لاشك ان النقاش حول آلية التصويت على مشروع الدستور الدائم، وكيفية الموافقة عليه او رفضه، قد اتخذ مسارا غير متوقع بالمرة، اذا اخذنا بنظر الاعتبار وضوح النص الذي يحدد تلك الالية في قانون ادارة الدولة المؤقت، المادة الحادية والستون، الفقرة (ج): "يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر." فقد اتخذت الجمعية الوطنية على عاتقها تفسير هذه الفقرة، وفعلت ذلك بشكل مثير للجدل. وتطور النقاش ليصل الى المواطن العادي، الذي بدأ يتساءل كيف يمكن لعدة اشخاص منفردين ان يقفوا بوجه رغبة الملايين، فيعيقوا الموافقة على الدستور، بل ويسقطوه ومعه الحكومة والبرلمان، ويعيدوا العملية السياسية الى بدايتها؟ والواقع ان هذا مجرد افتراض لا اساس له، مبني على نظرية حسابية متطرفة.
ولنبدأ من خوض الجمعية مسؤولية تفسير قانون ادارة الدولة. ذلك ان تفسير القوانين، والقانون الاساس، والدستور خصوصا يقع على عاتق جهة متخصصة تسمى (المحكمة الاتحادية العليا)، كما ورد في المادة 44 (ج): "اذا قررت المحكمة العليا الاتحادية ان قانونا او نظاما او تعليمات او اجراء جرى الطعن فيه انه غير متفق مع هذا القانون فيعتبر ملغيا." وهذه المحكمة كان يجب انشاؤها مع تشكيل الحكومة كما تنص المادة 39 (ج): "يقوم مجلس الرئاسة، كما هو مفصل في الباب السادس، بتعيين رئيس واعضاء المحكمة العليا، بناء على توصية من مجلس القضاء الاعلى." ولكن اهمل ذلك بالطبع نظرا للظروف التوافقية التي اوصلت القيادة الحالية الى سدة الحكم. ويبدو ان لا احد يريد ان تكون هناك سلطة لمراقبة دستورية القوانين، فبعض تلك القوانين ليست فقط غير شرعية، وانما هي ايضا لفائدة حصرية بمن يصدرها. على ان الجمعية الوطنية اضطلعت بمهمة الخصم والحكم، وقررت تفسير الفقرة المشار اليها. وفعلت ذلك بطريقة غريبة، رغم وجود العديد من الخبراء القانونيين، والفقهاء، واللغويين، واصحاب العلم والفهم. فقد اباحت تفسير الكلمة ذاتها بطريقتين رغم ورودهما في نص واحد ومورد واحد. فقد اصدرت قرارها باعتبار معنى مصطلح (اكثرية الناخبين) بانهم المصوتين، بينما استنتجت ان مصطلح (ثلثا الناخبين) يدل على المسجلين. وفي رأيي فان هذا القرار، مهما حسنت نيته، هو من اسوأ قرارات الجمعية الوطنية (المنتخبة)، وسيسجل كنقطة سوداء في تاريخها، وهي التي قدمت الشهيد تلو الاخر في خدمة العملية السياسية والديمقراطية، والتي يتحمل اعضاؤها وزرا كبيرا، وضغطا هائلا. ولعلي اتلمس العذر لهؤلاء الذين صوتوا لصالح هذا القرار العجيب بانهم انما ارادوا ان يضمنوا عدم سقوط مسودة الدستور في الاستفتاء القادم، ودفع العملية السياسية والديمقراطية خطوة للامام. ولكن هذا العذر لا يعدو ان يكون تجسيدا آخر لمقولة (الغاية تبرر الوسيلة) المرفوضة قطعا وشرعا. فحتى الارهابيين يبررون افعالهم الشنيعة بانهم يسعون لغرض نبيل هو تحرير العراق. وقد يكون القانون مجحفا، لكن على القاضي ان يحكم به، وان شاء الاحتجاج فعليه ان يدفع الغرامة من جيبه!!
