من بين الكثير من الأوضاع الشاذة التي أصبحت قاعدة في العراق على يد النظام السابق تبرز مسألة الدعم الحكومي للمواد الأساسية التي تمس حياة المواطن، وبالذات المواد الغذائية. فقد درجت الدولة على توزيع المواد الغذائية والأدوية والملابس والأدوات الاحتياطية للسيارات وغيرها بأقل من أسعارها الحقيقية تحت طائلة الدعم الحكومي معتبرة ذلك إنجازا وتسهيلا لحياة المواطن.
وفي الحقيقة فان هذا الدعم لم يسهل حياة المواطن، بل جعلها أكثر صعوبة. فقد أصبح احتكار الدولة لقطاع التجارة، علاوة على القطاعات الأخرى، سلاحا فعالا للسيطرة على حياة المواطنين بشكل مباشر، وقتلت روح المبادرة الفردية والتنافس الحر، العاملان الرئيسان في تطوير الاقتصاد الوطني، وإقامته على أسس متينة تستطيع أن تساير الحركة الاقتصادية العالمية.
وحينما وجدت الدولة أنها ستعرقل الحركة الاقتصادية باستمرارها في تقديم الدعم، فتحت الباب أمام كمية محدودة ومنتقاة من التجار لممارسة عمليات الاستيراد والتصدير، وان كان تحت إشراف الدولة أيضا. وخلق استمرار تقديم الدعم المادي للبضائع الأساسية مع وجود بضائع تجارية حالة من الازدواجية التي لم يستطع الشعب أبدا أن يفهمها. وكانت النتيجة أن غالبية الشعب العراقي اعتقد بفشل نظام الاقتصاد الحر، لما شهده من ممارسات غير شرعية ولا إنسانية من الكثير من التجار الذين كانوا في الحقيقة ربائب للنظام نفسه.
ولما جاء الحصار الاقتصادي في التسعينات كأحد نتائج السياسة المتهورة لهذا النظام، ابتدع فكرة البطاقة التموينية التي تعطي حصة لكل فرد من مجموعة محدودة من المواد الأساسية. ثم أصبحت تستغل سياسيا للضغط على فئات معينة من الشعب، والتهديد بقطعها، وتخفيض محتوياتها دون إيجاد البديل المناسب. ومع الإبقاء على مستوى الدخل الفردي متدنيا إلى ابعد حد، وغياب الحركة التجارية الفعالة، وتأخر الصناعة والزراعة بشكل مأساوي، لم يعد أمام المواطن البسيط سوى الاعتماد على هذه البطاقة التي تبقيه حيا، ولكن لا تقدم له أي شيء يليق بامكانات بلد ثري.
لقد صرف النظام البائد أموالا طائلة في دعم البطاقة التموينية بدل أن يوفر فرص العمل، ويرفع الحالة المعاشية للمواطنين.. ومن المفجع أن جزءا كبيرا من تلك الأموال كان يذهب كمصاريف إدارية، ورشاوى، وعقود وهمية، وشراء ذمم وتصرفات كثيرة غير شرعية، خصوصا بعد أن تبنتها الأمم المتحدة في برنامج النفط مقابل الغذاء، أو النفط مقابل الولاء إن شئت.
واليوم وبعد تحرر العراق من قبضة ذلك النظام الفاسد، يجدر بنا مراجعة وضع الدعم الحكومي، سواء للبطاقة التموينية أو للأشياء الأخرى التي تقدمها الدولة، كالوقود والخدمات البلدية والماء والكهرباء.. فهي تستنزف ثروة البلد في قضايا استهلاكية بدل أن توجه تلك الثروة لبناء قاعدة اقتصادية متينة تحسن وضع الفرد وتوفر فرص العمل لشريحة واسعة من المواطنين. صحيح أن إيقاف التوزيع المجاني لمفردات البطاقة التموينية سوف يؤثر سلبا على بعض المواطنين العاجزين عن توفير ابسط مستلزمات المعيشة الكريمة، إلا أن ذلك يمكن تلافيه أو الحد منه بشكل كبير، بإيجاد نظام مدروس للضمان الاجتماعي للطبقة المعوزة، أو العاجزة عن العمل. سيما وان معظم دوائر الدولة لا تعمل الآن إلا بجزء بسيط من إمكانياتها، نظرا للظروف الأمنية ولطغيان العملية السياسية على كل ما سواها. يجب البدء بالتفكير حول كيفية رفع العراق إلى مستوى الأمم الناضجة، التي تعتمد شعوبها على جهودها الذاتية في كسب قوتها، وليس على اقتناء مستلزماتها الحياتية بشكل آلي. ولا شك أن إيقاف الدعم الحكومي سيسبب ارتفاعا في أسعار المواد الغذائية، والمواد الأخرى بشكل كبير، ولكنه قد لا يكون أمرا سيئا كما يبدو. فقد قال لي احد المحللين الاقتصاديين إن ارتفاع الأسعار دلالة على قوة الاقتصاد، إذا رافقه ارتفاع في القدرة الشرائية.. ونلاحظ في هذا المقام أن الدول ذات الاقتصاد القوي كاليابان والولايات المتحدة وألمانيا والأمارات العربية المتحدة وغيرها تكون ذات مستوى أسعار أعلى من غيرها.. وبالتالي تستقطب رؤوس الأموال وتشجع التجارة وتزيد الاقتصاد قوة إلى قوته. وليس معنى ذلك أن كل ارتفاع للأسعار هو أمر جيد، فالارتفاع الناتج عن شحة المعروض هو أمر بالغ السوء. وتلك نقطة مهمة، فيجب قبل اتخاذ الإجراء الحاسم بوقف الدعم الحكومي التأكد من أن المعروض يزيد على الطلب المحلي لفترة مناسبة، مما يمنع الارتفاع الجنوني للأسعار.
ومن ناحية أخرى، فان المواطن سيسعى إلى استغلال البضاعة أو الخدمة التي يدفع تكلفتها الحقيقية بالشكل الامثل، ويرشد في استهلاك الطاقة، مما سيقلل الهدر المستمر للثروة الوطنية منذ عقود من الزمن. ويمكن أن يؤدي استقرار السوق المحلية بأسعار موازية للأسعار العالمية إلى زيادة الثقة بالاستثمار المحلي دون خوف من نكسة تسببها الدولة بتدخل غير محسوب في إدارة الدفة الاقتصادية.
إن استمرار الدعم الحكومي هو هدر لمقدرات البلد، وتأخير لعجلة التنمية، كما انه يكبح الحركة التجارية ويقيد الصناعة والزراعة بشكل كبير. ورغم أن هذا القرار لن يكون سهلا على أية قيادة، كما إن فهمه سيكون غاية في الصعوبة لمعظم أفراد الشعب، لكن اتخاذه سيكون خطوة تاريخية مهمة في رسم مستقبل العراق وبناء اقتصاده بشكل حضاري ومنفتح، بحيث لا تسيطر عليه الدولة فيصبح أداة للقهر والاستبداد من جديد.