لاقت تصريحات قائد فيلق القدس الايراني، قاسم سليماني، حول خضوع العراق للنفوذ الايراني عاصفة من الاحتجاجات والاستنكارات بين كافة الاطياف السياسية العراقية بدءا من ائتلاف دولة القانون وائتلاف العراقية ومرورا بالتحالف الكردستاني وليس انتهاءا بالتيار الصدري، حيث اعتبرت هذه الاطياف ان مثل هذه التصريحات تـُعد تدخلا سافرا في شؤون العراق واساءة الى استقلاله.
لكن اللافت في تلك البيانات الطريقة التي تمت بها قراءة تصريح سليماني بما يخدم التوجهات السياسية الداخلية لكل من الفئات السياسية في العراق. ففي حين طالب النائب عن ائتلاف دولة القانون عزة الشابندر، قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني بتفسير التصريحات التي أدلى بها بشأن خضوع العراق لإرادة إيران وإمكانية تشكيل حكومة إسلامية فيه، ووصفها بـ"التطاول غير المقبول" على سيادة العراق، فانه حمل القائمة العراقية مسؤولية تلك التصريحات كونها أوحت لسليماني أن إيران تمتلك جنوب العراق، وأضاف أن "الدول التي لا تعتبر أن هناك مركزية قوية في العراق تسمح لنفسها بالتدخل".
وقال المتحدث باسم القائمة العراقية حيدر الملا إن "من يعتقد أن يكون العراق تابعاً لإيران أو عمقاً استراتيجياً... فإنه ذاهب إلى الوهم"، معتبراً أن المالكي " فشل ببناء علاقة متوازنة ليس فقط مع إيران بل مع دول الجوار كافة" مؤكدا أن "سياسات المالكي مع السعودية وإيران وتركيا والكويت والاتحاد الأوروبي وحتى مع الجامعة العربية سيئة، كما أن سياسته في إثارة الأزمات على الساحة الداخلية العراقية جعلت الآخرين يطمعون بنا ومهدت الطريق أمام علاقات غير متوازنة مع دول الجوار، مما سمح للبعض منها بالتطاول على العراق بهذا الشكل السافر".
اما التحالف الكردستاني فقد جاء موقفه واضحا على لسان محمود عثمان، حيث أكد ان تصريحات سليماني تعد "تدخلا سافرا في شؤون العراق"، داعيا الحكومة العراقية إلى اتخاذ موقف حازم، مشددا على أهمية "إدانة مثل هذه التصريحات من جميع الكتل السياسية". وهاجم التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر سليماني معتبراً تصريحاته "غير مقبولة"، كما أكد أنه لن يسمح بأي ذريعة للتدخل بشؤون البلاد الداخلية.
وهكذا فان الكل اجمع على ادانة تصريحات المسؤول الايراني، لكن الاختلاف كان بين العراقية ودولة القانون في تحميل بعضها بعضا مسؤولية صدور هذه التصريحات. وعلى الرغم من اننا لا نستطيع ان نحمّل الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي، وهو زعيم ائتلاف دولة القانون المسؤولية المباشرة عن صدور مثل هذه التصريحات من دولة "جارة"، الا ان تصريح الشابندر الذي اوردناه فيه تجن كبير على القائمة العراقية. فكيف يمكن للمطالبة باللامركزية ان يحث دول الجوار على التدخل في شؤون العراق؟ واذا كانت المطالبة بالفيدرالية امرا قبيحا الى هذا الحد، فلماذا اقرّه الدستور باديء الامر؟ لكننا يجب ان نذكر بان المطالبة بالفيدرالية كانت قبل بضع سنين ترد من احزاب منضوية تحت جناح التحالف الوطني، السلف الشرعي لتحالف المالكي الحالي، وبالتحديد من المجلس الاسلامي الاعلى، والذي خاض حملات مكثفة من اجل فيدرالية الجنوب، وهو الأمر الذي لم يلقَ تأييدا واسعا حينها بسبب احتمال انفصال اقليم جنوب العراق المفترض ووقوعه تحت الهيمنة الايرانية.
على ان من المحتمل ان تكون تصريحات المسؤول العسكري الايراني، في هذا الوقت الذي تزداد فيه الضغوط على الحكومة الايرانية على خلفية برنامجها النووي، محاولة لرفع الضغط عنها والتلويح باستخدام نفوذها في العراق، سواء على المستوى الرسمي من خلال علاقتها "المتينة" مع حكومة المالكي، او بدعهما للحركات المسلحة في العراق، من اجل خلق فتنة طائفية-سياسية، وربما اشعال فتيل حرب اهلية ربما يتوسع مداها لتشمل عموم منطقة الشرق الاوسط. وما تجنيه ايران من ذلك كله هو خلق حالة من الرعب لدى الدول الغربية من تعرض مصادر الطاقة في تلك المنطقة الى الخطر، وتوقف الامدادات النفطية التي تشكل نصف انتاج منظمة اوبك وربع الانتاج العالمي.
ونلاحظ ان هذا التصريح ورد على لسان مسؤول ايراني غير مصنف ضمن الهيكلية الحكومية الرسمية، بمعنى ان من الممكن ان تتنكر له الادارة الايرانية رسميا اذا دعت الضرورة لذلك، رغم انه يعكس وجهة نظرها في واقع الحال. وهذا التحايل السياسي يساعد في ارسال الرسائل المطلوبة دون الحاجة الى تحمل تكلفتها.
وليس على الحكومة العراقية ان تبحث عن تبريرات من داخل العراق عمّا يتفوه به مسؤولون في الدول المجاورة، بل عليها ان تتصدى لهذه التصريحات وتعاملها بالطريقة المناسبة مهما تكن متانة العلاقات بين البلدين. واذا كان المالكي قد فشل في مناسبات ماضية في ترويض الرغبة الايرانية بالحد من سلطته، والتقليل من هيبة الدولة العراقية، فان الفرصة سانحة اليوم ليشجب باقوى العبارات هذه التصريحات، ويستدعي السفير الايراني لتسليمه مذكرة احتجاج، بل وحتى استدعاء السفير العراقي في ايران.
اما السكوت واتخاذ موقف مهادن، والقاء المسؤولية على تلك القائمة وهذا الحزب، فسيؤكد ما ردده منتقدو الحكومة الحالية طيلة مدة عملها بانها "خاضعة للنفوذ الايراني"، مستشهدين بموقف العراق تجاه سوريا في الجامعة العربية، حينما خالف كل من العراق ولبنان اجماع الدول العربية على معاقبة وتعليق عضوية النظام السوري، الحليف المتين النظام الايراني. لعل هذا هو اكبر امتحان امام المالكي اجتيازه ليثبت قدرته على توحيد الصف العراقي، وامامه فرصة لاستعادة موقعه القيادي واحباط محاولات تنحيته، لكن عليه ان يواجه حلفاء طالما ساندوه في الماضي، وهذا امتحان عسير.