Wednesday, October 31, 2007

التطويع السياسي للاسطورة المدنية

حينما تطلع بنو الانسان القدماء الى السماء وجدوا عددا كبيرا من النجوم التي تتفاوت في شدة لمعانها تدور، في تراتبية زمنية سنوية لا تتغير، حول الارض كما بدا لهم. ولما كانت طبيعة البشر التساؤل، فقد افترضوا ان ذلك كله لابد ان يكون له معنى. ولم تكن لديهم اجهزة او مناظير تقرب لهم الكون الفسيح، فقاموا بتجميع النجوم في ابراج ومجاميع سموها اسماء مختلفة واعطوا لكل منها قصة، اضحت فيما يلي اسطورة توضح الغاية والمعنى من وجود المجوعات النجمية، وقبلها وجود النجوم في السماء، وسبب حركة الكواكب نسبة الى النجوم الثابتة. لقد كانت الاسطورة التي ترويها مجموعة المرأة المسلسلة مثلا حقيقة بالنسبة للناس بنفس القدر الذي تكون فيه النجوم ذاتها حقيقية. لم تكن مجرد اسطورة، بل كانت تفسيرا لظاهرة ومشاهدة لم تتوافر لهم طرق قياس علمية قادرة على رصدها.
غير ان الاسطورة ليست متعلقة فقط في امور نجهلها في السماء، بل انها تمتد لتشمل كل ما نجهل، وكل ما يخرج عن حدود علمنا المحسوس او النظري. بل انها تسشتري حتى مع وجود افكار تنظيرية ومحاولات فلسفية لايجاد تفسيرات علمية. فليس العلم المجرد الا ترفا للانسان العادي، وحتى العلم التجريبي بادواته متفاوتة التعقيد ليس الا ميدانا يخوض فيه القلة الذين عليهم ان يشرحوا بابسط العبارات نتائج عملهم، والاكثر اهمية معنى الظاهرة تحت التجربة، والتطبيقات المفيدة لها او كيفية تجنب مساوئها. وربما يلجأ بعض العلماء الى الميثولوجيا في محاولة شرح ظاهرة ما تعزيزا لوجهة نظر او اسنادا لفكرة. فالميثولوجيا التي تضم اساطير قديمة ليست الا تلخيصا لرغبات ومخاوف البشر، ومحاولات اولية لفهم ما يجري ضمن اطار ادراكي موحد.

الاسطورة مخزن الافكار
يمكن قبول فكرة ان الاساطير هي البديل العملي لغياب التفسير العلمي بشكل مبدئي. ولكن يتوجب الحذر في اطلاق مثل هذه الاحكام. ففي العديد من الاحوال تكون القصة الاسطورية موجهة لخدمة غرض سياسي او ديني او حتى اجتماعي. والسبب في ذلك يعود الى قدرة ورغبة البشر على حفظ ونقل وتبادل الاخبار غير المألوفة على وجه الخصوص. والحديث ان امور غيبية تحدث لابطال ضخام الحجم، واكسير الحياة، والرحلات الى عالم غير معروف، وغير ذلك تنقل الفكر البشري الى مستوى مختلف من الوعي، المستوى الذي يحول الواقع المفروض الى خيال مرغوب، ويمنح الافكار التربة الخصبة لتنمو، فمنها مبدع وفاتن وجذاب ومشوق، ومنها ما لايعدو ان يكون مجرد هلوسات. سوف تقوم الخبرة الجمعية بتمييز الغث من السمين، ولن تتناقل الاجيال –اذا تركت لوحدها بدون نتدخل خارجي– الا تلك القصص المحببة التي تشرح وتبين الاسباب الكامنة وراء الاشياء، وتثبت من العبرة التي تحملها انها افضل وسيلة اتيحت للبشر خلال الفترة السابقة لعصور التنوير للتعليم ونقل المعرفة.
وعلى هذا فان الاسطورة تمثل جزءا من كيان الانسان وتراثه، ولن يكون التفسير العلمي لوحده قادرا على منع الايمان بها. بل ان الاسطورة يمكن لها ان تتغلغل في صلب النظرية العلمية لتملأ الفراغات التي لم تستطع النظرية ان تشرحها، او تركتها لحين توفر معلومات اكثر حول الموضوع. الاسطورة مثل الاعشاب التي تنمو لوحدها في اي مكان تقريبا، وتحت اي ظروف. لكن بعضا من هذه الاعشاب مفيد. ومتى ما كان تدخل الانسان واردا، فانه يحاول ان يحد من العشب الضار ويزيد من العشب النافع. وقد وجدت التجربة الانسانية ان هناك طريقة ناجعة في حمل الناس على الايمان بمبدأ او مثال اعلى من خلال تسطيره وتلقينه عبر الاجيال. تلك الاساطير، حتى في عصر غزو الفضاء وشبكة المعلومات الدولية، ليست الا حكمة موجهة تنذر وتحذر من عواقب تصرف خاطيء، او تحث وتبشر بمردود تصرف صائب. ومعلوم ان الخطأ والصواب هنا انما تكتسب معناها من ممارسة المجتمع لها، ومقدار المنفعة او المضرة العامة التي تنجم عنهما. وليس معنى ذلك ان الخير والشر نسبيان، بل ان النفع والضرر هما اللذان ينسبان الى المكان والزمان.
وقبل ان نحاول سبر التأثير السياسي على الاسطورة، سنعرض فيما يلي الى مجموعة من الاساطير الحديثة، التي يطلق عليها ايضا مصطلح الاساطير المدنية Civil Legends ونحاول ان نتفهم الغاية منها والدرس والحكمة التي تحاول ان تطلقها:

