في السادس من تشرين الثاني الجاري فتح الميجر نضال مالك حسن النار من مسدسين آليين على مجموعة من الجنود كانت تستعد لإنهاء معاملات نشرهم في افغانستان، في المركز المعد لهذا الغرض بقاعدة فورت هود، كبرى القواعد العسكرية الاميركية في العالم.
واصل الميجر اطلاق حوالي مئة رصاصة قبل ان تصيبه ضابطة صف متمرسة على القتال وتوقفه عن قتل المزيد. واسفر الهجوم عن مصرع 12 جنديا ومدنيا واحدا واصابة اثنين واربعين آخرين بجروح مختلفة قد تؤدي ببعضهم الى الإعاقة مدى الحياة.
وعلى الفور بدأت التحقيقات حول اسباب هذا الهجوم المفاجى ودوافعه الخفية وما اذا كان الميجر يعمل بمفرده ام انه كان يتقلى توجيهات او فتاوى تحضه على هذا الفعل. وتشير التقارير الاولية الى ان الميجر نضال مالك حسن، الاميركي المولد والفلسطيني الاصل، لم يكن بالشخص العنيف او المتطرف، رغم ما ذكره زملاؤه في الخدمة من ادانته الحروب في افغانستان والعراق. كما ان جيرانه والاشخاص العاملين معه اصيبوا بالصدمة لما بدر منه، حيث كان ذلك آخر ما يتوقعوا ان يفعله.
وقال ابن عم له، يعيش في القدس، في مقابلة تلفزيونية انه كان يعاني التفرقة العنصرية داخل الجيش لكونه مسلماً، على الرغم من تدرجه في سلم الرتب العسكرية ليصل الى رتبة ميجر (وهي تعادل رتبة رائد). وقياسا الى عمره البالغ 39 عاما، وتاريخ انتمائه الى الجيش الاميركي في عام 1997،لايبدو انه قد تأخر كثيرا في نيل هذه الرتبة، وهي علامة واضحة على عدم وقوعه ضحية لتفرقة بسبب الدين او العرق.
وتجري التحقيقات حاليا في علاقته المزعومة مع رجل الدين المتشدد اليمني الاصل انور العولقي، وهو المرشد الروحي لاثنين من المشاركين في هجمات 11/9، هما خالد المحضار ونواف الحازمي. حيث تشير التحريات الى انه اتصل برجل الدين هذا، الذي كان إمام جامع دار الهجرة الواقع بالقرب من العاصمة الاميركية، واشنطن، في اواخر عام 2008.
غير ان عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي يقولون انهم لم يأبهوا لهذه الاتصالات كون المجير كان يجري تحقيقات لصالح الجيش في ذلك الوقت، واعتبر من الطبيعي ان يقوم بمثل هذه الاتصالات. يذكر ان التدرج في الرتب العسكرية في القوات المسلحة الاميركية يتطلب الحصول على الموافقات الامنية بين الفينة والاخرى، وقد حصل الميجر نضال على درجة (سري)، أي انه لم يبعد سوى خطوة واحدة عن اعلى درجات الموافقات الامنية وهي (سري للغاية)، وهو ما يؤهله الحصول على معلومات سرية وحساسة.
وبناء على ما تقدم لا يبدو ان الميجر نضال كان مرتبطا بشكل مباشر مع خلية متطرفة تعمل على التخطيط لهجمات ارهابية في الولايات المتحدة. ولو كان الامر كذلك فلربما كان سيكون اكثر فائدة لتلك الخلايا من خلال المعلومات السرية التي يمكن ان يقدمها لهم، ولفترات طويلة قبل ان يفتضح امره. فالمكان الذي جرى فيه الهجوم لم يكن مغلقا على العامة، وبالتالي كان بإمكان الكثيرين القيام بما قام به دون الحاجة الى أن يكون برتبة ما في الجيش مثلا.
أما قدرته على حمل السلاح وادخاله الى القاعدة العسكرية فهو ليس بالامر المعجز كذلك، حيث ان تلك القواعد، التي يقطنها عدد كبير من الناس المدنيين والعسكريين على السواء، لا تخضع الداخلين اليها الى اجراءات تفتيش صارمة. يذكر ان قاعدة فورت هود تضم بين جنباتها اكثر من خمسين الف شخص بين مدني وعسكري.
وقال احد الجرحى انه سمع المهاجم يهتف (الله اكبر) باللغة العربية قبيل مباشرته بإطلاق النار على الجنود، وهو ما يدل عادة على هجوم انتحاري. غير ان تلك الشهادة لم تتأكد من شهود آخرين. كما ان هذا الهتاف لا يعني بالضرورة ان تلك العملية كانت (ارهابية). بل ان المسلمين يهتفون (الله اكبر) في مواقف ومناسبات شتى، وليس من العجب ان يقولها شخص يوشك على انهاء حياته، ظنا منه انه بهذا الفعل سوف ينال رضا الباري عزّ وجل. نعم، كان الميجر نضال على وشك ان يُرسل الى افغانستان، وهو ما كان يرفضه علنا. لكنه قام بالفعل بتوكيل محامٍ لغرض إخراجه من الخدمة العسكرية، أي انه اتبع الطرق القانونية للحيلولة دون ارساله للخدمة في حرب يرفضها.
