نشرت صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، نقلا عن صيحفة واشنطن بوست الامريكية، مقالا كتبه الدكتور ابراهيم الجعفري يتحدث فيه باقتضاب عن مسيرة حكومته ورؤيته المستقبلية للمرحلة القادمة. وقد اعتبر ان انتخابات كانون الاول الماضي هي بمثابة "شهادة شجاعة شعبه [العراق] الذي رفض الخضوع لأي ديكتاتور أو إرهابي"، وهذا امر صحيح تماما، لكنه لم يلبث ان يستدرك قائلا: "... تشرفت بتسمية الائتلاف العراقي الموحد لي كي أقود أول حكومة منتخبة ديمقراطيا لكل الفترة المقررة." معتبرا ان ترشيحه من قبل الائتلاف يجعله في موقع القيادة بشكل نهائي، اذ لم يعرج على ذكر مجلس النواب، الذي عليه ان يمضي هذا الترشيح. ومع الاخذ بنظر الاعتبار ان تأخر تشكيل الحكومة لغاية الان انما كان بسبب اصراره على الترشيح لهذا المنصب، مقابل معارضة واسعة داخل وخارج الائتلاف، بما يشكل اغلبية برلمانية يعتد بها، فاننا نعتقد ان الجعفري لم يتعرف على كلمة "ديكتاتور" بعد، او انه لا يريد ان يتعرف بها.
وهو على صواب تماما حينما يقر بان "الحرب على الارهاب لا يمكن الانتصار فيها بالأساليب العسكرية فقط"، ولكننا لم نلمس الا جهودا ضئيلة بذلت من قبله لاحتواء الاطراف المسلحة، خصوصا في المناطق الغربية. وارتجاله في مؤتمر القاهرة، ووضعه للخطوط الحمراء في وجه الاطراف التي حضرت للحوار ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة، ليس الا دليل على عدم رغبته الجدية في قبول الاخر الذي يختلف معه. واذا كان قد سعى لان يحصل العرب السنة على "خمس المقاعد الوزارية"، فانه قد احتكر لنفسه من يمثل العرب السنة، واختار هؤلاء الشخوص بما يضمن ولاءهم له اكثر من الكفاءة الشخصية، او تحقيقا لرغبة من يفترض بهم ان يمثلوهم.
والحديث عن "اقصاء" مجموعة مقتدى الصدر من مجلس الحكم، هو محض تناقض. فهذه المجموعة بهذا التعريف لم تكن موجودة او معروفة كمجموعة سياسية لها جذور او حتى منهج ديمقراطي عند تأسيس مجلس الحكم. والغريب ان السيد الجعفري الذي لا تغيب كلمة التاريخ عن خطبه الرنانة، لا يعطي اي اهتمام للتاريخ القريب الذي عايشه الشعب كله، ولم يصبح بعد بحاجة الى كثير من التمحيص والتحقيق. وهو يُشرع بشكل ضمني تشكيل "جيش المهدي" على اساس حرمان تلك المجموعة من الدخول في مجلس الحكم. ولست ادري كيف يمكن لرئيس وزراء، واجه خلال العام الماضي حركات تمرد وعصيان ولا يزال، ان يفكر بهذه الطريقة. اليس معنى ما يقول ان من لم يحصل على مكان في العملية السياسية فعليه ان يحمل السلاح في وجه الدولة ليرغمها على القبول به؟ اما التصحيح الذي يتحدث عنه فهو ليس من فعله. فتيار الصدر كان ضمن قائمة الائتلاف التي جاءت به رئيسا للوزراء، ولم يكن هو من جاء بهم الى العملية السياسية. ولكنه ربما قصد تقربه الى هذا التيار في فترة حكومته، ضمن خطته في البقاء على سدة الحكم، بعد ان خمن انه لن يستطيع الاستمرار بمساعدة الحلفاء السابقين، فبادر الى عقد تحالفات جديدة، مع اطراف لها سيطرة مسلحة على الشارع، لفرضه على المنصب فرضا ان اقتضى الامر.
