لعل ابرز ما كان متوقعا للاقتصاد العراقي بعد تحرره من نير الطغيان هو التحولات الجذرية نحو اقتصاد مفتوح غير خاضع لسيطرة الدولة. اقتصاد تكون فيه المنافسة الحرة والعادلة هي العنصر الدافع للإنتاج، وتتغلب فيه الحاجة الى تلبية الطلب المحلي على المنتجات بطريق الاكتفاء الذاتي على الرغبة في اللجوء إلى الأسواق العالمية، حيث تصعب السيطرة على النوعية بالاضافة الى التأثيرات الوخيمة لزيادة الاعتماد على الاستيراد على حساب المنتج المحلي.
غير أن أوضاع العراق الشاذة منذ الغزو الاميركي في نيسان 2003، بدءا من التداعيات الامنية لذلك الغزو، مرورا بالقرارات السياسية المتعجلة في ما يتعلق بالاقتصاد المحلي وطريقة توزيع واردات الدولة الهائلة، وليس انتهاء بالحزبية الضيقة التي يتميز بها وقتنا الراهن والتي أصبحت العامل المحرك لكل فعاليات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بسبب هيمنتها على تلك الفعاليات بدون منازع، كل هذا قاد الى عكس مسيرة النمو الاقتصادي وتراجع أداء الاسواق في ما يتعلق بالميزان التجاري الوطني.
التركة الثقيلة
لنلق نظرة على وضع اقتصاد العراق قبل عام 2003، حينما كان القرار يصنع في دائرة ضيقة جدا، وبأمر مباشر من "القائد الضرورة". كان العراق يرزح تحت وطأة العقوبات الدولية، التي لم تكن تعني شيئا بالنسبة للنظام أكثر من تفويض السيطرة على مقدرات البلاد النفطية الى الامم المتحدة في ما يعرف ببرنامج "النفط مقابل الغذاء". أي ان هذه العقوبات في الواقع كانت سياسية، الغرض منها منع حاكم العراق وزمرته من استثمار ثروات العراق في اعادة بناء برنامجه العسكري سيىء الصيت. لكن النظام لم يحوّل واردات النفط تلك الى ما يخدم مصلحة الشعب إلا بالنزر اليسير، ما انعكس سلبا على الوضع المعيشي لعموم الشعب، وتسبب في معاناة دائمة من نقص الخدمات الاساسية، وتدهور الوضع الاقتصادي بشكل خطير. هذه هي، بطبيعة الحال، البيئة التي يزدهر فيها الفساد ويرسخ أسسه في جسد الدولة ومفاصلها، ويجد له مبررات اجتماعية تجمل وجه أدعيائه على الرغم من قبح الفعل الذي يقدمون عليه.
توطن الفساد
وهكذا فما آن تغير النظام حتى وجدت عصابات الفساد الإداري والمالي نفسها أمام احتمالية الكشف والمحاكمة او الهروب والنفي. فبدأت هذه الزمر، التي كانت ما تزال تمسك بزمام الدولة من مواقع متوسطة او متدنية، في تعطيل عجلة الإصلاح التي كان يمكن ان تسحقها في غضون سنوات قليلة، لو توافرت النية المخلصة للقضاء عليها. ومما ساعد على بقاء هذه الطبقة الفاسدة في مواقعها غياب ثقافة مكافحة الفساد على المستوى الاجتماعي، بالاضافة الى انشغال الدولة بالامور السياسية والامنية الى حد إهمال متابعة هذا الشأن الخطير، الذي كان تأثيره في نهاية الامر اكبر من كل التبعات الامنية التي مر بها العراق خلال السنوات الثماني الماضية. و أوضح دليل على ذلك اليوم تردي وضع الخدمات الاساسية من ماء وكهرباء وطرق وصرف صحي وخدمات بلدية، يضاف اليها فشل النظام التربوي، وتخلف النظام الصحي، وتضخم نسب البطالة وشيوع المحسوبية وشراء الوظائف الحكومية، وغير ذلك من المظاهر الفتاكة لتردي وضع الاقتصاد في بلد لا تعوزه الثروات المادية والبشرية لكي يكون في مصاف الدول المتقدمة، او على الاقل ان يكون بمستوى اقل الدول تمدناً في محيطه الإقليمي.
