بعد تسارع الاحداث السياسية في العراق إثر إصدار مذكرة القبض بحق نائب الرئيس، طارق الهاشمي، وطلب رئيس الوزراء، نوري المالكي، سحب الثقة من نائبه لشؤون الخدمات، صالح المطلك، تحدث البعض عن بوادر انفراد في السلطة يعكف رئيس الحكومة على تكريسها، بينما شدد البعض الآخر على أن المالكي إنما يسعى لإقامة دولة المؤسسات التي لا يعلو فيها شخص مهما يكن منصبه أو انتماؤه السياسي على حكم القانون.
والواقع إن توقيت إثارة هذه الأزمة ربما يزيد الأمور غموضا. فهل كان المالكي ينتظر إتمام القوات الأميركية انسحابها كي ينقض على الخارجين على القانون أم أن الأدلة على تجريمهم برزت في هذا الوقت بالذات؟ يقدم لنا رئيس الوزراء دليلا على أن اتهامه نائب الرئيس لم يكن وليد الساعة، حينما قال في مؤتمر صحفي إن لديه "ملفاً" عن الهاشمي كان قد قدمه إلى الرئيس جلال طالباني قبل ثلاث سنوات. ويبدو أن هذا الأخير لم يقتنع بما ورد في الملف فردّه عليه، كما أن الأول لم يجد حيلة في حفظ الملف وعدم اتخاذ إجراء قانوني. الأمر كما يبدو سياسي بامتياز، إذ أن واجب القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يحارب الإرهابيين والمجرمين، وان كان لديه دليل على احدهم فحفظ ملفه لأسباب سياسية هو فشل في تنفذ الواجب المنوط به.
على كل حال، جلب النقاش حول هذه المسألة بالذات أفكارا كانت تطرح من حين لآخر، ولكنها برزت بقوة هذه المرة. فالمالكي اليوم يريد أن يحصل على حكومة أغلبية برلمانية بعد أن أعيته حكومة المشاركة الوطنية، أو (المحاصصة) كما أصبحت تعرف في الآونة الأخيرة. وهذا الطلب يجب ألا يؤخذ باستخفاف، وإنما هو حق. فالمحاصصة قيدت إلى حد كبير من قدرة الحكومة على التصرف إزاء المهمات المنوطة بها. وقد استحالت بعض الوزارات إلى حكومات بحد ذاتها، ولم يعد بإمكان رئيس الوزراء التدخل فيها بسبب القيود الموضوعة في أصل الاتفاق الذي أفضى إلى تشكيل الحكومة.
على أن الدستور لم ينص صراحة على توزيع المناصب بين الطوائف والأعراق بشكل محدد، ولكنه أكد ضرورة أن يتم توزيع السلطات بين كافة الأطياف حرصا على الوحدة الوطنية. وهذا هو مبدأ حكومة الوحدة الوطنية، أو المشاركة. لكن التطبيق العملي حوّل هذا اللفظ، أي (المشاركة) إلى المصطلح الأكثر بغضا لدى الشعب العراقي ألا وهو لفظ (المحاصصة).