السائق الساذج
استأجرت امراة حامل على وشك الولادة سيارة اجرة لايصالها الى مستشفى الولادة. ولانها وحيدة ترجوه ان يرافقها في المستشفى لحين الوضع، ويقبل السائق ان يقدم المساعدة مدفوعا بالشفقة عليها وحبا في فعل الخير. غير ان المرأة تصرح ان والد ابنها المولود حديثا هو الرجل الذي رافقها عند دخولها المستشفى. وتثور ثائرة الرجل الذي يأبى ان يفرض عليه ابنا بهذه الطريقة، فتقوم المرأة بتقديم شكوى الى المحكمة، التي تأمر بفحص خصوبة الرجل. وهنا يأتي الجزء الاكثر تشويقا، وهو ان نتائج الفحص تؤكد ان الرجل عقيم ولا يمكن ان يكون له اولاد. ان ذلك كاف لاثبات برءاته من دعوى المرأة، ولكنه سوف يفتح ابوابا ما كان لها ان تفتح ابدا، فالرجل متزوج وله اولاد وبنات. يحمل الرجل الخبر الذي برأه ليلقيه على زوجته كالصاعقة، والتي لا تجد مناصا من الاعتراف بانه ليس والد ايا من ابنائه.
هذه القصة الاسطورية محبوكة لتنقل لنا العديد من القيم، نوجزها فيما يلي:
1- لايمكنك ان تخبيء سر الى الابد، سيظهر شيء ما في وقت ما يفضحك.
2- لا تثق بالنساء، فالتي تريد مساعدتها قد تفتري عليك، والتي تعيش معها قد تخونك.
3- لا تكن طيبا الى درجة السذاجة، اذا كانت المرأة حاملا مـُقربا فلابد ان هناك من يرافقها سواك.
4- يمكن لحادثة واحدة ان تغير حياتك بشكل ملحمي، بحيث تتمنى لو لم تحدث ابدا. ربما عليك ان ترفض فحص الخصوبة اذا كانت ابا بالفعل، الا ترى نتيجة ذلك؟

الشرطي المتفاني
يمر الناس الواحد تلو الاخر في طريقهم الى الدخول الى المبنى الحكومي المحصن عبر بوابة ضيقة يشرف عليها شرطي يقوم بتفتيش الوافدين بيده. وبينما هو يتفحص احدهم يتعرف الى ملامح حزام ناسف يحمله ذلك الشخص، وبينما يحاول ان ينزع هذا السلاح الرهيب يسارع الانتحاري الى اطلاق الصاعق، فما يكون من الشرطي الا ان يحتضنه ويرمي به ونفسه جانبا ليموت واياه مقللا الخسائر، ان لم يكن بالامكان منعها اصلا.
جوهر القصة ينطوي على المعاني التالية:
1- الانتحاري سلاح لا يمكن تجنبه وان أمكن كشفه.
2- الشرطة متفانون لدرجة التضحية بالنفس ان استوجبت الضرورة.
3- الارهابيون يسبقون القوى الامنية بخطوة واحدة على الاقل تتمثل في استغلالهم للانتحاريين الذين ليس لديهم شيء يخسروه.

البقال اليهودي
جلس البقالون في سوق الخضار متعجبين من تزاحم المتبضعين حول محل البقال اليهودي الذي يبيع الطماطم. ورغم انهم يعرضون نفس النوع وبذات الجودة الا انهم لا يكادون يبيعون شيئا منها. وحينما استطلعوا الامر وجدوا ان البقال اليهودي كان يبيع الطماطم بسعر التكلفة، مما اثار تساؤلات عن الغاية من ذلك، ولماذا يقوم هذا الرجل ببذل جهده في التجهيز والعرض والوزن والبيع ليجد نفسه غير رابح لشيء في النهاية. وفي آخر النهار قرروا ان يواجهوه باسئلتهم ليفهموا ما يجري وكيف لهم ان يتصرفوا ازاء ذلك. وبالفعل توجه نفر منهم عندما اقترب مغيب الشمس ليسألوه عن سبب بيعه المحصول بلا ربح، فاجاب ببساطة: من قال اني لا اربح؟ قالوا: كيف لك ان تربح وانت تبيع بسعر التكلفة؟ قال: الامر بسيط، انا اربح من بيع الصناديق الفارغة! وطالما انه يبيع اكثر من غيره، لانه يبيع ارخص من غيره، فان عدد الصناديق الفارغة سيكون كبيرا وبالتالي سيكون الربح وفيرا.
هذه القصة، التي تحكي عن عصر مميز من التنوع العرقي والديني في العراق، ربما تضمنت الاهداف التالية:
1- قد لا يكون الربح دائما بحسابات تقليدية، عليك ان تكون خلاقا في ايجاد وسائل للتنافس الاقتصادي.
2- الشخص الذكي شخص مختلف، يهودي في هذه الحالة.
3- كما ان الشخص الذكي قد يكون مكروها، رغم الحاجة اليه، تمثلها الكراهة التقليدية لليهود.

هذه ثلاثة اساطير تمثل ثلاثة خطوط: اجتماعي، وسياسي-امني، واقتصادي. ونحن نستطيع ان نجد من تلك القصص امورا مشتركة، نوردها فيما يلي:
1- تشكل الاسطورة الملحمية العنصر الاساس فيها، حيث لا يتوجب تقديم دليل ما على صحة ما ورد فيها.
2- هناك عبرة مستخلصة، تفوق الحبكة الدرامية للقصة، تجعلها محط التركيز والاهتمام، وبما يفوت الفرصة على النقد وحتى التشكيك في امكانية وقوع الحدث بالشكل المروي.
3- انكار وقوع مثل هذه الاحداث لا يغير من الامر شيئا. يمكن دائما تصور وقوعها ولو على سبيل الفرض، وبالتالي فافتراض صحة وقوعها يطغى على ما سواه، ومن ثم تكون غاية الرواية اولى بالاعتبار.

من الاسطورة الى الامثال الشعبيةان هذه العناصر تشكل معنى الاسطورة وروحها، وتمثل دروسا توجيهية للمجتمع، بمختلف مراحله العمرية، وتمايزاته الاقتصادية، وتنوعه الثقافي وحتى الاثني. هذه الاساطير تمثل احد تجارب المجتمع التراكمية التي تتحول بتقادم الزمن الى امثال تـُقال، ثم تـُشرح فيما يلي بالقصة التي بسببها قيلت. فمثلا يمكن ان يضرب المثل بسائق سيارة الاجرة (ولنطلق عليه اسما ما مثل كريم) فيقال، بعد عقود من السنين: "اكثر سذاجة من كريم السائق"، وعن زوجته: "أخون من زوجة كريم السائق". وربما يذهب الشرطي الشهيد مثلا بالقول: "أشجع من شرطي التفتيش"، واليهودي في الذكاء: "اذكى من اليهودي البقال".

