منحت لجنة جائزة نوبل التابعة للاكاديمية السويدية جائزة السلام لهذا العام الى الرئيس الاميركي باراك اوباما، "لجهوده في إحلال السلم العالمي، وخفض مخزون العالم من أسلحة الدمار الشامل"، حسبما جاء في بيان الاكاديمية. يذكر ان اسم الرئيس الاميركي لم يكن مطروحا من بين المرشحين، وان المرشحة الاقرب الى الفوز كانت السيناتورة الكولومبية بيداد كوردوبا، التي عملت على مدى نصف قرن من أجل ايجاد حل بالتفاوض للنزاع الجاري في بلادها.
ربما لم يكن الرئيس بحاجة الى هذه الجائزة بالقدر الذي كانت تحتاجه تلك السيناتورة المتعبة. فهو لا يمتلك تاريخا طويلا من النضال، ولم يقدم شيئا ملموسا، فيما عدا الخطب الرنانة، لكي يعد من بين القادة الذين يشار لهم بالبنان، وبالتالي من الذين ينالهم التكريم والتقدير لجهودهم الجبارة.لكن هذا هو عصر اوباما.
هذا هو الزمن الذي يتخلى فيه الناس عن التفكير المنطقي العقلاني سعيا وراء آمال اقرب الى السراب. لقد جاء الرئيس الى سدة الحكم على انه البديل الوحيد للادارة الاميركية السابقة التي وصفت بانها الاقل شعبية بين مواطنيها. واكتسح منافسيه بسهولة لا تصدق، رغم شعبيتهم الواسعة وخبرتهم السياسية العريضة. جاء بشعار التغيير الذي لا يمكن تصديقه بأي حال. لكن الناخبين صدقوه، وصوتوا له. وكان اول قرار له بعد ان ادى اليمين القانونية اغلاق معسكر غوانتانامو خلال عام. ويبدو انه لم يستشر موظفيه المعنيين بهذا الشأن، او انه تجاهل نصيحتهم. فحتى بعد مرور اكثر من ثمانية اشهر على ذلك القرار، لا يبدو انه سيطبق بسبب الصعوبات اللوجستية والمادية وقضايا حقوق الانسان بشأن المعتقلين المزمع اعادتهم الى بلدانهم.
حينما يكون المرء في المعارضة، يسهل عليه نقد اداء الحكومة، ولكن حينما يصبح في الحكومة يكتشف ان (التغيير) لا يتم بتوقيع قرار في احتفال مهيب. اما اذا تجاهل مثل هذا السياسي تلك الحقيقة البسيطة، فانه قد يحصل على جائزة نوبل تقديرا لجهوده في جرّ القلم. نعم، برّ اوباما، حتى الآن، بوعوده الانتخابية بسحب القوات القتالية من العراق.
لكن يجدر التذكر بان هذا الانسحاب يتم بموجب الاتفاقية الامنية مع العراق، والتي ابرمها سلفه جورج دبليو بوش. فهل يُعد هذا انجازا له؟ لدينا مثل عامي في العراق يقول (يجي خلاف ويركب على الاكتاف). لقد كان الانسحاب من العراق امرا لاميحص عنه، سواء تم بسنتين او بثلاث، وما كان لأي احد ان يطيل من عمر الاحتلال، شاء اوباما بذلك ام ابى. وحينما اراد الرئيس اوباما ان يتحدث الى العالم الاسلامي فانه اختار اولا الدولة العلمانية تركيا، ومن ثم مصر، التي يحكمها نظام علماني هي الاخرى. وهو تجنب بذكاء ان يذكر كلمة (ارهاب) ومشتقاتها في خطبه للمسلمين، لكي ينحي جانبا الافكار التي تربط بين الاسلام والارهاب.
بيد اني ارى انه بفعله هذا أكد ان هناك نوعا من الربط، والا لماذا يتجنب وصف فعل ادى الى مقتل الابرياء بالارهاب، رغم ان الغالبية العظمى من المسلمين وصفته بهذا المسمى. ماذا يقول الشهداء في العراق وافغانستان والسعودية ومصر ولبنان والاردن والجزائر واليمن وباكستان والصومال واندونيسيا والفلبين والهند، وبلدان اخرى كثيرة، عن وقوعهم ضحية لهجمات مسلحة تحت اسم (الجهاد)؟ ماذا نقول لعوائل ضحايا هجمات منهاتن ومدريد ولندن؟ هل كان المنفذون اناسا عاديين، ام انهم ببساطة ارهابيون عاثوا في الارض فسادا، وجلبوا لاهلهم وبلدانهم حروبا ومآسي اكثر مما خدموا قضيتهم، ان كانوا يعملون على قضية ما؟ ان حقيقة كون هؤلاء الارهابيين مسلمين لا تعني ان المسلمين كلهم ارهابيون. لكن ماذا يحصل ان تجاوزت هذه الحقيقة؟ ربما تحصل على جائزة نوبل للسلام.
