يقول المثل العراقي الدارج: "تريد ارنب خذ ارنب، تريد غزال خذ ارنب". ولعل الدستور المقترح من قبل الجمعية الوطنية بالصيغة التي تم الاعلان عنها عبر وسائل الاعلام، هو احد مصاديق هذا المثل الشعبي. فرغم ان هذه الوثيقة احتوت على مواد متميزة تضمن حقوق الانسان وتؤسس لديمقراطية حرة في منطقة قلما تمتعت بها، الا ان هناك نصوصا واحكاما ربما فرضتها طبيعة المرحلة الراهنة، والمداولات السياسية بين الاطراف المتجاذبة، وحتى الضغوطات الخارجية، سواء من الولايات المتحدة او حلفائها، او من قبل الامم المتحدة التي يفترض ان تكون راعية العملية الديمقراطية برمتها.
وليس من المتوقع ان تخرج نصوص الدستور كاملة لا يشوبها نقص، حتى لو تسنى للجنة الدستورية الوقت الكافي. ذلك ان عمل الانسان قلما يقترب من الكمال، وهو الكائن الضعيف الذي يشعر بعجزه في كل حين. فما بالك وقد كتب الدستور في فترة قياسية لم تتعد اشهر قليلة، شابتها الكثير من المجادلات والمهاترات السياسية، وغاب عنها دور التكنوقراط الذين كان يمكن ان يشذبوا بعضا من الاسفاف الوارد في النصوص، كما يمكن ان يقترحوا اساليبا براغماتية للتعامل مع القضايا الخلافية. على كل حال اصبح لدينا (دستور)، واصبحت الكرة في ملعبنا. فالحكم النهائي هو التصويت الشعبي على قبول تلك الويقة او رفضها. ويجد المثقفون انفسهم في حرج لم يكونوا يتوقعوا ان يوضعوا فيه. فهم في الوقت الذي ينتقدون نصوصا وموادا في الدستور المقترح، فانهم لا يدعون الى رفضه ككل. وليس هناك آلية للتعديل ضمن السقف الزمني المتاح لحين الاستفتاء العام في 15 تشرين اول المقبل. انهم يشعرون ان اقرار الدستور هو امر ضروري لدفع العملية السياسية في العراق، ويدركون ان رفض الدستور قد يعني ادخال العراق في دوامة الفوضى السياسية، وربما يمهد لحرب اهلية –لاسمح الله-. وهكذا فهم يقبلون باحلى الامرّين، ويأملون ان يصار الى تعديل المواد التي تقض مضجعهم مستقبلا.
وقد فطن كاتبوا هذا الدستور الى هذا الامر، فجعلوا من عملية التعديل امرا غاية في الصعوبة، حسبما تشير الى ذلك المادة 136، التي تتعامل مع كيفية تعديل الدستور:
"اولا: لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين او لخمس اعضاء مجلس النواب، اقتراح تعديل الدستور.
ثانيا: لايجوز تعديل المبادئ الاساسية الواردة في الباب الاول من الدستور، الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.
ثالثا: لايجوز تعديل المواد الاخرى غير المنصوص عليها في البند ثانيا من هذه المادة الا بعد موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.
رابعا: لايجوز اجراء اي تعديل على مواد الدستور بما ينتقص من صلاحيات الاقاليم التي لاتكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية الا بموافقة السلطة التشريعية في الاقليم المعني وموافقة اغلبية سكانه باستفتاء عام.
خامسا: يعد التعديل نافذا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية."
