في السادس من حزيران 2004، وقبل يومين فقط من تسليم السلطة، وقع تفجير ارهابي بسيارة مفخخة رُكنت في شارع اربعين وسط مدينة الحلة، عند اذان المغرب حيث كان الشارع يعج بالمارة واصحاب المحال التجارية مما اوقع العشرات من الشهداء والجرحى بين رجال ونساء واطفال كانوا يظنون انهم آمنين. وما زاد الكارثة ترويعا ان التفجير وقع في منطقة تخلو من أي تواجد لقوات امريكية او قوات امن عراقية، وهي الاماكن التي كانت تستهدف عادة لحين حصول هذا الاعتداء الاثيم.
وفي ذلك الحين، كنت بحكم عملي مقربا من مجلس محافظة بابل السابق بصفة مستشار، اعمل في مجال دعم الحكم المحلي. وكنت اتولى مساعدة المجلس في اعداد المقترحات وجدول الاعمال وادارة الاجتماعات الدورية والتنسيق مع السلطة التنفيذية على مستوى المحافظة او على المستوى الوطني. وقد حظيت باحترام بالغ للدور الذي لعبته، وللخدمات التي قدمتها، مما حدا بالمجلس الى السماح لي بحضور جميع الاجتماعات، حتى اكثرها حساسية. ولم يكن غريبا ان يطلب الى الحديث او التدخل لحل نزاع ما استنادا الى النظام الداخلي او قانون ادارة الدولة المؤقت او التشريعات الناف ذ ة.
ومن موقعي هذا، فكرت في ان اعرض مشروع مقترح على المجلس، يتعلق بالتفجير الارهابي سالف الذكر، من جهة لاتخاذ اجراء ما تجاه ضحايا الحادث، وارسال رسالة تحدٍ للارهاب، ومن جهة ثانية لتقوية دور المجلس في التعامل مع المستجدات الانية وكيفية صناعة القرارت والعمل على تنفيذها. ومن الواضح ان أي قرار يصدر عن المجلس يتعلق بهذا الحادث سوف يلقى ترحابا واسعا، ولا شك ان الجميع سيكونون متعاونين في تنفيذه. فلا احد في النهاية يريد ان يظهر كمعارض لمحاربة الارهاب باي صورة.
وكان ان اعددت مسودة لمشروع قرار يصدر عن المجلس يتضمن النقاط التالية:
1- اطلاق تسمية (الفداء) على الشارع تخليدا للشهداء الذين قدموا انفسهم فداءا للوطن.
2- العمل على تطوير منطقة التفجير، مع اقامة نصب تذكاري لضحايا الحادث. ولتمويل المشروع يمكن الاستفادة من ميزانية المجلس، والمحافظة والدوائر التابعة لها، والحكومة المركزية متمثلة بالوزارت المختصة، اضافة الى جمع التبرعات ومشاركة الجهات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني بما يتاح لها.
3- تشكيل لجنة تتولى تنفيذ هذا القرار، ومن مهامها استحصال التمويل اللازم من الجهات المذكورة اعلاه، وما تراه مناسبا.
واخذت على عاتقي عرض هذه المسودة على كل عضو من اعضاء مجلس المحافظة، وشرح الابعاد التي ينطوي عليها، ومناقشته بشأن التعديلات المقترحة من اجل تطوير المقترح. واستطعت الحصول على موافقة وتوقيع 37 عضوا من الاعضاء الاربعين الذين يشكلون المجلس. والثلاثة الباقين لم يكونوا غير موافقين، ولكني ببساطة لم استطع الوصول اليهم الى حين موعد الاجتماع التالي.
وادرج المقترح على جدول اعمال الاجتماع الدوري التالي. وتوقعت ان يعرض ويمرر بسلاسة نظرا للاجماع الذي حصل عليه مسبقا، ولكن حدث ما لم اكن اتوقعه. ففي بداية كل اجتماع توجد فقرة في جدول الاعمال تتضمن موافقة المجلس على جدول الاعمال. والغاية من ذلك اتاحة الفرصة امام الاعضاء الذين لديهم اقتراحات ساخنة لطرحها، او تعديل الجدول لظرف طارئ يستوجب تقصير فترة الاجتماع، وما الى ذلك. وقبل هذا الاجتماع كانت هذه فقرة روتينية يصوت المجلس عليها عادة بدون تغيير. ولكن في هذه المرة انبرى عدد من الاعضاء الى تقديم مقترحات كثيرة وطلبوا ادراجها في بداية الاجتماع لكونها (ساخنة) ولم يكن ايا منها كذلك. لكن المجلس صوت في النهاية على التعديل، جاعلا مقترحي في ذيل جدول الاعمال على اعتبار انه ليس في حاجة الى المناقشة اصلا.
