تحدث السيد رئيس الوزراء، نوري المالكي، لدى زيارته الى محافظة بابل مؤخرا، عن تأخر تنفيذ المشاريع التي تقوم بها المحافظة، وحتى توقفها بشكل كامل. وقال انه أُحيط علما بتلك المشاريع وانه على ثقة ان هناك مشاريع اخرى متوقفة، ومع ذلك برأ الحكومة المحلية من أي تقصير وان السبب الاساسي في توقف المشاريع يعود الى التنافس بين المقاولين عند تقديمهم عطاءاتهم، ما ادى الى خفض الاسعار بشكل كبير. وما ان يبدأ المقاول في تنفيذ العمل، بحسب المالكي، حتى يكتشف المقاول الذي تحال بعهدته مقاولة المشروع ان الاسعار التي تقدم بها خاسرة فيعمد الى التقصير في العمل وحتى الهروب من تنفيذ المقاولة الامر الذي يؤدي الى توقف العمل في المشروع تماما.
ان وجهة النظر هذه ليست مقتصرة على شخص السيد رئيس الوزراء، ولكن ربما يصرح بها بين الاونة والاخرى مسؤولون في الدولة على تعدد مستوياتهم، وهي ايضا وجهة النظر الشائعة بين عموم المواطنين الذين لا يرون في عملية تنفيذ المشاريع سوى المقاول. وفي الحقيقة، فانه قليلا ما يجري التطرق الى دور الدوائر المشرفة على المشاريع، والى تقصير بعض هذه الجهات الحكومية في الاشراف والمتابعة، وكذلك اعداد الكشوفات التخمينية المناسبة، والمخططات الهندسية المتكاملة، وتحليل الاسعار التي يتقدم بها المقاولون حتى لا تتم احالة المقاولة باسعار تعتبر عمليا خاسرة. يضاف الى ذلك تعقد سلسلة المراجع الى درجة يصبح من الصعب الوصول الى قرار من شأنه دفع عجلة العمل عند تعرضه الى ظروف تستوجب اجراء تغييرات او احتساب مستحقات للمقاول لم تكن واردة في الكشوفات الاصلية للمقاولة.
لقد اضحى قطاع المقاولات ضحية سهلة لكل اتهام بتقصير او فساد او اختلاس او ما شابه، وعبّر العديد من المقاولين عن سخطهم لهذا الوضع حتى قال احدهم: "هل جفت ارحام العراقيات عن انجاب مقاولين شرفاء، بينما هي خصبة في انجاب سياسيين نجباء؟" وهذا تساؤل اجده حق، لان من العدل عدم اخذ الكل بجريرة البعض. واذا كان وضع قطاع المقاولات الانشائية اليوم يُعد سيئا، فانه ربما شهد عصره الذهبي في فترة السبعينيات من القرن الماضي، على الرغم توجه الدولة آنذاك نحو الاشتراكية والحد من سطوة "الطبقة البرجوازية". فقد نجت هذه الفئة من عمليات المصادرة والتأميم التي شملت المعامل الكبرى للشركات "الاحتكارية" والمزارع المملوكة لكبار "الاقطاعيين" لصالح القطاع العام، حيث يكون للدولة القول الفصل في عمليات الانتاج والتسويق على مختلف مراحلها. وقد يكون السبب في هذا الى عدم قدرة الدولة على حصر رؤوس الاموال المستثمرة في قطاع المقاولات الانشائية، وايضا صعوبة الاستعانة بالقدرات الحكومية الناشئة للحلول محل القطاع الخاص في هذا المجال.
على كل حال، لم يتمتع "المقاول" بالسمعة الحسنة في ذلك الوقت كذلك كونه يمثل خطا معاكسا لتوجهات الدولة في الاستحواذ على كل مقدرات البلاد الاقتصادية والاجتماعية، كما استحوذت على شؤونه السياسية من خلال سياسة الحزب الواحد وتمجيد الشخصية ونسبة جميع الانجازات الى شخص "القائد الضرورة".
ورغم تغير السياسات الاقتصادية في العقود التالية واتجاهها نحو الخصخصة وتشجيع دور القطاع الخاص بعد ثبوت فشل القطاع العام لوحده في دفع الاقتصاد الى امام، الا ان وضع "المقاول" لم يتحسن كثيرا. فقد ولج الى هذا القطاع العديد من المغامرين الذين لم يكن لديهم خبرة كافية في هذا المجال، ولم يدفعهم الى الاستثمار في هذا القطاع سوى الرغبة في الحصول على الربح السريع من خلال تنفيذ اعمال بسيطة نسبيا باسعار عالية، وساهم في هذا الامر تفشي ظاهرة الفساد الاداري والمالي في دوائر الدولة، خصوصا في فترة التسيعينيات وما رافقها من حصار اقتصادي اصاب مقتلا لدى فئة الموظفين الحكوميين على وجه الخصوص، ومنهم من يتولى الاشراف على تنفيذ الاعمال الانشائية التي يقوم بها هؤلاء المقاولون. وهكذا اضحى قطاع المقاولات الانشائية ارضا خصبة لفساد واسع النطاق غضت الدولة طرفها عنها فاستفحل حتى صار سمة مرادفة للمقاول، وعانى من ازمة ثقة على المستويين الشعبي والرسمي، وصار من المعتاد التشكيك في نيات المقاول بالربح بغض النظر عن المصلحة العامة او التقيد بالشروط والمواصفات المعتمدة في هذا المجال.