اما ادعاءه ان مجموعة الصدر لم تهاجم "أيا من وحدات قوات الائتلاف"، فهو اما جهل او افتراء. وكلاهما لا يليق بمن لازال يمسك بزمام الامور في العراق. وما عليه سوى ان يستمع الى الاخبار، كأي مواطن آخر، ليدرك ان تلك المجموعة تهاجم بشكل دوري قوات الائتلاف، بالاضافة الى المليشيات الاخرى التي وجدت بيئة صالحة للنمو في ظل تراخي حكومته العتيدة. ولست ادري من الذي اصدم مع القوات البريطانية في البصرة قبل اشهر، ومن الذي احرق ما يقرب من الف مقر لقوات بدر والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق بعد الاشتباه بان احدهم احرق مكتبه في النجف؟
واذا كان من اطر الديمقراطية اظهار بعض الشفافية، فان الجعفري لا يجد غضاضة في الحديث عن "انتكاسات" خلال فترة حكمه. ومع ذلك فانه تحدث عن واحدة فقط: "اكتشاف تعذيب السجناء في سجن تابع لوزارة الداخلية في تشرين الثاني"، ولكنه كان (حازما) تجاه "هذه الأفعال الشنيعة"، اذ قام بتشكيل "لجنة تحقيق تضم مسؤولين سنة فقط وأنتظر نتائج عملها"، فكم يا ترى سيستغرق عمل هذه اللجنة؟ لقد مضى لحد الان ما يزيد على خمسة اشهر دون ان تتوصل الى شيء، او تعلم رئيس الوزراء بنتيجة ما تعمل حسب ما يدعي. وربما ستظهر نتائج عملها بعد تغيير الوزراء والمسؤولين عن تلك الافعال، وعندئذ لا يهم ان تحملت الحكومة، التي حصلت في عهدها تلك الممارسات الشائنة، بعضا من المسؤولية. على ان حكومة الجعفري واجهت انتكاسات اكبر حتى من فضيحة معتقل الجادرية، فمن كارثة جسر الائمة الذي اثبت عدم قدرة الدولة على تنظيم ابسط الشؤون اليومية، الى تفجير اضرحة الائمة في سامراء والذي يعد دليلا على غياب سلطة الدولة في مناطق يفترض ان تكون موجودة فيها بقوة. ان تسيب القوات الامنية العراقية خلال عهد الجعفري، وطغيان المليشيات عليها، هو اكبر اخفاق في اداء حكومته. ولم يكن الجعفري قادرا على تشخيص هذا القصور، لانه امضى فترته وهو يعد لبقائه للفترة الدائمة. فبدلا من ان يكتسب شعبية من خلال عمله وادائه، سعى الى الحصول على تلك الشعبية عن طريق الترويج الدعائي، وبالاعتماد على الرموز الدينية لفرضه على الناخب باستخدام الهالات القدسية، والمخاوف الدنيوية والاخروية.
ومن بين جميع الانتكاسات التي واجهتها حكومته، فان الجعفري خص قضية تعذيب المعتقلين بالمزيد من التحليل. وطرح رؤيته لـ" الحل البعيد المدى لهذه المشكلة متعدد الوجوه"، من تدريب قوات الامن، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، "وفوق ذلك يجب على المليشيات التي قاتلت نظام صدام ان تندمج بالكامل مع قوات الأمن العراقية". وهذا اعتراف واضح بمسؤولية تلك المليشيات عن هذه الانتهاكات. بيد انه يلتمس لها العذر لتبرير افعالها طالما انها "قاتلت ضد نظام صدام". ولكننا لا نجد اي معنى لـ "تعزيز النظام القضائي في البلاد" ضمن هذا السياق، فمثل هذا التعزيز مطلوب دائما في اي نظام ديمقراطي حر. وليس لذلك من دلالة سوى ان مثل هذا التوجه اهملته حكومته عن عمد فيما سبق، مما ادى الى حصول هذه الانتهاكات.
