بعد ان تقرر، بطريقة غير واضحة تماما، تأجيل جلسة البرلمان لمدة اسبوعين، وهي الجلسة التي أبقيت مفتوحة على مدى شهر كامل بدون سند قانوني، بعد كل ذلك دخلت البلاد في حالة من الفراغ الدستوري والفوضى السياسية المتمثلة بالتأويل العشوائي للدستور والقاء التفسيرات القاطعة لفقراته من قبل كل من هبّ ودبّ، وبات المواطن في حالة من عدم اليقين حتى بدأ يتساءل عن جدوى العملية السياسية اذا كانت في نهاية الامر تصب في مصلحة الفئات السياسية المتنازعة بدلا من خدمة الشعب الذي هو الاساس الشرعي للسلطات كافة حسب المفهوم المبسط للديمقراطية.
لاشك ان نتائج الانتخابات كانت غير حاسمة واعطت لكل من الفرق الفائزة فيها بارقة امل في الاستيلاء على السلطة، او ان يكون لها –في الاقل– القول الفصل في تشكيل الحكومة، وان اقتصرت النقاشات منذ ان بدأت النتائج الاولية بالظهور ولحد الان على اختيار شخص رئيس مجلس الوزراء من بين القوائم الفائزة. تلك هي العقدة التي تقف عندها كل المفاوضات بين كافة الاطراف السياسية، وهي التي تحدد بالتالي الكيفية التي سوف توزع فيها بقية المناصب الرئاسية والوزارية.
ولعل الدستور العراقي قد ساهم في تعميق الجدل من خلال الافتقار الى النص الحاسم وعدم وضوح الصيغ اللغوية-القانونية بما لا يدع مجالا للشك. لكن قبل القاء اللوم على فقرات الدستور علينا العمل بعرف قانوني معروف يتمثل في محاولة استكناه روح التشريع والقصد منه بدلا من الاستغراق في تفسير كلمات بعينها ضمن نص واحد.
فقد اولى الدستور في فصله الثاني موادا مفصلة كثيرة (المواد 63-72) تحدد طريقة انتخاب رئيس الجمهورية ونوابه وصلاحياته وامتيازاته ومدة ولايته والاجراءات المتبعة عند خلو المنصب. كما انه ينص على وجوب "ان يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال ثلاثين يوماً من تاريخ اول انعقاد له (اي البرلمان)." (المادة 69-ب) ونحن نعلم انه تم تجاوز هذا الاستحقاق الدستوري بمرور المدة القانونية دون تحريك ساكن في هذا الاتجاه، كما تم التغاضي عن انتخاب رئيس مجلس النواب في اول جلسة يعقدها البرلمان كما نص الدستور (المادة 53)، بدعوى الجلسة المفتوحة!
وارى ان هذا الالتفاف على الدستور ليس الا مخالفة لايمكن تبريرها بطريقة مكيافيلية تنظر الى الغايات وتغض النظر عن الوسائل. ووجه الخطر في هذا الامر يتجاوز تأخير تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب بين الفرقاء السياسيين الى الاحتكام الى الارتجال في التفسير والاستعلاء على الدستور بدعوى الضرورات المرحلية. ولاشك عندي في ان هناك ضرورات وتحديات مرحلية سوف تستجد في اي وقت في المستقبل يمكن تستدعي تأويلات قسرية واعتباطية للدستور متمثلة بالسوابق التي يضعها سياسيونا اليوم.
يمكن تتبع القصد التشريعي من خلال النظر الى الطريقة التي صممها المشرع لاختيار المناصب الرئاسية: اولا رئيس مجلس النواب في اول جلسة، ثم رئيس الجمهورية خلال ثلاثين يوما، ثم تنص المادة 73 اولا على: "يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية." لا يبدو لي ان هناك نية تشريعية لوضع المناصب الرئاسية الثلاثة في سلة واحدة وهو ما يريد ان يقوم به سياسيونا اليوم. والانكى انهم جميعا ساهموا بشكل او بآخر في كتابة هذا الدستور وتمريره، فلماذا لم يضعوا مثل هذا الشرط عندذاك لكي تأخذ هذه القضية شكلا قانونيا لا غبار عليه؟ لعل الجواب على ذلك يكمن في الحرج الذي كانوا سيقعون فيه، لان انتخاب الرئاسات في سلة واحدة هو اشارة واضحة للمحاصصة الطائفية التي ارادوا ان ينأوا بانفسهم عنها تشريعيا وان مارسوها في واقع الحال.
