ثلاثة عناصر: الجهة المنفذة، والجهة المستهدفة، والمكاسب المقصودة. وحتى العمليات العشوائية التي تقوم بها منظمة القاعدة، كما شهدناه في العراق وباقي دول المنطقة والعالم، لا تخرج عن تلك الثوابت. فهي تسعى إلى الاعتراف بأغلب العمليات التي تقوم بها من خلال اتصال مع وكالة أنباء أو محطة تلفاز أو عن طريق الشبكة العالمية الانترنت. كما أن معظم العمليات التي تقوم بها تكون موجهة ضد قوات أمنية أو طائفة أو فئة معينة، متجنبة قدر الإمكان أن تصيب المناطق التي تدين لها بالولاء تحسبا لنقمتها عليها. أما أهداف القاعدة فإنها متنوعة، من محاربة الكفار إلى مقارعة الاحتلال ومقاومة الاستبداد وصولا إلى تحرير المناطق المقدسة. لكن لكل عملية هدف محدد ضمن مرحلته وفترته التاريخية.
وبإلقاء نظرة على الحدثين اللذين أوردناهما في سوريا، والأحداث المصنفة إرهابيا التي وقعت قبلها، فإننا نجد أن من غير الراجح أن يكون من تنفيذ القاعدة أو عناصر مرتبطة بها، رغم وجود مؤشرات على ممارسات أصبحت تقليديا من اختصاصات القاعدة، مثل الذبح والاختطاف والعمليات الانتحارية. فوجود القاعدة في سوريا كان برعاية وسيطرة من قبل النظام السوري، وهو نظام بوليسي يمتلك سلطة كاملة على كل ما يجري داخل البلاد. ونحن نعلم من الأدلة الكثيرة التي حصلنا عليها في العراق أن معظم منفذي العمليات الانتحارية هنا قد مرّوا من سوريا ومكثوا فيها وسهّل لهم زبانية النظام دخول العراق مع الأسلحة والأعتدة المطلوبة لتنفيذ تلك العلميات الإرهابية. ومن غير المعقول أن ترعى مخابرات النظام السوري تنظيما خطرا مثل القاعدة على أراضيها ثم تفقد السيطرة عليه بين ليلة وضحاها.
أما الجهة المستهدفة، فالأمر جلي بما يخص مجزرة الحولة، إحدى مناطق حمص، وهو شعب هذه المدينة الثائرة ضد النظام. أي أن من الطبيعي أن تذهب أصابع الاتهام إلى قوات النظام السوري لا إلى معارضتها. وإن كانت القاعدة هي المتهمة في هذه الاحداث، فهذا يثبت أنها مرتبطة بالسلطة لا بالمعارضة، إذ من غير المعقول أن تقوم قوات المعارضة بإرهاب المناطق المؤيدة لها فقط لإحراج النظام. ومن المعلوم أن مثل هذه الحوادث الرهيبة قد تجبر الناس على التزام منازلهم والتخلي عن دعم المعارضة خوفا من الانتقام الوحشي الذي قد يتعرضون له نتيجة لهذا الدعم. وهذا يقودنا إلى الركن الثالث للعمليات الإرهابية وهو المكسب المتوقع. وفي حالة المجزرة ليس هناك مكسب على الإطلاق للمعارضة، بل كما أسلفنا قد تؤدي إلى نكسة تهدد استمرار الانتفاضة السورية.
والأمر أقل وضوحا في ما يخص عملية اختطاف الزوار اللبنانيين، لكن السياقات السابقة تجري على نفس المنوال. فالمعارضة لا يمكن أن تسعى لاستهداف الرعايا اللبنانيين، حتى وإن كانوا من عناصر حزب الله الداعم للنظام السوري، خشية توسيع الصراع وإدخال المزيد من الأطراف فيه، في أقل تقدير. كما أن من الصعب تصور أن يتم اختطاف أجانب في سوريا بهذه السهولة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن عملية الاختطاف حدثت في مناطق لا تعد ساخنة وتتمتع بتواجد أمني نظامي مكثف.
ومن الناحية الأخرى فإن النظام السوري، الذي بات تحت ضغط دولي وإقليمي شديد، له مصلحة في كل هذه الاحداث. فالرئيس بشار الأسد الذي يتزعم هذا النظام، يريد أن يبين للعالم أن بلاده قد أصبحت ضحية للجماعات المسلحة المتطرفة، التي تعمل مع وبإشراف من القاعدة. وهو يريد أن يقول للعالم إنه يحارب الإرهاب، وإن السعي إلى الإطاحة به يعني أن سوريا ستكون مثل أفغانسان واليمن والعراق وباكستان، فسيستفحل الإرهاب بحصوله على قلعة جديدة بعد أن تمكن من تحصين قواعده في المناطق المذكورة.
بالإضافة إلى هذا فإن النظام السوري عوّدنا على مثل هذه الاحداث المفتعلة بين الفينة والأخرى، من السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية التي عادة ما تتزامن مع وصول وفود المراقبين العرب والدوليين. ولم تعلن المعارضة السورية عن مسؤوليتها عن أي من هذه العمليات، وهو ما يدعو إلى التساؤل: لو كانت المعارضة لماذا لا تقرّ بها؟ وما الغاية من ورائها؟ وفي هذه العمليات  أننا نجد بعض العناصر في العمليات الإرهابية التقليدية، لكننا لا نجدها مجتمعة. وإذا لم نستطع أن نشخص كل العناصر في عملية مصنفة على أنها إرهابية، فهي على الأرجح ليست كذلك، وإنما هي مؤامرة من سلطة غاشمة باتت لا تتورع عن استخدام كل ما أتيح لها من اجل البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة.

