في خضم العملية السياسية المتأزمة حينا والمنفرجة أحيانا أخرى، وفي ظل ظروف أمنية معقدة قلّ مثيلها في تاريخ العراق الحديث، ربما لا يُعدّ الحديث عن قانون لإيجار العقارات بنوعيها السكنية والتجارية أمرا ذا بال. والواقع ان الجمعية الوطنية، وان أنجزت احد أهم واجباتها وهو الدستور، إلا إنها أهملت بشكل واضح واجبات أخرى تتصل بصلب عملها كمؤسسة تشريعية، ذلك هو إقرار القوانين التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، فضلا عن وضع الضوابط والتعليمات التي تكفل تطبيق هذه القوانين بشكل سلس وسليم.
وفي الحقيقة فان ما يهم المواطن العادي بالدرجة الأولى هو تلك القوانين والأنظمة المتعلقة بها، كونها تضع الأساس المادي للتعامل بين أفراد المجتمع ضمن إطار يتفق عليه الجميع، وتهيئ الظرف المناسب للاستثمار التجاري، وتمنع الاستغلال والانتهازية من التغلغل إلى نفوس بعض الأفراد الذين لا يردعهم عن تحقيق مآربهم على حساب الآخرين سوى قانون حازم يضع النقاط على الحروف. ومن ناحية أخرى فان تشريع القوانين هو استجابة لحاجات المجتمع من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وان تعلق بعض هذه القوانين بالنواحي السياسية والثقافية والأمنية بطبيعة الحال.
ان استغراق البلاد في عملية سياسية طويلة وشائكة يجب ان لا يمنع التفكير في مشاريع لاستصدار قوانين تمس حياة المواطنين ومصدر رزقهم، وتهيئ الأرضية للنمو الاقتصادي المتوقع من بلد الثروات المتعددة. وإذا كانت الجمعية الوطنية الحالية غير قادرة عمليا على مثل هذه التشريعات بسبب طبيعة توزيع المقاعد البرلمانية وسيادة مبدأ المحاصصة، علاوة على غياب ممثلي محافظات غرب العراق، فقد يكون من المناسب البدء بالتحضير لمثل هذه المشاريع لمجلس النواب القادم الذي قد يكون أكثر تمثيلا، واقل تعلقا بالمشروع السياسي.
ولا يخفى ان من أهم عوامل التباطؤ الاقتصادي في الوقت الراهن هو غياب التشريع الواضح الذي يرسم الإطار القانوني لعلاقة مالكي العقارات بمستأجريها، إثر قيام النظام السابق برفع اليد عن هذه المعاملة، وتركها حرة تـُحدد صُوريّا بين طرفيها، وعمليا عن طريق طرفها الأكثر قوة وهو مالك العقار. وفي الواقع ان تلك العلاقة كانت تحكمها قبل ذلك الإجراء الحكومي تنظيمات وقوانين وضعت القوة القانونية بيد المستأجر، الذي كان بمجرد توقيعه عقد الإيجار يصبح المالك الفعلي لذلك العقار مقابل بدل الإيجار غير القابل للزيادة قانونا. وقد أرادت الدولة ظاهريا –آنذاك- ان تعيد التوازن إلى هذه العلاقة غير المتكافئة بإلغائها العقارات التجارية والصناعية من قائمة العقارات التي لا تسمع المحاكم دعاوى إخلائها، شأنها في ذلك شأن العقارات السكنية، ولكن الاستثناء بقي بالنسبة لتلك الأخيرة. والحق ان هذا الإجراء ساعد في ازدياد العقارات التجارية المعروضة للإيجار، وشجع بناء المزيد منها ولفترة محدودة، ولكن على حساب ارتفاع بدلات الإيجار بشكل مضطرد وعدم خضوعها إلى ضوابط سوى تقدير أصحاب تلك العقارات، واضطرار المستأجرين إلى القبول بأي قيمة للإيجار –مهما تكن مجحفة- وإلا تعرضوا لفقدان مصدر رزقهم. وقد تكون هناك أسباب أخرى حملت الدولة على رفع الحماية عن المستأجر تتعلق بتحقيق ضربة تجارية كبرى للمتنفذين في تلك الدولة والذين اشتروا عقارات كثيرة بثمن بخس قبل صدور التشريع ثم ارتفعت أسعارها أضعافا مضاعفة بعد صدوره ودخوله حيز التنفيذ.