وبعد زوال النظام السابق، وتولي القوات الاميركية زمام الامور في العراق، ظهرت بوادر اعتماد متزايد على المقاولين المحليين في تنفيذ مشاريع الاعمار الكبيرة منها والصغيرة. غير ان قصور فهم القوات الاميركية لطبيعة هذا القطاع وعدم امكانيتهم تمييز المتخصصين في هذا المجال من المُدعين، بالاضافة على التقصير الواضح في ادارة المشاريع والاشراف عليها، ادى كل ذلك على تزايد النقمة على المقاولين بدون تمييز، وحتى التجريح في وطنيتهم بعد هروب الكثير منهم الى الخارج اثر حصولهم على ارباح طائلة في فترة وجيزة.
وهكذا لم يأت تغيير النظام الا بمزيد من الويلات على قطاع المقاولات الانشائية ودفع بالمقاولين الى اتخاذ مواقف حذرة ان لم تكن سلبية من مجمل عملية اعادة الاعمار. وترك العديد من المقاولين ذوي الخبرة العمل في هذا القطاع ليمارسوا نشاطات تجارية او سواها تفاديا للنظرة السلبية تجاههم.
من كل ما تقدم يتبين لنا ان هناك ازمة ثقة تجاه المقاولين الانشائيين انعكست على طبيعة الدور الاشرافي من قبل الجهات الرقابية المناط بها تدقيق الاعمال المنجزة ما حدا بها الى وضع ضوابط صارمة لصالح تنفيذ الاعمال الانشائية بما يتوائم مع متطلبات الشروط والمواصفات الفنية. واتخذت الاجراءات الادارية طابعا روتينيا معقدا بدءا من اجراء الفحوصات المختبرية على المواد الانشائية المستعملة في التنفيذ وتدقيق الاعمال المنجزة او قيد الانجاز، مرورا بمنح التمديدات الزمنية واوامر الغيار، وصولا الى صرف السلف والمستحقات المالية، وليس انتهاءا بعملية الاستلام الاولي والنهائي للمشاريع المنجزة. ويبدو ان ما يدور في خلد الجهات الحكومية ان المقاول لا يدخر جهدا في خداعها للحصول على المزيد من الارباح.
ونظرا لرغبة الجهات الهندسية المشرفة على الاعمال التي يجري تنفيذها في درء التهمة المطروحة سلفا بالتواطؤ مع المقاول، فقد عمدت هذه الجهات الى وضع آليات معقدة من اللجان المتعددة المستويات بحيث تعمل كل منها على التحقق من عمل اللجنة الاقل مستوى من خلال الحلول –عمليا– محلها وليس مجرد تدقيق الاوليات للتأكد من مطابقة الارقام والنتائج لواقع الحال. وخلقت هذه العملية سلسلة طويلة من الاجراءات التي تستغرق وقتا طويلا قبل الوصول الى قرار يصب في مصلحة العمل.
وهكذا فليست هناك وصفة سحرية للنهوض بواقع تنفيذ الاعمال الانشائية من خلال المقاولين المتخصصين يمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها. لكن من الممكن رسم خارطة طريق يمكن ان تفضي في نهاية المطاف الى تحسين وضع هذا القطاع المهم وتعزيز دوره في اعادة اعمار البلاد. وبغية وضع مثل هذا المخطط، لابد من التخلي عن النظرة السلبية اتجاه المقاولين، والبدء في النظر الى هذه الشريحة على اساس انها ليست فقط مكملة بل اساسية من اجل عملية اعادة الاعمار، وان المقاولين وان كان غرضهم الربح، شأنهم في ذلك شأن كل فئة عاملة، الا انهم لا يقلون وطنية عن اقرانهم من ابناء الشعب.
وبالمثل، يجب النظر جديا في اجراءات الاشراف الفني على المقاولة ومحاسبة الجهات الهندسية التي يحدث تقصير في تنفيذ المشاريع التي تقوم عليها، على اعتبار ان التقصير في تنفيذ الاعمال ليس مسؤولية المقاول لوحده، وانما هناك دور اساسي للدوائر المشرفة عليه. ومن الممكن ان يصار الى تشكيل لجان تحكيم دائمية تعمل على النظر في المنازعات التي قد تنشأ بين المقاول وبين الجهات المشرفة عليه بشكل عاجل، ويكون لها القول الفصل في حل هذه المنازعات. واذا ثبت ان المقاول او من يشرف عليه قد تعمد الحاق الاذى بالمشروع، فهذه جريمة خيانة عظمى، اذ لا مبرر لان يقوم أي انسان بالاضرار بالمصلحة العامة مهما كانت الاسباب الشخصية. وعلينا ان نتذكر على الدوام انه اذا استمر الوضع الحالي للمقاولين، فلن تصبح لدينا شريحة واعية مسؤولة تتولى تنفيذ المشاريع الهندسية، بل لن يتصدى لمثل هذه الاعمال سوى مغامرين وشذاذ الآفاق الذين لا يأبهون لشيء سوى الحصول على الربح باسرع وسيلة. ويجب على الدولة ان تأخذ دورها بتصحيح المسار، لا ان تعمد الى القاء التهم على المقاولين والدفاع عن كوادرها، بدون ان يتم النظر مليا في الاسباب التي أدت الى فشل المشروع تلو الاخر.