من الاشاعة الى الاسطورةان الاسطورة المدنية تمثل حاجة اجتماعية ووسيلة تعليمية غير مؤذية عموما، ما لم تستخدم بشكل واع ومتعمد لاثارة مخاوف وهواجس الناس، بغية السيطرة عليهم وتوجيههم بالطريقة التي يراها مروجوها، سواء كانت السلطة الحاكمة او احزاب او تنظيمات سياسية معينة تسعى للهيمنة على المجتمع في سعيها لتولي السلطة. وهي بذلك تتحول الى ما نطلق عليه الاشاعة، وتضيع القيمة التعليمية والخلاصة المعنوية لصالح اهداف مرحلية وغايات سياسية لا تعيش اكثر من عمر اصحابها. وربما تدوم القصص الموجهة سياسيا اكثر من ذلك بسبب تركزها في عقول الناس وبالتالي تتحول الى اداة سلبية تحبط من العزم، وتثبط الهمم، وتشيع جوا من السوادوية والكآبة والشعور بالذنب والرغبة في جلد الذات، او حتى عقدة النقص الجمعية وتقديس تفوق الاخر كنتيجة لذلك.
هذا الخطر الذي تنطوي عليه مثل هذه الاشاعات التي تتحول الى اساطير مدنية سلبية لا يقل باي حال عن منع التعليم عن الاطفال في المدارس، فهو اضافة الى ذلك، اشاعة للجهل لدى الراشدين كذلك. وفي مجتمع قابل للخضوع بسهولة لمثل هذه الاساطير تكون مسؤولية التنوير ورفع الوعي العام كبيرة من قبل اجهزة الدولة (المبنية ديمقراطيا)، ولكن بنفس الدرجة ايضا على المثقفين والمبدعين ووسائل الاعلام. ونحن نجد ان قسما كبيرا من هذه الفئات اليوم يؤمن بنظرية المؤامرة، التي هي ليست الا انعكاس اخر لاسطورة سلبية لا يمكن التحقق منها ومع ذلك توصل غاية تعليمية مفادها ان الآخر عدو مهما فعل ومهما بذل في سبيل التقرب الينا. وعلى هذا فان مسؤولية المثقف يجب ان تكون نقدية قبل ان تكون (ترديدية)، بمعنى ان الواجب، في ضوء ما تقدم اعلاه، ان نفحص القصص المتواردة، خصوصا الاقرب الينا تاريخا، لنسبر الغاية منها، ونتعرف على اتجهاها العام، وفيما اذا كانت مجرد تجربة اجتماعية تتطور الى اسطورة ومن ثم حكمة ملخصة بلاغيا على شكل مثل او قول ماثور، ام انها وضعت عن عمد متخطية السلسلة الثقافية الطبيعية للمجتمع، ومن ثم تـُسير سياسيا للسيطرة على هذه السلسلة ذاتها واخضاع المجتمع لتوجهات محددة تفرضها قوى داخلية او خارجية او مشتركة بينهما، تعمل على خفض مستوى الادراك والتقليل من حجم المعارضة المحتملة من خلال تغييب الوعي العام. هذه المسؤولية ينبغي ان تكون ذاتية اولا قبل ان تكون تضامنية او تكافؤية. ومع اعتبار الكل منفعلا، فلابد من وجود اجزاء غير منفعلة تماما، تكون لها القدرة على ان تكون فاعلة مقابل اجزاء اخرى قدّر لها ان تكون فاعلة دوما.

