وصف احد السياسيين العراقيين مؤخرا صيغة تشكيل الحكومة العراقية بانها متعلقة بعضها ببعض بشكل يجعل سقوط احدها سببا في سقوط الاخريات على التوالي كما لو كانت احجار دومينو. وأوضح ان الترابط قائم على اساس ان اختيار رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان يجب ان يتم ضمن اتفاقية سياسية واحدة لضمان مرورها بشكل سلس امام البرلمان. والواقع ان هذا الوصف اقرب الى الصفقة منه الى تطبيق ديمقراطي لبنود الدستور الذي امضاه الشعب، والذي يجب ان يكون المرجع الوحيد للكيفيات والصيغ التي تشكل بها الحكومة بكافة فروعها ومستوياتها.
واول مؤسسات الحكومة هو مجلس النواب، والذي قضت المادة (53) من الدستور بان على رئيس الجمهورية ان يدعوه للانعقاد "بمرسوم جمهوري خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ المصادقة على نتائج الانتخابات العامة، وتعقد الجلسة برئاسة اكبر الاعضاء سناً لانتخاب رئيس المجلس ونائبيه، ولايجوز التمديد اكثر من المدة المذكورة آنفاً." وبما ان هذه المصادقة قد حصلت فعلا يوم 10 شباط 2006، فمن الواضح ان التأخير الحاصل الان هو مخالفة صريحة للدستور، اذ يجب ان لا يتأخر انعقاد البرلمان عن يوم 25 شباط. وقد يتذرع البعض بان هذا التأخير سببه الوضع الامني غير المستقر، او الاعتداء على الاضرحة المقدسة في سامراء، او ما تلاها من شغب يهدد بفتنة طائفية. ولكن هذه الاعذار ليست كافية لمخالفة الدستور، ناهيك عن كونها مجرد غطاء لتبرير التأخير الحاصل اصلا نتيجة عدم توصل القوائم الرئيسة الفائزة في الانتخابات على صيغ توفيقية وتوزيع المناصب بينها. واذا اعتبرنا ان الشغب والخلل الامني يُراد منه اصلا تعطيل المسيرة الديمقراطية واجهاضها، فمن الواجب المبادرة الى عقد هذا الاجتماع الاول فورا ليكون بمثابة رد وتحدي لتلك المحاولات. والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو لماذا يجب ان يُعد كل شيء خارج مطبخ البرلمان، وما هي الحكمة في جلب اتفاقات جاهزة للتصويت الفوري في البرلمان؟ لماذا لا ينعقد البرلمان ويبدأ بمناقشة تلك الامور تحت قبته، وعلى مرأى ومسمع من العراقيين كافة؟ نعم قد يكون من المفيد وجود نوع من الاتفاق على المباديء الاساسية، او الخطوط العامة لتشكيل الحكومة، من اجل عدم هدر الوقت في مناقشات عقيمة داخل البرلمان، ولكن هل من الضروري ان تـُعقد كافة الاتفاقات مسبقا؟ ومن يضمن ان تلك الاتفاقات سوف تكون في صالح المواطن، طالما انها ليست مُعلنة، ولا دور لممثلي الشعب في البرلمان في اعدادها ومناقشتها ومن ثم تمريرها؟ فاذا قيل ان دورهم يكمن في المناقشات السابقة لتشكيل الحكومة، وبالتالي فانهم يقررون نيابة الشعب ويأخذون دورهم كاملا، قلنا ان تلك المناقشات تدور بين الاحزاب والقوائم، وليست بين النواب وان كانوا مشتركين فيها. بمعنى ان النواب لا يمثلون مجمل الشعب وانما يمثلون احزابهم، هذا اذا كان جميع هؤلاء مشتركين في المناقشات. واغلب الظن ان هناك نسبة محدودة فقط منهم لديها صلاحية التفاوض مع الاخرين، وعقد الاتفاقيات معهم باسم بقية النواب ضمن القائمة.
