توصلت الجامعة العربية، في دورتها الوزارية الاستثنائية، الى قرار بتجميد عضوية سوريا في تلك المنظمة التي ظلت على مدى عقود طويلة داعمة لأنظمة اعضائها بغض النظر عن الطريقة التي يحكمون بها شعوبهم. واذا كان الربيع العربي قد أثر على بعض تلك الانظمة، وأسقط بعضه الآخر، فانه قد ترك بصمة واضحة على الجامعة العربية وحولها من مجرد منتدى للملوك والرؤساء العرب الى مؤسسة شعبية تنظر في قضايا الشعوب العربية المقهورة بمزيد من التمعن والإدراك للحال البائسة التي آلت إليها.
وقد صوتت لهذا القرار ثماني عشرة دولة عضو في المنظمة، من بينها دول تحررت للتو من نير الدكتاتورية مثل تونس ومصر، ودول مازال زعماؤها يحكمون قبضتهم على مقاليد الامور فيها مثل السودان. اما الدول التي عارضت القرار فلم يكن موقفها غريبا. فاليمن يمر بنفس المرحلة التي يمر بها النظام السوري، وهو ايضا مرشح للمزيد من الضغط العربي والدولي ليفسح المجال امام شعبه الطامح الى الحصول على حق تقرير المصير، ولكي يوقف محاولاته المستميتة من اجل وضع البلاد على شفا حرب اهلية في سعيه للتشبث بالسلطة بأي ثمن.
وبالمثل، فان الحكومة اللبنانية قد أثبتت في الماضي ولاءها للنظام السوري من خلال موقفها من قرار مجلس الأمن الذي صدر بإدانة استخدام العنف ضد المتظاهرين في سوريا قبل اشهر قليلة، والذي امتنعت عن التصويت عليه، في ظاهرة غريبة تصدر عن دولة كانت تعتبر من اعرق الديمقراطيات في العالم العربي والشرق الاوسط ككل.
لكن المستعصي على الفهم هو موقف العراق. فامتناع العراق عن التصويت لصالح قرار تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية ربما يُعد رفضا للقرار اكثر منه مجرد النأي بنفسه عن الخوض في قضية سوريا. فلو كانت المسألة نزاعا بين دولتين لكان الامر مفهوما. اما ان يمتنع العراق عن الادلاء بصوته ضد القمع والطغيان والتعذيب والتهجير والقتل وانتهاك المحرمات فهذا امر عجيب. الم يعان العراق من الاضطهاد على يد نظامه السابق اربعين عاما ذاق فيها الشعب الامرين من ويلات الحروب والحصار والعزلة الدولية؟ الم يعمد ذلك النظام الى اعادة العراق نصف قرن الى الوراء وتسبب في قتل الملايين وتهجير ملايين اخرى فرّوا بجلودهم من بطشه؟ ثم، الم يكن من بين المهجرين والمهاجرين اولئك الذين تربعوا على كراسي الحكم في العراق الان بعد تحرره من سطوة النظام السابق؟ اذا، لماذا لا يتذكرون ايام سلكوا الشعاب والطرق الخطرة وتعرضوا الى شتى المخاطر في سعيهم للفرار من نظام لا يفترق كثيرا عن النظام السوري؟
تلك اسئلة محيرة. واقر باني لا اكاد استطيع ان افهم او افسر موقف العراق. يقول البعض ان موقف الحكومة العراقية انما يمثل امتدادا للاثر الايراني في المنطقة ككل وفي العراق على وجه الخصوص. والحقيقة اني لا ارى ان الحكومة العراقية مجرد بيدق في رقعة الشطرنج الايرانية. ربما تكون هناك بعض المناسبات التي يجامل فيها المسؤولون العراقيون النظام الايراني، إما لعلاقتهم الشخصية برموزها، او لكسب ود ذلك النظام وضمان عدم اسقاطهم سياسيا من قبل اولياء النظام الايراني في العراق. أي ان الاثر السياسي لايران في العراق لا يتعدى ولاءات متناثرة لا تمثل مجتمعة نسبة وافية لاحداث أثر في السياسة العراقية. كما ان هناك خصومات داخل اطراف الحكومة العراقية تجعل من الصعب على الحكومة ان تتخذ موقفا مميزا في قضية مثل دعم النظام السوري، دون ان يكون هناك توافق بينها.
واللافت ان الحكومة العراقية الحالية قد تعرضت للنظام السوري بالقدح والذم والاتهام في غير مناسبة. وهي اتهمت ذلك النظام بتغذية أعمال العنف في العراق المرة تلو الاخرى، حتى وصل الامر الى رفع شكوى ضده في المحافل العربية والدولية، وظلت العلاقة بين البلدين في حال من التلبد والجمود لفترة ليست بالقصيرة. كما ان العراق طالب النظام السوري بتسليم المطلوبين بتهم تمس امن الدولة العراقية ومنها التخطيط والتمويل لاعادة حزب البعث الى الحكم وخلخلة الوضع الامني. وفي المقابل ليس هناك موقف ضد المعارضة السورية لا في الداخل ولا في الخارج. بمعنى ان العراق لم يكن يرى في تلك المعارضة ما يهدد امنه وسيادته واستقراره، بينما كان النظام السوري على الدوام متهما بكل ذلك واكثر.
ومن كل ما تقدم فان الارجح ان موقف الحكومة العراقية يعكس وجهة نظر اغلبية الاحزاب المشاركة فيها. ذلك ان هناك تخوفا واضحا من حصول انقلاب سياسي في سوريا قد لا تكون عقباه حميدة على الوضع في العراق، من وجهة نظر الحكومة العراقية. كما ان التصعيد الدولي قد يقود الى تدخل عسكري اجنبي، وهو ما قد يفتح بابا آخر للعنف في دولة مجاورة ربما يتضرر العراق من شظاها. او قد تكون سيطرة المد الديني - الاسلامي على حركة الشارع العربي، بضمنه الرأي العام السوري، وما يحمل في ثناياه من اثارة للطائفية، هو هاجس القيادة العراقية.
وأياً يكن الامر، فان الاهم يتقدم على المهم. والاهم في هذه الحالة هو نصرة قضايا الحرية والديمقراطية والتعددية وصون حقوق الانسان. ان من الحكمة ان يقف المرء موقفا محايدا في قضايا لا تهمه. ولكن ان تقف الدول على الحياد في امور تمس معتقدها السياسي فهو نفاق واضح. وربما يؤدي مثل هذا الموقف الى فقدان الثقة بالحكومات واسقاطها سياسيا وشعبيا. فكيف لك ان تقنعني بانك غير متعطش للسلطة اذا كنت تؤازر متشبثا بها؟ والمثل العراقي يقول: "حشرٌ مع الناس عيد"، أي ان عليك ان تساير الناس في الامور التي لا تمسك مباشرة. وهو الحال مع النظام السوري، فبقاؤه ليس افضل من رحيله. وحركة التاريخ تشير الى هذا التغيير الوشيك، فهل علينا ان نقف ضد هذه الحركة الحتمية؟ لا اظن ان الحكومة العراقية قد وعت آثار الربيع العربي حتى الآن. ومن سخرية القدر ان العراق، حسب رؤية الرئيس الاميركي السابق جورج دبليو بوش، هو واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط. لكنه فشل حتى الان في اثبات ان الديمقراطية التي يحمل لواءها هي النظام الامثل للحكم. وهو فشل آخر لاميركا في منطقة الشرق الاوسط ككل وليس في العراق فحسب.