ونحن إذ نعتقد ان إعطاء المستأجر كامل الحق في التصرف هو أمر غير عادل، فإننا في الوقت ذاته لا نجد عدلا في إعطاء هذا الحق لمالك العقار وحده. وقد أثبتت التجربة الواقعية ان كثيرا من مالكي العقارات قد تصرفوا بشكل غير منصف مع المستأجرين الذين شغلوا تلك العقارات لفترات طويلة. وحتى الذين أعطوا بدلات إيجار مقاربة لمستواها السوقي لم يسلموا من التهديد بالطرد أو الإخلاء، واضطروا إلى زيادة تلك البدلات المرة بعد الأخرى، أو إخلاء محالهم التجارية ومصانعهم ومخازنهم وما شابه. وأدى ذلك إلى أضرار فادحة على مستوى الاقتصاد الفردي واقتصاد الأسرة، وصولا إلى الاقتصاد الوطني. ان انخفاض عدد العقارات الصناعية المشغولة تحديدا قد الحق بالتأكيد ضررا بالغا بالاقتصاد الوطني، نتيجة قلة المعروض من المنتجات المحلية والاستعاضة عنها بالمستورد، وما يترتب على ذلك من خروج للعملة الصعبة وارتفاع أسعار النقل التجاري وضياع الخبرات المحلية وإهدار المواد الأولية المحلية أو تصديرها بأثمان زهيدة.
وبناء على ذلك، يجب التفكير أولا بالمصلحة الوطنية العليا المتمثلة في تشجيع الصناعة والاستثمار الصناعي، والتجارة الداخلية، وتحريك مفاصل الاقتصاد الحر ضمن الضوابط العادلة لأطراف المعاملات كافة، ومنها معاملات الإيجار. كما يجب وضع البدائل المناسبة لضمان عدم وقوع احد طرفي المعاملة تحت الضغط المجحف، أو الشعور بغياب الخيارات التي تدفعه إلى الرضوخ أو الانصراف عن المشروع برمته. ونشير هنا إلى ان البلد يشهد حالة من الاستقرار المالي من ناحية ثبوت سعر صرف الدينار مقابل العملة الصعبة، مقارنة بفترة ما قبل السقوط التي تميزت بتدهور مستمر لسعر الدينار مقابل العملات العالمية. ومثل هذا الاستقرار كان يمكن ان يكون كفيلا بتحقيق استقرار في الأسعار بشكل عام. غير ان الأسعار السوقية ظلت في حالة من التصاعد لأسباب كثيرة، منها عدم الاستقرار الأمني، والطفرة التي شهدتها رواتب الموظفين، وانخفاض الإنتاج الزراعي والصناعي، وعودة المهاجرين وما شكل ذلك من ازدياد الطلب على البضائع، ونشوء طبقة المقاولين والتجار الجدد الذين حولوا أموالهم وودائعهم من العملة الصعبة إلى خارج البلاد بدلا من استثمارها داخله خوفا على حياتهم وأسرهم. كذلك تسببت العودة المفاجئة للمغتربين، وظهور رساميل كبيرة بيد طبقات كانت متوسطة، في ازدياد الطلب على العقارات والأراضي وبالتالي ارتفاع اسعارها بشكل خيالي وخلال مدة قصيرة يعجز السوق المحلي عن استيعابها. ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات بدلات الإيجار التجاري، تحقيقا لمبدأ الاستثمار العقاري الذي يعتمد أساسا على قيمة العقار في تحديد مقدار عائداته. وبالمقابل أدت زيادة معدلات بدلات الإيجار إلى ارتفاع أسعار البضائع بجميع صنوفها، ودفع المستهلك جزءا من هذا الفرق، ودفعت الطبقة الوسطى المُشغلة لهذه العقارات الجزء الآخر.