وقد حدد الدستور كيفية انتخاب رؤساء البرلمان والجمهورية ومجلس الوزراء في مواد محددة، هي: المادة (53(، وتنص: "ينتخب مجلس النواب في أول جلسةٍ له رئيساً، ثم نائباً أول ونائباً ثانياً، بالأغلبية المطلقة"، والمادة (67) أولا، وتنص: "ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية، بأغلبية ثلثي عدد أعضائه"، والمادة (73) أولا، وتنص: "يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية"،
وهكذا، فان العقبة الرئيسة تكمن في انتخاب الرئيس، لان من الضروري الحصول على أصوات ثلثي المجلس النيابي. وهذا الأمر لن يكون سهلا إن أراد أي طرف أن يسعى إلى تشكيل حكومة الأغلبية السياسية. فعقد التحالفات بهذا الحجم للحصول على الأصوات اللازمة سوف يستغرق وقتا طويلا، وربما لا يوجد سقف للمطالبات التي سوف يتم التقدم بها. وبدون التوصل إلى انتخاب الرئيس لن يكون ممكنا تكليف رئيس للوزراء. ويمكن نظريا أن يُصار إلى انتخاب رئيس السلطة التشريعية بمعزل عن هذه التركيبة في السلطة التنفيذية، ولكن طالما كان المنصب سياديا فان تسمية من سيشغله لابد من أن يدخل في إطار مناورات تشكيل فرعي السلطة التنفيذية: رئاسة الدولة ورئاسة مجلس الوزراء. يضاف إلى هذا إن الدستور نص في المادة (67) رابعاً على: "يعرض رئيس مجلس الوزراء المكلف، أسماء أعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزاً ثقتها، عند الموافقة على الوزراء منفردين، والمنهاج الوزاري، بالأغلبية المطلقة". مما يجبر رئيس الوزراء على استشارة الكتل السياسية المشاركة في ائتلافه قبل تسمية أي وزير. إن هذا في نظري عيب كبير في الدستور، يجب تداركه وتعديله حتى تستقيم العملية السياسية. فإذا أريد من صاحب اكبر الصلاحيات في الدولة أن يتحمل مسؤولياته علينا أن نمكنه منها. على أن السيد رئيس الوزراء كان واعيا لهذا الأمر فطلب أن يُمنح صلاحية اختيار الوزراء من بين عدة مرشحين كل وزارة، ثم طلب تأجيل تعيين الوزراء الأمنيين، وكان له ما أراد. وحينما حصلت المصادقة على حكومته كان في الحقيقة قد اكتسب صلاحيات اكبر من التي منحها له الدستور، وهو الأساس الذي يبني عليه المدعون عليه بالتفرد بالسلطة.
من هذا يتبين لنا إن منصب رئيس الوزراء نفسه كان من ضمن المحاصصات اللازمة لتشكيل حكومة قابلة للتمرير من قبل البرلمان. فإذا أراد السيد رئيس الحكومة أن ينقلب على المحاصصة، وهو أمر مشروع، فيجب العودة بعملية تشكيل الحكومة إلى المربع الأول. اذ لا يمكن اليوم أن يتم رفض الطريقة التي وزعت بها المناصب السياسية بين الفرقاء، مع الاحتفاظ بمنصب رئيس مجلس الوزراء للسيد المالكي. لابأس في أن يبادر رئيس الحكومة في طلب سحب الثقة عن حكومته، وان يُعاد تكليفه برئاسة الحكومة الجديدة، إذا التزم بتقديم وزارته كاملة إلى مجلس النواب، الذي سيكون له القول الفصل، حسب الدستور، في قبول كل وزير أو رفضه. أما أن يعمل الآن على ترقيع حكوماته الممزقة بالنزاعات الحزبية من خلال إزاحة مناوئيه إلى موقع المعارضة، وتعيين مؤيديه بدلا منه، فلم يعد أمرا ممكنا في الظرف الراهن.
بالمقابل، فان الأحزاب والكتل التي تختار أن تحتل موقع المعارضة يجب أن تكون قادرة على ممارسة دورها في تصحيح مسار الحكومة، التي هي في هذه الحالة حكومة الأغلبية. ولابد من توافر الحد الأدنى من الثقة بين كافة الأطراف السياسية، وان تظهر التزامها بأحكام الدستور، حتى يمكن لنظام حكومة الأغلبية أن ينجح. وللأسف لا أرى أن هذين الشرطين متوافران حاليا.
لقد كانت نية مشرع الدستور أن يمنع أي مسؤول من التفرد بالقرار، خصوصا بعد أن عانى العراق من الدكتاتورية عقودا طويلة. لكن الطموح إلى السلطة تمكن من معظم المشاركين في العملية السياسية، حتى أعماهم عن إمكانية وقوع هذا الخطر بالآليات ذاتها التي تمنع وقوعه. وقبل توجيه الاتهام إلى شخص المالكي، على الأطراف السياسية أن تسأل نفسها: ما الذي جرى ليصل الأمر إلى هذا الحد؟ كيف يمكن لبلد دمرته الحروب والمآسي الطويلة، وتشرد أبناؤه في أصقاع الأرض، ونضبت خيراته الوفيرة، كل ذلك على يد شخص واحد انفرد بالسلطة، أقول كيف يمكن ألا تعمل جميع الأطراف من اجل أن تمنع حصول ذلك مجددا؟ يُقال: لولا النسيان لهلك الإنسان، وربما في حالتنا يمكن تعديل هذا القول ليصبح: لولا النسيان لهلك السلطان، فلربما نحصل على الإجابة عن تساؤلاتنا.