Wednesday, April 11, 2012

حكومة وحدة أم حكومة تقسيم؟

تكررت في الآونة الأخيرة التصريحات التي يطلقها زعماء وساسة عراقيون حول اتجاه حكومة السيد رئيس الوزراء نوري المالكي إلى التفرد بالسلطة، ومنها تصريحات السيد مسعود بارازاني رئيس إقليم كردستان، والتي اعتبرها البعض تهديدا ضمنيا بالانفصال عن العراق إذا ما استمرت الحكومة بنهجها الحالي.
والواقع أن هناك على الأرض مصاديق كثيرة تشير إلى الاستئثار بالسلطة من قبل رئيس الوزراء، منها المماطلة والتسويف في عقد المؤتمر الوطني الذي يرتجى منه حل الأزمة السياسية الحادة التي تمر بها البلاد. إذ لا يمكن أن يكون عمر الأزمة الحالي قد تجاوز الأربعة أشهر دون أن يجري تحريك ساكن في اتجاه تقريب وجهات النظر، إن لم يكن في اتجاه إيجاد حلول ناجعة للمشاكل التي باتت مستعصية. وهنا يكمن دور الحكومة في تحريك العملية السياسية بحكم توليها مقاليد السلطة التنفيذية التي تمتلك حرية الحركة والتواصل، بعكس فروع السلطة الأخرى التي تفتقر إلى الأدوات اللازمة لتوفير الأجواء والظروف المناسبة لجمع أطراف العملية السياسية حول طاولة المفاوضات بغية الوصول إلى اتفاقات تخرج البلاد من ظلمة المناحرات السياسية. إن هذا الشلل شبه الكامل في التعامل مع الأزمة السياسة لابد أن يستحيل في آخر الأمر إلى أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية تؤثر أولاً وأخيراً على مجمل الشعب العراقي، بغض النظر عن انتماءاتهم ومشاربهم.
على أن نهج حكومة المالكي كان منذ بداية تشكيلها يقوم على الحفاظ على الوضع المتأزم وإدامته بدلا من إيجاد الوسائل لتهدئته. فبعد مرور عامين على تشكيل الحكومة لا تزال الوزارات الأمنية بيد السيد المالكي رغم تصاعد الاستنكار المستمر، على صعيد الأطراف المشاركة في العملية السياسة وكذلك على الصعيد الشعبي. وإذا كنا نسمع في الأشهر الأولى تبريريات حول عدم قبول مرشحي الأحزاب المشاركة في السلطة لهذه الوزارات على اعتبار أنها استحقاقات لها استنادا إلى اتفاقية أربيل، فقد أصبح من النادر اليوم أن يدلي احد من المقربين لرئيس الوزراء أو حزبه الحاكم بتصريح يوضح فيه سبب تمسك المالكي بهذه الوزارات خلافا للاتفاقات التي أفضت إلى تعيينه رئيسا للوزراء.
ويبدو أن هذا النهج المنسق من التسويف والمماطلة وعدم الاكتراث للشركاء الآخرين، فضلا عن الإعراض عن الرأي العام الشعبي وما يتم عرضه عبر وسائل الإعلام المختلفة من أعمدة وكتابات ومقالات رأي مختلفة، قد أدى إلى حالة من خيبة الأمل بين الأوساط الشعبية والنخبوية على السواء، وهو ما يصب في مصلحة السيد المالكي الذي يسعى إلى إسكات أصوات المعارضة بأي طريقة، ولو بطريقة صم الأذان عن سماعها، ولسان حاله يقول: "قولوا ما شئتم، فإني ماض في ما أنا عازم عليه."
من ناحية أخرى، فإن استمرار الأزمات السياسية قد أدى في الكثير من الأحيان إلى صرف النظر عن الفشل الذريع للحكومة في تحقيق أدنى متطلبات الحياة الكريمة للمواطن العراقي، من توفير الخدمات الأساسية إلى إدارة عملية الأعمال المتعثرة، وليس أقلها حل مشاكل الخدمات والسكن والبطالة المزمنة، ولا أوهنها تحريك العملية التنموية التي من شأنها أن تعيد العراق إلى خارطة العالم المتحضر.
ومجرد إلقاء نظرة إلى واقع العراق اليوم تثير في النفس الأسى. فالبلد الذي يحتوي أول أو ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم يستورد المشتقات النفطية من الكويت وإيران وغيرهما. والبلد الذي يمخر عبابه نهران يرويان مساحات شاسعة من أراض عرفت بخصبها من أقدم الأزمان قد صار اليوم سوقا للمنتجات الزراعية من سوريا والأردن ومصر وسواها. ليست هناك صناعة بأية مقاييس محلية أو إقليمية، لا في القطاع الخاص ولا في القطاع العام رغم توفر الكوادر والموارد الهائلة.
القطاع المصرفي يعود إلى قرون مضت، وليست له مساهمة تذكر في أي عملية تنموية، بينما دوائر الدولة شبه معطلة، تزخر بالموظفين ولا تنتج إلا القليل. لو لم يكن لدينا نفط في باطن الأرض لبات معظمنا بلا عشاء.
إذاً من المسؤول عن هذا الواقع المتردي؟ ومن عليه أن يجد له حلولا على المديات القريبة والمتوسطة والبعيدة؟ الحكومة بكل تأكيد. ولكن طالما كانت هناك أزمة سياسية، تنعكس على الواقع الأمني، فإن هناك عذرا في التأخير عن دراسة هذا الواقع ووضع خطة للنهوض به. وطالما كانت هناك مشاكل سياسية، فإن التركيز الإعلامي لن يكون على الفشل الحكومي منقطع النظير بل على خلافات الشركاء ومشاحناتهم. وفي كل مرة تثار فيها قضية حول هذا السياسي أو ذاك فإن الشارع سرعان ما يبدأ بالانقسام بين هذا وذاك. لا يبدو الأمر جديدا، فقد قيل قديما "فرّق تسد".
ربما لا يحدث شيء بعد خطاب بارزاني، كما لم يحدث شيء قبله، رغم تصاعد الأصوات المعارضة. لكن إن اضطرت حكومة إقليم كردستان إلى اتخاذ إجراءات متطرفة، فلن يكون من المجدي إلقاء اللوم على أحد. وإذا كان السيد المالكي لا يقيم وزناً للرأي العام اليوم فإن عليه أن يواجه حكم التاريخ في المستقبل، ونحن نرجو مخلصين أن لا يوصف بأنه "الرجل الذي قسّم العراق"، ليس بعد أن نجونا من هذا الاختبار إبّان الاحتلال الأميركي.