واستنادا الدستور يجب ان ينتخب مجلس النواب في اول جلسة له "رئيساً، ثم نائباً أول ونائباً ثانيا بالاغلبية المطلقة لعدد اعضاء المجلس بالانتخاب السري المباشر." حسب نص المادة (54). والاغلبية المطلقة هي نصف عدد المقاعد زائد واحد بغض النظر عن عدد الحاضرين. اي يجب ان يحصل المرشحون لمنصب رئيس مجلس النواب ونوابه على 138 صوت، كل على حدة. وبالحسابات الانتخابية لا تمتلك ايا من القوائم تلك الاغلبية منفردة. وهنا ظهر مبدأ التحالف مع القوائم الاخرى لضمان تصويتها لصالح مرشح ما. ولكن هذا التصويت لن يتم على اساس كفاءة المرشحين او برنامجهم وانما على اساس اتفاق مسبق اشبه ما يكون بالمحاصصة، التي يصرح الجميع برفضها!
فاذا تم ذلك، فان على مجلس النواب ان ينتقل الى المرحلة الثانية وهي انتخاب رئيس الجمهورية. فحسب المادة (67): "اولا: ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية باغلبية ثلثي عدد اعضائه. ثانيا: اذا لم يحصل اي من المرشحين على الاغلبية المطلوبة فيتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على اعلى الاصوات ويعلن رئيساً من يحصل على اكثرية الاصوات في الاقتراع الثاني." ان صياغة بندي تلك المادة بهذا الشكل جعل من ثانيهما بمثابة الغاء لاولهما، وهو ضعف واضح، شمل الكثير من مواد هذا الدستور نتيجة التسرع في اعداده، وهي من الاشياء التي يجب على البرلمان مراجعتها وتمحيصها. لكن الاحكام الانتقالية اوردت مادة اخرى عدها البعض ناسخة لهذه المادة، وهي المادة 134 وتنص: "اولا: يحل تعبير (مجلس الرئاسة) محل تعبير (رئيس الجمهورية) اينما ورد في هذا الدستور ويعاد العمل بالاحكام الخاصة برئيس الجمهورية بعد دورة واحدة لاحقة لنفاذ هذا الدستور. ثانيا: أ- ينتخب مجلس النواب رئيسا للدولة ونائبين له يؤلفون مجلسا يسمى (مجلس الرئاسة) يتم انتخابه بقائمة واحدة وباغلبية الثلثين...". فقد جرى تفسير هذه المادة على اساس انها تنسخ المادة (67) وتؤجل فعاليتها للدورة التالية. ولكن لا المادة (134) ولا غيرها اشارت مباشرة الى هذا النسخ والتأجيل. بل انها اشارت صراحة الى ما يتم استبداله هو تعبير (رئيس الجمهورية) فحسب. اي ان المادة (67) لا زالت سارية، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الرئيس له نائبان وينتخبون جميعا ضمن قائمة واحدة. فاذا كان المادة (134) قد حددت ان انتخاب مجلس الرئاسة يجب ان يحصل على ثلثي اصوات مجلس النواب، فانها لم تحدد الاجراءات التي يتم اتخاذها في حالة تعذر الحصول على تلك النسبة، عكس المادة (67) والتي اعطت حلا لتلك الحالة. وفي الحقيقة فان المادة (67) رغم تحديدات المادة (134) هي اخص وبالتالي اولى بالعمل فيها طالما كان الاولى العمل بالاخص قبل الاعم. وعلى هذا فان انتخاب مجلس الرئاسة قد يتم حتى بدون الحصول اغلبية مطلقة (138 صوت برلماني)، استنادا الى "اغلبية الاصوات في الاقتراع الثاني" التي ذكرتها المادة (67)، والذي يمكن ان يكون اي عدد من الاصوات يحصل عليه المرشح الفائز شرط ان يزيد على المرشح الاخر ولو بصوت واحد.
ورغم ان ما يشاع الان ويجري التركيز عليه هو ان اكبر معضلة تواجه البرلمان هي في انتخاب مجلس الرئاسة، الا انني اعتقد بناءا على ما تقدم ان اهون الشروط قد احيطت بهذه العملية نتيجة ضعف النص القانوني. على ان هذا الضعف لا يجعله غير قانوني، بل على العكس من ذلك تماما. فاي نص ورد ضمن الدستور هو قانوني ولكن يجب ان يفسر بالشكل الذي يدل عليه، وليس بالشكل الذي نريده له.