وناقش المجلس المقترحات الواحد تلو الاخر واطال الاعضاء النقاش، ونفد وقت الاجتماع دون ان يصل الدور الى المقترح المنشود، ورفعت الجلسة على هذا الواقع. فعتبت على رئيس المجلس قائلا: كنت اعتقد ان شهداء شارع اربعين يستحقون اكثر من ذلك من مجلس المحافظة. فوعدني ان تتم مناقشة هذا الاقتراح في بداية الاجتماع القادم ولن يسمح بتأخيره معتذرا انه لم ينتبه اليه. وصبرت الى الاسبوع التالي، راجيا ان تتم الموافقة على المشروع ليثبت المجلس انه يهتم لمجريات الاحداث في المحافظة.
وجاء الاسبوع التالي، وعرض مشروع القرار على الاعضاء مع تعليق رئيس المجلس: اعتقد اننا لسنا في حاجة الى مناقشة هذا المقترح، فقد وقـّعت عليه الاغلبية الساحقة من اعضاء المجلس، ولذلك ساطلب التصويت. فقاطعة احد الاعضاء، وهو يحب الحديث في كل شيء، طالبا ان يسمح بالمناقشة، لاجراء بعض التعديلات على الاقل. فوافق رئيس المجلس وطلب اليه تلاوة التعديل. وكان التعديل يتعلق بالاسم المقترح، حيث انه ادعى ان هناك بعض رجال الدين قد قرروا اطلاق اسم (الاعتصام) على شارع اربعين تيمنا باعتصام شهير استمر فترة اسبوعين احتجاجا على المحافظ الاسبق والذي ادى الى تنحيته عن منصبه، مما عدّ نصرا يجب تخليده. فقال احد الاعضاء المعتدلين ان الشارع يتكون من نصفين، وتتوسطه ساحة، وان الاعتصام وقع في احد النصفين بينما وقع التفجير في نصفه الثاني، فلا بأس من اطلاق التسميتين على نصفي الشارع ارضاء للجميع.
وتحدث عضو اخر يحسب على التيار الاسلامي المتشدد قائلا: لماذا نقوم ببناء نصب لعشرة او عشرين من الشهداء، وننسى الافا من الشهداء في المقابر الجماعية؟ اذا كان لنا ان نخلد ذكرى احد من الشهداء فالاولى ان نبدأ بشهداء المقابر الجماعية. وقالت عضوة ناشطة في مجال حقوق الانسان ان العراقيين قدموا شهداءهم قبل المقابر الجماعية بزمن طويل وباعداد تفوقها كثرة ووحشية، وذلك في حملات الاعتقالات والاعدامات التي قام بها النظام السابق خلال السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، ولذلك فهم الاولى بالتخليد، والاجدر بهذا النصب التذكاري.
ورغبة من احد الاعضاء المعتدلين، وهو في سلك القضاء، في ان يوجه الحديث باتجاه تفعيل المقترح لا الجدل حوله، فقد بين للاعضاء الاخرين ان المقترح يخص ضحايا شارع اربعين، وان عليهم ان يقدموا مقترحات اخرى اذا كانوا يفكرون بالضحايا الاخرين لظلم النظام السابق. وقال ان ما علينا التفكير به هو شكل اللجنة التي يجب ان تعمل على تنفيذ هذا القرار في حال صدوره. وطالب ان يضاف اسمي شخصيا الى تلك اللجنة نظرا الى انني سعيت منذ البداية في اعداد وانضاج القرار.
وكان لهذا التعديل وقع الصاعقة على احد الاعضاء، الذي كان يزهو بنفسه على الدوام ويصرح بمناسبة وبغير مناسبة انه يشرف المجلس، وان مكانه هو اسمى من ذلك بكثير. فانبرى فجأة الى الحديث بعد ان التزم الصمت طوال المناقشات الماضية. وقال: لا ادري كيف تفكرون، ولكن الا تعتقدون ان اقامة النصب هي من الاشياء الموروثة عن النظام السابق، والذي كان يسارع الى اقامة الجداريات والنصب لتمجيد شخص القائد الضرورة. وانتم مع ذلك تقلدون ذلك النظام في اجبار الناس على التبرع مما يثقل من كاهلهم وهم في احوج ما يكون الى ما يسد رمقهم. ثم، كيف تقترحون ان تشكلوا لجنة تضم اعضاء من خارج المجلس؟
وواضح ان هذا العضو، لم يكن فقط راغبا في عدم ادراج اسمي ضمن اللجنة، ولكن ايضا في نسف المشروع من اساسه وعدم تمريره. فبين له رئيس المجلس ان اللجنة ليست دائمية، ولذلك يمكن ان تضم اعضاء من خارج المجلس حسب النظام الداخلي، وتلا عليه الفقرة التي تثبت ذلك. ولكن صاحبنا استمر في الجدال واستخدم كل ما يمكن ان يجبر الاخرين على (الاقتناع)، من عدم اتاحة الفرصة لهم بالحديث، ورفع الصوت عاليا، وحتى التهجم عليهم. واضطر رئيس المجلس الى تذكيره بانه احد الاعضاء الموقعين على المقترح، فاجاب ان التوقيع لا يعني الموافقة على المقترح، وانما الموافقة على مناقشته. وكان هذا ابتكار عجيب في النظم البرلمانية، وربما سيفيد اي عضو راغب في التنصل من مقترحه طالما ان تقديمه للمقترح لا يعني انه موافق عليه!!
