يعتقد الكثيرون ان سر فوز قائمة الائتلاف العراقي الموحد الساحق في الانتخابات البرلمانية الاخيرة يعود الى حصول تلك القائمة على رضا المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني ومباركته لها، وبالتالي التأثير على مقلديه، وهم اغلبية الطائفة الشيعية، ودفعهم للتصويت لتلك القائمة كواجب ديني، تبرأ ذمتهم بأدائه. والواقع ان هذه الرؤية هي تسطيح للمسألة، وتبسيط مفرط لطبيعة الدعاية الانتخابية لتلك القائمة، التي حققت بتطيبيقها لاستراتيجية مدروسة نجاحا منقطع النظير، ليس على مستوى العراق فحسب، بل بالمقارنة مع أية انتخابات حرة تجرى في أية دولة في العالم.
ويمكن النظر لهذه الانتخابات على أنها امتداد للانتخابات التي سبقتها، والتي أجريت في الثلاثين من كانون الثاني 2005، وتأكيد لنتائج الاستفتاء في الخامس عشر من تشرين الاول. فقد كانت نتائج الانتخابات الاولى، وطبيعة توزيع المقاعد البرلمانية، وبالتالي الحقائب الوزارية، بموجب الاستحقاق الانتخابي قد شكلت خللا في فهم طبيعة الاداء الحكومي على المستويين التشريعي والتنفيذي، خصوصا مع غياب التمثيل البرلماني السني. نعم، كانت هناك محاولات لضم ممثلي المحافظات الغربية في الحكومة، وفي لجنة كتابة الدستور، ولكنها لم تحصل على التأييد الكامل من احزاب وتنظيمات تلك المحافظات، فضلا عن مرجعياتها الدينية. والمحك الاكثر خطورة كان في النزاع حول الدستور، ورفض الاعضاء السنة (المعينين) لمسودة الدستور، وتهديدهم باسقاطه في الاستفتاء عن طريق استخدام حق النقض الذي تتمتع به أية ثلاثة محافظات اذا رفض ثلثاها تلك المسودة. فقد برزت الى السطح تيارات الطائفية والمذهبية بشكل واضح، ووضعت جميع اطياف العراق العرقية والدينية امام امتحان "ان نكون او لا نكون"، بينما ابتعدت الاحزاب العلمانية عن الساحة واكتفت بدور المتفرج، بانتظار فشل الاحزاب الدينية، او ممثلي الطوائف، في خوض غمار التجربة، او خروجها منهكة وغير قادرة على الدخول بنفس القوة في الاستحقاق التالي.
ولكن قائمة الائتلاف اثبتت انها قادرة على دخول المعترك من جديد، واستثمار النجاح المحدود المتحقق في اقرار الدستور لصالحها. واكتسبت زخما معنويا من تصوير الخلاف حول الدستور على انه خلاف مذهبي او طائفي يمتد الى نزاع حول السلطة والثروات الطبيعية. وكان اعتراض ممثلو السنة على بعض بنود الدستور اداة مهمة بيد قائمة الائتلاف للدعوة الى مساندة المذهب والطائفة، وبالتالي خططت استراتيجية الدعاية الانتخابية على هذا الاساس. ولم يكن للاداء الحكومي الضعيف، ولا للاتهامات بالفساد الاداري، والفضائح التي تكشفت في المعتقلات اي دور في تلك الدعاية، لا نفيا ولا تبريرا. فقد قامت تلك الاستراتيجية على التركيز على الهدف البعيد للمواطن، وهو حماية الطائفة، اكثر من مخاطبتها للهدف الاقرب وهو تشكيل حكومة توفر الامن والرفاهية للشعب.
تتألف الدعاية او الحملة الانتخابية لاي كيان سياسي بشكل عام من ثلاثة مراحل: الاولى الاعلان عن وجود الكيان، والثانية إشعار الناخبين بانهم موجودون لدى الكيان، والثالثة تتمثل في توطيد الثقة بين الكيان والناخب. وكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث يجب تنجز ضمن فترة زمنية محددة، ووفق قواعد وأطر مدروسة مسبقا. والادارة الجيدة لتلك الحملة تضمن ان لا يكون للحدث الآني، او المفاجآت، تأثير كبير على مجريات اللعبة الانتخابية. واذا راجعنا الدعاية الانتخابية لمجمل الكيانيات السياسية خلال الانتخابات الماضية، لوجدناها اما تقع ضمن المرحلة الاولى، او انها تكافح لتجتاز المرحلة الثانية. فالغالبية العظمى من تلك الكيانات اكتفت بالملصقات واللافتات والدعاية المتلفزة المقتضبة. بيد ان المطلوب لحمل الناخب على التصويت لكيان سياسي معين ان يجتاز ذلك الكيان المرحلة الثالثة ضمن الاطار الزمني المحدد سلفا.
ولكن قائمتي الائتلاف والتحالف الكرستاني، استثناء من الكيانات السياسية الاخرى، استطاعتا ان تعبرا هذه المرحلة بنجاح، بدلالة النتائج الكبيرة التي حققها كل منهما. وبالنسبة لقائمة التحالف الكردستاني فان الامرغير مستغرب، نظرا لوحدة الاكراد عموما تحت هذه القائمة. اما فيما يخص قائمة الائتلاف، فلابد من وقفة تأمل في الاستراتيجة التي اتبعتها لتحقيق ذلك التقدم المذهل.
