قال احد المشاركين في برنامج حواري بث على احد القنوات الفضائية العربية ان شرارة "الربيع العربي" انطلقت من العراق، فقاطعه المذيع بالقول "ان شرارة الربيع العربي انطلقت من تونس، من حادثة ابو عزيزي وما تلاها من احداث في الشارع التونسي". فخطر لي سؤال: لماذا لم تنطلق شرارة الربيع العربي من العراق؟
والحقيقة ان لا احد تقريبا يشير الى تجربة العراق المريرة في عام 1991، عندما انتفض الشعب العراقي من شماله الى جنوبه ضد حكم الطغيان الصدامي الذي اذاقه الامرين من حروب طاحنة ومغامرات غير محسوبة ادت الى فقدان مئات الالاف من الارواح البريئة، اضافة الى تفرد "القائد الضرورة" بالسطة واسكاته لكل معارضة بطرق وحشية، ليس اقلها الحرمان من بركات النظام، وليس اكثرها الترحيل والسجن والتغييب والاعدام، مرورا باساليب التحقيق المروعة في زنزانات اجهزة الامن التابعة للنظام.
خرج الشعب في ثورة غير مسبوقة في العالم العربي على حاكم جائر بعد ان ادت مغامرته في الكويت الى تحطيم البلاد ماديا ومعنويا نتيجة الهزيمة المذلة التي وضعها فيها النظام، وما رافقها من بوادر للعزلة الدولية التي سوف تستمر الى حين سقوط النظام بعد اثنتي عشرة سنة من تلك الثورة الشعبية.
ثورة بدأها جندي في البصرة بان صوب ماسورة دبابته في وضح النهار الى صورة كبيرة لـ"القائد الرمز" ودمرها بقذيفة ربما تكون آخر ما بقي لديه من ذخيرة، وهو ما لم يجرؤ عليه من قبل أي مواطن عراقي. وفجأة تحطم حاجز الخوف، وسرعان ما تهاوت اركان النظام في معظم انحاء العراق، من الشمال الى الجنوب، مرورا بضواحي بغداد، وباتت البلاد تعيش اجواء الثورة.
لم تكن تلك الثورة سببا لانهيار النظام الصدامي، ولم تصبح مثالا لشعوب المنطقة العربية التي ترزح تحت انظمة شمويلة مماثلة. بل ان تلك الانتفاضة ربما ادت في الواقع الى تأخير الربيع العربي عشرين عاما اخرى. حينما رأت الشعوب العربية مقدار القمع الذي مارسه النظام على الشعب الذي تجرأ على رفع صوته في وجهه. ربما تكون الشعوب العربية قد وضعت في حساباتها ان انظمتها الحاكمة سوف لن تكون افضل في تعاملها مع مثل هذه الحركات من النظام الصدامي.
لكن سقوط النظام في العراق عام 2003 على ايدي قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وما تلاه من تحرر نسبي للعراقيين على مستويات عدة، بدءا من حرية التعبير عن الرأي، الى المشاركة في صنع القرار عن طريق الانتخابات البرلمانية والمحلية، كل هذا لم يكن هو الاخر سببا مباشرا في تحريك الشارع العربي للمطالبة بالمزيد من الحريات وتحسين اوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومرة اخرى يطرح السؤال نفسه، لماذا لم يصبح العراق مثالا للشعوب العربية؟
قد يكون الجواب على ذلك سهلا، نظرا لان العراق مرّ بفترات مظلمة بعد الغزو الاميركي وعانى من تفشي الارهاب وتدني مستوى الامن وسيطرة بعض العصابات على مقدرات الدولة وحتى التمكن من الوصول الى هرم السلطة والتأثير على عملية صنع القرار. كذلك شهد العراق شيوع الفساد الاداري في كافة مفاصل الدولة حتى صار امثولة في التقارير الدولية، التي لاشك ان المثقفين العرب، وحتى رجل الشارع، قد اطلعوا عليها وربطوها برد فعل انعكاسي بالتحرر والتخلص من نظام الاستبداد الشمولي. وربما ساورت الشعوب العربية المضطهدة الشكوك بانها قد لا تكون افضل حالا ان ازاحت جلاديها عن سدة الحكم.