وأخيرا فان غياب النظام الضريبي قد ساهم هو الآخر في إطلاق يد مالكي العقارات، بالإضافة إلى الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية في غير واحد من مفاصل الدولة، مما جعلها عاجزة عن التصدي للجشع والاستغلال التجاري، وشلّ دورها الرقابي سواء على العلاقات بين المالكين والمستأجرين، أو على مجمل العملية الاقتصادية المحلية.
ان محاولة استصدار تشريع لتحديد هذه العلاقة الحيوية، وتنظيم شؤون العقارات وكيفية وظروف استغلالها ستواجه حتما ما ذكرناه من عوائق، يضاف إليها ضعف الوعي القانوني وعدم الثقة بالدولة الموروث عن الحقبة السابقة، والذي ساهمت الدولة في وضعها الراهن على ترسيخه بإهمالها وانشغالها بالعملية السياسية كأولوية أولى. لذلك يجب التخطيط مسبقا لنشر وعي قانوني، والعمل على تعميق الثقة بالدولة وبإجراءاتها من خلال إشراك المواطن بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مناقشة مشاريع القوانين عموما، وعدم الانفراد باتخاذ القرار باعتبار مجلس النواب منتخباً وممثلاً للشعب. فالشفافية الحكومية مبدأ واجب التطبيق حتى بالنسبة للحكومات المنتخبة، لضمان بقائها قريبة من حاجات وآمال وتطلعات الشعب.
وإذا كان لنا ان نضع مسودة لمشروع هذا القانون، فجري بنا السعي استنادا إلى المعطيات أعلاه، الى ان يكون كما يلي:
ـ1ـ ان هذا القانون هو من اجل تحديد شكل العلاقة بين مستأجر ومؤجر العقار وهو المرجع الوحيد في حل الخلافات الناجمة عن العقد المبرم بموجبه، كما انه الأساس الوحيد لإجراء عقود الإيجار (التجارية والصناعية).
ـ2ـ تشرف الدولة على تطبيق هذا القانون عن طريق هيئة متخصصة تشكل من قبل السلطة التنفيذية المناسبة، وترسل الهيئة ممثليات لها في المحافظات على شكل لجان تنفيذية. ولهذه الممثليات والهيئة ذاتها صلاحيات البت في الخلافات ضمن اختصاصاتها، ويمكن لها الإحالة إلى المحاكم المختصة في حالات التعسف، كما يمكن استئناف قراراتها أمام المحاكم المدنية. وتكون قرارات المحاكم المختصة نهائية وملزمة لطرفي الدعوة وللهيئة وممثلياتها على حد سواء.
ـ3ـ تشكل الهيئة والممثليات لجاناً فنية تعمل على ترسيم مراكز المدن والاقضية والنواحي حسب القيمة السوقية لعقاراتها، وتعتمد سلما من خمس درجات (أو أكثر) في تحديد القيمة للعقارات التجارية:
أ) عقار درجة أولى في وسط المدنية ب) عقار درجة ثانية في وسط المدينة ج) عقار درجة أولى في الضواحي د) عقار درجة ثانية في الضواحي هـ) عقار في منطقة سكنية. كما تعتمد سلما من ثلاث درجات (أو أكثر) للعقارات الصناعية: أ) عقار درجة أولى في منطقة صناعية ب) عقار درجة ثانية في منطقة صناعية ج) عقار في منطقة غير صناعية.
ويعتمد تحديد الدرجة على كون العقار مطلا على شارع تجاري، ومقدار كثافة المرور الراجل والآلي، وسهولة وصول وسائل النقل بأحجامها المختلفة.
ـ4ـ تقوم الهيئة وممثلياتها بإعداد جداول للقيمة التقديرية لبدلات الإيجار اعتمادا على تصنيف العقار (الوارد في الفقرة (3))، إضافة إلى المعايير التالية:
أ) حالة العقار العمرانية وعمره الزمني.
ب) مساحة العقار الكلية، حيث تضاف فوارق نسبية لكل متر مربع تزيد عن الحد الأدنى للمساحة (حيث يحتاج إلى تشريع مستقل).