Saturday, March 24, 2012

قمة المكاسب والخيبات

نشرت وسائل الاعلام العراقية تفاصيل عن بعض ما سينفق من اموال وموارد لغرض استضافة القمة العربية المقررة ببغداد أواخر الشهر الجاري. وتحدثت المصادر عن تخصيص مئة مليار دينار عراقي كميزانية للنفقات، ونشر مئة الف عنصر امني لتوفير الحماية للوفود المشاركة فيها.
وفيما يتشكك الكثيرون بقيمة هذه القمة العربية في الوقت الراهن، يؤكد آخرون انها ضرورية لإعادة العراق الى محيطه العربي واستعادة دوره الاقليمي الذي فقده منذ غزو قوات صدام للكويت وما تلاه من احداث عزلت العراق عن الدول العربية والعالم ككل. لكن السؤال عن الفائدة المرجوة منها لشعب العراق يبقى مطروحا دون اجابة واضحة.
مما لا شك فيه ان تخصيص الموازنات الخيالية لمثل هذه المناسبات سوف يؤثر على المشاريع التنموية الضرورية لخدمة المواطن العراقي، ومنها ما يخص البنى التحتية المتهالكة في قطاعات شتى نحن في غنى عن تعريفها. كما ان استدراج العناصر الامنية من محافظات العراق المختلفة يمكن ان يؤدي الى احداث فراغ او فجوة امنية هنا او هناك قد تستغلها العناصر التخريبية لافتعال احداث اجرامية تثير فزع الوفود المشاركة، ويكون ضحاياها –بالطبع– افراد من الشعب العراقي. ومن المعلوم ان اهداف تلك المجاميع الارهابية لا تقتصر على بغداد، بل انها نشطة في كل مكان في العراق كما اثبتت الوقائع على مدى السنوات التسع الماضية.
وفي نفس الوقت، تبقى الازمة السياسية تراوح مكانها بدون ان تظهر بوادر لحلول، ناهيك عن التوصل الى اتفاقات تقود في آخر الامر الى احلال الاستقرار السياسي والامني في البلاد. وتبقى مسألة تعيين الوزراء الامنيين غير مطروحة للنقاش على الرغم من الخروقات الامنية الفاضحة التي تحدث بين الحين والآخر. ويظل رئيس مجلس الوزراء المتحكم الاول بالشأن الامني، على مستوى قيادة القوات المسلحة، ووزارات الدفاع والداخلية والامن الوطني، على الرغم من طبيعة وظيفته التي يفترض ان تكون مدنية بامتياز.
ان انعقاد القمة العربية في العراق لا يمكن ان يعد مكسبا لحكومته فقط، الا اذا ارادت هذه الحكومة ان تحسبه في لائحة "منجزاتها". ومما يبدو اليوم، فان حكومة السيد المالكي لا تعير انتباها كافيا لما يريده المواطن العراقي، وما يعتقده حول تلك القمة. فلم نشهد عقد مؤتمرات محلية او وطنية تعمل على الاستماع للمواطنين بما يخص القمة، او ان تسعى الحكومة الى توضيح وجهة نظرها حول الاسباب الداعية الى عقدها في بغداد والنتائج المتوخاة منها. وكأن افراد هذا الشعب ليس لهم قول في الاحداث السياسية التي تقع في بلادهم رغم انهم سوف يدفعون ثمنها مالا، ودما، وعرقا في السيطرات الامنية التي ستنتشر بالالاف في كافة المناطق بلا شك.
ان كان يحلو للبعض ان يسميها قمة المالكي، فيا لبؤس تلك القمة، ويا لشقاء من يستضيفها. فهل دفعنا ثمن الغزو الاميركي دماء زكية، ودمارا شديدا، ورعبا غير مسبوق، وكلنا أمل في التحرر من سلطة الشخص الواحد، واعناقنا تشرئب الى السماء فخرا باننا اول من سيقطف ثمار الديموقراطية حديثة العهد في المنطقة، اقول هل نقوم بعد كل هذا بالتهليل لفرد واحد ونعزو مكاسبنا لشخصه؟ وهل سوف يكون المالكي بعد تلك القمة، جمال عبد الناصر الثاني، فيحقق ما عجز غيره عن فعله، من ايقاف سفك الدماء في سوريا على يد السلطة الجائرة، الى تحقيق بعض من الطموحات التي يتشارك فيها معظم الناطقين بلغة الضاد، وعلى رأسها ايجاد نوع من الوحدة بين البلدان العربية تذكر بماضيها المجيد وتدفع بها الى المستقبل المشرق. ان مجرد التفكير بهذه الامور يدفعني للضحك. فكم من العراقيين يؤمن فعلا بضرورة الوحدة العربية، بعد ان تم تجيير هذا المصطلح على يد الانظمة المتتالية في معظم الاقطار العربية واستخدامه وسيلة لقهر شعوبها؟ نعم، ان مبدأ الجامعة العربية انما يقوم في الاساس على مبدأ تحقيق الوحدة العربية. فان كان ما سلف صحيحا، فان من سخرية القدر ان نسعى بكل ما أوتينا من مال ورجال لاستضافة هذه القمة، التي لا اشك اننا سوف ننسى كل ما دار فيها في اليوم التالي لانفضاضها.
من المؤكد ان تلك القمة سوف تنعقد بجدول اعمال معين، لكن هناك خارج مجمع القصور الرئاسية جدول اعمال ثان. قد تسنح الفرصة للمخربين في مدن بعيدة للقيام بعمليات ارهابية فقط للتشويش على القمة. وقد تهب عاصفة من التصريحات النارية بين الفرقاء السياسيين المتنازعين منذ دهور، ما يخلق حالة من التوتر لدى ابناء الشعب وهم يتوقعون الاسوأ. ومن المحتمل ان تلجأ الحكومة الى فرض حظر التجوال الكلي او الجزئي في مناطق من بغداد والمحافظات العراقية الاخرى مما يؤثر سلبا في حياة المواطن. اما ما تخصصه لميزانية تلك القمة فهو ضياع آخر للموارد الوطنية التي لم يعد يفكر فيها الكثيرون.
نحن لسنا ضد عقد القمة في بغداد، فهذا استحقاق وطني. لكننا لا نرى اننا نشارك في تلك القمة كشعب او امة، بل كحكومة. وهذا هو ما كنا نخشاه منذ اليوم الاول. فالحكومة بمفهومنا يجب ان تكون ممثلة لنا بما يكفي حتى لا يسعى احد لتسجيل منجزاتها على حسابنا. والقمة العربية التي ستعقد قريبا ليست الا مكسبا آخر لرئيس الوزراء، وخيبة أمل اخرى للشعب.