وفي محاولة اخرى لتسوية الوضع، اقترح احد الاعضاء، وهو متدين الا انه براغماتي، ان تحذف فقرة جمع التبرعات، وان يوجه كتاب الى كلية الفنون الجميلة لاعداد هذا النُصب التذكاري، وان تتولى ادارة المحافظة، والمحافظ الاشراف على التنفيذ، مما يلغي دور اللجنة، وبالتالي فلا داعي لها.
على كل حال استمر الجدل لساعات طوال حول نفس الاشياء التي تحدثنا عنها، واجهضت كل محاولة للتصويت، بدعوى ان المجلس بحاجة الى المزيد من النقاشات. ولم يطلب احد مني التدخل من اجل توضيح لاصل المقترح. واخيرا وجه احد الاعضاء، وهو يحظى باحترام واسع، رصاصة الرحمة الى القرار. فانتصب واقفا ليتحدث بصوت قوي جهوري حرص على ان يصل الى جميع اركان قاعة الاجتماع، قائلا: ان الشارع تمت تمسيته من قبل المرجعية الشريفة، ونحن هنا نهدر الوقت في هذه المناقشات التافهة. لذلك اقترح ان تقوم كلية الفنون الجميلة بوضع نصب في منطقة التفجير، ويطلق على النصب اسم (الفداء)، ودعى الى التصويت على ذلك، فوافق المجلس بالاجماع.
ولكن حتى هذا الكتاب لم يوجه الى الكلية المعنية، ولم تبلغ ادارة المحافظة بهذا القرار وحفظ في ارشيف المجلس، شأنه شأن العشرات من القرارات الاخرى. واعتذر الجميع مني بعد الاجتماع بانهم لم يقصدوا اسقاط المشروع، ولكنهم مسؤولون عن قراراتهم وعليهم تبريرها بالشكل الصحيح. والمصيبة ان هذا هو بالضبط ما كنت ارمي اليه في نهاية الامر.
لقد ترددت طول عام تقريبا في نشر تلك التفاصيل عن هذا الاجتماع والقرار الهزيلين، خوفا من تفسير ذلك على انه طعن في الظهر، وانني انما انشره لان المجلس انحل الان ولن يناني منه شيئا. والواقع انني لازلت اكن الاحترام لجميع اعضاءه، والذين انتخب بعضهم للدورة الحالية، ولست في صدد الطعن بما قدموه للمحافظة، فمما لاشك فيه ان المجلس قدم اكثر ما يستطيع ضمن المتاح له. ولكني وجدت ما اوردته هنا مثالا على مسيرة الديمقراطية في بلدنا وآلية تطورها. والادهى ان اداء معظم مجالس المحافظات كان على هذه الشاكلة، وليس بافضل منها المجلس الوطني المؤقت، ومن ثم الجمعية الوطنية.
ان المجالس التشريعية هي المكان الملائم لاتخاذ قرار ما بشأن قضية ما. وهي ليست ساحة للنقاشات ولتصفية الحاسابات الشخصية او الحزبية. والمجلس يراد له ان يكون كائنا عضويا، بمعنى ان يسعى ككل في انضاج القرار ليصل الى مرحلة التنفيذ، وان النقاشات يجب ان تنصب في تطوير المقترح لا في اسقاطه، او افراغه من مضمونه. فلن يجني الناخبون شيئا من النقاش الطويل، خصوصا اذا لم يفض الى اصدار قرار يتعامل مع الوضع. وعليّ ان اقول كذلك انني نادرا ما لمست مثل هذا التوجه في المجالس على اختلاف مستوياتها. وفي الفترة السابقة للانتخابات، كانت الصفة الحزبية هي الطاغية، وهناك مركزية شديدة لاشخاص بعينهم. وليس بمستغرب اقامة التحالفات، ولكنها كانت في بعض الاحيان فجة، وضد مصلحة المواطن. لقد كنت اطمح الى ان ارى مجلس محافظة قوي يقف ندا للحكومة المركزية، ولكني انتهيت الى مجلس محافظة ضعيف ومشتت. وتلك خيبة امل، ولكن احسب ان الديمقراطية ستشهد الكثير من خيبات الامل المماثلة. والشيء المهم ان تلك المجالس تكتسب الخبرة، وان كانت ابطأ مما كنا نصبو.