إذا كانت وقائع التاريخ تميل إلى تكرار نفسها، فلا أوضح دليلا على ذلك من مسلسل الأحداث الذي رافق ثورات العالم العربي، منذ بدئها في كانون الثاني من العام الماضي وحتى اليوم. فالأنظمة التي ثارت عليها شعوبها أضحت اليوم، باستثناء النظام السوري، خارج الحكم بكل الطرق الممكنة:
الرئيس التونسي هرب إلى الخارج، والرئيس المصري تنحى "طوعيا" عن السلطة وهو قيد المحاكمة، والرئيس اليمني قـَبل صفقة وساطة خليجية-عربية لخروج مُشرف من السلطة. أما الرئيس الليبي معمر القذافي فقد لقي المصير الذي بشـّر به زملاؤه قبل بضع سنين فقط: قتلا على يد الثوار. فهل كان للنظام السوري من عِظة في كل هذا؟ لا يبدو ذلك. فالرئيس السوري، الذي يريد أن يفرض سلطته بكل ما أوتي من قوة، لم يستطع أن يتفهم طبيعة المرحلة، وكيفية التعامل مع الحركات الاحتجاجية منذ بدأت. وقد اتخذ من طريقة تعامل والده حافظ الأسد مع الاحتجاجات المماثلة في الثمانينات من القرن الماضي مرشدا له دون أن يعي طبيعة التغيير الحاصل منذ ذلك الحين، خصوصا مع تقدم وسائل الاتصال وسرعة نقل الخبر، إضافة الى سرعة التواصل بين المحتجين وإمكانية تنظيم الصفوف بطريقة أكثر منهجية، وتأليب الرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي. وعلى الرغم من محاولات النظام السوري إظهار نفسه بمظهر المصلح، وإقرار الرئيس بشار الأسد العلني بضرورة اجراء اصلاحات سياسية، تشمل إقرار نظام التعددية الحزبية وانهاء احتكار حزب البعث للسلطة في سوريا، إلا أن طرح هذه الإصلاحات جاء متأخرا كثيرا، وجرى تبسيط طرحها الى درجة السذاجة، كما أنها تميزت بالتعالي وعدم الاعتراف بالطرف المناوئ. إلا أن أكثر ما يدعو قوى المعارض الى الاستخفاف بها هو عدم ثقتهم بأنها حقيقية، خصوصا مع عزوفها عن مناقشة موقع الرئيس في النظام الجديد. ونتيجة لقصور الوعي لدى الفئات السياسية الحاكمة في سوريا بطبيعة المرحلة، فإن سقف المطالبات الشعبية قد ارتفع الى حد المطالبة بإسقاط النظام، وهي حركة التاريخ التي يحلو لنا أن نطلق عليها "الحتمية التاريخية". ولكن إذا كان النظام السوري يعي تلك الديالكتيكية الحتمية، فلابد انه أصبح يحاول ان يتمثل النماذج المماثلة في التاريخ، التي ربما كتب لها النجاح في ظروف معينة. فلربما يرى سياسيو دمشق أن حركة التاريخ كانت ضد نظام صدام عقب غزوه الكويت، وان كل المؤشرات في ذلك الوقت كانت تشير الى سقوطه الوشيك، لكنه استمر نيفا وعقد من الزمان بعد ذلك. وان افترضنا جدلا أن مثل هكذا سيناريو ممكن اليوم، فان من الصعب تصور بقاء نظام الأسد كل هذه الفترة الزمنية. قد يفرض توازن القوى بين الشرق والغرب، والخوف من تهديد المتطرفين إن تمكنوا من الاستيلاء على السلطة في سوريا، قد يفرض منطق "تسويف القضية"، لكنه لن يصمد طويلا. فلم تعد الحرب الباردة هاجس القوى العظمى، ولم يعد الغرب يرى في "المد الإسلامي" رديفا للإرهاب والتطرف. واليوم، مع تصاعد الحراك السياسي العربي من خلال الجامعة العربية، والعربي-الأممي عبر مجلس الأمن، فان موقف النظام السوري بات في اشد حالاته الدبلوماسية ضعفا، وهي في العادة المقدمة للمزيد من الضعف على المستويين السياسي والعسكري. واذا كانت روسيا والصين قد عرقلتا إصدار قرار مجلس الأمن الذي يمهد لانتقال سلسل وسلمي للسلطة في سوريا باستخدامهما حق النقض، فان باقي الدول الأعضاء في مجلس الامن، فضلا عن جامعة الدول العربية، لن تيأس وسوف تجد طريقة تمرر بها قرارا مماثلا من مجلس الأمن. لقد بات النظام السوري يراهن على موقف دولة واحدة يبدو أنها آلت على نفسها حماية الدكتاتوريات حتى تسقط، ألا وهي روسيا. فموقف تلك الدولة التي كانت توصف بالعظمى من سوريا اليوم ينسجم مع موقفها من كل من العراق ويوغسلافيا وليبيا تحت حكم الطغيان في السابق، ولكنها تنحت جانبا آخر الأمر لتترك الأمور تسير في مجراها الطبيعي. ومن غير الواضح سبب دعم روسيا للنظام السوري كأولوية جيوبوليتكية. فسوريا ليست دولة مصدرة للنفط أو مصادر الطاقة الأخرى، كما أنها ليست سوقا رئيسة للمنتجات الروسية، باستثناء قطاع التسليح العسكري. وسوريا ليست مجالا حيويا لروسيا، ولا تشكل بعدا امنيا لها. ومن الراجح أن روسيا إنما تسعى للحصول على مكاسب على حساب النظام السوري أكثر من سعيها لحماية "حليف إستراتيجي".
أمام النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد فرصة لتغيير مسار التاريخ. تلك هي الإعلان الواضح عن العزم على التخلي عن السلطة، والدعوة إلى جمعية وطنية تضطلع بكتابة الدستور، الذي سوف يحول البلاد الى دولة ديمقراطية. وبهذا فانه سوف يستبق الأحداث التي تصنع اليوم في مجلس الأمن، ويمنع روسيا من الحصول على مكاسب من تسويق موقفها اتجاهه، لأنها ستبيعه آجلا إن لم يكن عاجلا. إن هذا السيناريو ليس إفراطا في التفاؤل، وإنما مجرد قراءة تصحيحية للحتمية التي أقحمت القيادة السورية فيها نفسها. أما إذا رفض الرئيس السوري الانصياع لهذا المنطق البسيط، وأمعن في ممارساته التعسفية ضد شعبه، واستمر في ارتكاب المجازر التي تقشعر لها الأبدان، فان عليه أن يتوقع تخلي اقرب حلفائه عنه. وإذا كان على حاملات الطائرات إن تشد الرحال، مرة أخرى، إلى البحر المتوسط قاصدة دمشق، فلن يتعين عليها أن تمر بموسكو. فهل سوف تكون ابتسامة الأسد في مؤتمر قمة دمشق حينما قال القذافي كلمته الشهيرة: "الدور جاي عليكم"، مجرد نكتة أخرى من نكت التاريخ، ويجد بشار نفسه أمام نبوءة طالما سخر منها؟ ليس علينا أن ننتظر طويلا لنعرف الإجابة.