أتاح
الفضاء الألكتروني الواسع حرية مطلقة تقريبا لكل فرد في أي مجتمع أن يصبح
كاتبا ومعلما ومثقِفا (بكسر القاف) لجمهور غير محدود نظريا، يتألف في معظم
الأحوال من (معجبين) وأصدقاء أو أصدقاء لأصدقاء وهكذا. هذه الحرية في النشر
التي باتت حقا غير مُنازع حوّلت بعض
الناشرين إلى قدوات يحتذى بها دون المرور بالمراحل التقليدية من دراسة
وإشراف وتمحيص وفحص وتدقيق من قبل ذوي الاختصاص قبل إرسال المادة إلى
النشر.
في ماضي الأيام كان يتوجب على الكاتب أن يعرض المادة الثقافية التي ينوي نشرها على محرر ومصحح لغوي قبل أن تجد طريقها إلى النشر حرصا على الذوق العام، وتأكيدا على رفع المستوى الثقافي بين جمهور المتلقين. أما اليوم فقد أصبح من السهل أن يقوم شخص نصف متعلم بكتابة (مقال) دون مراعاة لأبسط قواعد الكتابة، مستعملا لغة ركيكة تمتلئ بالألفاظ الدارجة غير الفصيحة، ويضمنها أفكارا قد تكون مجرد مقتبسات محرفة تارة غير منسوبة وطورا منسوبة لغير قائلها. والأنكى من ذلك الأسلوب الظاهري في الكتابة بالألوان واستخدام أدوات الخط العريض والمائل وغيرها، وتكبير حجم الخط في بعض الأحيان، حتى يصبح الشكل العام مشوها وغير متسق بالمرة مع واحدة من أساسيات الكتابة: جمال المظهر الخارجي.
وقد ساعد الفيسبوك على شيوع مثل هذه الأساليب المتدنية ثقافيا بين جيل الشباب بالأخص، وأقنعت الكثيرين أن هذا هو كل ما يتطلبه الأمر للوصول إلى عقول الجمهور المستهدف وبالتأكيد قلوبهم. وبما أن مقياس نجاح مثل هذا الكاتب لا يتعدى عدد مرات الإعجاب (لايك) التي يحصل عليها، فليس عليه أن يكون كاتبا محنكا أو أن يحتوي مقاله على مادة جيدة، بل يكفي أن يضع صورة مرفقة بمقاله العتيد، ويطلب إبداء الإعجاب إما مباشرة أو احتيالا، بان يطلب من المستخدم ضغط توليفة من الأحرف في لوح الكتابة بالحاسوب تؤدي في النهاية إلى ترك بصمتك الدالة على الموافقة وإن لم تكن تريد ذلك فعلا.
يضاف إلى كل هذا إمكانية إعادة النشر من قبل الأصدقاء أو من تصل إليه المادة المنشورة باستخدام أداة المشاركة (شير)، وهي وسيلة تأثير أخرى لا تعتمد على جودة المادة المنشورة بالضرورة. كما أن تطبيق الفيسبوك يقوم بإعادة نشر المادة أو الصورة إذا فتحها مستخدم ما بغرض الاطلاع عليها، ووضع إشارة عليها (تاغ)، ما يؤدي إلى المزيد من النشر غير المقصود أو الموجه من الأساس.
وهكذا تجد نفسك وأنت تتصفح الفيسبوك وسط خضم من أمواج غير متجانسة ولا متسقة مع سياق محدد. بعضها مقولات نسبت إلى غير قائليها، أو حتى إلى من لا يتوقع أن يتفوه بها، للدلالة على فكرة يقصدها الناشر دون مراعاة لأبسط شروط الأمانة العلمية والأدبية. وربما تصعقك صورة مركبة باستخدام تطبيقات معالجة الصور يراد منها إثبات نظرية دينية، أو عقيدة ما. وقد يعمد احدهم إلى إغراق الصفحة بالعشرات من مواده التي يعتبرها مهمة، وان لم تكن ذات قيمة في واقع الحال، ما يحرمك من مواد سابقة قد تكون أفضل منها.
وقد لاحظت من خلال استخدامي الفيسبوك فترة غير قليلة أن الكثير من الكتاب الملتزمين إما رفضوه بداية، أو هجروه آخر الأمر. وأجد هذا الأمر مفهوما؛ فأنت لا تريد أن تعقد ندوة ثقافية في سوق (الهرج)، ولا أن تنشر مقالا في لوحة إعلانات. علاوة على ذلك فإن حيز التعليقات غير المنضبط قد يجلب لك الكثير من الصداع رغم الفائدة الجمة المتحصلة من الحوار والتبادل الفكري بمثل هذه الأدوات.