ونحن نشارك الجفعري في ان "التحدي الكبير الآخر الذي تواجهه حكومتي فيتمثل في انعاش الاقتصاد"، ولكنه خلال فترة حكمه لم يفعل الكثير من اجل هذا الانعاش، واحتجاجه بـ"تقليص الدعم الحكومي للبنزين" كاحد التغييرات الصارمة التي بدأتها حكومته، ليس سوى مناورة مفضوحة. فالقرار كما يعلم الجميع كان بضغط من صندوق النقد الدولي للموافقة على تسوية الديون المتأخرة. والحكومة ناورت في تطبيقه، وادعت وجود بنزين محلي يباع بسعر مخفض، وآخر مستورد يباع بسعر اعلى. ولكن الواقع ان المحلي لم يكن اكثر من 5% من الاستهلاك العام. وهو في الوقت الذي ينحي باللائمة على " سياسات البعث الاشتراكية، التي جعلت الملايين يعتمدون على هبات الحكومة"، لا يجد ان قرار حكومته بتحويل العائدات الناتجة عن تقليل الدعم الى ما يقرب من مليون عائلة متماشيا كليا مع ذلك التوجه "الاشتراكي"، حيث ان هذا الرقم يعادل حوالي 20% من نفوس العراق. وبالتالي فان مراهنته تكمن في رفع "رأس المال السياسي" وليس في تحقيق تنمية شاملة تتيح "اقامة حماية للناس الاقل امتيازا"، من خلال توزيع الهبات والمنح. وحديثه عن "المقاولات والمشاريع" هو مجرد تعميم ليس فيه خطة واضحة، ويكشف عن جهل في ادارة الاقتصاد عن طريق تجريده الى مفردات بسيطة.
اما وعده بـ"ضمان واقع عراق ديمقراطي ليبرالي آمن، ليكون منارة للشرق الأوسط"، فهي رؤية متطابقة مع رؤية الادارة الامريكية، لخطب ودها في هذه المرحلة فيما يبدو. وليس خافيا ان تلك الاماني التي اعتبرها الجعفري "موضوع ايمان" لم تعد قابلة للتحقيق ضمن افق محدد. وهو يناور مرة ثانية حينما يأمل في "شرق اوسط آمن ومستقر وخال من الأسلحة النووية"، لارسال رسالة للادارة الامريكية بانه يدعم الجهود التي تبذلها في منع ايران من التسلح النووي. وهو يأمل، كما هو حال العراقيين جميعا، بـ"إلحاق الهزيمة بالإرهابيين بسلاح قوامه تصميم العراقيين" ولكنه غير واثق من هذه المهمة لانه لازال يحتاج الى "دعم القوات المتعددة الجنسيات". ولو انه اعطى المزيد من الثقة للقوات العراقية لكان برنامجه اقرب الى القبول. نحن ندرك ان دعم القوات المتعددة الجنسيات لا يمكن التخلي عنه في المدى المنظور، ولكننا كنا نأمل ان يرى الجعفري دور هذه القوات في تناقص مقابل مزيد من السيطرة الامنية للقوات العراقية، بما يساعد على انهاء الوجود الاجنبي في العراق.
نحن نتفق مع الجعفري بان "الطريق الممتد امامنا سيكون عسيرا"، ولكننا لا نرى ان الجعفري، حسب هذه الرؤية هو الشخص الامثل لقيادة العراق. فهو يتصرف كسياسي ينشد المنصب، ويفعل ما يتطلب منه للحفاظ عليه. وفي هذه المرحلة، فان من يقود العراق يجب ان يتحلى باكثر من ذلك، فالمناورات السياسية اضرت بالبلد فيما مضى اكثر مما اضر به وقع الارهاب، وتأخر التنمية الاقتصادية، وتردي الخدمات. وكل ذلك حقق خلال ولاية الجعفري اعلى معدلاته منذ سقوط الصنم.