فتعديل الدستور يبدأ اما بجميع اعضاء السلطة التنفيذية او بنسبة عشرين في المئة من مجلس النواب. وهذا يعني ان الاقليات التي تشكل اقل من هذه النسبة لن يتسنى لها ابدا ان تقترح تعديلا للدستور الا اذا عقدت تحالفا سياسيا مع جهة ثانية، وبالتالي فانها ستلجأ الى تقديم تنازلات او الموافقة على شروط مجحفة مقابل اقتراح تعديل الدستور. واذا كان لابد ان يوافق مجلس النواب على التعديل باغلبية الثلثين، فلماذا لا يكون هذا التعديل مقترحا بسيطا يمرر كأي مقترح اخر داخل المجلس؟
لكن هذا الامر يهون الى جانب ما تضمنته الفقرة (ثانيا) من المادة 136، والتي تفرق بين ابواب الدستور من ناحية التعديل، فتفرض شروطا اضافية للباب الاول، تكاد تكون تعجيزية. والواقع ان هذه الفقرة كتبت بصيغة مبهمة وغير واضحة. فما المقصود من: "الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين"، هل هو السقف الزمني لاقتراح التعديل، أي لايمكن تعديل الباب الاول الا بعد ثماني سنوات من اقرار هذا الدستور؟ ام ان المقصود موافقة مجلسي النواب في كلا دورتيه المتعاقبتين، فيجري طرح التعديل في المجلس النيابي القادم وتحصل الموافقة عليه، ثم يعاد طرحه في المجلس الذي يليه لتحصل الموافقة عليه ثم يطرح للاستفتاء العام؟ غير ان النص لا يشير الى صيغة التثنية في: " وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه"، اذ لم يقل (مجلسي النواب) او (مجلس النواب في كل منهما)، مما يحملنا على الاعتقاد ان المقصود هو منع التغيير في الباب الاول للدستور لمدة ثماني سنوات على الاقل.
والباب الاول يتكون من ثلاثة عشرة مادة، حددت الاولى منها شكل نظام الحكم بجمهوري النيابي الاتحادي (الفدرالي)، والثانية علاقة التشريع بالدين الاسلامي ومباديء الديمقراطية وحقوق الانسان. والمادتين الثالثة والرابعة اشارتا الى طبيعة القوميات العرقية والطوائف في العراق، والمساواة بين اللغتين العربية والكردية رسميا، فيما تحدثت المادتين الخامسة والسادسة عن سيادة القانون وتداول السلطة سليما. اما المادة السابعة فقد جمعت بين تحريم الفكر التكفيري والعنصري ومحاربة الارهاب، معتبرة ان حزب البعث هو احد هذه المؤسسات التي تحرض وتروج للارهاب. ولكنها اوجبت على الدولة ان تعمل على منع ان تكون اراضي العراق مقرا للنشاطات الارهابية، خصوصا مع ما تلزم به المادة التالية (الثامنة) الدولة العراقية من حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والالتزام بالمعاهدات الدولية. اما المادة التاسعة فقد اناطت الاشراف على القوات المسلحة واجهزة الامن والمخابرات بالسلطات المدنية، وتمثيل مكونات الشعب العراقي بشكل (متوازن) ضمن هذه الاجهزة، كما حظرت تشيكل مليشيات مسلحة خارج اطار القوات المسلحة، والزمت العراق بالاتفاقيات الدولية لحظر انتشار اسلحة الدمار الشامل. المادة العاشرة تحدثت عن العتبات المقدسة ككيانات دينية وحضارية يجب على الدولة ان تصونها، وان تضمن حرية ممارسة الشعائر فيها. المادة 11 حددت بغداد عاصمة للعراق والمادتين 12 و13 تحدثتا عن علم العراق وشعاره ونشيده الوطني، والعطل الرسمية والدينية وكون هذا الدستور هو القانون الاسمى الذي لا يجوز ان تصدر القوانين، سواء اتحادية او محلية الا متوافقة معه.
من هذا الاستعراض السريع لتلك لمواد الباب الاول، نجد ان معظم القضايا الخلافية قد وردت فيه، وهي الفدرالية، وعلاقة الدين بالدولة، وعلاقة العراق بالامة العربية، ودور حزب البعث، كما ثبتت المحاصصة الطائفية في الاجهزة الامنية. وهي امور لابد ان لجنة كتابة الدستور ارادت ان تتأكد من عدم تغييرها لفترة طويلة نسبيا من الزمن حتى يتاح لها ان ترسخ في التطبيق العملي ويصبح من غير الواقعي تعديلها او الغاؤها. وهذا امر غريب، فكيف يتم تثبيت امور لم يتم التفاوض بشأنها اكثر من بضعة اشهر؟ مع الاخذ بنظر الاعتبار ان تلك المفاوضات لم تكن متوازنة طالما كان احد اطرافها مغيبا او متغيبا عن التمثيل البرلماني. واذ لم تحصل الصيغة التوافقية التي ينبغي ان يمرر بها الدستور، فلا يجوز ان توضع عراقيل خاصة في وجه تعديله، سيما اذا كانت هذه العراقيل مخصصة بالقضايا الخلافية.