Saturday, March 03, 2012

المالكي والقمّة العربية .. صفقة أم تفاهم؟

تداولت وكالات الأنباء بيانا صحفيا صادرا عن مكتب رئاسة الوزراء يقول فيه السيد المالكي إن العراق "يؤيد التغيير في سوريا" مبيناً أن " التغيير ضرورة والأوضاع فيها لن تستقر من دونه". وهو تبدّل لافت لموقفه المعلن سابقا تجاه الأزمة السورية، وخصوصا تصريحه في المؤتمر الصحفي الذي جمعه والرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، حينما قال: "ليس لدينا الحق بدعوة رئيس للتنحي، لا يمكننا منح أنفسنا هذا الحق"، وذلك قبل أكثر من شهرين بقليل.
فما الذي تغيّر في هذه الفترة القليلة حتى ينقل السيد نوري المالكي موقفه من جهة إلى الجهة المقابلة؟ ربما يقول البعض إن نظام الأسد قد بالغ في التصدي للثورة التي يقوم بها الشعب السوري، وانه قد حَمل حتى أكثر الناس قربا منه على التخلي عنه والنأي بأنفسهم عن وحشيته المفرطة في مواجهة شعبه الأعزل. ألم ترَ أن بعض الدول العربية قد أصبحت تطالب جهرة بتسليح المعارضة بعد أن طفح بها الكيل، ويئست من أية حلول سلمية أو توافقية لتلك الأزمة التي شارفت على إتمام عامها الأول؟ فليس من المستغرب إذا يتخلى المالكي عن الأسد بعد كل هذا.ومن جهة أخرى يقال إن المالكي قد عقد صفقة مع جامعة الدول العربية مفادها أن يغير موقفه من الرئيس السوري مقابل السماح بعقد القمة المقبلة في بغداد. وإذا كان مثل هذا الأمر حقيقيا فإنه لا قيمة لتلك القمة ولا لمكان انعقادها، ولا حتى لما تتوصل إليه من قرارات. نعم، في عالم السياسة المتحول، تقوم الدول وقادتها وسياسيوها بشراء المواقف، بالمال والسلاح والمعونات ،وبالضغط والترغيب والتهديد والوعيد، وبطرق كثيرة أخرى. لكن تغيير موقف دولة تجاه جارتها مقابل عقد مؤتمر فيها سيكون سابقة، وسيكون قد أخذ بأبخس الأثمان. أقول لا قيمة لقمة تعقد بصفقة مع مضيفها أصلا لأن موقف باقي الدول لن يكون خارج هذه الصفقة بأية حال، وسيكون لكل صوت ثمن، مع حاجة الكثير من الدول العربية إلى صفقة من نوع أو آخر.
لكن من الراجح إن دول الخليج العربية أعربت في مداولات خاصة مع حكومة المالكي عن قلقها حيال موقف العراق من الأزمة السورية. فهل كان المالكي يسعى لتهدئة تلك الهواجس قبل القمة من اجل ضمان حضور عربي عالي المستوى، وإنجاح أول مؤتمر قمة عربي يعقد في العراق منذ عقود؟ هل انه يستخدم التصريحات العلنية وسيلة لاجتذاب القادة العرب ولو على حساب موقفه المعلن قبل فترة وجيزة؟لقد كان تصريح المالكي في البيت الأبيض غريبا في الأساس. ففي حين انه استهجن دعوة الأسد إلى التنحي، كان مضيفه، باراك أوباما، قد فعل ذلك بالفعل مرارا وتكرارا، كما وجهت الكثير من الدول الأوروبية وعدد من الدول الأخرى دعوات مماثلة للرئيس الأسد لمغادرة منصبه، سواء كان الغرض من تلك الدعوات التخلص من نظام الأسد، أو حقناً لدماء الشعب السوري. ولا يمكن لنا أن ندّعي أن المالكي أكثر منهم خبرة في القانون الدولي، أو أطول منهم باعا في السياسة الدولية. ولو عمل العالم بنصيحة المالكي بعدم دعوة الرؤساء للتخلي عن مناصبهم، لما كان هو اليوم في السلطة. لذلك قد لا يكون تصريح المالكي تغييرا في الموقف بقدر ما هو تراجع عن تصريحه السابق الذي ربما أراد به التعبير عن استقلالية عن الموقف الأميركي دون أن يقصد حقيقة دعم النظام السوري، خصوصا بعد صدور اتهامات كثيرة بتبعية المالكي لإيران التي تدعم بشكل صريح نظام الأسد. فاليوم يريد السيد رئيس الوزراء أن يعلن استقلاله عن القرار الإيراني بعد أن أوضح استقلاله عن القرار الأميركي قبل شهرين.
إن مسألة عقد القمة العربية باتت اليوم ضرورة ملحة بعد أن طال تأجيلها لأكثر من عام. وإذا كانت ظروف التأجيل مازالت قائمة، فإن على الدول العربية أن تمضي قدما في الالتئام تحت راية جامعتها بأي حال. فالثورات العربية المتزامنة، وتغير الأنظمة الحاصل يفرض على كل الأنظمة العربية أن تسعى إلى تفعيل منظومتها الإقليمية لمنع التأثيرات الوخيمة لاحتمالات الحرب الأهلية في غير واحدة من هذه الأقطار. كما أن استحقاق العراق في عقد القمة ليس محل مساومة، والمالكي يدرك ذلك جيدا. ولكنه بنفس الوقت يرغب في تفعيل دور العراق في منظومة العمل العربي المشترك، ولا يريد أن يظهر بمظهر المعاكس لها. لذلك لا أرى أن هناك صفقة وراء عقد القمة في بغداد، ولكنه تفاهم صامت يفهمه كلا الطرفين.
من ناحية أخرى، قد لا تخرج القمة المرتقبة بقرارات مصيرية في ما يتعلق بسوريا. فالقضية السورية أضحت اليوم أمام مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة. وإذا كان مجلس الأمن قد فشل بالفعل في إدانة النظام السوري وتحميله مسؤولية أفعاله المشينة تجاه شعبه، فإن المجتمع الدولي سيواصل التحرك لحين التوصل إلى صيغة توقف حمّام الدم في سوريا، وترغم الرئيس السوري على الانصياع لرغبات شعبه. ربما ستكون القمة العربية قضية بروتوكولية ولكنها ستبقى مهمة من الناحية الستراتيجة، بما يتوقع منها أن تناصر الشعب السوري وأن تقدم الدعم للقرارات الوزارية السابقة لمجلس الجامعة القاضية بتعليق عضوية النظام السوري وفرض العقوبات الاقتصادية عليه. وإذا تم هذا فإن التفاهم الصامت بين العراق والجامعة العربية سيكون قد أنجز على خير وجه.

Wednesday, February 15, 2012

الطريق إلى دمشق لا يمر من موسكو

إذا كانت وقائع التاريخ تميل إلى تكرار نفسها، فلا أوضح دليلا على ذلك من مسلسل الأحداث الذي رافق ثورات العالم العربي، منذ بدئها في كانون الثاني من العام الماضي وحتى اليوم. فالأنظمة التي ثارت عليها شعوبها أضحت اليوم، باستثناء النظام السوري، خارج الحكم بكل الطرق الممكنة:

الرئيس التونسي هرب إلى الخارج، والرئيس المصري تنحى "طوعيا" عن السلطة وهو قيد المحاكمة، والرئيس اليمني قـَبل صفقة وساطة خليجية-عربية لخروج مُشرف من السلطة. أما الرئيس الليبي معمر القذافي فقد لقي المصير الذي بشـّر به زملاؤه قبل بضع سنين فقط: قتلا على يد الثوار. فهل كان للنظام السوري من عِظة في كل هذا؟ لا يبدو ذلك. فالرئيس السوري، الذي يريد أن يفرض سلطته بكل ما أوتي من قوة، لم يستطع أن يتفهم طبيعة المرحلة، وكيفية التعامل مع الحركات الاحتجاجية منذ بدأت. وقد اتخذ من طريقة تعامل والده حافظ الأسد مع الاحتجاجات المماثلة في الثمانينات من القرن الماضي مرشدا له دون أن يعي طبيعة التغيير الحاصل منذ ذلك الحين، خصوصا مع تقدم وسائل الاتصال وسرعة نقل الخبر، إضافة الى سرعة التواصل بين المحتجين وإمكانية تنظيم الصفوف بطريقة أكثر منهجية، وتأليب الرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي. وعلى الرغم من محاولات النظام السوري إظهار نفسه بمظهر المصلح، وإقرار الرئيس بشار الأسد العلني بضرورة اجراء اصلاحات سياسية، تشمل إقرار نظام التعددية الحزبية وانهاء احتكار حزب البعث للسلطة في سوريا، إلا أن طرح هذه الإصلاحات جاء متأخرا كثيرا، وجرى تبسيط طرحها الى درجة السذاجة، كما أنها تميزت بالتعالي وعدم الاعتراف بالطرف المناوئ. إلا أن أكثر ما يدعو قوى المعارض الى الاستخفاف بها هو عدم ثقتهم بأنها حقيقية، خصوصا مع عزوفها عن مناقشة موقع الرئيس في النظام الجديد. ونتيجة لقصور الوعي لدى الفئات السياسية الحاكمة في سوريا بطبيعة المرحلة، فإن سقف المطالبات الشعبية قد ارتفع الى حد المطالبة بإسقاط النظام، وهي حركة التاريخ التي يحلو لنا أن نطلق عليها "الحتمية التاريخية". ولكن إذا كان النظام السوري يعي تلك الديالكتيكية الحتمية، فلابد انه أصبح يحاول ان يتمثل النماذج المماثلة في التاريخ، التي ربما كتب لها النجاح في ظروف معينة. فلربما يرى سياسيو دمشق أن حركة التاريخ كانت ضد نظام صدام عقب غزوه الكويت، وان كل المؤشرات في ذلك الوقت كانت تشير الى سقوطه الوشيك، لكنه استمر نيفا وعقد من الزمان بعد ذلك. وان افترضنا جدلا أن مثل هكذا سيناريو ممكن اليوم، فان من الصعب تصور بقاء نظام الأسد كل هذه الفترة الزمنية. قد يفرض توازن القوى بين الشرق والغرب، والخوف من تهديد المتطرفين إن تمكنوا من الاستيلاء على السلطة في سوريا، قد يفرض منطق "تسويف القضية"، لكنه لن يصمد طويلا. فلم تعد الحرب الباردة هاجس القوى العظمى، ولم يعد الغرب يرى في "المد الإسلامي" رديفا للإرهاب والتطرف. واليوم، مع تصاعد الحراك السياسي العربي من خلال الجامعة العربية، والعربي-الأممي عبر مجلس الأمن، فان موقف النظام السوري بات في اشد حالاته الدبلوماسية ضعفا، وهي في العادة المقدمة للمزيد من الضعف على المستويين السياسي والعسكري. واذا كانت روسيا والصين قد عرقلتا إصدار قرار مجلس الأمن الذي يمهد لانتقال سلسل وسلمي للسلطة في سوريا باستخدامهما حق النقض، فان باقي الدول الأعضاء في مجلس الامن، فضلا عن جامعة الدول العربية، لن تيأس وسوف تجد طريقة تمرر بها قرارا مماثلا من مجلس الأمن. لقد بات النظام السوري يراهن على موقف دولة واحدة يبدو أنها آلت على نفسها حماية الدكتاتوريات حتى تسقط، ألا وهي روسيا. فموقف تلك الدولة التي كانت توصف بالعظمى من سوريا اليوم ينسجم مع موقفها من كل من العراق ويوغسلافيا وليبيا تحت حكم الطغيان في السابق، ولكنها تنحت جانبا آخر الأمر لتترك الأمور تسير في مجراها الطبيعي. ومن غير الواضح سبب دعم روسيا للنظام السوري كأولوية جيوبوليتكية. فسوريا ليست دولة مصدرة للنفط أو مصادر الطاقة الأخرى، كما أنها ليست سوقا رئيسة للمنتجات الروسية، باستثناء قطاع التسليح العسكري. وسوريا ليست مجالا حيويا لروسيا، ولا تشكل بعدا امنيا لها. ومن الراجح أن روسيا إنما تسعى للحصول على مكاسب على حساب النظام السوري أكثر من سعيها لحماية "حليف إستراتيجي".
أمام النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد فرصة لتغيير مسار التاريخ. تلك هي الإعلان الواضح عن العزم على التخلي عن السلطة، والدعوة إلى جمعية وطنية تضطلع بكتابة الدستور، الذي سوف يحول البلاد الى دولة ديمقراطية. وبهذا فانه سوف يستبق الأحداث التي تصنع اليوم في مجلس الأمن، ويمنع روسيا من الحصول على مكاسب من تسويق موقفها اتجاهه، لأنها ستبيعه آجلا إن لم يكن عاجلا. إن هذا السيناريو ليس إفراطا في التفاؤل، وإنما مجرد قراءة تصحيحية للحتمية التي أقحمت القيادة السورية فيها نفسها. أما إذا رفض الرئيس السوري الانصياع لهذا المنطق البسيط، وأمعن في ممارساته التعسفية ضد شعبه، واستمر في ارتكاب المجازر التي تقشعر لها الأبدان، فان عليه أن يتوقع تخلي اقرب حلفائه عنه. وإذا كان على حاملات الطائرات إن تشد الرحال، مرة أخرى، إلى البحر المتوسط قاصدة دمشق، فلن يتعين عليها أن تمر بموسكو. فهل سوف تكون ابتسامة الأسد في مؤتمر قمة دمشق حينما قال القذافي كلمته الشهيرة: "الدور جاي عليكم"، مجرد نكتة أخرى من نكت التاريخ، ويجد بشار نفسه أمام نبوءة طالما سخر منها؟ ليس علينا أن ننتظر طويلا لنعرف الإجابة.