بل انك قد تحصل على الجائزة وان كنت تعمل على رفع المجهود الحربي في بلد تحتله. كتبت كبريات الصحف الاميركية واصفة الحرب في افغانستان بانها (حرب اوباما). ومن سخرية الاقدار ان الحرب في العراق وصفت من قبل بـ(حرب بوش). فما المبرر في زيادة القوات؟ انه القضاء على الارهاب. ان كان ذلك حقا، فأين هو مصطلح الارهاب في قاموس اوباما؟
ومن نافلة القول ان جهود نزع التسلح والحد من الاسلحة النووية لم تأت من بنات أفكار اوباما، بل انها سياسة متعبة منذ السبيعينيات. وهي ليست وليدة رغبة الولايات المتحدة في السلام، بل حاجة فرضتها الحرب الباردة التي كانت تهدد بالاشتعال في أي وقت والتحول الى حرب كونية لاهبة قد تقود الى فناء الجنس البشري، وربما كل اشكال الحياة على الارض. كيف إذاً يكون هذا هو احد مبررات الاكاديمية السويدية لمنح الجائزة لمرشح اللحظة الاخيرة؟ بان يكون هذا المرشح هو باراك اوباما.
غير انه من الانصاف القول بان اللجنة قالت ايضا في بيانها: "قليلون هم من حازوا انتباه العالم مثلما فعل أوباما، لقد أعطى العالم أملاً بالتغيير والمستقبل الأفضل.. ودبلوماسيته قامت على مبدأ أن من يقود العالم عليه أن يكون مثالا يُحتذى في القيم والمبادئ." واتفق مع هذا القول تماما، الا اني لا ارى ان في ذلك سببا كافيا لتقديمه على كل المرشحين الآخرين، الذي عملوا بجد على مدى عقود من الزمن من اجل تحقيق هذه المبادئ.ان عمر الرئيس اوباما في المنصب لايزال صغيرا، ولا يصلح الحكم على ادائه في تلك الفترة القصيرة، لا سلبا ولا ايجابا. ومن الواضح ان لجنة منح جائزة نوبل وقعت تحت تأثير شخصيته الكارزمية الطاغية، التي سحرت الولايات المتحدة والغرب عموما، ومن ثم بدأت في الانتشار في شتى انحاء المعمورة.
فما هو السر في هذه الشعبية التي قلّ نظيرها في التاريخ؟ انها الماكنة الدعائية الاميركية. تلك البروباغاندا التي روجت ضد النازنية ومن بعدها الشيوعية وصولا الى الحرب على الارهاب، تروج اليوم لرئيسها وتهلل له. لقد ادركت الولايات المتحدة، ربما عن غير وعي، ان عصرها أشرف على الزوال بعد كل تلك الحروب والازمات، بغض النظر عن المسببات والنتائج، فكان التحرك بالاتجاه المعاكس. كما ان تغيير الادارة ليس مهما بقدر تغيير الشخصية. لقد ارادت اميركا ان تثبت للعالم انها امة ريادية حتى مع تعرضها الى ازمات سياسية واقتصادية خانقة. وكان الخروج من النفق من خلال شعار التغيير: تغيير العرق اولا، ومن ثم تغيير اللهجة الخطابية، واخيرا تغيير الثوابت السابقة. فهل ستتمكن الولايات المتحدة الاميركية من تحقيق هذا التغيير المنشود؟ ربما، ولكن يجب على الاخرين ان يتغيروا ايضا. فما الفائدة من مد اليد الى ايران –مثلا– اذا كانت تسعى الى امتلاك اسلحة نووية قد تشعل سباقا للتسلح النووي في المنطقة لا تحمد عقباه، واذا كانت تعامل شعبها بالنار والحديد؟ ومن المفارقة ان الاميركيين انتقدوا اداء اوباما الضعيف اثناء الانتفاضة الايرانية، وطالبوه ان يظهر "قليلا من قوة بوش." ونحن نعلم ان مثل هذا التغيير في الانظمة الديكتاتورية ليس بالامر الهين، ان لم نقل انه مستحيل عمليا.
لقد جاء منح جائزة نوبل للسلام الى الرئيس اوباما متعجلا، وكان على اللجنة ان تتريث عاما او اثنين قبل ان تقرر صلاحيته لنيل تلك الجائزة ذات الصبغة العالمية. وان كان القصد من منح الجائزة وضع اوباما امام مسؤولية تحويل الاقوال الى افعال، فتلك مقامرة غير محسوبة. فان استطاع الرئيس اوباما ان يحدث تغييرا، فلن يكون الا ذلك بجهد اناس آخرين. وان لم يستطع فعل الكثير، فان سمعة جائزة نوبل ومصداقيتها سوف تكون على المحك.