دعا السيد رئيس الجمهورية، جلال طالباني، إلى عقد مؤتمر وطني لمعالجة الوضع السياسي المتأزم في العراق إثر صدور مذكرة القبض بحق نائب الرئيس، طارق الهاشمي، وطلب رئيس الوزراء، نوري المالكي، سحب الثقة عن نائبه، صالح المطلك. القائمة العراقية رأت في هذه التطورات استهدافاً لها ومحاولة لعزلها عن الساحة السياسية، فعملت على الانسحاب من الحكومة والبرلمان احتجاجاً على ذلك.
لكن عزيمة المالكي لم تهن، وأصرّ المرة تلو الأخرى على انه إنما ينفذ أمر القضاء. فبعد أن صدرت المذكرة بتوقيع قاض واحد، وهذا كافٍ من الناحية القانونية، فان الحكومة عمدت إلى تحويلها إلى خمسة قضاة لتأكيد صحتها، ومن ثم نظر فيها أحد عشر قاضياً، وجاءت النتيجة كما المتوقع: المذكرة صحيحة. وذهب المالكي إلى أبعد من ذلك حين تحدث للقنوات الفضائية مؤكداً إن مجلس القضاء الأعلى "هدده" بإصدار مذكرة قبض بحقه إن لم ينفذ مذكرة القبض بحق الهاشمي. ومن المعروف إن القضاء لا يصدر أوامر من تلقاء نفسه، بل بطلب من جهة تنفيذية (أي المدعي بالحق العام) أو من الشخص الذي وقع عليه الضرر (أي المشتكي) بعد تقديم الأدلة الكافية، ونحن لا نعرف أياً من هؤلاء لديه الرغبة في الادعاء على المالكي بالتقصير في تنفيذ مذكرة القبض المشار إليها، أو انه يملك الدليل على ذلك.
على كل حال، إذا كان المقصود من المؤتمر الوطني "الذي رفعت جلساته للأسبوع المقبل" أن يعمل على تقريب وجهات النظر ووضع حلول للمشاكل العالقة، فان قضية الهاشمي لا يمكن أن تكون – نظرياً– إحداها. فبعد كل هذا التصعيد الإعلامي، وتأكيد كافة الأطراف على استقلالية القضاء، فان من الصعب رؤية حل سياسي ما يؤدي إلى تمييع أو حفظ أو تجميد الدعوى القضائية بحق الهاشمي. يمكن الاتفاق على إجراء المحاكمة في مكان آخر غير بغداد، ويمكن الاتفاق على شخوص القضاة، لكن هذا أكثر ما يمكن أن تحصل عليه القائمة العراقية لمساعدة أحد رموزها. ولكن ماذا عليها أن تقدم للحصول على ذلك؟ ربما يتوجب عليها إعادة نوابها إلى البرلمان ووزرائها إلى الحكومة كإجراء أولي، لكن عليها أيضا أن تتنازل عن بعض مطالبها السابقة، مثل تشكيل مجلس السياسيات العليا، وحصولها على وزارة الدفاع. لقد نجح رئيس الحكومة في دفع خصومه إلى موقع الدفاع، وبالتالي فان كل ما يمكن أن يحصل عليه هؤلاء هو محاولة استعادة جزء من موقعهم السابق. ومن ثم، فان المالكي يكون قد حصل على مكسب آخر، مهما يكن طفيفا، إلا انه مهم.
