Monday, December 27, 2004

صلاحية النظرية التأمرية.. الايمان اول اثبات

هل تستطيع نظرية واحدة اثبات كل شيء؟ هل يمكن تفسير الكون بقانون فيزيائي واحد؟ تلك مسائل شغلت الفلسفة والعلم قرونا، وعمل عليها العديد من العباقرة عبر قرون التطور الفكري البشري. ولا تزال الاجابة غامضة، وغير كاملة، وغير مفهومة. ولا تزال هذه الاسئلة محل بحث.
اذاً كيف يمكن ترتيب النظريات، باعتبارها تفسيرات لظواهر معينة، بحيث تتساوق منطقيا؟ وهل يمكن استبعاد اية نظرية فقط لاننا لا نحبها؟ بالمقابل هل يجب اعتماد النظريات التي تعجبنا كاولوية اولى؟ بالطبع توقع النتائج هو ما يرجح نظرية على اخرى.
غير ان النظرية الشاملة، او التي تقترب من الشمولية، تستطيع في كل الاحوال توقع نتائج محددة. فلن يكون العرّاف محط اعجاب كثير اذا توقع ان تكون نصف المواليد للفترة القادمة من الذكور. لكنه سينال الكثير من التكريم اذا توقع ان يرزق الملك وريثا للعرش. فهل تقطع رقبته اذا جاء الخبر بانثى؟ سيجد تفسيرا، ولن ينال تكريما.
والتفسير لظاهرة ما ليس تكهنا، او رجما بالغيب. لكنه دائما يبدأ بهاجس. فما الذي يحمل على توقع نتيجة معينة غير الشعور، غير المفسر، بان هناك تسلسلا للاحداث يفضي في عقل الباحث الى مثل هذه النتيجة. ان العقل البشري يتفوق على نفسه في تجليات للعبقرية عبر مراحل زمنية متفاوتة. هذا التفوق ليس في نمط التفكير، وانما في توجيه التفكير نفسه. ان اعتبار ان للضوء وزنا، هو امر مفرط في الخيال بدرجة لا تحتمل التصديق.
هل يستطيع جميع البشر استيعاب فكرة ما؟ لا معنى للسؤال، فالاستيعاب، امر لا يعني الجميع. لنعد صياغة السؤال، هل يستطيع جميع البشر تقبل فكرة ما؟ ليس لديهم الخيار في ذلك. اما لانهم لا يستطيعون اثبات العكس، او لانهم، مرة اخرى، غير معنيين. النتائج وحدها هي التي تعني معظم بني الانسان.. فهل علينا ان نفهم النظرية النسبية لنرى تأثير القنبلة الذرية؟ الجميع يعتقد انها صحيحة بالقدر الكافي، فقط لانها ذات نتائج ملموسة.
لست هنا بصدد البحث في الفيزياء النظرية. ولكن العلم ممتد وحصين بدرجة تجعله مؤهلا لتفسير حتى امكانية تآمر العرّاف ليعلن جنس المولود. وهذا المدخل يقودني الى فرضية صلاحية تفسير النتائج، او الاحداث على انها نتائج، باستخدام نظرية موضوعة مسبقا كعنوان، وليس مطلوبا منها ان تتوقع او ان تتنبأ بتلك النتائج، على عكس المنهج العلمي.
المؤامرة، فكرة اقترنت مع نمط التفكير الشرقي عموما، وهي اول تفسير لحدث ما.. ليس لغياب التفسيرات الاخرى، ولكن لملائمتها، بطبيعتها الطوباوية، مع النهج الخيالي في مجتمعاتنا، العربية والاسلامية. ذلك النهج الذي اعتبره مسؤولا، الى حد كبير، في منع الاستنارة الفكرية من غزو الشارع. وليس الذنب في ذلك دائما واقعا على عاتق رجل الشارع، بل الى الدعاية المنسقة والمنظمة التي لا تعبأ بالحقائق، والتي تشوه تلك الحقائق، لخدمة مصلحة جهة متنفذة، في السلطة او خارجها.