كما ادى نقص الخدمات الاساسية الى تعطيل الصناعة المحلية على بساطتها، وتهالك القطاع الزراعي مقابل ازدهار وقتي للقطاع التجاري الذي كان مجرد بوصلة تشير الى اتجاه واحد: الاستيراد من خارج العراق دون ان يعبأ القائمون على التخطيط الاقتصادي بتعديل الميزان التجاري ولو بنسبة بسيطة، من خلال تشجيع التصدير وتقديم حوافز وإغراءات للمستثمرين في هذا القطاع، مع وضع ضوابط جمركية على حركة الاستيراد لحماية الصناعة المحلية والمستهلك على حد سواء. ومن ناحية اخرى، فان المصالح الحزبية قد وجدت سبيلها الى دوائر الدولة من خلال التعيينات المستندة الى الانتماء السياسي وغير المبنية على الكفاءة، ما ادى الى عرقلة الحركة الطبيعية للتطور واستبدال العناصر السيئة بأخرى جيدة من خلال الفرز والتمحيص على اساس الاداء وليس الانتماء.
قرارات متعجلة
من بين القرارات التي اتخذتها الدولة دون نظر كاف في العواقب قرار زيادة رواتب الموظفين بشكل كبير. فعلى الرغم من كون شريحة الموظفين هي من الشرائح الكبيرة في المجتمع الا انها ليست الشريحة الوحيدة او الاوسع. وقد عمد النظام السابق، في الفترات السابقة للحصار الاقتصادي، الى منح زيادات في الرواتب بين الحين والآخر ظهرت آثارها واضحة في إحداث تضخم اقتصادي كبير عجزت الدولة عن تخفيضه لاحقا والقي بظلاله الى الوضع المعيشي العام. لذلك توقفت الدولة عن الاستمرار في زيادة الرواتب على الرغم من تيقنها بان مثل هذا الامر كان سيحقق لها نوعا من الدعم السياسي في اوساط المنتفعين، لان النقمة المتولدة بين المحرومين كانت ستكون اكبر واشد تأثيرا على النظام وأمنه وديمومته.
ولكن الحكومات التالية للنظام السابق لم تقرأ هذه التجربة كما ينبغي، فعمدت الى تقديم رواتب ضخمة لموظفين لم يكن للكثير منهم من عمل اكثر من التوقيع على سجلات الحضور والانصراف. ولم نشهد زيادة في إنتاجية معامل القطاع العام او حتى توفرها في الاسواق المحلية بعد تلك الزيادات لكي تكون مبررا لها، او لتغطي ولو قليلا من مصاريف دوائر الدولة الباهظة. وقد تحدثت بعض التقارير عن تخصيص اكثر من ثلثي ميزانية الدولة للرواتب على مدى السنوات القليلة الماضية، وهو امر يتحدى العقل السليم، ويخرج عن منطق التخطيط العلمي للاقتصاد. فكيف للدولة ان تبني المشاريع العملاقة، وتصلح البنى التحتية، وتتصدى للدفاع عن حياض الوطن اذا كان كل ما تبقى من ميزانيتها السنوية هو مبلغ العجز المتوقع في حالة هبوط اسعار النفط العالمية؟
والأدهى من ذلك ان زيادة الرواتب قد تسببت في إحداث تضخم هائل بأسعار السلع في الاسواق المحلية ما زاد من معاناة الافراد والعوائل التي ليس لها مردود شهري ثابت، ومن قبل ذلك فشل نظام البطاقة التموينية في تحقيق القدر الادنى من المساواة بين افراد الشعب نتيجة تناقص المفردات التي توزع بموجبها شهرا بعد شهر، فادى ذلك كله الى ان يصبح الفقراء اكثر فقرا، رغم تضاعف ثروات البلاد بشكل عام.