Thursday, January 26, 2012

سليماني يضع المالكي في امتحان عسير

لاقت تصريحات قائد فيلق القدس الايراني، قاسم سليماني، حول خضوع العراق للنفوذ الايراني عاصفة من الاحتجاجات والاستنكارات بين كافة الاطياف السياسية العراقية بدءا من ائتلاف دولة القانون وائتلاف العراقية ومرورا بالتحالف الكردستاني وليس انتهاءا بالتيار الصدري، حيث اعتبرت هذه الاطياف ان مثل هذه التصريحات تـُعد تدخلا سافرا في شؤون العراق واساءة الى استقلاله.
لكن اللافت في تلك البيانات الطريقة التي تمت بها قراءة تصريح سليماني بما يخدم التوجهات السياسية الداخلية لكل من الفئات السياسية في العراق. ففي حين طالب النائب عن ائتلاف دولة القانون عزة الشابندر، قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني بتفسير التصريحات التي أدلى بها بشأن خضوع العراق لإرادة إيران وإمكانية تشكيل حكومة إسلامية فيه، ووصفها بـ"التطاول غير المقبول" على سيادة العراق، فانه حمل القائمة العراقية مسؤولية تلك التصريحات كونها أوحت لسليماني أن إيران تمتلك جنوب العراق، وأضاف أن "الدول التي لا تعتبر أن هناك مركزية قوية في العراق تسمح لنفسها بالتدخل".
وقال المتحدث باسم القائمة العراقية حيدر الملا إن "من يعتقد أن يكون العراق تابعاً لإيران أو عمقاً استراتيجياً... فإنه ذاهب إلى الوهم"، معتبراً أن المالكي " فشل ببناء علاقة متوازنة ليس فقط مع إيران بل مع دول الجوار كافة" مؤكدا أن "سياسات المالكي مع السعودية وإيران وتركيا والكويت والاتحاد الأوروبي وحتى مع الجامعة العربية سيئة، كما أن سياسته في إثارة الأزمات على الساحة الداخلية العراقية جعلت الآخرين يطمعون بنا ومهدت الطريق أمام علاقات غير متوازنة مع دول الجوار، مما سمح للبعض منها بالتطاول على العراق بهذا الشكل السافر".
اما التحالف الكردستاني فقد جاء موقفه واضحا على لسان محمود عثمان، حيث أكد ان تصريحات سليماني تعد "تدخلا سافرا في شؤون العراق"، داعيا الحكومة العراقية إلى اتخاذ موقف حازم، مشددا على أهمية "إدانة مثل هذه التصريحات من جميع الكتل السياسية". وهاجم التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر سليماني معتبراً تصريحاته "غير مقبولة"، كما أكد أنه لن يسمح بأي ذريعة للتدخل بشؤون البلاد الداخلية.
وهكذا فان الكل اجمع على ادانة تصريحات المسؤول الايراني، لكن الاختلاف كان بين العراقية ودولة القانون في تحميل بعضها بعضا مسؤولية صدور هذه التصريحات. وعلى الرغم من اننا لا نستطيع ان نحمّل الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي، وهو زعيم ائتلاف دولة القانون المسؤولية المباشرة عن صدور مثل هذه التصريحات من دولة "جارة"، الا ان تصريح الشابندر الذي اوردناه فيه تجن كبير على القائمة العراقية. فكيف يمكن للمطالبة باللامركزية ان يحث دول الجوار على التدخل في شؤون العراق؟ واذا كانت المطالبة بالفيدرالية امرا قبيحا الى هذا الحد، فلماذا اقرّه الدستور باديء الامر؟ لكننا يجب ان نذكر بان المطالبة بالفيدرالية كانت قبل بضع سنين ترد من احزاب منضوية تحت جناح التحالف الوطني، السلف الشرعي لتحالف المالكي الحالي، وبالتحديد من المجلس الاسلامي الاعلى، والذي خاض حملات مكثفة من اجل فيدرالية الجنوب، وهو الأمر الذي لم يلقَ تأييدا واسعا حينها بسبب احتمال انفصال اقليم جنوب العراق المفترض ووقوعه تحت الهيمنة الايرانية.
على ان من المحتمل ان تكون تصريحات المسؤول العسكري الايراني، في هذا الوقت الذي تزداد فيه الضغوط على الحكومة الايرانية على خلفية برنامجها النووي، محاولة لرفع الضغط عنها والتلويح باستخدام نفوذها في العراق، سواء على المستوى الرسمي من خلال علاقتها "المتينة" مع حكومة المالكي، او بدعهما للحركات المسلحة في العراق، من اجل خلق فتنة طائفية-سياسية، وربما اشعال فتيل حرب اهلية ربما يتوسع مداها لتشمل عموم منطقة الشرق الاوسط. وما تجنيه ايران من ذلك كله هو خلق حالة من الرعب لدى الدول الغربية من تعرض مصادر الطاقة في تلك المنطقة الى الخطر، وتوقف الامدادات النفطية التي تشكل نصف انتاج منظمة اوبك وربع الانتاج العالمي.
ونلاحظ ان هذا التصريح ورد على لسان مسؤول ايراني غير مصنف ضمن الهيكلية الحكومية الرسمية، بمعنى ان من الممكن ان تتنكر له الادارة الايرانية رسميا اذا دعت الضرورة لذلك، رغم انه يعكس وجهة نظرها في واقع الحال. وهذا التحايل السياسي يساعد في ارسال الرسائل المطلوبة دون الحاجة الى تحمل تكلفتها.
وليس على الحكومة العراقية ان تبحث عن تبريرات من داخل العراق عمّا يتفوه به مسؤولون في الدول المجاورة، بل عليها ان تتصدى لهذه التصريحات وتعاملها بالطريقة المناسبة مهما تكن متانة العلاقات بين البلدين. واذا كان المالكي قد فشل في مناسبات ماضية في ترويض الرغبة الايرانية بالحد من سلطته، والتقليل من هيبة الدولة العراقية، فان الفرصة سانحة اليوم ليشجب باقوى العبارات هذه التصريحات، ويستدعي السفير الايراني لتسليمه مذكرة احتجاج، بل وحتى استدعاء السفير العراقي في ايران.
اما السكوت واتخاذ موقف مهادن، والقاء المسؤولية على تلك القائمة وهذا الحزب، فسيؤكد ما ردده منتقدو الحكومة الحالية طيلة مدة عملها بانها "خاضعة للنفوذ الايراني"، مستشهدين بموقف العراق تجاه سوريا في الجامعة العربية، حينما خالف كل من العراق ولبنان اجماع الدول العربية على معاقبة وتعليق عضوية النظام السوري، الحليف المتين النظام الايراني. لعل هذا هو اكبر امتحان امام المالكي اجتيازه ليثبت قدرته على توحيد الصف العراقي، وامامه فرصة لاستعادة موقعه القيادي واحباط محاولات تنحيته، لكن عليه ان يواجه حلفاء طالما ساندوه في الماضي، وهذا امتحان عسير.

