من نعم الخالق عز وجل ان خلق الناس مختلفين، ولم يجعلهم على شاكلة واحدة. فجعل من بعضهم ابيضا والاخر اسود، وجعل بعضهم طويل القامة والاخر قصير، وجعل بينهم قوي الجسد والاخر ضعيفه. وجعل بعضهم ذكيا ألمعيا وغيره بالكاد يفهم الاشارة.. ورغم ان من لم ينله القسط الاوفر من جمال الجسم، او حدة الذهن، ربما يكون ساخطا على خلقه، ناقما على عيشه، نادبا سوء حظه، عاتبا على ابيه لاتيانه به الى هذه الحياة الظالمة. لكن من بين حسان الجسوم من ضعُف وانتابته الامراض، ومن بين المفكرين العظماء من ذهب عقله فلم يعد يعي شيئا. ولو تأمل الانسان لوجد في الاختلاف رحمة به، فقد اقتضى هذا الاختلاف شعور الانسان بعدم الكمال وبالتالي اخذ يبحث عن التكامل مع الاخرين، وذلك هو اساس تطور البشرية، ونموها وسيطرتها على الكوكب الارضي.
على ان الاختلاف شيمة بشرية خالصة اكثر تعميما من الشكل، وما قدّر الله لكل فرد ان يكون عليه. فالبشر يختلفون في اللغات والاديان والمذاهب والعادات والتقاليد وغير ذلك اختلافا كبيرا. ولا تكاد تجد ميدانا يتفق عليه الجميع، بل هم يتفرقون الى فرق شتى وينتسبون الى اطياف متناثرة. وهم ينقسمون كل جيل تقريبا حول نفس القضايا التي انقسم عليها اباؤهم واجدادهم. ومع ذلك يحتفظ المجتمع بنوع من الوحدة، تحت رابط اوثق من الرغبة الشخصية. فالانسان تدفعه غرائز عدة وتحركه نوازع مختلفة. وكما ان الرغبة في التجمع غريزة متأصلة، فكذلك الشعور بالذات، والنزوع الى التفوق هي سمات بشرية محضة.
ولعل سبب الانقسام يأتي اصلا من تصارع نوعين من الانتماء داخل الفرد يدفعه الى ايجاد انتماء مشترك، فالقومية قد تكون اقوى من الانتماء الديني في احد المجتمعات بينما يكون العِرق اقوى من كليهما في مجتمعات اخرى. وحين يتفوق الشعور القومي ينتج مجتمعات علمانية تقدس الفردية ضمن الهيكل الاجتماعي. بينما تكون صفة المجتمعات المؤسسة على قاعدة الدين الايثار والرغبة في التضحية. وحين يشعر بعض الافراد ضمن احد هذين بضرورة مراعاة الصفات الاخرى، ينشأ نوع من التوفيق يميز توجهات هؤلاء الافراد، ويؤسس لطائفة جديدة تتبنى صيغا اجتماعية مقتبسة عن كل منهما.
وعلى هذا، فان الطائفية هي احد مظاهر التطور الذي يمر به البشر، في محاولة تصحيح مسار التاريخ، وفي رفض المسلمات المتوارثة. ولو قدر للبشر ان يكونوا على شاكلة واحدة، لتوقف مجرى التاريخ، ولاصبح التعايش بين الافراد مملا الى حد الجنون. والطائفية بعد ذلك نتاج الفكر البشري عبر عصور طويلة من السعي المضني وراء الحقيقة. فهي نتيجة حتمية لرقي الانسان التواق الى اختراق المجهول، والخوض في الغمار الصعبة، متحديا ذاته لاثباتها او فهمها.
لكن الطائفية على مستوى الفكر لا تسود. وما تسود، كما اثبتت وقائع التاريخ، رغبة اخرى في نفس الانسان، تلك هي فرض الذات، مهما تكن الطرق والوسائل المتبعة، وان كانت بالحروب والتقتيل والتهجير والاستعباد. وهنا مكمن الخطر على الجنس البشري. اذ ان الرغبة في تسييد الطائفة، التي يستعملها عادة قادة طموحون الى السلطة المطلقة، قد تدفع الافراد الى التصرف بشكل لا عقلاني وتوقعهم تحت تأثير المد الجمعي، ثم تغير نوازعهم ومُثلهم وتجعل منهم اشرارا لا يرجى لهم صلاحا.
