تداولت وكالات الأنباء بيانا صحفيا صادرا عن مكتب رئاسة الوزراء يقول فيه السيد المالكي إن العراق "يؤيد التغيير في سوريا" مبيناً أن " التغيير ضرورة والأوضاع فيها لن تستقر من دونه". وهو تبدّل لافت لموقفه المعلن سابقا تجاه الأزمة السورية، وخصوصا تصريحه في المؤتمر الصحفي الذي جمعه والرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، حينما قال: "ليس لدينا الحق بدعوة رئيس للتنحي، لا يمكننا منح أنفسنا هذا الحق"، وذلك قبل أكثر من شهرين بقليل.
فما الذي تغيّر في هذه الفترة القليلة حتى ينقل السيد نوري المالكي موقفه من جهة إلى الجهة المقابلة؟ ربما يقول البعض إن نظام الأسد قد بالغ في التصدي للثورة التي يقوم بها الشعب السوري، وانه قد حَمل حتى أكثر الناس قربا منه على التخلي عنه والنأي بأنفسهم عن وحشيته المفرطة في مواجهة شعبه الأعزل. ألم ترَ أن بعض الدول العربية قد أصبحت تطالب جهرة بتسليح المعارضة بعد أن طفح بها الكيل، ويئست من أية حلول سلمية أو توافقية لتلك الأزمة التي شارفت على إتمام عامها الأول؟ فليس من المستغرب إذا يتخلى المالكي عن الأسد بعد كل هذا.ومن جهة أخرى يقال إن المالكي قد عقد صفقة مع جامعة الدول العربية مفادها أن يغير موقفه من الرئيس السوري مقابل السماح بعقد القمة المقبلة في بغداد. وإذا كان مثل هذا الأمر حقيقيا فإنه لا قيمة لتلك القمة ولا لمكان انعقادها، ولا حتى لما تتوصل إليه من قرارات. نعم، في عالم السياسة المتحول، تقوم الدول وقادتها وسياسيوها بشراء المواقف، بالمال والسلاح والمعونات ،وبالضغط والترغيب والتهديد والوعيد، وبطرق كثيرة أخرى. لكن تغيير موقف دولة تجاه جارتها مقابل عقد مؤتمر فيها سيكون سابقة، وسيكون قد أخذ بأبخس الأثمان. أقول لا قيمة لقمة تعقد بصفقة مع مضيفها أصلا لأن موقف باقي الدول لن يكون خارج هذه الصفقة بأية حال، وسيكون لكل صوت ثمن، مع حاجة الكثير من الدول العربية إلى صفقة من نوع أو آخر.
لكن من الراجح إن دول الخليج العربية أعربت في مداولات خاصة مع حكومة المالكي عن قلقها حيال موقف العراق من الأزمة السورية. فهل كان المالكي يسعى لتهدئة تلك الهواجس قبل القمة من اجل ضمان حضور عربي عالي المستوى، وإنجاح أول مؤتمر قمة عربي يعقد في العراق منذ عقود؟ هل انه يستخدم التصريحات العلنية وسيلة لاجتذاب القادة العرب ولو على حساب موقفه المعلن قبل فترة وجيزة؟لقد كان تصريح المالكي في البيت الأبيض غريبا في الأساس. ففي حين انه استهجن دعوة الأسد إلى التنحي، كان مضيفه، باراك أوباما، قد فعل ذلك بالفعل مرارا وتكرارا، كما وجهت الكثير من الدول الأوروبية وعدد من الدول الأخرى دعوات مماثلة للرئيس الأسد لمغادرة منصبه، سواء كان الغرض من تلك الدعوات التخلص من نظام الأسد، أو حقناً لدماء الشعب السوري. ولا يمكن لنا أن ندّعي أن المالكي أكثر منهم خبرة في القانون الدولي، أو أطول منهم باعا في السياسة الدولية. ولو عمل العالم بنصيحة المالكي بعدم دعوة الرؤساء للتخلي عن مناصبهم، لما كان هو اليوم في السلطة. لذلك قد لا يكون تصريح المالكي تغييرا في الموقف بقدر ما هو تراجع عن تصريحه السابق الذي ربما أراد به التعبير عن استقلالية عن الموقف الأميركي دون أن يقصد حقيقة دعم النظام السوري، خصوصا بعد صدور اتهامات كثيرة بتبعية المالكي لإيران التي تدعم بشكل صريح نظام الأسد. فاليوم يريد السيد رئيس الوزراء أن يعلن استقلاله عن القرار الإيراني بعد أن أوضح استقلاله عن القرار الأميركي قبل شهرين.
إن مسألة عقد القمة العربية باتت اليوم ضرورة ملحة بعد أن طال تأجيلها لأكثر من عام. وإذا كانت ظروف التأجيل مازالت قائمة، فإن على الدول العربية أن تمضي قدما في الالتئام تحت راية جامعتها بأي حال. فالثورات العربية المتزامنة، وتغير الأنظمة الحاصل يفرض على كل الأنظمة العربية أن تسعى إلى تفعيل منظومتها الإقليمية لمنع التأثيرات الوخيمة لاحتمالات الحرب الأهلية في غير واحدة من هذه الأقطار. كما أن استحقاق العراق في عقد القمة ليس محل مساومة، والمالكي يدرك ذلك جيدا. ولكنه بنفس الوقت يرغب في تفعيل دور العراق في منظومة العمل العربي المشترك، ولا يريد أن يظهر بمظهر المعاكس لها. لذلك لا أرى أن هناك صفقة وراء عقد القمة في بغداد، ولكنه تفاهم صامت يفهمه كلا الطرفين.
من ناحية أخرى، قد لا تخرج القمة المرتقبة بقرارات مصيرية في ما يتعلق بسوريا. فالقضية السورية أضحت اليوم أمام مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة. وإذا كان مجلس الأمن قد فشل بالفعل في إدانة النظام السوري وتحميله مسؤولية أفعاله المشينة تجاه شعبه، فإن المجتمع الدولي سيواصل التحرك لحين التوصل إلى صيغة توقف حمّام الدم في سوريا، وترغم الرئيس السوري على الانصياع لرغبات شعبه. ربما ستكون القمة العربية قضية بروتوكولية ولكنها ستبقى مهمة من الناحية الستراتيجة، بما يتوقع منها أن تناصر الشعب السوري وأن تقدم الدعم للقرارات الوزارية السابقة لمجلس الجامعة القاضية بتعليق عضوية النظام السوري وفرض العقوبات الاقتصادية عليه. وإذا تم هذا فإن التفاهم الصامت بين العراق والجامعة العربية سيكون قد أنجز على خير وجه.