Wednesday, January 18, 2012

ما فرص نجاح المؤتمر الوطني؟

دعا السيد رئيس الجمهورية، جلال طالباني، إلى عقد مؤتمر وطني لمعالجة الوضع السياسي المتأزم في العراق إثر صدور مذكرة القبض بحق نائب الرئيس، طارق الهاشمي، وطلب رئيس الوزراء، نوري المالكي، سحب الثقة عن نائبه، صالح المطلك. القائمة العراقية رأت في هذه التطورات استهدافاً لها ومحاولة لعزلها عن الساحة السياسية، فعملت على الانسحاب من الحكومة والبرلمان احتجاجاً على ذلك.
لكن عزيمة المالكي لم تهن، وأصرّ المرة تلو الأخرى على انه إنما ينفذ أمر القضاء. فبعد أن صدرت المذكرة بتوقيع قاض واحد، وهذا كافٍ من الناحية القانونية، فان الحكومة عمدت إلى تحويلها إلى خمسة قضاة لتأكيد صحتها، ومن ثم نظر فيها أحد عشر قاضياً، وجاءت النتيجة كما المتوقع: المذكرة صحيحة. وذهب المالكي إلى أبعد من ذلك حين تحدث للقنوات الفضائية مؤكداً إن مجلس القضاء الأعلى "هدده" بإصدار مذكرة قبض بحقه إن لم ينفذ مذكرة القبض بحق الهاشمي. ومن المعروف إن القضاء لا يصدر أوامر من تلقاء نفسه، بل بطلب من جهة تنفيذية (أي المدعي بالحق العام) أو من الشخص الذي وقع عليه الضرر (أي المشتكي) بعد تقديم الأدلة الكافية، ونحن لا نعرف أياً من هؤلاء لديه الرغبة في الادعاء على المالكي بالتقصير في تنفيذ مذكرة القبض المشار إليها، أو انه يملك الدليل على ذلك.
على كل حال، إذا كان المقصود من المؤتمر الوطني "الذي رفعت جلساته للأسبوع المقبل" أن يعمل على تقريب وجهات النظر ووضع حلول للمشاكل العالقة، فان قضية الهاشمي لا يمكن أن تكون – نظرياً– إحداها. فبعد كل هذا التصعيد الإعلامي، وتأكيد كافة الأطراف على استقلالية القضاء، فان من الصعب رؤية حل سياسي ما يؤدي إلى تمييع أو حفظ أو تجميد الدعوى القضائية بحق الهاشمي. يمكن الاتفاق على إجراء المحاكمة في مكان آخر غير بغداد، ويمكن الاتفاق على شخوص القضاة، لكن هذا أكثر ما يمكن أن تحصل عليه القائمة العراقية لمساعدة أحد رموزها. ولكن ماذا عليها أن تقدم للحصول على ذلك؟ ربما يتوجب عليها إعادة نوابها إلى البرلمان ووزرائها إلى الحكومة كإجراء أولي، لكن عليها أيضا أن تتنازل عن بعض مطالبها السابقة، مثل تشكيل مجلس السياسيات العليا، وحصولها على وزارة الدفاع. لقد نجح رئيس الحكومة في دفع خصومه إلى موقع الدفاع، وبالتالي فان كل ما يمكن أن يحصل عليه هؤلاء هو محاولة استعادة جزء من موقعهم السابق. ومن ثم، فان المالكي يكون قد حصل على مكسب آخر، مهما يكن طفيفا، إلا انه مهم.
وقد كانت هذه السياسة نهجا ثابتا له منذ أن تسنم منصبه قبل ست سنوات، وظهرت بشكل جلي بعد الانتخابات الأخيرة، حيث استغرق تشكيل الحكومة برئاسته فترة حوالي عام كامل قبل أن يصادق عليها البرلمان. من بين الأزمات التي ساهم في إثارتها قضية اجتثاث بعض المرشحين، واغلبهم من القائمة العراقية، بحجة انتمائهم إلى حزب البعث المنحل. وكان من بين المجتثين السيد صالح المطلك. لكن الصفقات السياسية التي جرت خلف أبواب مغلقة قلبت هذه المعادلة، لنجد المطلك نائباً لرئيس الوزراء، وهو ما اعتبرته (العراقية) نصراً لها. والواقع إن المالكي استطاع ببراعة أن ينزع شوكة القائمة العراقية من خلال إيهامها بالحصول على مكاسب وإرغامه على القبول بشخصيات لا يحبها كثيراً. هذا الوهم الذي تلبست به (العراقية) أدى بها إلى التواني عن المطالبة بتشكيل مجلس السياسيات العليا، والإسراع بتعيين أحد مرشحيها وزيراً للدفاع.
لا يزال أمام المؤتمر الوطني فرصة للنجاح، لكنها محدودة. فأحد أهم عوامل نجاحه أن يحضر الجميع بنية الاتفاق، وان يبدأ ببحث ما يريده الشعب أولاً. فليست قضية الهاشمي هي ما يؤرق هذا الشعب المسكين، بل مشاكل أكثر عمقاً وتأثيراً من تقديم الخدمات الأساسية إلى توفير فرص العمل وإعادة الإعمار بشكل جدي. والشعب يرى أن استمرار الأزمة، كائنا من يكون مُسببها، يؤدي إلى مزيد من التقصير من جانب حكومته. نعم، يتوجب حل المشاكل السياسية من أجل تصفية الأجواء بين رموز السلطة، لكن الكل يعلم أن ليس من وصفة جاهزة لحل أزمات السلطة. لذلك قد يكون من الأجدى السعي إلى إبطال هذه الأزمات من أساسها.
وأرى أن على (العراقية) ان لا تسعى الى الحصول على صفقة للسيد طارق الهاشمي، بل إن تقدمه إلى القضاء من أجل محاكمة تكون علنيتها ضمان نزاهتها. بدلاً من ذلك على العراقية أن تطالب بتشكيل مجلس السياسيات العليا المنصوص عليه في اتفاق تشكيل الحكومة الحالية المعروف بـ(اتفاق أربيل) فوراً. وقد لا يكون هذا المجلس مهماً من الناحية القانونية، لكنه سيشكل أهمية بالغة من الناحية السياسية. فحكومة الشراكة الوطنية التي يتزعمها المالكي تعاني تفكك تلك الشراكة بفعل النزعة الانفرادية لرئيس الحكومة. وعلينا أن نعي بأن رغبة التفرد بالحكم، لدى أي حاكم وفي أي نظام، هي غريزة أساسية لا يحد منها سوى رقابة شركائه في الحكم. فان غاب دور الشركاء، فما من رادع لتلك الغريزة. كما إن على (العراقية) أن تطرح مسالة تجديد الثقة بالحكومة مكتملة خلال سقف زمني محدد.
من جانب آخر، فان من المهم الاتفاق على ايقاف التصعيد الاعلامي الذي يقض مضجع المواطن العادي من آن لآخر. فغير واحد من النواب من كل الاطراف المتصارعة خرج على شاشات الفضائيات محذرا من الفتنة الطائفية والانزلاق نحو الحرب الاهلية، والعياذ بالله. ان قول مثل هذه العبارات قد يكون مجرد تحذير يراد منه اخذ موقف سياسي من قضية ما، لكنه يقع على رؤوس افراد الشعب مثل الشهب المتساقطة من السماء. فليس بمقدور احد تصور حال البلاد ان هي ذهبت بالاتجاه الذي يرسمه لنا ساستنا البواسل، الا هؤلاء الذين خبروها وشهدوا مآسيها. يجب ان ينجح المؤتمر الوطني في ان ينزع فتيل الازمة الراهنة، ويجب ان يضع آلية لنزع فتيل اية ازمة لاحقة، وهذا افراط في التفاؤل، لكن علينا ان نكون متفائلين مقابل كل هذا التشاؤم الذي يسود الاجواء.