Sunday, July 22, 2007

هل من فائدة في رفع سعر الدينار مقابل الدولار؟

يسعى البنك المركزي العراقي، بتوجيه من وزارة المالية، منذ عدة اشهر الى دعم سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي بالتدريج. وقد اوضح وزير المالية ان ارتفاع قيمة الدينار مقابل الدولار يمثل نصرا ومكتسبا للحكومة، اضافة الى كونه انجازا لوزارته بالذات.
ولا يختلف اثنان ان ارتفاع قيمة الدينار تمثل مؤشر ايجابي لاداء الحكومة لو انه حدث بشكل طبيعي. فالواقع ان سعر صرف العملة في الدول التي تعتمد نظام السوق الحرة يحدده مقدار الطلب والعرض. اي ان العملة تخضع لنفس قوانين السوق كونها "سلعة" معروضة للتداول. لكن الاختلاف يكمن في مدى تدخل الدولة في تقدير سعر الصرف من ناحية تأثير ذلك على "حرية" السوق كقاعدة اساسية لنظام تكافؤ الفرص، وسلطة الدولة ممثلة بالاتجاهات السياسية التي سوف يتاح لها ان تتحكم في اتجاهات السوق، ابتداءا بسعر صرف العملة وليس انتهاءا باسعار الفائدة.
ويقال لنا بين اونة واخرى ان سياسية "تسعير" العملة او تحسين قيمتها تقع ضمن قائمة شروط صندوق النقد الدولي ونادي باريس لتخفيض والغاء الديون العراقية التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. وحيث انه لم يتم نشر هذه الشروط او نص الاتفاقية للاطلاع العام، فان معرفة تلك الشروط تبقى حكرا على النخبة ممن اتيح لهم الوصول اليها بطريقة او باخرى. وهذا يعني اننا في الواقع نستقريء تلك الاتفاقيات حسب طريقة عرضها من قبل الحكومة.
وبغض النظر عن الدافع لمثل هذا الاجراء، وعما اذا كانت عملية رفع سعر الدينار "منجزا وطنيا" او "شرطا مفروضا من الخارج"، فاننا سنحاول القاء الضوء فيما اذا كانت تلك العملية تخدم المصلحة الوطنية وتدفع عجلة التنمية المتثاقلة، ام انها عامل اخر في تعطيل الاقتصاد الوطني. ولنبدأ من مبدأ تدخل الدولة في تحديد سعر صرف عملتها. فقد كانت السلطة في النظام السابق تتبع هذا المبدأ منذ توليها زمام الامور نهاية الستينات، وكان ذلك متماشيا مع الفكر الاشتراكي الذي اعتنقه الحزب الحاكم. حيث عمل البنك المركزي على تثبيت سعر صرف الدينار لفترة طويلة، ولم يتح التعامل الحر بالعملة الصعبة الا في اضيق الحدود. وحتى مع اجراء بعض الاصلاحات لاتاحة المجال ام القطاع الخاص في استيراد بعض السلع المطلوبة للاستهلاك المحلي، كان يتوجب عليهم ان يحولوا مبالغ الاستيراد عن طريق البنك المركزي وضمن حدود معينة. وكان يجري تسعير الدينار حسب خطة الدولة. بمعنى آخر ان سعر الدينار في السوق العالمي كان مختلفا (اقل بكثير) عن سعره في البنك المركزي. نشأ عن ذلك ان البضائع المستوردة عن طريق الدينار المدعوم اصبحت مدعومة بالنتيجة، مما ادى الى منافسة غير منصفة مع الانتاج المحلي، وبالتالي انصرف كثير من الصناعيين والمنتجين عن اعمالهم لعدم القدرة على المواجهة. كما تزايدت النزعة الاستهلاكية بسبب رخص البضاعة المطروحة من مناشيء عالمية. غير ان رخص الاسعار كان ظاهريا فقط، وكشف عنه التضخم الشديد ابان سنوات الحصار وتراجع قدرة الفرد على الاستهلاك، واقتصاره على الضروريات، التي كانت هي الاخرى مدعومة من الدولة.
تلك التجربة التي عاشها العراقيون قبل فترة لم تتعد سنوات قليلة، اثبتت ان التحكم في سعر صرف الدينار قاد الى عواقب وخيمة حينما عجزت الدولة عن الاستمرار في تقديم الدعم المطلوب، وعندما واجه الاقتصاد تحدٍ خطير يتمثل في القدرة على تحقيق الموازنة في ميزان الاستيراد والتصدير. لقد شيدت الدولة آنذاك اقتصادها على تصدير النفط، ولم تولي عناية كافية لتطوير قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة الحرة.
من ناحية اخرى، فان تقديم الدعم للدينار يعني تخصيص مبالغ مالية هائلة من الواردات الوطنية، كان يمكن استثمارها في انعاش الاقتصاد باقامة مشاريع انتاجية حيوية، بحيث يساهم انتاجها في توفير السلع محليا والتقليل من استيرادها كما يوفر فرص عمل كثيرة تخفف من وقع البطالة وتحيي الامل في المستقبل.
ولكن بدلا من ذلك نرى ان الحكومة الحالية ماضية في هذه السياسة دون اعتبار لاي متغيرات اقتصادية تتفاعل مع تلك السياسة. وكمثال على ذلك، لفنترض ان سعر صرف الدينار بلغ 1250 دينار للدولار الواحد، وقد كان 1470 قبل ستة اشهر، فماذا يعني ذلك؟ ان ذلك يعني ان الدولار انخض بنسبة 15% ، وان سعر السلعة المستوردة سوف ينخفض بنفس النسبة. اي ان الطماطم المستوردة يفترض ان تباع بسعر يقل بمقدار 15% عن سعرها قبل ستة اشهر، بحيث اصبح انتاجها محليا غير مجد واقعا، مع الاخذ بنظر الاعتبار ارتفاع تكلفة انتاج بسبب ارتفاع اسعار الوقود وازمات الكهرباء غير المنتهية. لكن انخفاض سعر الطماطم ليس حقيقي، فالفرق تدفعه الدولة من عائدات تصدير النفط. فيا لسخرية الاقدار كيف يصبح النفط ومشتقاته عاملا في ازدياد همّ المنتجين، فمن جهة ازداد سعره عليهم ومن جهة اخرى قلل اسعار بضائعهم. فاي اقتصاد "صحي" هذا؟
لكننا نلمس ان اسعار معظم المنتجات القابلة للخزن لم يتغير بعد خفض الدولار عن سعرها قبل ذلك. بل ارتفعت اسعار بعض البضائع المستوردة لتبلغ اكثر من ضعف سعر المنشأ كما هو الحال مع الاسمنت مثلا. ويبدو ان السبب في ذلك انعدام ثقة التجار المستوردين في ثبات القيمة السوقية للدينار امام الدولار واحتمالية قيام الدولة برفع القيمة بشكل حاد مما يؤثر على رؤس اموالهم المقدرة بالدولار. فليس من الحكمة في شيء ان يجد المستثمر نفسه آخر العام خاسرا بفرق العملة عن اول العام رغم انه كان رابحا طوال السنة بمقاييس التجارة.