ان اهم ميزة في المجتمع الشرقي هي الروحانية، وهي قوة مقابلة لقوة العقل، لا تنفيه ولكن تبادله الادوار احيانا. وعند وضع الايمان مقابل العقل، لا يمكن تحديد الجهة التي سيميل اليها الميزان. ان نفس المنهج العلمي، كما اسلفت، يعتمد هاجسا في عقل الباحث يدفعه للبحث في اتجاه معين.. هذا الهاجس هو في الحقيقة مظهر من مظاهر الايمان. ان قوة العقل حاسمة، ولكن المسائل ليست كذلك. وتعدد المؤثرات في قضية ما يجبر الباحث على الاختيار.
وهكذا فان الايمان بان حدث ما يجب ان يكون وراءه جهة ما، سرعان ما سينضج نظرية تأمرية تلقى قبولا واسعا. ان هذا الايمان يستبدل جزءا من التفكير المنطقي لصالح النتيجة المرجوة. وحتى المشككون لن يستطيعوا الصمود طويلا، لان النقاط المجردة عن المعنى، يمكن ان تتجمع لتشكل صورة لها معنى حقيقي.
ولكن رسم تلك الصورة انما يتم باستخدام العقل، موجها بالنتيجة المرتقبة. فاذا كان الحدث سابقا للتوقع، فلان الصورة قد تتغير في بعض التفاصيل، الا انها تبقى تحمل نفس السمات. الايمان يستطيع ان يستخدم العقل، ولذلك لا يعمل على الغائه. والعقل يتيه بين الخيارات، فلا مناص من اعتماد الايمان منطلقا للتفسير. والجدلية تتجسد دائما في الرغبة للتوصل الى حلول. ورجل الشارع، عماد تلك الجدلية، غير مستعد للتقييم، بل للتفاعل.
قبل احداث سبتمبر بفترة بسيطة كانت هناك حادثة اخرى، كان يمكن ان تفسر بالشكل الصحيح كمقدمة لتلك الاحداث. ذلك ان طائرة مصرية سقطت في المحيط الاطلسي بعد فترة وجيزة من اقلاعها من احد المطارات الامريكية. واوضحت التحقيقات ان مساعد الطيار وهو مصري الجنسية، عمد الى اسقاط تلك الطائرة لسبب غامض. وانتشرت في ذلك الوقت نظريات مؤامرة تنسب اسقاط تلك الطائرة الى الموساد، او المخابرات الامريكية، دون ان يتم اثبات ذلك، او نفيه. ولو حللت تلك الحادثة بالشكل العملي، لكانت النتيجة البسيطة ان هناك عملية تجنيد لطيارين انتحاريين، وهو ما شكّل احداث سبتمبر الدامية.
ان نظرية المؤامرة تبقى قادرة على التفسير، طالما كان العقل مشتتا بكثرة الخيارات. ولمحاولة كسر الاطار، فان اول من ينبغي فعله هو تقليل تلك الخيارات امام العقل. بمعنى ان يتم تبني منهجا علميا في التفسير، يعتمد تسلسل الاحداث، ويستخدم الهاجس الذاتي بفاعلية منطقية، ويحدد الحكم المسبق المبني على افتراضات، تحولت بسبب طول التداول الى بديهيات او مسلمات. وتلك مسؤولية مشتركة، تبدأ من الفرد وتتأكد بالدعم الحكومي. فهل آن الاوان للحكومات العربية ان تتقدم خطوة للامام، وان تشرع في الاصلاح؟ لنأمل ان تلك الحكومات قد وعت ان نظرية المؤامرة تشملها ايضا، وتسبب لها المزيد من الكوارث حتى على المستوى الداخلي، لطرحها وقائع دولية واقليمية، مشروعا وطنيا ومحليا.