والواقع انك اذا اجريت مسحا بسيطا لغرض مقارنة البيانات تجد ان الكثير من الناس يجهل العملية برمتها بسبب عدم وضوحها منذ البداية، منذ اعلان قانون ادارة الدولة، ومن ثم تشكيل حكومة مؤقتة، فـ(انتخاب) مجلس وطني مؤقت، وتعيين مفوضية عليا للانتخابات، وصولا الى اعلان بدء تسجيل الناخبين والمرشحين اوائل الشهر القادم. في حين ان هناك فئة اخرى من الناس لا تكترث لمثل هذه العملية، وذلك امر طبيعي يحصل في كل بلدان العالم الديمقراطي. غير ان عدم الاكتراث هذا قد يكون ناتجا ايضا عن جهل في العملية الديمقراطية، اذ نادرا ما يكرس الانسان جزءا من وقته لفهم امر ما ثم يعزف عنه بالمرة.
ولما كانت الشفافية شعارا ومفردة مهمة في العملية الديمقراطية، التي تنتمي اليها مفردة الانتخابات الدورية، فان من دواعي العجب ان لا تحظى المسيرة الانتخابية بالاعلام الكافي. ويمكن ان نستنتج ان الاعلان عن بدء العملية الانتخابية، لم يكن لتثقيف الناخبين كما ينبغي ان يتم، بل لاعلان جدول زمني للفعاليات الانتخابية دون اكتراث لشرح النظام الانتخابي، وحمل الناخب على فهمه وبالتالي حثه على المشاركة.
والمشكلة ان هناك ناخبين مؤهلين ربما يرفضون المشاركة، لاعتقادهم ان الوقت غير مناسب لاجراء الانتخابات، من جهة بسبب تردي الوضع الامني، ومن جهة اخرى لضبابية الموقف السياسي، وخصوصا موقف المدن المضطربة، التي يعتقد الكثيرون ان الانتخابات التي تجرى بدون اشراكها ستكون بابا لمَشكلة الوضع السياسي للحكومة، وتدويم جو الازمة امام الحكومة التي ستتمخض عنها تلك الانتخابات. والانكى من ذلك ان القانون الانتخابي المزمع تطبيقه، يعتمد العراق كله منطقة انتخابية واحدة، وباستخدام قوائم ذات تمثيل نسبي. الامر الذي يعني انه يمكن دائما اهمال اية منطقة او مدينة او محافظة تحت اية ذريعة. فقوائم الاحزاب لن يشترط فيها التمثيل المتكافيء للمحافظات، وقوائم المستقلين لن تجد لها طريقا الى الفوز بسبب صعوبة التنافس مع الاحزاب على مستوى العراق اجمع، اذ لا يتوقع مثلا ان يصوت اهالي الموصل الى مرشح مستقل من ذي قار، مهما بذل من دعاية انتخابية. وسيكون الاولى بالنسبة لكل الناخبين التصويت لصالح قائمة يكون فيها عدد من الاسماء التي يعرفونها وان جهلوا القسم الاعظم منها.
ورغم هذا وذاك، يكاد يعلن كل مسؤول في الدولة عن عزمها في المضي قدما في العملية الانتخابية، مهما تخلف عنها، ومهما كانت غير واضحة للناخبين. والرهان يقوم في الواقع على ان الاطراف المتحكمة في تلك العملية هي الاطراف المستفيدة منها. واقصد الاحزاب الكبرى من جهة، والشيعة كأغلبية من جهة اخرى. وربما قال قائل، وما الضير في ان يصر الشيعة على اجراء الانتخابات، حتى وان كانوا اغلبية؟ والحق ان الاصرار على اجراء الانتخابات هو امر رائع، ولكن يجب ان يكون متناغما. لا تستطيع اية فئة ان تعمل على ايجاد الظروف المؤاتية لها دون ان تنظر في امكانية الفئات الاخرى على توفير مثل تلك الظروف. ان مبدأ سيادة الاغلبية يصطدم في النظم الديمقراطية دائما بمدأ اخر هو حماية حقوق الاقليات. وهذا يعني ان الاغلبية لا تستطيع ان تقرر كل شيء، فقط لانها اغلبية. ومن ناحية اخرى، فان الاقليات، وان كان يجب احترام حقوقها، الا انها لا يجب ان تسعى لـ(فيتو) كل قرارات الاغلبية. والمعادلة قائمة على محاولة الاقناع ومد الجسور وسياسة الحل الوسط. وبالطبع ستكون هناك اوقات للقرار الحاسم، وعندها سيكون مثل هذا القرار مُبررا بشكل كاف.
وفي حالة الانتخابات، والتي يعلم الجميع ان الكثير من السنة قد يرفضون الاشتراك فيها، كما يبدو جليا من تصريحات كبار رجال الدين السنة، فان من الواجب بحث الامر معهم بتعمق. يجب ان يصار الى عقد مؤتمرات مشتركة، واجراء حوارات بناءة على كافة المستويات، وخاصة على المستوى الشعبي. فهل ان الحكومة مستعدة لمثل هذه الفعاليات؟ لو كانت العملية شفافة في البداية، لكان الامر اهون الان.. ولكن للاسف، فان مجلس الحكم السابق، الذي يأبى ان يتنازل عن السلطة، او ان يوسع المشاركة فيها، يعمل بكل جهد لايجاد اليات تخدم مصالح الاحزاب المشتركة في ذلك المجلس، وربما بضعة احزاب او تيارات لم تكن مشاركة فيه، ومن ثم اغلاق العملية السياسية على هذا القدر، بحث لا يوجد متسع للمستقلين، وان كانوا نظريا يتمتعون بكافة الحقوق للترشح. وفي خضم هذا لا يبدو ان تلك الاحزاب مهتمة جدا باقناع او حمل جميع العراقيين على التصويت، طالما كانت على ثقة من الحصول على نسبة كافية من المشاركة تمنع الطعن بالشرعية لمن يفوز بها مستقبلا.ان الانتخابات هي امر معقد وبالغ الصعوبة، ولا يجب الاستهانة بكل جهد يبذل لانجازه، بل على العكس، يستحق العاملون على انجاحها الشكر والعرفان. غير ان النجاح لا يكون فقط ببذل الجهود على اتجاه واحد، بل بمحاولة التحرك باتجاهات مختلفة طلبا للنجاح على كافة الصعد، وليس على صعيد دعم الاغلبية فقط.