ج) عرض واجهة العقار، حيث تضاف فوارق نسبية عن كل متر طول يزيد على الحد الأدنى للواجهة (بما يحتاج إلى تشريع مستقل).
د) كون المحل المستأجر في الطابق الأرضي، أو الطوابق العليا أو الدنيا، حيث يخفض من القيمة التقديرية بنسبة مماثلة لارتفاع العقار أو انخفاضه عن مستوى الأرض. ان هذه النسبة ليست ثابتة وتعتمد على التسهيلات المتوفرة في المباني، كالمصاعد والسلالم الواسعة وما أشبه، فكلما زادت التسهيلات قلت نسبة التخفيض، وبالعكس.
هـ) مدة العقد، حيث تكون قيمة بدل الإيجار اقل كلما كانت المدة أطول، على ان يمنح المالك إعفاء ضريبيا مماثلا لهذا التخفيض (يحتاج إلى تشريع مستقل).
و) يجب ان تخضع جميع العقود إلى الإجراءات الضريبية، ويعتمد نظام ضريبي تصاعدي نسبة إلى قيم بدلات الإيجار كلاً على حدة، ويعتمد مبدأ التشجيع على قبول بدلات إيجار اقل من القيمة التقديرية مقابل إعفاءات ضريبية (يحتاج إلى تشريع مستقل).
ز) أية ضوابط أخرى محلية.
ـ5ـ إصدار تشريعات مناسبة لتنظيم شؤون العقارات في الأسواق الحرة، والمناطق السياحية والأثرية، وللاستثمارات الأجنبية، وللمشاريع الكبرى والمتوسطة، وكيفية استغلال الموارد المتاحة من مياه وطاقة ضمن حدود العقار أو ما يحيط به.
ـ6ـ تعمل الدولة على تشجيع بناء المجمعات التجارية من خلال القروض العقارية الميسرة. كما تأخذ على عاتقها تنظيم المدن لإنشاء أسواق بديلة لتخفيف الضغط عن الأسواق التقليدية، وإنشاء المناطق الصناعية، وبناء المجمعات التجارية والصناعية الصغيرة وتأجيرها بمستويات تقل بشكل واضح عن مستويات الإيجار السائدة لخلق الموازن العملي واستيعاب الفائض. كما يجب مراعاة عدم الإجحاف بمالكي العقارات بتدخل الدولة، أو تحويل الدولة إلى المالك الفعلي للعقارات التجارية والصناعية من خلال التوسع المفرط في هذا الإجراء.
ـ7ـ يطبق هذا القانون على العقارات التي سبق ان تم تأجيرها واستغلالها. وتعدّ كل معاملة سابقة باطلة قانونا، ولكن يمكن جدولة التطبيق خلال فترة زمنية مناسبة.
ـ8ـ يجب ان يضمن عدم تعديل هذا القانون أو إلغاءه قبل فترة مناسبة من دخوله حيز التنفيذ. كما يجب ان يكون التعديل بطريقة تضمن مشاركة النقابات المهنية، وغرف التجارة والصناعة، والشرائح الاجتماعية التي يشملها.
ـ9ـ يمكن اعتماد مبدأ الاستفتاء الشعبي لإقرار هذا القانون، وتعديله لاحقا، على ان يقرّ أو يعدل في مجلس النواب أولا.
ان هذا المشروع ليس إلا نتاج حالة تأمل يمكن أن تغنى من قبل المختصين بالقانون. كما انه يتطلب تشريعات قانونية أخرى قد تتعدى حدود الملكية العقارية والمعاملات بشأنها، ليتناول تحقيق تنمية اقتصادية شاملة وإشراك الدولة في تفاصيل هذه المعاملات. وقد يؤدي تدخل الدولة هذا إلى نشوء بيروقراطية إدارية معرقلة لمسيرة التنمية، ولكنها في الوقت نفسه ستكون، إذا أحسن بناؤها وتنظيمها، موازنا منطقيا لحماية أرباب المصالح والمستهلكين على حد سواء.