ويعتبر انتخاب رئيس الوزراء المهمة الاصعب لمجلس النواب، حيث انه في الواقع الشخصية الاكثر نفوذا والذي يمتلك اكثر الصلاحيات التنفيذية. وتنص المادة (74) على "اولا: يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية." وهنا نلاحظ ان تعبير "مرشح الكتلة النيابة الاكثر عددا" لا يعني القائمة التي فازت باكبر عدد من الاصوات، وانما القوائم التي تأتلف ضمن كتلة نيابية واحدة، اي ان منصب رئيس الوزراء ليس بالضرورة حصة قائمة الائتلاف العراقي الموحد، ما لم تتحالف مع قائمة او قوائم اخرى للحصول على النسبة الاكبر من الاصوات، او على الاقل على الاغلبية المطلقة. وذلك يعني نظريا ان ممن الممكن ان تتحالف جميع (او معظم) القوائم الاخرى لتشكل كتلة نيابية تفوق في عدد اصواتها كتلة الائتلاف. وعند حصول ذلك، يمكن ان يكون رئيس الوزراء من خارج الائتلاف رغم كونها تحوز على اكبر حصة من المقاعد البرلمانية.
كما ان المادة (74) اوردت جدولا زمنيا محددا لكيفية انتخاب رئيس الوزراء وما يترتب عليه فعلـُه ضمن هذا الجدول. فالبند ثانيا ينص على: "يتولى رئيس مجلس الوزراء المكلف تسمية اعضاء وزارته خلال مدة اقصاها ثلاثون يوما من تاريخ التكليف". فاذا اخفق في تشكيل الوزارة خلال تلك المدة فالبند ثالثا يقتضي: " يكلف رئيس الجمهورية مرشحا جديدا لرئاسة مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما". ثم يتوجب على رئيس مجلس الوزراء المكلف ان "يعرض اسماء اعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزا ثقته عند الموافقة على الوزراء منفردين والمنهاج الوزاري، بالاغلبية المطلقة" حسب البند رابعا. واخير فان البند خامسا يمنح رئيس الجمهورية صلاحية "تكليف مرشح آخر لتأليف الوزارة خلال خمسة عشر يوما في حالة عدم نيل الوزارة الثقة." ويبدو ان الغاية من هذا الجدول الزمني اعطاء الفرصة للمفاوضات بين القوائم للاتفاق على رئيس الوزراء (بعد 15 يوم من اختيار رئيس الجمهورية)، ثم اعطاء وقتا لرئيس الوزراء المكلف لتشكيل وزراته (خلال 30 يوم). فاذا فشل في نيل ثقة مجلس النواب فان على الرئيس ان يختار غيره ضمن 15 يوم اخرى. اي ان تشكيل الوزارة قد يستغرق 45 يوما، او 90 يوما في حالة فشل المرشح الاول. ومن الواضح ان تلك الفترة كافية لمثل هذا الاجراء، خصوصا وانها ستأتي بعد فترة تزيد على الشهر من اعلان النتائج المصادق عليها، اذ يتوجب اختيار رئيس البرلمان ومجلس الرئاسة قبلها.
ان افتراض ان الاتفاقات يجب ان تكون سابقة على انعقاد جلسات البرلمان هو امر غير منطقي، ويأخذ المسيرة الديمقراطية الى منزلقات وطرق جانبية تزيد من حالة الارباك التي يعاني منها البلد. والانكى من ذلك ان هناك توافقا بين القوائم على تأخير انعقاد البرلمان، فذلك يدل بوضوح على غياب الرغبة بالالتزام بنصوص دستورية وقانونية مرجعية من قبل جميع الاطراف، وبالتالي احلال مصالح حزبية محل تلك النصوص واجراء تفسيرات مبتسرة والتعلل بالواقع الامني الذي تسبب فيه غياب الالتزام بتلك النصوص والالتفاف عليها اكثر من كونه سببا لذلك الالتفاف وعدم الالتزام.
ان تشكيل الحكومة في ظل دولة القانون والمؤسسات لا يكون حسب نظرية الدومينو، لان ذلك سيكون حجر عثرة في ادائها طالما ان اطرافها معتمدة في تكوينها واستمرارها على بعضها البعض. وستكون هذه الطريقة في تأسيس الحكومة سببا في غض النظر عن انحرافات بعض اطراف السلطة، او عدم القدرة على محاسبتها. واخيرا فان الخوف من التساقط المتسلسل سيلغي دور المعارضة البرلمانية والحكومية وسيجعل الجميع متفقين على جميع الامور بغض النظر عن صوابها وتحقيقها للمصلحة العامة.