ولتوضيح ذلك، لنفترض ان تاجرا لديه رأس مال مقداره مليون دولار ويرغب في استيراد السمنت. فمن الطبيعي مثلا ان يفترض هامشا ربحيا مقداره 10% (هامش الربح في الواقع يعتمد على مقدار رأس المال المستثمر، ومقدار الطلب على البضاعة، والمنافسة التجارية لتوفيرها، اي قانون العرض والطلب). فاذا كان الدولار فقد 15% من قيمته امام الدينار خلال ستة اشهر، فان توقع انخفاض مماثل لا يكون امرا عسيرا. اي ان هذا التاجر ربما يتوقع ان يخسر 30% من رأس ماله (بالدولار) خلال العام، فاذا اضفنا هامش الربح الذ كان يتوقعه اصلا، فلن يكون مبالغا اذا وضع هامش ربح مقداره 40%. وبالتالي فان سعر البضاعة في السوق المحلية ارتفع بمثل هذه النسبة. طبعا الامر يشمل التجارة الداخلية ايضا طالما انها مقدرة بالدولار هي الاخرى. اما عامل المنافسة بين التجار المستوردين فلن يكون له تأثير كبير، اذ انهم جميعا يواجهون نفس الظروف من ناحية احتمالية انخفاض سعر صرف الدولار. ستكون منافستهم منحصرة فقط في تقديرهم لهذا الانخفاض.
اما الحديث عن ظاهرة "الدولرة" فلا يعدو ان يكون عاطفيا او مثاليا لا يمت الى الواقع بصلة. فقد حلّ الدولار الامريكي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في مرتبة العملة الاولى المعتمدة عالميا نظرا لقوة الاقتصاد الامريكي بالمقارنة مع اقصاديات الدول الصناعية الغربية الاخرى. وعلى هذا فالامر ليس متعلقا بالعراق او بالدينار، حتى يمكن وقف، او الحد من التعامل بالدولار. واذا كان بالامكان ان نجعل للدينار موقعا عالميا او اقليميا مميزا، ففي اقل تقدير يجب ان لا يربط بالدولار عن طريق التسعير المبتسر، او السيطرة الحكومية على اسعار الصرف. ومن الجدير بالذكر ان سعر صرف العملة المحلية امام الدولار وغيره من العملات الاجنبية لا يعكس قوة اقتصاد البلد. فالدينار الكويتي يعادل اكثر من ثلاث دولارات، بينما يبلغ سعر الدولار 3.75 ريالا سعوديا، مع ان اقتصاد كلا البلدين يُعد قويا (نتيجة واردات الثروة النفطية واستخدامها في الاستثمارات طويلة الامد).
اذن من المستفيد من رفع قيمة الدينار؟ اذا كان الجواب هم طبقة الموظفين وذوي الدخل المحدود، فسوف يكون ذلك تجريدا وتعسفا. فهؤلاء يمثلون الشريحة الاستهلاكية الاكبر في السوق، وبالتالي فان تشجيعهم على الاستهلاك سوف يقلل من القدرة على تحقيق موزانة تجارية بين الواردات والصادرات. وفي ظروف مثل التي يمر بها العراق، يبدو ان الافضل ان تعمل الدولة على عكس العملية لتصب في مصلحة الصادرات (الامر الذي لا يبدو ان الدولة توليه اي اهتمام يذكر).
اذكر ان العملة اليابانية (الين) ارتفع سعر صرفها امام العملات الاخرى فجأة اواسط التسعينات. وقد بلغ سعر الصرف قرابة الضعف امام الدولار آنذاك. وقد يبدو ذلك جيدا، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة للحكومة اليابانية التي تعتمد في عائدتها على تصدير المنتجات الصناعية الرخيصة نسبيا. ومع انخفاض سعر الدولار سوف ترتفع اسعار تلك المنتجات مما يقلل من قدرتها على المنافسة عالميا. وقد عمدت المصارف الحكومية على طرح كميات هائلة من الين للتداول لخفض قيمته واعادته على القيمة السابقة لتحقيق استقرار في سوق الاعمال وميزان الاستيراد – التصدير. طبعا لم تعمل الحكومة اليابانية على تحديد سعر الصرف، بل اتبعت نظام السوق في العرض والطلب، واستخدام احتياطي النقد لديها الذي لم يأت من تصدير ثروة طبيعية.
من جانب آخر، يدّعي المسؤولون الحكوميون ان الدافع لرفع سعر الدينار مقابل الدولار يكمن في ارتفاع معدل التضخم، ويحاولون اقناعنا ان التضخم سوف يزول او يقل باتباع هذا الاجراء. غير انني اعتقد ان ذلك مجرد تبرير، اذ ان التضخم هو ناتج طبيعي لانحراف الميزان التجاري نحو الاستيراد وخروج العملة الصعبة بدلا من دخولها عن طريق التصدير. وبالتالي فان كمية المعروض من العملة الصعبة يكون اقل من الطلب مما يرفع سعرها كأي بضاعة اخرى. واذا ارادت الدولة ان تحد من التضخم، فيجب ان ترعى عملية اصلاح اقتصادي شاملة تتضمن تشجيع الانتاج المحلي وتخفيض الفائدة على القروض المصرفية، واستغلال القدرات البشرية لاحداث نهضة زراعية وصناعية كبرى. ومن الواضح ان هذه الاجراءات معقدة وشائكة وتتطلب الكثير من الجهد والتنظيم والتطوير، بعكس قرار بسيط بتحويل جزء من واردات النفط لشراء الدولار وبيعه لاحقا بسعر اقل، للايحاء بان الدولة قد حدّت من التضخم، محققة بذلك انجازا اعجازيا!
وحتى على هذا الفرض، ما هي الضمانات ان واردات النفط ستكون كما هو متوقع؟ اذا نحينا جانبا عنصري التخريب والفساد الاداري في ادارة هذه الثروة الوطنية، اليس واردا ان يحدث انخفاض كبير في سعر بيع برميل النفط، بحيث يقل عن التوقعات الدنيا؟ فماذا سيحدث عندذاك؟ اذا عجزت الدولة عن دعم الدينار، متيحة لدورة السوق ان تأخذ مجراها، فلاريب ان سعر الدولار سوف يشهد تصاعدا صاروخيا، مسببا تضخما نقديا قد يكون من الصعب السيطرة عليه بسبب العامل النفسي للغلاء، والرغبة في الاقتناء خوفا من تصاعد محتمل في الاسعار.
وعلى كل حال قد يكون وجود نسبة مئوية بسيطة من التضخم سنويا امرا حميدا، حيث يدفع بالمواطن الى الاستثمار في السوق المحلية لتنمية المدخرات بدلا من الاقفال عليها في الخزنات باعتبار انه اذا لم يكن هناك تضخم فان قيمتها تزداد مع الزمن حتى مع عدم تشغيلها. وهذا هو الامر مع الدولار نفسه، حيث نشهد تراجعه امام عملات اخرى سنة بعد سنة، دون ان نرى تحركا جديا من الحكومة الامريكية لوقف هذا التراجع (بالاضافة الى عوامل محلية ودولية اخرى تخدم الادارة الامريكية في وضع الدولار "الضعيف").
اننا لا ندعو هنا الى رفع يد الدولة كليا في هذه المرحلة، ولكننا لا نرى اية فائدة من تدخلها المباشر لصالح الدينار. ونحن ندرك ان الحكومة الحالية ورثت اقتصادا منهكا وديونا دولية طائلة. لكننا نعتقد في الوقت ذاته ان بامكان الدولة ان تتبع اجراءات على المديين المتوسط والبعيد من اجل تحقيق نهضة اقتصادية كفيلة بتحسين وضع العملة ليس من ناحية سعر صرفها فحسب، وانما من ناحية الطلب عليها ايضا. سيكون من المشوق ان نرى يوما نستورد فيه بضائعنا، من دول الجوار على الاقل، بعملتنا الوطنية، لانهم يقبلون التعامل بها. سيكون ذلك افضل بكثير من ان يُعادل الدولار بالف دينار بينما يكون سعر البضائع المستوردة هو نفسه او اكثر من سعرها حينما كان الدولار بالف وخمسمائة او الفين دينار عراقي.