ان تمييز شريحة الموظفين بهذا الشكل قد ادى الى تهافت جميع فئات المجتمع للحصول على وظيفة حكومية مضمومة الراتب. ولم يستطع القطاع الخاص المنهك أساسا من استقطاب الايدي العاملة او الخبرات للعمل لديه لعدم قدرته على مجاراة هبات الدولة للعاملين لديها. فكان من شأن هذا ان يحط من قدر القطاع الخاص أكثر فأكثر الى درجة نزوح رؤوس الاموال الى الخارج وخلو الساحة الداخلية من المنتجين، او تحولهم الى وسطاء تجاريين يغرقون الاسواق المحلية بالمزيد من البضائع الرديئة، طاردة الإنتاج المحلي على قلته خارج السوق، عملا بالمبدأ المعروف: العملة الردئية تطرد العملة الجيدة الى خارج السوق. أما القرار الآخر الذي تبنته الدولة وكان له تأثير لا يقل سوءا عما سبق فهو دعم الدينار العراقي مقابل الدولار الاميركي بطريق مباشر، من خلال عمليات البيع المسطير عليها التي يقوم بها البنك المركزي العراقي. وهذا يعني ان الاقتصاد المحلي لن يعمل على توفير فرص عادلة في سوق تنافسية، بل يكون خاضعا لسيطرة الدولة ومستنزفا لمقدراتها في عملية ذات تأثير دعائي قصير المدى، لكن بعواقب وخيمة على المدى البعيد. فماذا يحصل إن هبطت اسعار النفط حتى لم يعد بإمكان الدولة دعم الدينار؟ إن هبوط سعر الدينار المفاجىء سيوف يقود الى تفاعل متسلسل من التضخم والمزيد من الهبوط في القيمة قد لا تتوقف عند حد في فترة وجيزة. كما ان استمرار الدولة في تقنين الدينار هو مجرد استمرار لفعاليات كان يمارسها النظام السابق ويقع على خط التضاد مع أفكار السوق الحرة التي من شأنها ان ترفع من قدر الاقتصاد وتحقق التنمية المستدامة على المديين المتوسط والطويل.
الإصلاح
وعلى هذا فاني اخلص الى ان على الدولة، إن أرادت أن تحدث إصلاحا حقيقيا، أن تتخذ قرارا شجاعا بوقف دعم الدينار، وان يكون ذلك على مراحل مدروسة بعناية لتجنب التسبب بتضخم مفاجىء يؤثر على الاقتصاد المحلي بشكل حاد ضمن مدى زمني قصير. ويجب ان يتزامن مع هذا الإجراء توفير أجواء صحية للقطاع الخاص ووضع آليات محكمة للقضاء على الفساد الإداري والمالي وتقليصه الى الحد الادنى. وبالمثل يتوجب إعادة النظر في سلم رواتب الموظفين بما يحقق العدالة في توزيع واردات الدولة بين كافة شرائح المجتمع، وليس بين العاملين لديها فحسب. وتشمل هذه العملية دراسة إمكانية تحويل بعض المعامل والمنشآت الحكومية الى القطاع الخاص من اجل إعادة تأهيلها وتشغيلها والاستفادة من قدراتها المادية والبشرية. ويمكن تحويل الفائض النقدي من هاتين الخطوتين الى صناديق لدعم الصناعة والزراعة بشكل قروض ميسرة، وبشروط تضمن توفير فرص العمل لشرائح أكثر من المجتمع. وهنا يجب التنويه الى ضرورة إصلاح القطاع المصرفي وجعله أكثر دينامية في مواكبة حركة السوق الحرة التي نتوخى الوصول إليها.
إن التفكير الضيق في المصلحة الحزبية لا يؤدي الى اكثر من دعم شعبي محدود ولفترة زمنية وجيزة. لذلك اذا كان للاحزاب السياسية ان تطمح في التربع على عرش السلطة لمدة طويلة، فان عليها ان تلجأ الى الوسائل ذات المردود طويل الامل وان تصمد امام العواقب والعراقيل المرحلية. إن أفقك في السلطة هو ليس إلا انعكاس لمنهجك في الحصول عليها. وكلما كانت نظرية السلطة لديك اكثر شمولا، كان التقبل الشعبي لك أوسع، وبالتالي كانت عوامل البقاء السياسي تميل لصالحك بشكل اكبر. وقد أثبتت تجارب التاريخ إن أكثر الحكومات استقرارا تلك التي تولي جلّ اهتمامها للتنمية والتطوير الاقتصادي، على العكس من الحكومات التي انشغلت بالتطاحن الحزبي واستدراج الأنصار بالمنافع المباشرة على حساب المصلحة العامة، حيث لم يكتب لها البقاء لمدة طويلة في عمر الزمن.