بيد انه كان طبيبا نفسيا في قاعدة فورت هود، وكان يتعامل مع حالات الصدمة التي يعانيها الجنود العائدون من الخدمة في مناطق الحرب. وفي رأيي انه تأثر كثيرا بقصص هؤلاء الجنود عن فظائع الحرب. وكونه اعزبا ويعيش وحيدا ربما اثر في نفسيته وجعلته يعاني الكآبة التي تدفع الى الانتحار في بعض الاحيان. وفي اللحظة التي قرر إنهاء حياته، ربما كان يريد ان يكون هذا الانتحار امرا عاما.
يضاف الى ذلك انه ربما تأثر بالدعاية المتطرفة التي تجيز قتل الاميركيين والغربيين في أي زمان ومكان باعتبارهم كفارا، فعزم على فعل هذا الامر الذي سوف يجعله من (الشهداء) فينال المرتبة اللائقة في الحياة الآخرة، وينهي في نفس الوقت حياته التي بات يشعر بأنها تعيسة من دون ان يتعرض الى العقاب الالهي لارتكابه جرم الانتحار.
واذا قيل ان هناك تناقضا حول زعمي انه لم يكن يقوم بعمل ارهابي، ومع ذلك فقد ارتكب فعلا يندرج ضمنه، فإني أجيب بأن ليس هناك من تناقض. فالفعل الارهابي انما يكون باعتناق الفكرة المتطرفة اولا ومن ثم التخطيط للهجوم وتنفيذه. وفي حال نضال مالك حسن، ليست هناك من بوادر الى انه اعتنق الفكرة بدءا، وأرى ان هدفه كان انهاء حياته، لكنه كان مثقلا بالشعور بالذنب ان نفذه بالطرق التقليدية. ومن ثم عمل على ايجاد العذر المناسب من خلال ادبيات التطرف التي وفرت له طريقا سهلا للانتحار من دون الشعور بارتكابه إثماً.
ولا يخلو التاريخ الاميركي الحديث من اناس ارادوا الموت بهذه الطريقة، ونذكر منهم مهاجم الرئيس رونالد ريغان مطلع الثمانينيات، والذي انما اراد ان يكون موته حديثا لوسائل الإعلام وعامة الشعب ويصبح بذلك من المشهورين، بدل ان يلف الحبل حول رقبته في حمام منزله. ان من شأن هذه الحادثة ان تؤثر على وضع المسلمين في الولايات المتحدة كما هو متوقع.
وقال احد كبار جنرالات الجيش الاميركي انه ستجري مراجعة شاملة لكل الحالات المشابهة لحالة الميجر نضال، وان لم يحدد المسلمين على وجه الخصوص. واتكهن ان يصبح من الصعب على العرب والمسلمين ان يتدرجوا في المناصب الحكومية والعسكرية الاميركية، وربما في البلدان الغربية الاخرى نتيجة لهذه الواقعة. ان هذا الهجوم قد يلحق اذى كبيرا بين اوساط الجالية الاسلامية في الولايات المتحدة التي تكافح من اجل الاندماج مع مجتمع الدولة المضيفة، خصوصا بعد أحداث 11/9، التي لم يكد الشعب الاميركي ينساها. ففي كل مرة يحدث مثل هذا الهجوم تسعى تلك الجالية، في معظمها، الى استنكار ما حدث والبراءة منه، شعورا منها بأن أصابع الاتهام قد توجه اليها. ولسخرية الاقدار، كان الميجر نضال من بين من دانوا هجمات منهاتن.
واذا كان لي ان اقترح أمراً فإني أدعو الى مراجعة النظريات المتطرفة التي تمجد الانتحار من اجل القضية، كائنة ما تكون، والتي تقدم تبريرات غير مستندة الى منطق او تأويل صحيح عن قتل الآخرين والاستهانة بحيواتهم. على رجال الدين من الطوائف كافة ان يدينوا عمل الانتحار مهما كان الدافع. ان السماح والدعوة إلى قتل الذات من اجل القضية التي تعد –عرفا– مشروعان قد يؤديان إلى شرعنة كل القضايا الاخرى، ويسبب ضبابية في فهم المشروعية بحد ذاتها، ويخضعها لتفسيرات ذاتية قد تساعد الشخصية المضطربة على التحلل من قواعد الأخلاق الصارمة.