Tuesday, July 03, 2007

خواطر امام محطة لتعبئة الوقود

في احد صباحات حزيران القائضة، قررت ان اذهب بسيارتي الى محطة تعبئة الوقود لكي اعيد ملأ الخزان الذي شارف على استنفاد محتواه. وقفت في الطابور منتظرا، مرة اشعل سيجارة، وتارة ابتاع قنينة مشروبات غازية، لكن الطابور لا يبدو انه يتحرك. واخيرا عزمت على قضاء الوقت بشيء استمتع به اكثر. سوف اكتب مقالا في خاطري، لانني لا استطيع فعل ذلك من دون لوحة مفاتيح وشاشة وهاجة. طبعا سيكون المقال نتيجة لتأثري بوضع شاذ: الوقوف لساعات طويلة امام محطة التعبئة طلبا لبضعة غالونات من البنزين. اقول ان الوضع شاذ، لاني لا اعرف بلدا آخر يكون فيه وقود السيارة بمثل هذه الاهمية بحيث يصبح شغل الناس الشاغل على مدى عدة اعوام. وطالما قلت انه همّ الناس فقد نقلت مقالي الى مستوى اعلى: كفاءة الاداء الحكومي.
خطر لي ان ابدأ مقالي بعبارة ذات وقع مؤثر في النفس مثل: "يمكن اعتبار مؤشر خزان الوقود في سيارتك، مؤشرا على نجاح الحكومة او فشلها"، لكنني سرعان ما ثنيت نفسي عن ذلك، لان الحكومة قد تكون ناجحة في توفير بعض الخدمات الاساسية، او فاشلة في البعض الاخر. فلا يمكن ان نقيس قدرتها على فعل شيء او عدمه على انه مقياس لكفائتها ككل. لكنني لم اتستطع مقاومة اخذ مثل هذا المقياس بعين الاعتبار، لانه في الحقيقة اساسي لدرجة ان معظم الخدمات متعلقة بشكل مباشر او غير مباشر بتوفير الوقود. وبدأت افكر في مقياس آخر يكون له نفس الوقع، فخطرت لي عبارة: "ان نجاح الحكومة مرتبط بقدرتها على توفير الكهرباء، نصف الوقت على الاقل". وبدا لي ذلك منصفا، حيث ان الكهرباء، شأنها شأن وقود السيارات، يمثل عصب الحياة الحديثة، وذلك غني عن البيان. ولكني مرة اخرى ثنيت نفسي عن مثل هذه المسلمات. اذ لا يُعقل ان تعلق قدرة الحكومة، ذات النيف وثلاثين وزيرا، باكملها على امكانية بعض وزاراتها على تقديم الخدمات الضرورية، حتى وان كانت هذه الخدمات اساسية بدرجة يستحيل تصور الحياة بدونها. وهكذا رحت افكر في عبارات اكثر شمولية: "ان نجاح الحكومة مرتبط بقدرة مفاصلها الخدمية على تسيير عجلة الحياة اليومية". فالخدمات الصحية والبلدية والتعليمية، فضلا عن الطاقة والاتصالات، هي ما يهم المواطن بشكل مباشر وتؤثر في راحته ورزقه وتخطيطه لمستقبله.
ولكن مرة اخرى بدت هذه الفكرة قاصرة طالما انها اهملت اهم عامل يؤثر في حياة الناس ويقض مضجعهم، فعزمت على ابتداع عبارة اخرى تقول: "ان اداء الحكومة يقاس بقدرتها على حماية مواطنيها من اي اعتداء داخلي او خارجي". هذا مذهل، فان استطاعت الحكومة توفير الامن فان مقياس ادائها سيكون –لا شك- مرتفعا. لقد وقعت اخيرا على تعميم جيد. لكنه ليس جيدا بما فيه الكفاية ليتصدر المقال، فالناقد سوف يتصدى له بالقول: "لا يمكن قياس اداء الحكومة بالامن، اذ انها جاءت في ظل ظروف امنية خاصة، ولذلك يتطلب الامر وقتا وجهدا لكي تتمكن من ان تـُقارن بالحكومات العادية". وهذا –للاسف- كلام منطقي، ولا اجد له ردا.
"كلما قلّ فساد الدوائر الحكومية، كلما ازدادت كفاءة الدولة في توطيد اركانها وفرض سلطتها واحلال مبدأ سيادة القانون". لابد ان هذه العبارة تشكل تعميما افضل من سابقه طالما كان الخرق الامني يعود بالدرجة الاساس الى فساد اداري ضمن وزارات الدولة، وضمن مفاصلها الامنية تحديدا. لكنه مرة اخرى مردود بان الفساد الاداري ثقافة تربينا عليها وليس من سبيل الى التخلص منها في هذا الجيل. ونحن –واقعا- لا نعمل شيئا لنحارب هذا الوباء، فكيف نعتبره مقياس اداء اي حكومة؟