ومرة اخرى، قد تكون الاحداث في العراق بعد 2003 قد امدت من عمر حكام العرب المتسلطين على رقاب شعوبهم. لم يصبح العراق مثالا لهم لانه لم يكن يعط صورة المثال المطلوبة من بين الفوضى العارمة التي اعترته، رغم ان التغيير في العراق قد احدث نقلة هائلة في حياة الشعب العراق، من الناحيتين السياسية والاقتصادية على الاقل. لكن الفشل في كبح جماح الفتن على المستوى الاجتماعي، والذي اثارته المطاحنات السياسية، قد افضى الى تصوير العراق على انه بلد لا يمكن ان تحكمه الا دكتاتورية قادرة على التعالي على الخلافات الطائفية والعرقية، شأنه في ذلك شأن بقية شعوب المنطقة.
على كل حال، فان الانتفاضات العربية قد لا تكون "ثورات" مجيدة بكل معنى الكلمة، ولكنها بكل تأكيد حركات بوجه الطغيان استقت مدها بعيدا عن تجربة العراق، وان كانت تسعى حقيقة الى ان تصبح مثله في اقل تقدير. ربما تكون اركان الحكومة قد سهلت عملية ازاحة زين العابدين بن علي عن السلطة في تونس، وقد يكون دور الجيش المصري اكبر من يبدو في دعم انتفاضة ساحة التحرير واجبار حسني مبارك على التنحي. لكن ذلك لا يقلل من شأن الرجال والنساء الذين تجرءوا على التجمع والتظاهر ومقارعة اجهزة هذه النظم القمعية التي لا تعرف الرحمة في تعاملها مع مثل هذا الوضع.
وفي اليمن لا يزال مئات الالاف من المتظاهرين يملأون الشوارع والساحات مطالبين بتنحي علي عبد الله صالح عن الحكم، والتحول الى نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على حرية التعبير والتعددية ويحارب الفساد ويوفر الخدمات لشعبه ويعمر مدنه ويقوده الى الرخاء والازدهار. لا اشك ان الثورة في اليمن سوف تنجح في نيل مسعاها على الرغم من تمسك الرئيس ببراثن السلطة الى آخر يوم، ولجوءه الى اساليب اصبحت بالية في زمن التواصل الفوري الذي نعيشه الان.
وانتفاضة البحرين اكثر خجلا ولكنها وضعت نفسها على خارطة الثورات واجبرت الحكام على الاستماع اليها وتقديم تنازلات لم تكن في مجال التصور قبل فترة وجيزة. ومن الممكن ان يفضي الحوار بين حكومة البحرين ومعارضتها الى تحسين الحريات وتقسيم اكثر عدلا للسلطات في هذا البلد الصغير بحجمه، ولكن الكبير بموارده.
اما سوريا، فهي اشبه ما تكون عراقا عام 1991. المنتفضون في الشوارع يطالبون باسقاط النظام الشمولي، والجيش يهيل عليهم سيل الرصاص والقذائف المدفعية. بشار الاسد يقف في محفله مبجلا من زبانيته وهو يعلن ان الجيش يقوم بعمليات تطهير المدن من "الخارجين عن القانون"، الذين اعلن انهم عشرات الالاف. يعلم العراقيون ذلك، فقد خبروه. اذا تجرأت على الوقوف بوجه الطاغية فانت مجرم ومخرب وارهابي وسيكون الموت لك ولعائلتك ولجيرتك ولكل مدينتك.
غير ان سوريا 2011 غير العراق 1991. فلم يكن هناك من فيسبوك، ولا هواتف نقالة، كما لم تكن هناك قنوات فضائية. ولم تكن الاحداث في العراق عندها سوى خبرا في الاذاعات عن تحركات المنتفضين الذين لم يعلن لهم صوت ولا صورة، ولم يعلم احد لهم شكل ولا لون. كانوا اناسا من العامة لم يستطيعوا ان يوصولوا صوتهم الى العالم الا مشوها بدعايات مغرضة من اجهزة النظام الحاكم رغم تزعزع اركانه، وبتدخل سمج غير مرحب به من دول اقليمية ارادت الحصول على حصة في كعكة العراق التي بدت دسمة آنذاك.
وحينما ذبحت اجهزة النظام القمعية مئات الالاف من الابرياء واودعتهم مقابر جماعية يندى لها جبين التاريخ، لم يعلم بذلك سوى قلة من الناس خارج العراق، ولم يتحرك احد لفرض عقوبات على شخوص نظام صدام كما يحدث اليوم في سوريا وليبيا. لقد ادى التحول التقني في الاتصالات الى حقن دماء عزيزة في سوريا، كانت سوف تهدر بكل برود لو كان مايحدث الان قد حدث قبل عشرين عاما.
