Tuesday, September 06, 2005

الدين والدولة في الدستور المقترح

بعد طول انتظار، وتمديد يتلوه آخر، ومفاوضات شاقة لا يبدو أنها كانت متكافئة، قدمت المسودة النهائية للدستور المقترح إلى الجمعية الوطنية. ورغم ان ذلك في مقاييس الزمن يعتبر إنجازا يستحق الثناء والعرفان، إلا ان الوثيقة التي قدمت لا يمكن ان توصف بالكمال، ولا حتى بالانسجام، لا من حيث المبادىء التي تضمنتها ولا الصياغات التي عبرت عنها.
ودائما سيكون عذر الزمن القصير تعليلا لبعض الأخطاء على اختلاف تأثيرها. ولكن كيف يمكن تدارك هذه الأخطاء عند عرضها على الشعب العراقي للاستفتاء؟ هل هناك آلية مراجعة طيلة فترة الشهر والنصف المتبقية؟ هل ان النقد الذي سيلي هذه السطور سيجد آذانا صاغية؟ لست ادري، ولكنني، طالما أني لم أشارك في وضع المسودة، أجد نفسي ملزما في طرح وجهة نظري.
ولا أريد في هذه العجالة ان اسرد البنود الكثيرة التي اختلف معها، ولكن رأيت ان ابحث واحدة من أكثر المسائل عقدية، والتي نالت نصيبا كثيرا من التفاوض، والحديث العام والخاص. تلك هي دور الدين في الدولة، والتي تحدثت عنها المادة الثانية، بما نصه:
"أولا- الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع :
أ- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.
ب- لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
ج- لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
ثانياً- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية. "
وأكاد أرى مجلسا للنواب يستعمل هذه المادة في تبرير أي قرار يصدره. وسيعمل كل حزب، وطائفة، وكتلة على ان يكون مشروع القرار الذي يقدمه مستندا إلى تلك المادة، بغض النظر عن كون تلك الكتلة أو الحزب متدينة أو علمانية، متطرفة أو اشتراكية، مؤمنة أو لا أدرية. والسبب واضح وجلي، أوليس القانون يجب ان لا يعارض الشريعة؟ أوليس القانون يجب ان لا يعارض الديمقراطية؟ فكيف يمكن ان يلتقيا؟
بادىء ذي بدء، لنعود إلى تعريف الديمقراطية كما أصبح متعارفا بشكل واسع: حكومة تمثل الشعب تعمل من اجل الشعب تنتخب من الشعب. وهذا يعني ان الشعب هو مصدر السلطات وهو الحكم النهائي عن طريق صندوق الاقتراع. ان الشعوب لا تصنع القوانين، ولكنها تتفاعل معها. والقانون الذي يسنه أي مجلس ممثل للشعب يجد مناصرين ومعارضين. وفي النهاية تتحكم الأغلبية. والأغلبية تعني أغلبية نواب البرلمان المنتخب بشكل عادل وشرعي، وليست أغلبية الطوائف التي تشكل نسيج المجتمعات. فلا يمكن -مثلا- إصدار قانون في برلمان المملكة المتحدة من شأنه ان يلحق أذى بالغا في أقلية عرقية أو اثنية، رغم انه قد يخدم مصلحة الأغلبية العددية المسيحية في تلك الدولة. ولا اقصد هنا مسألة حرية العقيدة والعبادة، فهي مكفولة في كل دساتير العالم، بل مسائل أخرى مثل الإقامة والعمل وما سواها.
والملاحظ ان لجنة صياغة الدستور استعملت الألفاظ (ثوابت أحكام الإسلام)، وليس (الشريعة الإسلامية) في محاولة لنفي استناد التشريع ككل على تلك الشريعة. والحقيقة ان هذه المفارقة اللغوية لا تنطلي على المتبصر، فالشريعة هي بالتأكيد مجموع ثوابت أحكام الإسلام. وليس هناك أشياء يفتي بها رجال الدين، ولا تعتبر من ثوابت الإسلام، والا كيف يطلب رجل الدين العمل بفتواه ان لم يتعبرها حكما ثابتا؟
من ناحية أخرى، يمكن ان يكون القانون متعارضا مع الشريعة الإسلامية، بطريقتين: مرة بسنه وأخرى بعدم سنه. لنفترض جدلا ان الشريعة الإسلامية واحدة، وهي ليست كذلك بحكم تعدد المذاهب، ولكن لنفترض حالات اتفقت عليها جميع المذاهب، فكيف سيتم الحكم على قانون مقترح انه موافق أو غير موافق للشريعة؟ إذا تقدم عدد من أعضاء مجلس النواب بمشروع قانون يمنع تصرفا معينا لوجود نص شرعي يحرمه، فهذا متوافق مع الشريعة تماما. ولكن هناك احتمال ان يسقط القانون لعدم حصوله على الأغلبية المطلوبة، فهل يعد عدم إصداره مخالفا للشريعة، وبالتالي مخالفا للدستور؟ وطالما كان النص المقدس غير قابل للجدل، فستكون الحجة حاضرة دائما لدى المتطرفين الذي سيدعون ان عدم إصدار القانون استنادا إلى هذا النص سيكون تعطيلا له، وبالتالي تعطيل للشريعة الإسلامية، ومن ثم انتهاكا للدستور. نعم، ان النص الدستوري يفترض الإيجاب، أي ان يكون هناك قانون صادر فعلا، وليس مشروعا ساقطا، ولكن المحتجون قد يجيبون بان النية في تطبيق الشريعة الإسلامية، بضمان عدم خرقها. وتعطيل النص المقدس سيكون خرقا واضحا لهذه الشريعة المحمية دستوريا.