وتركت الافكار تنسال الى خاطري، حتى قدحت لي عبارة جديدة، اتصور انها ستغطي كل شيء، وستكون حل جميع المعادلات: "قدرة الحكومة وادائها متعلقة اساسا بامكانية تحقيق توافق سياسي يرضي، بدرجة مقبولة، جميع الاطراف ذات العلاقة". اليس هذا استنتاج معقول؟ اليست المشكلة (سياسية) وليست (امنية) كما يتردد بين الحين والحين؟ اذن يجب ضبط المؤشر الان على هذا الاداء، لنرَ كيف ستكون قراءته. اقترح ان تتصور عزيزي القاريء مؤشرا مشابها لذلك الموجود على لوحة القيادة في سيارتك، بالذات مؤشر خزان الوقود. هناك علامة تشير الى وضع الخزان الممتليء، وثانية الى وضع الخزان نصف ممتليء، واخرى بخط احمر تحثـّك على اعادة تعبئة الخزان. يوجد ايضا مصباح احمر ينذرك بان الخزان يكاد يكون فارغا تماما. والان عزيزي القاريء، اين تضع مؤشر اداء الحكومة سياسيا؟ لو كان جميع اعضاء مجلس النواب يحضرون جلساته (لا يقاطعون ولا يتغيبون)، ولو كان مجلس الوزراء مكتمل عدد الوزراء، لكان بامكاننا ان نضع المؤشر على ممتليء. ولو استغرق اشغال المقاعد الفارغة في مجلس الوزراء شهرا او شهرين فقط، لكان وضع المؤشر على نصف ممتليء منصفا. غير انه طالما كان لكل حزب او كتلة سياسية وزارة ما، علاوة على حصته من البرلمان، بحيث ان من غير الممكن عمليا تغيير وزير بسبب عدم الكفاءة، او اعتقال آخر بسبب تهم تتعلق بالارهاب، فلايمكن ان يكون المؤشر الا في مكان قريب من وضع الحث على اعادة تعبئة الخزان.
اعرف انك ربما ستقول: يجب ان يضيء المصباح الان. ولكني حقيقة لا اعتقد ان هذا المصباح سيضيء يوما. فقد اضطررت هذا الصباح الى ان انقل القمامة بسيارتي الشخصية مسافة لا بأس بها حتى اجد موقع ملائم لرميها، خارج المدينة. وحينما اصيبت زوجتي بوعكة صحية طارئة قبل ايام مما استدعى نقلها قبيل الفجر الى المستشفى، اكتشفت ان الطبيب هناك يعطي وصفة واحدة لكل المراجعين. وسوف تكون محظوظا ان وجدت حتى هذا العلاج البسيط الشامل في صيدلية المستشفى. ان صحة زوجتي مهمة جدا، ليس فقط لانها راعية البيت، ولكن ايضا لانها من يقوم بمهام تدريس الاولاد الذين يذهبون الى المدرسة ويعودون منها دون ان يتعلموا شيئا. معذرة، ربما تعلموا شيئا، مثل القول: اريد بطاقة شحن لهاتفي المحمول، التي لم نكن نعرف عنها شيئا عندما كنا بمثل عمرهم. فخدمة الاتصالات الارضية كانت اكثر من كافية.
نعم، توقفت معظم مصانعنا عن الانتاج لشحة الكهرباء والوقود، واصبحت اسعار سيارات الاجرة باهضة، وتمثل شريكا في راتب الموظف واجرة العامل، المضطرين الى الذهاب يوميا الى اعمالهم، متجولين بين عبوات ناسفة ومفخخات، ان لم تتوقف وسيلة النقل التي تحملهم بضعة ساعات عند نقطة تفتيش بسبب اشتباكات مع مسلحين. وصحيح ايضا اننا اصبحنا نستورد معظم احتياجنا من الخضر والفواكه من دول الجوار، رغم اننا بلد زراعي منذ قديم الزمان، قبل ان نتحول الى بلد نفطي فاقدا لمشتقاته معظم ايام السنة. كما لا يمكن انكار اننا لم نكن يوما بلد صناعي حقيقي حتى نفقد مثل هذه الصفة بسبب عدم قدرة الحكومة على توفير الكهرباء والوقود.
نظرت الى مقياس خزان الوقود وانا اقف في طابور الانتظار امام محطة التعبئة وهالني ان ارى المصباح وقد اضاء. يا للهول، ان لم اتمكن من مليء خزان الوقود هذا اليوم، فكيف ساعود بسيارتي الى البيت حيث ستقف في مرآبه الى يقضي الله امرا كان مفعولا؟ وفكرت من جديد ان الفكرة الاولى التي قدحت في بالي ربما تكون الاصح: "يمكن اعتبار مؤشر خزان الوقود في سيارتك، مؤشرا على نجاح الحكومة او فشله". هذا هو الحال على الصعيد الشخصي على الاقل. فان نجحت في رفع مستوى مؤشر خزان الوقود في سيارتي هذا اليوم، فساعتبر هذا اليوم ناجحا، على خلاف العادة. وان لم انجح، فهو فشل آخر.

