Thursday, October 06, 2005

الحدس.. موهبة الصحفي ومسؤوليته

لعل آخر ما يتوقعه أي صحفي هو ان يحوز عمله على الرضا التام من قبل الأطراف التي يتناولها في بحثه وتحليله، في سعيه الدائم إلى إظهار الحقيقة. بل انه في الواقع مشغول بتوقع من سيثيره أو يستفزه هذا العمل، وطبيعة رد الفعل الناتجة، أكثر من تفكيره في الإطراء أو الثناء على ما يسعى لتقديمه. وفي كثير من الأحيان يكون هذا الصحفي (أو الصحفية) غير قادر أصلا على التعرف على العواقب نظرا لتشعب الحالة السياسية وتضاربها في بلد يُعد حديث العهد بالديمقراطية والحرية. وبالتالي فان حساباته قد لا تكون فقط في تجنب نقد جهة ما بسبب احتمالية الرد العنيف أو المدمر أحيانا، بل في تجنب نقد الكل، واستعمال الجمل المفتوحة، والإشارة إلى الأحداث بطريقة تقبل التأويل على أكثر من وجه.
ومما يدعو للعجب ان الصحفيين لا يجدون مشقة في نقد أداء الدولة، ولا يتوقعون التعرض للأذى والمساءلة نتيجة لذلك، ولكنهم نادرا ما يتعرضون لنقد الأحزاب السياسية والكتل والجماعات التي تشكل هذه الدولة. وهم يتناولون الخبر أحيانا بحيث يرضي القاريء العادي وغير المطلع في المقام الاول، ويغضون النظر عن ذكر بعض الحقائق التي قد تصدمه. كما يروج بعضهم بطريقة ببغائية لبعض الأفكار والطروحات باعتبارها تأكيدا للنتائج التي يشير إليها فحوى الخبر دون ان يكون لذلك أساس.
ان مهنة الصحافة، خلافا للمهن الأخرى، تتطلب مستوى وعي عالٍ بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي علاوة على معرفة دقيقة بالتغييرات التاريخية، في المدى القريب على الأقل، وكذلك معرفة تفصيلية بمسيرة الأحداث خلال المرحلة الراهنة. والصحفي الجيد يراد له، علاوة على امتلاكه حسا استباقيا للحدث، ان يقوم بأكثر من دور في وقت واحد. فهو يجب ان يكون ناقلا أمينا للخبر الآني، كما ان عليه ان يضعه في السياق التاريخي، وسلسلة المسببات والنتائج، إن أمكن، لمساعد المتلقي على الفهم. وقد لا يكون مطلوبا من الصحفي أن يقدم تحليلا دقيقا وشاملا لمفاد الخبر، ولكنه يجب ان يهيئ الأرضية له على الأقل.
في الصحافة الغربية، وبدرجة اقل في مثيلاتها العربية، يجب ان يجيب مضمون الخبر الصحفي عن ستة أسئلة هي: ماذا، ومن، وكيف، ومتى، وأين، ولماذا. وبهذه الإجابات يستطيع المتلقي فهم الخبر بطريقة واضحة تزيل الغموض عنه. وهي كذلك تنقل الخبر من مجرد إشاعة تتردد على السن البسطاء إلى مادة صحفية تأخذ حيزا في المناقشة العلمية، وتسجل موقفا للتاريخ. على سبيل المثال إذا أراد الصحفي ان يغطي مؤتمرا يناقش قضية ما، فستكون الإجابات المطلوبة كالآتي:
ماذا: مؤتمر عن دور منظمات المجتمع المدني في الدستور.
من: نظم من قبل منظمة كذا.
كيف: ثلاثة عروض تقديمية، لأستاذ جامعة ورئيس منظمة مجتمع مدني وعضو مجلس محلي، الحضور من الناشطين وأعضاء منظمات المجتمع المدني ومن المهتمين بالعملية الديمقراطية. (هل جرت مناقشات جانبية؟ ما هي، وما هو تعليق المحاضرين، وما هو الجو العام؟)
متى وأين: في التاريخ الفلاني في الساعة الفلانية على القاعة الفلانية
لماذا: يذكر ان منظمة كذا سبق وان أقامت العديد من المؤتمرات حول دور منظمات المجتمع المدني في العملية الديمقراطية. ويأتي انعقاد هذا المؤتمر في ظل المطاحنات السياسية الراهنة حول إقرار الدستور، ويلاحظ إهمال أو إغفال دور منظمات المجتمع المدني في هذه العملية المصيرية على الرغم من انها الوحيدة القادرة على التكلم بلغة المواطن العادي كونها غير تابعة إلى أحزاب سياسية...
على ان هناك أشياء أخرى تكميلية، وهي تتأتى بالإجابة عن الأسئلة التي تطرح ضمنا، مثل: وماذا سيحصل بعد ذلك؟ وما الفائدة؟...الخ. وبالطبع قد لا يستطيع الصحفي الإجابة على هذه الأسئلة، ولكنه يستطيع الإشارة إليها، كما في مثالنا أعلاه، كطروحات للمناقشين، واستشراف إجاباتهم عنها. وإذا ما تعذر على الصحفي ان يحصل على معلومة ما، فعليه ان يذكر ذلك للقاريء بأمانة. فان لم يستطع ان يعلم من نظم المؤتمر على وجه التحديد، كأن تعمد الجهة المنظمة إلى إخفاء نفسها، فعليه ان يورد جملة مثل: "ولم يتسن لنا معرفة الجهة التي رعت هذا المؤتمر، رغم ان الشعارات المرفوعة تشير إلى منظمة كذا...". ولكنه قد يكون له حدس في ذلك بناء على شواهد معينة، فيمكن له أن يستعمل مثل عبارة: "ومن المعلوم أن هذه المنظمة تميل إلى التيار الفلاني، وهي سبق وان نظمت مثل هذه المؤتمرات في نفس المكان وباستدعاء نفس المحاضرين...".