لكن الشر ليس اصل في الانسان. والمجتمعات البشرية اوجدت سبلا للقضاء على التطرف الشرير، وهي جميعا تستظل بمظلة بالقانون، وتؤمن بضرورته. كما اوجدت المجتمعات الانسانية معايير لتقديس الخير وتحفيزه في النفس، وتجعله الغاية القصوى للاشياء. وفي كل تجمع بشري هناك خطوط عريضة يتفق عليها الجميع. ولكنهم ينقسمون تحت هذه المسلمات الى مجتمعات اصغر وتلك تنقسم لاحقا الى ما هو اصغر وهكذا. واذا كان الخير والشر هما عنصرا الحياة الدافعان، فان اولهما يمثل رغبة المجتمع الاكبر في الحق والمساواة والمصالح المشتركة، ويمثل الثاني رغبة المجتمع الاصغر في الاستئثار، والمكاسب الضيقة. وهما يتصارعان على الدوام على مستوى الفرد الواحد، وعلى مستوى المجتعات الصغرى صعودا.
غير ان البشرية مع ذلك اوجدت سبلا للتعايش المشترك رغم وجود الخلافات، يقوم على اسس تحترم الطوائف والمذاهب والاعراق ولا تقلل من شأن ايا منها، وتتيح لكل منها ان ينتهج نهجه الخاص طالما كان خاضعا للقانون. وخوفا من جور القانون الذي يسنه البعض، ولدت فكرة الاشتراك في سن القانون من قبل الجميع. وخوفا من جور القائمين على تنفيذ القانون ظهرت اليات المشاركة في الحكم. وخوفا من استئثار الحكام بالسلطة وابتعادهم عن المحكومين، مهما تكن انتماءاتهم، اقر مبدأ المناوبة على السلطة. ولعمري هذه هي المفردات التي تحدد مفهوم الديمقراطية الحديثة.
ان الطائفية التي تريد تسييد افكارها انما هي امر مقيت تجدر محاربته. لكن الطائفية لا تُجتث، بل تُروض. واذا اتيحت الفرصة للكل في المشاركة، فلن يكون هناك دافع حقيقي للنزاع. واذا كانت هذه المشاركة فعالة، فستكون العامل الاساس في تطور المجتمع ورقيه. وقد ادرك الانسان منذ وقت طويل ان السلم قد يكون هشا، ولكن الحروب لا تحل المشاكل. وبرغم الحرب الضروس، تبقى امنية المقاتل في مصافحة عدوه ومعانقته اكثر من قتله، او الموت على يديه. ولم يكن هناك عدو دائم في لغة التاريخ. ولو قدر لمن ماتوا في الحروب ان يعودوا، لتعجبوا من غبائهم، باهدارهم الفرص الكثيرة في السلم عن طريق التسامح، بدلا من فقدان الارواح والاموال بتعصبهم الاعمى وغير المبرر.
واذا اردت ان تعدّ انجازات الانسان على مدى تاريخه المدون، فلن تجد اعظم من ايمان الاغلية الساحقة من البشر بضرورة التسامح مع الاخرين، رغم اختلافهم في كل شيء اخر تقريبا. ذلك ان الاختلاف لا يكون صحيا الا في جو من التسامح وقبول الاخر. وما دامت الحقيقة النهائية للاشياء لا يمكن ادراكها لقصور العقل البشري، كما يحلو للفلاسفة ان يصفوه، فكل حقيقة ظاهرية ممكنة. وكل ما يؤمن به الاخرون ممكن، ولكن هناك ترجيح فقط لما نؤمن به نحن. ومن هنا يمكن ان نحب الاخرين لاختلافهم عنا بقدر ما نستطيع ان نتسامح معهم. ولا شك ان المؤمنين بالمباديء السامية للدين الاسلامي يقرون انه سمح بما فيه الكفاية لقبول الاخر. اذن فليكن الاختلاف سببا للحب لا للحرب، لاننا متحضرين، ولاننا مؤمنين، ولاننا خليفة الله على الارض.