Wednesday, April 11, 2007

دعوة لمنع نهب أموال الشعب العراقي

نشرت وسائل اعلام عراقية قبل ايام نص مشروع القانون المعروض على مجلس النواب والخاص بحقوق وامتيازات رئيس ونواب وأعضاء مجلس النواب. وقد أعطى هذا القانون المقترح من الحقوق والامتيازات لـ(ممثلي الشعب) وأسرهم وحماياتهم ما يثير العجب العجاب، ويثير السؤال فيما إذا كانت القضية لا تعدو أن تكون (كذبة نيسان) ولكن بعد أسبوع من موعدها. لكننا لا نستطيع حتى ان نذهب إلى هذا الافتراض، لان مجلس النواب لم يعودنا على المزاح، بل على العكس من ذلك، كان أعضاؤه في غاية الجد كلما حانت لهم طلة على شاشة فضائية. كما إن هذا المجلس، وريث الجمعية الوطنية السابقة، خليق بان ينتهج نهجها، ويحتسب لأعضائه امتيازات لا تقل عما احتسبت. الم ينل أعضاء الجمعية الوطنية راتبا تقاعديا لا يقل عن ستة ملايين دينار مدى الحياة لخدمة فعلية لم تتجاوز العشرة أشهر؟ الم تنفق تلك الجمعية على أعضائها من خزينة الدولة المليارات من الدنانير تحت مسميات شتى مثل (تحسين الوضع الاجتماعي للأعضاء) في الوقت الذي تزداد المعاناة اليومية لإفراد الشعب، سواء المُعسر منهم أو المُيّسر؟ وحينها قلنا جمعية جاءت في غفلة من الزمن وسيأتي خير منها. لكن مجلس النواب كان (خير) خلف لـ(خير) سلف. وما كان في الأمس يدور في الخفاء تسترا أصبح اليوم على رؤوس الأشهاد. وربّ قائل وما الضير في تعويض مادي، مهما كان كبيرا، لمن نذر حياته في خدمة الشعب. وذلك قول حق، سوى أن هذا المنطق يجب أن يتعدى ليشمل كل من (نذر) حياته. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الشرطي الذي يقف في نقطة التفتيش دون أن يعلم متى ستنفجر عليه سيارة مفخخة. ومنهم العسكري الذي يقتحم أوكار الإرهاب غير مبال بحياته في سبيل تخليص الأمة من هذه الآفة. ومنهم الصحفي الذي لا يدري متى يُدرج على قائمة التصفيات لان ما يوثـّق قد لا يعجب (بعضهم). ومنهم الموظف في دائرة خدمية أو إنتاجية والذي يواظب على دوامه رغم التهديد اليومي في الطريق من عبوات ناسفة واشتباكات ومداهمات وما إلى ذلك. نعم، حتى الكاسب في متجره والعامل في مصنعه، والطالب في مدرسته، والأستاذ في جامعته، بل حتى ربات البيوت في مهاجعهن يمضين اليوم في تربية الأولاد وتهيئة المنازل غير عالمات متى ستقطعهن إربا قذائف صاروخية زاغت عن أهدافها، أو لربما أصابت أهدافها بالفعل. فهل يحق لأعضاء مجلس النواب امتيازات تزيد على امتيازات الشهداء، من الأساتذة المغدورين، الذين امضوا حياتهم في التعليم والتعلم من اجل وطن أكثر علما؟ وهل يحق لهم أن ينالوا أكثر من الذين اختطفوا وذبحوا والقوا إلى المزابل لأنهم من هذه الطائفة أو تلك؟ هل نعطي الأعضاء المحترمين أكثر مما نعطي الشهداء؟ أليس هؤلاء الشهداء هم من وضعهم تحت تلك القبة وأجلسهم على هذه الكراسي؟ فكيف نجعلهم تحت أقدامهم، ونوافق على تبجيلهم وكأنهم لا سابق لهم، ولن يتكرروا على مدى الدهور؟ حسبي الله. لكن واضع الشريعة –جلت قدرته– غير غافل عما يعلمون. وقد قال قارون: "إنما أوتيته على علم عندي" حينما رآى انه امتلك كنوزا "ما إن مفاتحه لتنؤ بالعصبة أولي القوة". وهذه دلالة على شعور الانسان بالتمايز فقط لأنه امتلك مفتاح لسلطة أو مال. فما كان من قارون إلا أن "خسف الله به وبداره الأرض". "فما بال هؤلاء القوم لا يفقهون حديثا". حسبي الله، عليه توكلت واليه أنيب. أما وقد توكلت على الله، فهذه دعوة لأبناء هذا الوطن الأبي وان كان جريحا، العزيز وان كان مستباحا. هذه دعوة لمن ضحى بدمه وحياته، وخرج خائفا يترقب يوم الانتخابات ليعلن رفض الخنوع للظلم، وليسمح لشمس الحرية أن تبزغ. هذه دعوة للأحرار أبناء الرافدين أن يهبوا فيحموا مالهم ورزقهم، ويمنعوا النهب العلني لمقدراتهم، وان يمارسوا الديمقراطية كما عُرفت أول مرة، من خلال التصويت الفردي على كل قرار أو قانون، لا أن يركنوا إلى مجلس انتخبوه فقط. هذا المجلس الذي يعجز عن مناقشة مشكلة اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، ناهيك عن حل المعضلات الأمنية والسياسية، قد بدأ بالتخلي عن مشروعيته الشعبية منذ أن بدأ يفكر في أضيق الحدود، في المصلحة الشخصية ضمن نطاق العضو وأسرته ومن أسعفه الحظ فكان في حرسه الشخصي. أوجه دعوتي هذه راجيا أن يساندها –سلميا– المثقفون والسياسيون والأساتذة والصحفيون فضلا عن عامة الشعب الكريم. مساندة تكون بالقلم والفكر، وبالنقاش والحوار، لا بالمظاهرات الصاخبة، أو ألأعمال العشوائية والعنيفة. نحن شعب حضارة وقانون منذ القدم، وعلينا أن نلتزم مبادئ حضارتنا قبل أن ننحدر إلى أفعال هوجاء لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي رأيي فان أول شيء يتوجب فعله هو أن ندعو إلى تعديل الدستور بما يمنع مجلس النواب من الانفراد في القرار، طالما أنه اثبت أنه قد يفعل خلافا لما يريد الشعب الذي انتخبه. يجب إضافة مادة تفصيلة إلى الدستورتحدد بالضبط ما لا يستطيع الجسم التشريعي فعله، وبالمثل الجسمين التنفيذي والقضائي، بدون استفتاء شعبي. ومثل هذه العودة إلى الشعب –لاشك– أمر صحي تعيد إلى الناخب دوره في التشريع، وتمنع المُنتخب من الاستحواذ على هذا الدور. ثم علينا بعد ذلك أن نخضع كل مسؤول في الدولة إلى المساءلة، ليس فقط من يقعون تحت طائلة القانون، بل أيضا من يُشرعون هذا القانون. يجب أن يكون لدينا نظاما محكما للشفافية يضمن أن يُسئل كل عضو في مجلس النواب –مثلا– عن سبب تصويته على أي مشروع قانون سواء كان معه أم ضده. إن أعضاء مجلس النواب ليسوا وكلاء الشعب بل نوابه. ومن حق الشعب –صاحب السيادة– أن يعلم كيف ولماذا يتم وضع التشريعات، ومن يستفيد منها، كما إن من واجب النائب أن يشرح لمن أنابه كل ما لـَبـِس عليه، وان يقدم له كل ما يحتاجه لكي يضعه في الصورة الحقيقية.
وأخيرا، أنا أدعو أن تكون جميع جلسات مجلس النواب –بدون استثناء– علنية، وان اقتضى الأمر تعديل الدستور لضمن ذلك. إذ لا يمكنني التفكير بأي سبب لجعل الجلسات مغلقة أو سرية إلا أن يكون لحجب المعلومات عن الشعب. وحتى الاحتجاج بالوضع الأمني ليس كافيا، إذ أن المجلس إنما يناقش قضايا عامة، وليس إجراءات محددة كالخطط الأمنية او التدابير العسكرية وما سواها، والتي يُخشى تسربها فتفشل وتنهار. وقبل أن أدعكم بسلام، أشير إلى انه في إحدى الدول الديمقراطية ينص القانون على أن راتب عضو المجلس يعادل دولار واحد فقط، إقرارا بأنه يستحق راتب لخدماته، غير انه يجب أن لا يثري على حساب المال العام (وهي بالمناسبة إحدى شروط الترشيح لمجلس النواب، إلا أنها وردت بصيغة الماضي!)