لكن التعديل في الابواب الاخرى ليس سهلا باي حال. فهو يقتضي موافقة ثلثي مجلس النواب، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية. ولست ادري ما الذي يخشاه واضعوا الدستور من التعديل ليجعلوه بهذه الصعوبة، اذ من المعروف انه قد يكون من العسير الحصول على اغلبية الثلثين في اي حال. وكان يمكن ان يكتفى بالاغلبية البسيطة، طالما ان القرار في النهاية هو قرار الشعب عبر الاستفتاء. والواقع ان صيغة الاستفتاء هي عودة بالديمقراطية الى الاصول، حيث انه من الناحية النظرية يمكن ان يمارس الشعب حقه بشكل مباشر في كل القضايا الحساسة والمصيرية من خلال التصويت على قبول او رفض قانون او تشريع ما. ولكن هذه الممارسة بطيئة ومكلفة جدا، لذلك يصار الى التمثيل البرلماني للشعب. على ان التحول الى البرلمان لا يعني ان له ميزة على الشعب، فيبقى قرار الشعب هو الحكم النهائي. على ان واضعو هذه الفقرة ذهبوا اكثر من ذلك، فرهنوا موافقة الشعب، ومن قبلها اغلبية ثلثي مجلس النواب، بمصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام. فماذا الذي يحدث ان رفض الرئيس التعديل؟ هل يكون فردا مقابل الشعب وبرلمانه؟ فاذا احتج بان هذه المصادقة بروتوكولية، وان الرئيس لا يملك صلاحية الرفض، قلت ان ذلك لا يظهر من خلال النص. ولو كان كذلك، لقيل مثلا "وعلى الرئيس المصادقة على النتائج خلال سبعة ايام" فتصبح فرضا عليه (او عليها)، لا تخييرا.
وعلى كل حال فان الفقرة (رابعا) من المادة 136 قد اتخذت جانب الصواب بمنع التعديل في الصلاحيات الاتحادية بما ينتقص من صلاحيات الاقاليم، وهذا مبدأ يتماشى كليا مع الفدرالية واللامركزية. الا ان المشكلة ان الفدرالية نفسها هي محط خلاف، واذا اريد تعديل الدستور لحذفها او تعديلها، فستكون هذه الفقرة من اكبر العوائق.
اننا لا ندعو الى آلية بسيطة في تعديل الدستور، لاننا ندرك ان ذلك سيؤدي الى عدم الاستقرار الدستوري من خلال التعديلات المستمرة عليه. ولكننا في نفس الوقت نعجب لجعل التعديل بهذه الصعوبة، وهو الدستور الاول الذي تعيه الذاكرة العراقية. وكان الاجدر ان تفرض صيغة لتعديله مشابهة لصيغة اقراره، وهي الواردة في الفقرة (ج) من المادة 61 من قانون ادارة الدولة المؤقت والتي تنص : " يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر"، مع استبدال كلمة (مسودة) بكلمة (تعديل). حيث ان هذه الصيغة تضمن حصول الاغلبية على حقها في اقرار التعديل، كما انها تتيح للاقليات ان تحتج او تعترض على التعديل اذا كانت من شأنه ان يلحق ضررا بمصالحها.
كما يمكن ان يتولى مجلس النواب هذه العملية برمتها، بالطريقة التي حددها قانون ادارة الدولة لتعديله، والواردة في المادة الثالثة (أ): "ولا يجوز تعديل هذا القانون الا بأكثرية ثلاثة ارباع اعضاء الجمعية الوطنية، وإجماع مجلس الرئاسة..."، وباضافة مجلس الوزراء ان شئت. وربما كان هذا هو الخيار الافضل في الوقت الراهن، طالما كان اجراء الاستفتاء امرا غاية في الصعوبة، وينطوي على مخاطر امنية، تقلل من فرص المشاركة الجماهيرية الواسعة. كما ان شعبنا لازال حديث العهد بالديمقراطية، ويتأثر بالاعلام بشكل مبالغ فيه، وبالتالي يمكن استغلاله لتحقيق طموحات مرحلية لبعض السياسيين، دون الالتفات الى المصلحة الوطنية العليا.