ولم يكن الفيسبوك هو التطبيق الأول الذي يعاني مثل هذه الآفات. فقد سبقته إلى ذلك المجموعات البريدية التي تستخدم جمهورا من عناونين ألكترونية مشتراة أو مسلوبة لإقحام مواد بعينها على متلقين ليس بيدهم حيلة غير محو المادة أو وضعها في سلة المتطفلين. وربما كان السلف الأكثر قربا والذي لا يزال معمولا به هو ما يعرف بالمدونات (بلوغز)، والتي هي في الواقع صفحات شخصية لأفراد قد يكونون من الكتاب المُجيدين، أو مجرد مهرجين ساعين إلى اجتذاب الجمهور بأية طريقة تتاح لهم.
غير أن أدوات الفيسبوك، وانتشار استخدامه على نطاق واسع بين الشباب، جعلته الأخطر على المستوى الثقافي بشكل عام، والذي أزعم انه في انحدار متزايد منذ بداية عصر التبادل المعلوماتي الفوري، الذي يحلو لنا أن نطلق عليه اسم الانترنت. وبفضل الفيسبوك، فان هذا التدني في مجالات الثقافة والعلوم والآداب قد أصبح واقعا يتأكد يوما بعد يوم.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، إلا أنني لا أدعو إلى مقاطعة الفيسبوك، أو محاربته، أو منعه بأي شكل من الأشكال. فإيماني بالحرية الفكرية يمنعني من طلب وضع رقابة على أية وسيلة إعلامية مهما تكن. لكنني أدعو إلى نوع من التثقيف ونشر الوعي حول مخاطر الفيسبوك على المستوى الثقافي العام، وطرائق تجنب الوقوع في مطبات ما يبدو لغير العين الفاحصة حقائق لا يدانيها شك. يمكن أن تبدأ حملة التوعية هذه في المدرسة، والبيت، قبل أن تتحول إلى حملة يرفع لواءها الشباب أنفسهم. هؤلاء الشباب ربما رغبوا في أن يحوزوا قدرا كبيرا من الثقافة الرصينة، لكنهم إنما يجهلون كيف يحصلون عليها. وعلى المربين أن ينهضوا بهذا الأمر، كما نهضوا به في كل عصر، وواجهوا كل تحدٍ بصبر وجلد، حتى آلت إبداعات الأولين ألينا. وعلينا أن نحافظ على تلك الدرر وعلى الذوق السليم الذي بدونه لن يصبح لإرثنا الثقافي العظيم من معنى.
في ماضي الأيام كان يتوجب على الكاتب أن يعرض المادة الثقافية التي ينوي نشرها على محرر ومصحح لغوي قبل أن تجد طريقها إلى النشر حرصا على الذوق العام، وتأكيدا على رفع المستوى الثقافي بين جمهور المتلقين. أما اليوم فقد أصبح من السهل أن يقوم شخص نصف متعلم بكتابة (مقال) دون مراعاة لأبسط قواعد الكتابة، مستعملا لغة ركيكة تمتلئ بالألفاظ الدارجة غير الفصيحة، ويضمنها أفكارا قد تكون مجرد مقتبسات محرفة تارة غير منسوبة وطورا منسوبة لغير قائلها. والأنكى من ذلك الأسلوب الظاهري في الكتابة بالألوان واستخدام أدوات الخط العريض والمائل وغيرها، وتكبير حجم الخط في بعض الأحيان، حتى يصبح الشكل العام مشوها وغير متسق بالمرة مع واحدة من أساسيات الكتابة: جمال المظهر الخارجي.
وقد ساعد الفيسبوك على شيوع مثل هذه الأساليب المتدنية ثقافيا بين جيل الشباب بالأخص، وأقنعت الكثيرين أن هذا هو كل ما يتطلبه الأمر للوصول إلى عقول الجمهور المستهدف وبالتأكيد قلوبهم. وبما أن مقياس نجاح مثل هذا الكاتب لا يتعدى عدد مرات الإعجاب (لايك) التي يحصل عليها، فليس عليه أن يكون كاتبا محنكا أو أن يحتوي مقاله على مادة جيدة، بل يكفي أن يضع صورة مرفقة بمقاله العتيد، ويطلب إبداء الإعجاب إما مباشرة أو احتيالا، بان يطلب من المستخدم ضغط توليفة من الأحرف في لوح الكتابة بالحاسوب تؤدي في النهاية إلى ترك بصمتك الدالة على الموافقة وإن لم تكن تريد ذلك فعلا.