سوف تنتصر ارادة الشعب السوري آخر الامر. سوف تتعالى الحشود على جلاديها ومن يحصد ارواح ابنائها بالرصاص الحي الموجه الى صدورهم العزل. قد يحدث ذلك بتدخل دولي، ولكنه سيكون على ايادي الرجال الساعين الى التحرر من الفكر الشوفيني الذي لا يرى صوابا في غير افعاله ولا يقبل نقدا لها.
على اني ارى ان الحركة الليبية المسلحة هي خير مثال لما كان ينبغي ان يحدث في العراق عام 1991. فما ان تحرك الشعب وثار على مغتصبي حقوقه حتى اجتمع شمله تحت قيادة موحدة، وأمنت لها موطيء قدم في مدينة بنغازي الشرقية. استطاعوا ان ينشئوا لهم قناة فضائية تنطق باسمهم وعملوا على التواصل مع العالم الخارجي. حتى انهم باتوا قادرين على استحصال بعض التمويل من تصدير النفط ومن المساعات السخية التي تقدمت بها بعض الدول العربية والغربية.
لقد استطاعت المعارضة الليبية المسلحة ان توصل صوتها للعالم، وان تضع قضيتها على طاولة مجلس الامن، واستحصلت الدعم الحربي واللوجستي من دول حلف الناتو، مستفيدة من تخبط حاكم بلدها المخبول معمر القذافي. ويبدو ان الوضع العسكري قد تحول اخيرا لصالحهم بفضل تحسن ادائهم واستمرار ضربات حلف الناتو لقوات القذافي.
كان يمكن لانتفاضة العراق عام 1991 ان تحصل على مثل هذه المكاسب لو كان لها صوت في الخارج، ليس من خلال وسائل الاتصال التي ما كان لها من وجود في ذلك الوقت، بل من خلال رموز المعارضة الذين اتخذوا من عواصم الغرب ملجأ لهم. لو انهم تواصلوا مع الشعب الثائر بشكل كافٍ، ولو انهم عملوا على طرح مسألة وطنهم المصيرية امام المحافل الدولية ومارسوا ضغوطا من اجل ايجاد حلول لها، ربما كان الوضع قد تغير، لكن الساعة لا تعود الى الوراء.
اليوم يلفظ معمر القذافي انفاسه بعد ان ظن انه مخلد في موقعه مع اولاده. وهو اتخذ من شنق شقيقه في الطغيان صدام حسين مثالا على ان بقية الحكام العرب سائرين في نفس الطريق، كما قال لهم ذلك في مؤتمر قمة دمشق. استمعوا له وضحكوا، لانهم اطمأنوا الى ان النار لن تحرقهم يوما، بعد ان شهدت شعوبها ما حدث في العراق بعد سقوط طاغيته. ولكنهم لم يتعضوا ولم يسعوا الى تخفيف قبضتهم الحديدية على السلطة، وافساح المجال لاصلاحات سياسية حقيقية.
اما بشار الاسد فقد يبقى لفترة اطول قليلا، ولكنه لن يكون اوفر حظا آخر الامر. سوف يرحل عن سوريا او ربما سيعتقل ويحاكم، وسوف يتذكر كلمات معمر، ويتمنى لو انه "اخذ الشور من راس الثور" كما يقول المثل العراقي. وسيتراءى له مشهد الحبل الملفوف على رقبة صدام وهو يسأل نفسه: هل كان يجب علي ان اتخذ من العراق مثلا؟
اذا لم يكن العراق مثالا لانتفاضات الربيع العربي فهو موجود فيها بشكل اوبآخر. واذا لم يود احد الحديث عن ديمقراطية العراق، على الرغم من كل اخفاقاتها وسلبياتها، على انها انموذج لنظام حكم يخلف الطاغية الذي يسعون لاسقاطه، فان الخيارات تصبح اضيق بعيدا عنه. وفي آخر الامر، سوف تكون نسخة منقحة من ديمقراطية العراق هي ما يسود المنطقة. سوف يتعظ الجميع من الاخطاء التي وقعت في العراق في طريقهم نحو الحرية والعدالة والمساواة، دون ان يذكروا ذلك. فالعراق كان وسيبقى المثال الصامت لثورات العرب الصدّاحة.