Thursday, December 29, 2011

حكومة الأغلبية السياسية.. انفراد بالسلطة أم انقلاب على المحاصصة؟

بعد تسارع الاحداث السياسية في العراق إثر إصدار مذكرة القبض بحق نائب الرئيس، طارق الهاشمي، وطلب رئيس الوزراء، نوري المالكي، سحب الثقة من نائبه لشؤون الخدمات، صالح المطلك، تحدث البعض عن بوادر انفراد في السلطة يعكف رئيس الحكومة على تكريسها، بينما شدد البعض الآخر على أن المالكي إنما يسعى لإقامة دولة المؤسسات التي لا يعلو فيها شخص مهما يكن منصبه أو انتماؤه السياسي على حكم القانون.
والواقع إن توقيت إثارة هذه الأزمة ربما يزيد الأمور غموضا. فهل كان المالكي ينتظر إتمام القوات الأميركية انسحابها كي ينقض على الخارجين على القانون أم أن الأدلة على تجريمهم برزت في هذا الوقت بالذات؟ يقدم لنا رئيس الوزراء دليلا على أن اتهامه نائب الرئيس لم يكن وليد الساعة، حينما قال في مؤتمر صحفي إن لديه "ملفاً" عن الهاشمي كان قد قدمه إلى الرئيس جلال طالباني قبل ثلاث سنوات. ويبدو أن هذا الأخير لم يقتنع بما ورد في الملف فردّه عليه، كما أن الأول لم يجد حيلة في حفظ الملف وعدم اتخاذ إجراء قانوني. الأمر كما يبدو سياسي بامتياز، إذ أن واجب القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يحارب الإرهابيين والمجرمين، وان كان لديه دليل على احدهم فحفظ ملفه لأسباب سياسية هو فشل في تنفذ الواجب المنوط به.
على كل حال، جلب النقاش حول هذه المسألة بالذات أفكارا كانت تطرح من حين لآخر، ولكنها برزت بقوة هذه المرة. فالمالكي اليوم يريد أن يحصل على حكومة أغلبية برلمانية بعد أن أعيته حكومة المشاركة الوطنية، أو (المحاصصة) كما أصبحت تعرف في الآونة الأخيرة. وهذا الطلب يجب ألا يؤخذ باستخفاف، وإنما هو حق. فالمحاصصة قيدت إلى حد كبير من قدرة الحكومة على التصرف إزاء المهمات المنوطة بها. وقد استحالت بعض الوزارات إلى حكومات بحد ذاتها، ولم يعد بإمكان رئيس الوزراء التدخل فيها بسبب القيود الموضوعة في أصل الاتفاق الذي أفضى إلى تشكيل الحكومة.
على أن الدستور لم ينص صراحة على توزيع المناصب بين الطوائف والأعراق بشكل محدد، ولكنه أكد ضرورة أن يتم توزيع السلطات بين كافة الأطياف حرصا على الوحدة الوطنية. وهذا هو مبدأ حكومة الوحدة الوطنية، أو المشاركة. لكن التطبيق العملي حوّل هذا اللفظ، أي (المشاركة) إلى المصطلح الأكثر بغضا لدى الشعب العراقي ألا وهو لفظ (المحاصصة).
وقد حدد الدستور كيفية انتخاب رؤساء البرلمان والجمهورية ومجلس الوزراء في مواد محددة، هي: المادة (53(، وتنص: "ينتخب مجلس النواب في أول جلسةٍ له رئيساً، ثم نائباً أول ونائباً ثانياً، بالأغلبية المطلقة"، والمادة (67) أولا، وتنص: "ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية، بأغلبية ثلثي عدد أعضائه"، والمادة (73) أولا، وتنص: "يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية"،
وهكذا، فان العقبة الرئيسة تكمن في انتخاب الرئيس، لان من الضروري الحصول على أصوات ثلثي المجلس النيابي. وهذا الأمر لن يكون سهلا إن أراد أي طرف أن يسعى إلى تشكيل حكومة الأغلبية السياسية. فعقد التحالفات بهذا الحجم للحصول على الأصوات اللازمة سوف يستغرق وقتا طويلا، وربما لا يوجد سقف للمطالبات التي سوف يتم التقدم بها. وبدون التوصل إلى انتخاب الرئيس لن يكون ممكنا تكليف رئيس للوزراء. ويمكن نظريا أن يُصار إلى انتخاب رئيس السلطة التشريعية بمعزل عن هذه التركيبة في السلطة التنفيذية، ولكن طالما كان المنصب سياديا فان تسمية من سيشغله لابد من أن يدخل في إطار مناورات تشكيل فرعي السلطة التنفيذية: رئاسة الدولة ورئاسة مجلس الوزراء. يضاف إلى هذا إن الدستور نص في المادة (67) رابعاً على: "يعرض رئيس مجلس الوزراء المكلف، أسماء أعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزاً ثقتها، عند الموافقة على الوزراء منفردين، والمنهاج الوزاري، بالأغلبية المطلقة". مما يجبر رئيس الوزراء على استشارة الكتل السياسية المشاركة في ائتلافه قبل تسمية أي وزير. إن هذا في نظري عيب كبير في الدستور، يجب تداركه وتعديله حتى تستقيم العملية السياسية. فإذا أريد من صاحب اكبر الصلاحيات في الدولة أن يتحمل مسؤولياته علينا أن نمكنه منها. على أن السيد رئيس الوزراء كان واعيا لهذا الأمر فطلب أن يُمنح صلاحية اختيار الوزراء من بين عدة مرشحين كل وزارة، ثم طلب تأجيل تعيين الوزراء الأمنيين، وكان له ما أراد. وحينما حصلت المصادقة على حكومته كان في الحقيقة قد اكتسب صلاحيات اكبر من التي منحها له الدستور، وهو الأساس الذي يبني عليه المدعون عليه بالتفرد بالسلطة.
من هذا يتبين لنا إن منصب رئيس الوزراء نفسه كان من ضمن المحاصصات اللازمة لتشكيل حكومة قابلة للتمرير من قبل البرلمان. فإذا أراد السيد رئيس الحكومة أن ينقلب على المحاصصة، وهو أمر مشروع، فيجب العودة بعملية تشكيل الحكومة إلى المربع الأول. اذ لا يمكن اليوم أن يتم رفض الطريقة التي وزعت بها المناصب السياسية بين الفرقاء، مع الاحتفاظ بمنصب رئيس مجلس الوزراء للسيد المالكي. لابأس في أن يبادر رئيس الحكومة في طلب سحب الثقة عن حكومته، وان يُعاد تكليفه برئاسة الحكومة الجديدة، إذا التزم بتقديم وزارته كاملة إلى مجلس النواب، الذي سيكون له القول الفصل، حسب الدستور، في قبول كل وزير أو رفضه. أما أن يعمل الآن على ترقيع حكوماته الممزقة بالنزاعات الحزبية من خلال إزاحة مناوئيه إلى موقع المعارضة، وتعيين مؤيديه بدلا منه، فلم يعد أمرا ممكنا في الظرف الراهن.
بالمقابل، فان الأحزاب والكتل التي تختار أن تحتل موقع المعارضة يجب أن تكون قادرة على ممارسة دورها في تصحيح مسار الحكومة، التي هي في هذه الحالة حكومة الأغلبية. ولابد من توافر الحد الأدنى من الثقة بين كافة الأطراف السياسية، وان تظهر التزامها بأحكام الدستور، حتى يمكن لنظام حكومة الأغلبية أن ينجح. وللأسف لا أرى أن هذين الشرطين متوافران حاليا.
لقد كانت نية مشرع الدستور أن يمنع أي مسؤول من التفرد بالقرار، خصوصا بعد أن عانى العراق من الدكتاتورية عقودا طويلة. لكن الطموح إلى السلطة تمكن من معظم المشاركين في العملية السياسية، حتى أعماهم عن إمكانية وقوع هذا الخطر بالآليات ذاتها التي تمنع وقوعه. وقبل توجيه الاتهام إلى شخص المالكي، على الأطراف السياسية أن تسأل نفسها: ما الذي جرى ليصل الأمر إلى هذا الحد؟ كيف يمكن لبلد دمرته الحروب والمآسي الطويلة، وتشرد أبناؤه في أصقاع الأرض، ونضبت خيراته الوفيرة، كل ذلك على يد شخص واحد انفرد بالسلطة، أقول كيف يمكن ألا تعمل جميع الأطراف من اجل أن تمنع حصول ذلك مجددا؟ يُقال: لولا النسيان لهلك الإنسان، وربما في حالتنا يمكن تعديل هذا القول ليصبح: لولا النسيان لهلك السلطان، فلربما نحصل على الإجابة عن تساؤلاتنا.