وقد يحتج البعض على استعمال (التخمين) في إيراد الخبر. ونحن لا ندعو إلى ذلك على سبيل الإطلاق. بيد ان الصحفي الجيد، والمتتبع لمسيرة الأحداث، والذي يمتلك خبرة وافية في العمل الصحفي، يحتاج إلى توفير دلالات وإشارات تساعد المتلقي في فهم الخبر واستيعابه، ولكنه يجب ان يوضح ان هذه الدلالات والإشارات صادرة عنه، وهي ليست حقائق. ويجب التشديد على ان استعمال الحدس هو آخر الأمور التي يتم اللجوء إليها، وهو إنما يورد لتوضيح نقص في معلومات الخبر ويترك القاريء حرية إملاؤها بما يوافق أو يخالف حدس الصحفي، الذي لابد له ان يتمتع بموهبة الحدس قبل ان يستحق هذه التسمية.
على أننا نجد في المقابل مجموعة غير قليلة من الصحفيين باتت تستعمل الحدس كمرجعية أولى وتفرض استنتاجاتها بدون التصريح بذلك، وتفترض ان الأمور تسير حسب تخمين الصحفي نفسه أكثر من الحقائق الموضوعية التي صنعت الخبر ذاته. وهؤلاء هم في العادة من المرتبطين حزبيا أو الذين يشعرون بالولاء لجهة أو طائفة أو كتلة ما. وهم يفترضون ان عليهم، طالما كانوا ناقلين للأخبار، ان يضعوها في قالب يتضمن رأيهم، أو رأي من يقدم لهم الدعم، بحيث يصاغ الخبر موافقا لتوجهات تلك الجهات.
ان طريقة الأخبار الموجهة لاقت رواجا، على المدى القريب، في الصحافة العراقية. وذلك ليس اعتمادا على حسن أداء هذه الصحافة، وإنما لكون المتلقي غير مؤهل بما فيه الكفاية للحكم على طبيعة المادة التي توفرها تلك الصحافة. ومن طبيعة الإنسان انه يميل إلى تصديق ما يوافق توجهاته، ويسارع إلى تكذيب ما يخالفها. ولكن الحقيقة البسيطة ان البشر ليسوا كاملين، وأنهم يرتكبون أخطاء. ولذلك يجب على الصحفي الملتزم بعد ان يجيب على الأسئلة المذكورة أنفا، إن أراد أن يحلل الخبر ضمن قناعاته، أن يذكر بشكل أمين طبيعة تلك القناعات كأن يستخدم صيغة الغائب في طرح تلك الأفكار معززة بملاحظات عن أرضية حامليها، فيقول: "يشار ان بعض المنتقدين، من ذوي الأفكار الليبرالية، رفضوا إطلاق الوصف الفلاني على منظمة كذا...".
ولتدليل على مثل هذه الأخبار الموجهة، سأورد مثالا من احد المواقع الالكترونية العراقية. حيث نشر هذا الموقع خبرا مفاده ان مظاهرة كبيرة خرجت في مدينة عراقية، مقابل مبنى المحافظة، تطالب بإقالة المحافظ نظرا لسوء الخدمات، وان المتظاهرين اصدموا مع قوات الشرطة، وحدث إطلاق نار بين الجانبين قبل ان تتفرق المظاهرة. وبعد التدقيق في الخبر، وجدنا ان آخر مظاهرة حدثت في تلك المدنية كانت قبل اسبوعين أو ثلاثة من تاريخ نشر هذا الخبر. وهي لم تكن كبيرة إذا شارك فيها بضع عشرات فقط، وأنها لم تكن احتجاجا على سوء الخدمات وإنما احتجاجا على حل فوج المغاوير الذي لم تعترف به وزارة الداخلية. ولم يطالب المتظاهرون بإقالة المحافظة، بل باعادتهم إلى الخدمة. ولم يحدث تصادم، ولكن أطلقت بعض العيارات في الهواء تحذيرا لأحد المندسين الذي لوح ببندقيته. وما دفعني إلى التأكد من صحة الخبر، هو افتقاره إلى الإجابات عن (من ومتى)، لأجد ان الخبر أجاب بصورة خاطئة عن (ماذا وكيف ولماذا). وكانت إجابة (أين) فقط هي الصحيحة: مقابل مبنى المحافظة. ويبدو ان الموقع الالكتروني بخبره هذا إنما أراد حدوث مظاهرة أمام مبنى المحافظة ليبني عليها خبره كما يحلو له.
وإذا كان حبل الكذب قصيرا، فهو في الصحافة، للأسف، أطول قليلا. ونظرا لان البلد لم يصل بعد إلى مرحلة تسويق الخبر كسلعة، وبالتالي يترك للعرض والطلب تحديد الغث من السمين، فان مسؤولية الصحفي عن هذه المرحلة لا تقل عن مسؤولية السياسي، ذلك انه بإهماله الحقيقة، أو تحويره لها، إنما يشوش على الرأي العام ويؤخر التطور الحتمي للديمقراطية. ونحن نعلم ان السياسيين يتمسكون بالديمقراطية حينما يكونون خارج السلطة، ولكنهم يمنحوها اقل اعتبار حينما يصبحون فيها. فالديمقراطية ليست فقط انتخابات، وإنما مجموعة من الآليات التي تضمن التزام الكل بها. ومن هذا الكل، جزء مهم يستطيع ان يساعد على إنجاز البناء بسرعة، كما يمكن له عرقلته، ذلك هو الصحفي.