وقد كانت هذه السياسة نهجا ثابتا له منذ أن تسنم منصبه قبل ست سنوات، وظهرت بشكل جلي بعد الانتخابات الأخيرة، حيث استغرق تشكيل الحكومة برئاسته فترة حوالي عام كامل قبل أن يصادق عليها البرلمان. من بين الأزمات التي ساهم في إثارتها قضية اجتثاث بعض المرشحين، واغلبهم من القائمة العراقية، بحجة انتمائهم إلى حزب البعث المنحل. وكان من بين المجتثين السيد صالح المطلك. لكن الصفقات السياسية التي جرت خلف أبواب مغلقة قلبت هذه المعادلة، لنجد المطلك نائباً لرئيس الوزراء، وهو ما اعتبرته (العراقية) نصراً لها. والواقع إن المالكي استطاع ببراعة أن ينزع شوكة القائمة العراقية من خلال إيهامها بالحصول على مكاسب وإرغامه على القبول بشخصيات لا يحبها كثيراً. هذا الوهم الذي تلبست به (العراقية) أدى بها إلى التواني عن المطالبة بتشكيل مجلس السياسيات العليا، والإسراع بتعيين أحد مرشحيها وزيراً للدفاع.
لا يزال أمام المؤتمر الوطني فرصة للنجاح، لكنها محدودة. فأحد أهم عوامل نجاحه أن يحضر الجميع بنية الاتفاق، وان يبدأ ببحث ما يريده الشعب أولاً. فليست قضية الهاشمي هي ما يؤرق هذا الشعب المسكين، بل مشاكل أكثر عمقاً وتأثيراً من تقديم الخدمات الأساسية إلى توفير فرص العمل وإعادة الإعمار بشكل جدي. والشعب يرى أن استمرار الأزمة، كائنا من يكون مُسببها، يؤدي إلى مزيد من التقصير من جانب حكومته. نعم، يتوجب حل المشاكل السياسية من أجل تصفية الأجواء بين رموز السلطة، لكن الكل يعلم أن ليس من وصفة جاهزة لحل أزمات السلطة. لذلك قد يكون من الأجدى السعي إلى إبطال هذه الأزمات من أساسها.
وأرى أن على (العراقية) ان لا تسعى الى الحصول على صفقة للسيد طارق الهاشمي، بل إن تقدمه إلى القضاء من أجل محاكمة تكون علنيتها ضمان نزاهتها. بدلاً من ذلك على العراقية أن تطالب بتشكيل مجلس السياسيات العليا المنصوص عليه في اتفاق تشكيل الحكومة الحالية المعروف بـ(اتفاق أربيل) فوراً. وقد لا يكون هذا المجلس مهماً من الناحية القانونية، لكنه سيشكل أهمية بالغة من الناحية السياسية. فحكومة الشراكة الوطنية التي يتزعمها المالكي تعاني تفكك تلك الشراكة بفعل النزعة الانفرادية لرئيس الحكومة. وعلينا أن نعي بأن رغبة التفرد بالحكم، لدى أي حاكم وفي أي نظام، هي غريزة أساسية لا يحد منها سوى رقابة شركائه في الحكم. فان غاب دور الشركاء، فما من رادع لتلك الغريزة. كما إن على (العراقية) أن تطرح مسالة تجديد الثقة بالحكومة مكتملة خلال سقف زمني محدد.
من جانب آخر، فان من المهم الاتفاق على ايقاف التصعيد الاعلامي الذي يقض مضجع المواطن العادي من آن لآخر. فغير واحد من النواب من كل الاطراف المتصارعة خرج على شاشات الفضائيات محذرا من الفتنة الطائفية والانزلاق نحو الحرب الاهلية، والعياذ بالله. ان قول مثل هذه العبارات قد يكون مجرد تحذير يراد منه اخذ موقف سياسي من قضية ما، لكنه يقع على رؤوس افراد الشعب مثل الشهب المتساقطة من السماء. فليس بمقدور احد تصور حال البلاد ان هي ذهبت بالاتجاه الذي يرسمه لنا ساستنا البواسل، الا هؤلاء الذين خبروها وشهدوا مآسيها. يجب ان ينجح المؤتمر الوطني في ان ينزع فتيل الازمة الراهنة، ويجب ان يضع آلية لنزع فتيل اية ازمة لاحقة، وهذا افراط في التفاؤل، لكن علينا ان نكون متفائلين مقابل كل هذا التشاؤم الذي يسود الاجواء.