أما إذا صدر هذا القانون المستند إلى الشريعة والنص المقدس، فلربما يحتج البعض بأنه مخالف لمبادىء الديمقراطية، وانتهاك للحرية الشخصية، إذا كان إتيان الفعل المشار إليه في أماكن خاصة، كالبيوت والنوادي التي يتفق روادها على أساليب وأفعال معينة ترضيهم هم دون باقي أفراد المجتمع، سيما إذا كانت هذه الأفعال مقبولة لدى بعض أفراد المجتمع خارج الأمكنة الخاصة أيضا. فكيف الخروج من هذا التناقض الذي تضمنه الدستور؟
مما لاشك فيه ان هناك نقاط التقاء كثيرة بين الشرائع عموما، والشريعة إسلامية خصوصا، مع مبادىء الديمقراطية. ولكن لا احد يدعى حصول انطباق كامل بينهما. فهناك تشريعات إسلامية لا تتوافق مع الديمقراطية، مثل الاسترقاق. وهناك حقوق اكتسبت من خلال تطبيق حرفي للديمقراطية تتعارض جوهريا مع مبادىء جميع الأديان مثل زواج المثليين. ومع ذلك، فان الشريعة الإسلامية تتميز بأنها دينامية، أي ان لها القدرة على مجاراة التطور الحاصل عبر الزمن. وكذلك يقال عن الديمقراطية أنها (رحلة وليست هدفا). وسرعة تطور أيا منهما تعتمد على الطبيعة الاجتماعية ورسوخ العادات والتقاليد الشعبية، كما تعتمد على الانفتاح على المجتمعات الأخرى والتواصل الثقافي الناتج بالضرورة عن التواصل الاقتصادي والسياسي. وهذا التفاضل قد يقود إلى مجابهة حتمية بين المجتمع ومعتقداته، وينعكس على عملية صنع القرار الذي يجب ان يتوافق –بالتعريف- مع الدستور.
على ان هناك الكثير من الخلافات بين المذاهب الإسلامية مما يجعل إصدار أي قانون عرضة للقول بأنه مخالف للشريعة في نظر بعضها وان كان موافقا لها في رأي البعض الآخر. فهل سنلجأ إلى إصدار قوانين تعمل على فئة معينة دون أخرى؟ وحتى لو فعلنا ذلك، كيف سنطبق تلك القوانين مع وجود أفراد منحدرين من كلا الفئتين؟
ان الديمقراطية، التي تتمثل في انتخابات عامة توصل من يثق به الشعب إلى البرلمان، يجب ان تكون هي الحكم الوحيد. إذ ان الناس عادة ينتخبون من يعتقدون انه الأصلح لتمثيلهم، والتعبير عن أفكارهم وطموحاتهم، ويدافع عن مصالحهم. فان كانت مصلحة الناخبين في قانون معين، فهو حتما يجب ان لا يصدم مع قناعاتهم الراسخة، أو عقيدتهم الدينية، أو توجهاتهم القومية. وإذا كان الناس متدينين فلن يرضوا بقانون يضرب دينهم عرض الحائط، وهم سيحتجون وسيفعلون كل ما يستطيعون لمنع صدوره، ولا يزال لديهم خيار صندوق الاقتراع لاختيار ممثلين آخرين بدلا عن الذين فرضوا عليهم ذلك القانون فيما سبق.
والديمقراطية تعني أيضا ان النواب المنتخبين يجب ان يكونوا قريبين من الشعب يستمعون له ويتناصحون معه، وهو ما يضمن عدم انفراد النواب بالقرار، بل عليهم الرجوع باستمرار إلى الشعب، من خلال ندوات الحوار المباشر، أو الاستماع إلى وجهات النظر التي تعلن عن طريق وسائل الإعلام، أو حتى من خلال تمكين الناس العاديين من المراسلة بالطرق التقليدية مع هؤلاء النواب. ومثل هذا التواصل كفيل ان يعرف النائب بما يتوجب عليه فعله. ولن يكون عليه ان يصوت لمشروع قرار، أو ان يتقدم بمشروع قرار بناء على دستورية هذا القانون، ولكن بناء على ما سمعه من أفراد الشعب الذي يمثله، أليسوا هم مصدر السلطات؟
على ان المغزى من إقحام الشريعة في نصوص الدستور ليس خفيا. فالانتخابات التي جاءت بأعضاء الجمعية الوطنية الحالية إنما بنيت أصلا على أساس ديني، واستعملت فيها الرموز الدينية كأدوات للدعاية الانتخابية. كما ان كثير من أعضاء الجمعية الحالية، وخصوصا القياديين الذي عملوا في مجلس الحكم السابق، سرعان ما انتقدوا قانون إدارة الدولة لعدم تضمنه فقرة تشير إلى دور الدين في الدولة. وهم الآن يواجهون ما انتقدوه، فان لم يشيروا إلى ذلك الدور، فسوف يتم تعريتهم، وإظهارهم كانتهازيين، يلعبون بعواطف الشعب من اجل مصالحهم السياسية الشخصية. ورغم ان الدولة الدينية لم تكن مطلبا حتى لأكثر الأحزاب الدينية تطرفا، إلا ان الدستور بتضمنه عبارة استناد القانون إلى الشريعة سوف يحقق لها جزءا مهما من طموحاتها غير المعلنة، ويدفعها خطوة إلى الأمام. فمن يدري، كيف سيكون شكل التعديل الأول بعد إقرار الدستور. ربما سيكون بحذف الفقرتين ب وج من المادة الثانية، ليصبح صدور كل قانون متجانسا كليا مع الشريعة، وتصبح الشريعة الإسلامية –وحدها- مصدرا للتشريع.