يضاف إلى كل هذا إمكانية إعادة النشر من قبل الأصدقاء أو من تصل إليه المادة المنشورة باستخدام أداة المشاركة (شير)، وهي وسيلة تأثير أخرى لا تعتمد على جودة المادة المنشورة بالضرورة. كما أن تطبيق الفيسبوك يقوم بإعادة نشر المادة أو الصورة إذا فتحها مستخدم ما بغرض الاطلاع عليها، ووضع إشارة عليها (تاغ)، ما يؤدي إلى المزيد من النشر غير المقصود أو الموجه من الأساس.
وهكذا تجد نفسك وأنت تتصفح الفيسبوك وسط خضم من أمواج غير متجانسة ولا متسقة مع سياق محدد. بعضها مقولات نسبت إلى غير قائليها، أو حتى إلى من لا يتوقع أن يتفوه بها، للدلالة على فكرة يقصدها الناشر دون مراعاة لأبسط شروط الأمانة العلمية والأدبية. وربما تصعقك صورة مركبة باستخدام تطبيقات معالجة الصور يراد منها إثبات نظرية دينية، أو عقيدة ما. وقد يعمد احدهم إلى إغراق الصفحة بالعشرات من مواده التي يعتبرها مهمة، وان لم تكن ذات قيمة في واقع الحال، ما يحرمك من مواد سابقة قد تكون أفضل منها.
وقد لاحظت من خلال استخدامي الفيسبوك فترة غير قليلة أن الكثير من الكتاب الملتزمين إما رفضوه بداية، أو هجروه آخر الأمر. وأجد هذا الأمر مفهوما؛ فأنت لا تريد أن تعقد ندوة ثقافية في سوق (الهرج)، ولا أن تنشر مقالا في لوحة إعلانات. علاوة على ذلك فإن حيز التعليقات غير المنضبط قد يجلب لك الكثير من الصداع رغم الفائدة الجمة المتحصلة من الحوار والتبادل الفكري بمثل هذه الأدوات.
ولم يكن الفيسبوك هو التطبيق الأول الذي يعاني مثل هذه الآفات. فقد سبقته إلى ذلك المجموعات البريدية التي تستخدم جمهورا من عناونين ألكترونية مشتراة أو مسلوبة لإقحام مواد بعينها على متلقين ليس بيدهم حيلة غير محو المادة أو وضعها في سلة المتطفلين. وربما كان السلف الأكثر قربا والذي لا يزال معمولا به هو ما يعرف بالمدونات (بلوغز)، والتي هي في الواقع صفحات شخصية لأفراد قد يكونون من الكتاب المُجيدين، أو مجرد مهرجين ساعين إلى اجتذاب الجمهور بأية طريقة تتاح لهم.
غير أن أدوات الفيسبوك، وانتشار استخدامه على نطاق واسع بين الشباب، جعلته الأخطر على المستوى الثقافي بشكل عام، والذي أزعم انه في انحدار متزايد منذ بداية عصر التبادل المعلوماتي الفوري، الذي يحلو لنا أن نطلق عليه اسم الانترنت. وبفضل الفيسبوك، فان هذا التدني في مجالات الثقافة والعلوم والآداب قد أصبح واقعا يتأكد يوما بعد يوم.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، إلا أنني لا أدعو إلى مقاطعة الفيسبوك، أو محاربته، أو منعه بأي شكل من الأشكال. فإيماني بالحرية الفكرية يمنعني من طلب وضع رقابة على أية وسيلة إعلامية مهما تكن. لكنني أدعو إلى نوع من التثقيف ونشر الوعي حول مخاطر الفيسبوك على المستوى الثقافي العام، وطرائق تجنب الوقوع في مطبات ما يبدو لغير العين الفاحصة حقائق لا يدانيها شك. يمكن أن تبدأ حملة التوعية هذه في المدرسة، والبيت، قبل أن تتحول إلى حملة يرفع لواءها الشباب أنفسهم. هؤلاء الشباب ربما رغبوا في أن يحوزوا قدرا كبيرا من الثقافة الرصينة، لكنهم إنما يجهلون كيف يحصلون عليها. وعلى المربين أن ينهضوا بهذا الأمر، كما نهضوا به في كل عصر، وواجهوا كل تحدٍ بصبر وجلد، حتى آلت إبداعات الأولين ألينا. وعلينا أن نحافظ على تلك الدرر وعلى الذوق السليم الذي بدونه لن يصبح لإرثنا الثقافي العظيم من معنى.