وتلك الاستراتيجية اتبعت ببساطة نهج المراحل الثلاثة المشار اليه آنفا. فقد استغرقت وقتا يسيرا للاعلان عن وجودها من خلال الملصقات واللافتات وغير ذلك. ولكنها اخذت وقتا اطول في استيعاب الناخبين، وخاضت عملية شاقة بصبر ودأب. فقد كان عليها اولا ان توضح طبيعة الاخفاقات الحكومية خلال الفترة التي تولت فيها زمام السلطة. كما كان عليها ان تهديء من روع المواطنين الذين يساورهم القلق حيال مستقبل العراق ووحدته في حال تسنمت هذه القائمة السلطة من جديد. وكان الهجوم خير وسيلة للدفاع. فبدأ التراشق الكلامي بالتصاعد، وعمد الائتلاف الى اظهار عيوب منافسيهم، او تضخيمها. وسعت تلك القائمة الى القاء التبعة في كل اخفاق تقريبا الى مرحلة سابقة، او الى التهديد الامني وسطوة الارهاب. لقد كان هذا السجال يدور عبر الشاشات، ولكنه كان يجد من يروج له في الشارع والمقهى والمسجد والدائرة الحكومية، وفي البيوت.
وهنا لابد من الاشارة الى تواجد مكاتب فعالة في معظم المحافظات للاحزاب الرئيسة في تلك القائمة، مقابل مكاتب ضعيفة او غير فعالة، او انعدامها على الاطلاق، للاحزاب الاخرى. وهذه مسألة في غاية الاهمية، طالما ان احتواء المواطن (الناخب)، وجعله يدرك بانه موجود لدى الكيان، يتطلب احتكاكا وتواصلا مباشرا ومستمرا. كما ان تلك المكاتب توفر طريقة شديدة التأثير في الدعاية الانتخابية من خلال استخدام الاشخاص انفسهم في الدعوة للكيان بدلا من الاعتماد على الوسائل التقنية، من اذاعة وتلفزيون وصحف وملصقات وغيرها. فقد يكون هناك تأثير للدعاية بطريق التلفزيون مثلا، ولكنها تصلح فقط لاجتياز المرحلة الاولى، مرحلة التعريف بالكيان. ولخوض المرحلة الثانية لابد من تواجد قريب من المواطن، ومن توجيه الحديث من فرد الى فرد اذا اقتضى الامر. ان الناخبين قد يصوتون للكيان الذي شاهدوا صورته في التلفزيون، او قرأوا لافتة تدلل عليه، ولكن اربعة اضعاف هؤلاء يصوتون للكيان الذي نصحهم به اصدقاؤهم الموثوقون، كما تظهر احدى الدراسات التخصصية.
من جهة اخرى فان هذا القرب من الناخبين يمكن من ممارسة الدعاية السلبية بشكل واسع، ولكنه لا يترك أثرا يقتفى في حالة الشكوى من هذا التصرف. فمن السهل تصدير اشاعة بين الناس حول امر ما حتى مع غياب الدليل، ولن يكون ممكنا عمليا اثبات من اصدرها. بينما سيكون من الصعب الحديث بشكل رسمي عن اية طعونات بالكيانات الاخرى دون توفر ادلة دامغة. ولكن المواطنين العاديون عادة لا يلاحظون الفرق، ويتناقلون الخبر والاشاعة بنفس القدر من الاهتمام والتصديق، اذا تواترت ا بما فيه الكفاية.
وفي الدعاية الانتخابية، شأنها شأن كل الفعاليات السياسية الاخرى، كل شيء جائز ما لم يمنع بقانون صريح. وقد يكون توجيه الخطاب الديني لحث الناخبين بالتصويت لقائمة او كيان سياسي امرا غير مقبول لدى البعض، ولكنه غير ممنوع قانونا. فالنظام رقم 8 لسنة 2005 الذي اصدرته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، ينص على انه "لايجوز لاي كيان سياسي او ائتلاف ان يضمّن حملاته الانتخابية افكارا تدعو الى اثارة النعرات القومية او الدينية او الطائفية او القبلية او الاقليمية بين المواطنين"، وهذا لا يمنع من استخدام الخطاب الديني طالما انه لا يتجاوز الممنوعات المذكورة. ولا اجد ما يمنع الكيانات الاخرى من استخدام اساليب مماثلة، اذا كانت اقرب الى قلوب المواطنين. ولست ادعو الى تسييس الدين، ولكن الى خلق التوزان الضروري لعدم انفراد جهة او قائمة او كيان ب عقول وقلوب الناخبين.
لقد نجحت قائمة الائتلاف من خلال تحدثها الى كل ناخب على حدة في كسب الثقة لديهم، واجتياز المرحلة الثالثة حتى بدون الحاجة الى فتوى صريحة بالتصويت لتلك القائمة. والخطاب الديني الذي تميزت به دعاية تلك القائمة، لم يكن ليغير من توجهات الناخبين بشكل كبير لو ان بقية الكيانات توجهت بذات القدر من الاهتمام الى الناخب الفرد وسعت الى ضمه واشعاره باهميته لديها وبالتالي اكتسبت ثقته. فعندها لن يكون سهلا التحول عن دعم ذلك الكيان، حتى ولو داعب الكيانات الاخرى عقيدته الدينية او ولاءاته العشائرية او غير ذلك من الضغوطات التي تستخدم عادة للتأثير على الناخبين.