وهكذا جاء تدخل الامم المتحدة في الوقت المناسب ليضع الامور في نصابها الصحيح. فقد اعلنت الامم المتحدة ان تفسير الجمعية الوطنية لقانون الانتخابات لا يتماشى مع المعايير الدولية، وهو ما ارغم الجمعية على العودة عن قرارها، وتفسير كلمة الناخبين على انها (المصوتين) في كلا مورديها، وكما هو واضح اصلا. فلا يعقل او يتصور ان يكون هناك ناخب ما يحسب له حسابا ويعد له صوتا، سلبا او ايجابا، ما لم يكن ذلك الناخب مشاركا فعليا في عملية التصويت. ولم نسمع في انتخابات او استفتاءات جرت في اي مكان في العالم، ونسبت نتائجها الى مجمل السكان المؤهلين للتصويت، او من سجل اسمه في سجل الناخبين. فنتائج الانتخابات يجب ان تكون منسوبة الى المشاركين فيها، ولا يمكن ان يعطى صوت لمن لم يشارك فيها. ولولا تدخل الامم المتحدة لما تراجعت الجمعية عن قرارها المؤسف مهما كانت النتائج. وفي حال استمر العمل بذلك القرار، فقد كان ذلك كفيلا بان يقاطع الناخبون من العرب السنة الاستفتاء، بعد ان حرموا من آخر فرصة لقول رأيهم. ولو حصلت الموافقة على الدستور حسب هذا السيناريو، لكان ذلك بمثابة اعلان لتقسيم البلاد، وربما لحرب اهلية. ويبدو ان ما يجعل الجمعية قلقة بشأن سقوط مشروع الدستور في الاستفتاء هو حق النقض الممنوح الى ثلاثة محافظات، والذي يتيح لثلثي اي عدد من المشاركين في الاستفتاء ان يقفوا بوجه الدستور ويمنعوا الموافقة عليه. وقد افترض البعض انه اذا اشترك ثلاثة افراد في ثلاثة محافظات فقط في هذا الاستفتاء، وصوت اثنين منهم في كل محافظة بـ(لا)، فستتحقق نسبة الثلثين الكافية لاسقاط الدستور. اي ان ستة افراد فقط يمكن ان يرفضوا الدستور وتكون ارادتهم مقابل ارادة (الملايين) في المحافظات الاخرى. وهذا افتراض لحالة متطرفة يصعب تصورها. وبالمقابل، يمكن تصور حالة متطرفة اخرى، وهي ان يشترك اثنان فقط من كل محافظة ليقولوا (نعم) مقابل (الملايين) من المحافظات الثلاثة التي ربما صوتت بـ(لا) بنسبة (65%) وهي غير كافية لاسقاط الدستور. وبالتالي ستكون رغبة عشرون او ثلاثون فردا مقابل رغبة الملايين! ومن الجدير بالذكر، ان افتراض الحالات المتطرفة وارد في كل الحالات المماثلة. فتعديل الدستور الامريكي مثلا يتطلب موافقة ثلاثة ارباع الولايات على التعديل في استفتاء عام. وهذا يعني ان اتفاق ثلاثة عشرة ولاية (ربع الولايات) على رفضه (بالاغلبية البسيطة) سيعطل هذا التعديل. فاذا اشترك شخصان فقط من تلك الولايات وصوتا بالرفض، فستكون ارادة بضعة اشخاص مقابل (الملايين) من الموافقين!
وبالعودة الى حالتنا، فان الاكثر احتمالا هو اشتراك بضعة الاف من كل من المحافظات (المضطربة)، ويصوتوا بـ(لا) للدستور، وبالتالي يمكن ان يوقفوا مشروع الدستور حتى ولو صوت باقي العراق باجمعه بالموافقة. ولكن السؤال هنا، لماذا يشترك بضعة الاف فقط من تلك المحافظات، بينما يشترك الملايين من المحافظات الاخرى؟ هل لانهم غير راغبين، ام لانهم غير قادرين؟ نحن نعلم انهم راغبين بدلالة ارسالهم ممثلين الى لجنة صياغة الدستور. وهم لم يقاطعوا الانتخابات السابقة لانهم لا يؤمنون بالانتخابات، بل لانهم لم يكونوا قادرين على المشاركة فيها، وبعد ان صُمّتْ الآذان عن طلبهم بتأجيلها لحين تسوية الامور الأمنية في محافظاتهم.
اذن فان معظم ابناء المحافظات التي تشهد اختراقات امنية لن يتمكنوا من المشاركة في الاستفتاء، بسبب سيطرة الارهابيين والمسلحين عليها، وضعف سيطرة الدولة، بل وغيابها عن تلك الاماكن. وبدلا من محاولة منع حتى هؤلاء القلة من التعبير عن رأيهم، كان الاجدى ان يصار الى العمل الجدي لاحلال الامن في تلك المناطق. واذا لم يكن ذلك ممكنا في الوقت الراهن، فيمكن ان تؤخر العملية السياسية لحين الوصول الى تلك الحالة. لقد ادعى من رفض تأجيل الانتخابات السابقة، حسب طلب ممثلي تلك المحافظات، ان التقدم بالعملية السياسية هو ما سيؤدي الى احلال الامن.. الامر الذي لم يتحقق البتة. بل على العكس، زادت الاوضاع سوءا في مناطق كثيرة من العراق، وخصوصا في المحافظات الغربية. ولم تفلح العمليات التي قامت بها القوات المتعددة الجنسيات مع الجيش العراق، من اجل تطويق الارهاب، في تحقيق تقدم نوعي. وجزء من هذا الفشل يعود الى الاصرار على اجراء الانتخابات، وما ادى اليه ذلك من مقاطعة، ومن فترة انتقالية لتغيير الحكومة، ومن تشكيل حكومة بدأت من الصفر، رافضة ما حققته الحكومة السابقة.
وهكذا، فان نوعا من العدالة يتم تحقيقه الان. ربما لن يستطيع الكثير من اهالي المنطقة الغربية في العراق من المشاركة في الاستفتاء، كما لم يستطيعوا ان يشاركوا في الانتخابات، وكما أهْمِل دورهم في اللجنة الدستورية. ولكن دورهم في رسم مستقبل البلاد سوف يكون رائدا، وسيتحملون مسؤولية كاملة عما سيجري لاحقا. فاذا اقرت مسودة الدستور، فهم اذا يوافقون عليه، طالما انهم لم يستعملوا حق النقض الممنوح لهم. واذا رفضت تلك المسودة، فان ذلك يكون تتويجا لتاريخ من الرفض من الجهة المقابلة.