أي ان التشريع الدستوري اتجه لرفض التوزيع الطائفي والعرقي للمناصب من اجل الحفاظ على وحدة مكونات الشعب المختلفة تحت راية وطنية واحدة. اذا كيف يمكن تفسير الالتفاف على التشريع بطريقة تلغي الهدف منه من الاساس؟ ويبدو لي ان المشرع اراد ان يضع مواقيت محددة لتجنب الوقوع في هذا الشرك. والان نحن واقعون فيه فكيف الخروج؟
لا احد يدعي ان هناك وصفة سحرية يمكن ان تضع حد للازمة السياسية الحالية. ولكن عندما تستعصي الامور لابأس في العودة الى الاصول. واذا كان النزاع الحالي في شخص رئيس الحكومة المقبل فلنناقش ما ارادنا الدستور ان نفعله قبل ذلك: انتخاب رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية. لابد ان المشرع اعتقد ان هذين المنصبين لا يقلان اهمية عن منصب رئيس مجلس الوزراء طالما كان هذا الاخير مسؤولا امامهما. ولو تم استيفاء هذين المنصبين حقهما في الدورة البرلمانية السابقة لما كنا امام ازمة سياسية اليوم. فمنصب رئيس الوزراء، الذي حظي بصلاحيات واسعة مقابل حصانة شبه تامة من المسائلة في المرحلة السابقة، بات اكثر اهمية بما لايدع مجالا للمقارنة. وهكذا اصبح هناك شعور عام بين الفرقاء السياسيين بان فقدان هذا المنصب يعني عمليا عدم الحصول على شيء، الامر الذي لا يعبر عن روح الديمقراطية والحكم الجماعي ودولة المؤسسات.
وان حدثت في قادم الايام حلحلة للموقف السياسي وتم الاتفاق على ما يبدو مستحيلا اليوم فسوف يكون ذلك على حساب تقديم تنازلات بين الاطراف المختلفة مقابل الحصول على امتيازات. أي ان تشكيل الحكومة سوف لن يكون بدواعي خدمة المصلحة الوطنية العليا، وانما حسبما تقتضي مصالح الاطراف السياسية المشاركة فيها.
ومن جهة اخرى، فان مثل هذه الحكومة، التي سوف تسمى حكومة الوحدة الوطنية، ستكون بعيدة عن المسائلة امام البرلمان بسبب طريقة تشكيلها، التي توزع المناصب بين الفرقاء السياسيين على اساس الحصص والنقاط وتكبل بالتالي قدرة البرلمان على توجيه النقد لرئيس مجلس الوزراء مثلا، فضلا عن سحب الثقة عن حكومته باكملها. وقد كان هذا الامر سببا رئيسا في فشل الحكومة المنصرفة في تلبية احتياجات الشعب والخروج بمنجزات واضحة للعيان.
على اني ادرك انه من غير الممكن استدراك هذا الامر الان. ولا يمكن العودة الى ما قبل شهر وتنفيذ فقرات الدستور كما اقرت. بل انه لابد من المضي في الرهانات السياسية الى خواتيمها. فبعد تأجيل جلسة البرلمان مدة اسبوعين، لا يبدو ان هناك مشروع لاتفاق من أي نوع. سوف تلجأ الكتل السياسية الى ايجاد عذر آخر للتأجيل لكسب الوقت من اجل المزيد من المزايدات السياسية على امل استسلام احد الاطرف امام الضغط الشعبي او النفسي.
غير ان من الممكن عكس الازمة وايجاد حل عادل ربما يرضي جميع الاطرف. وربما يكون هذا الحل في اساسه مثاليا اكثر من اللازم، ولكن من الممكن ان يكون لدى كل من الاطراف المتنازعة نوعا من المثالية تتيح لبعض الحلول التي تبدو غير واقعية فرصة للتحقق. ومن عادة الناس نسيان الاصول التي بدأوا بها، ولكنهم عادة ما يثيبون اليها اذا ما ذكروا بها.
ان جميع المرشحين لمنصب رئيس الوزراء كانوا شخصيات وطنية خاضت غمار المعارضة لاعتى نظم الحكم الدكتاتوري في العراق، وهم ضحوا بالغالي والنفيس خدمة لهذا الوطن الذي لا اشك انهم احبوه ولم يتوانوا في تقديم انفسهم فداءا على مذبحه.
واقتراحي يتلخص بان يقوم كل من هؤلاء المرشحين بسحب ترشيحه للمنصب متيحا المجال لشخصيات سياسية جديدة ان تأخذ دورها في قيادة البلد. وان قيل ان المرشح انما يمثل حزبا او كتلة برلمانية تشعر ان المنصب من حقها، فاني اجيب بان ذلك سوف يكون امرا تجب مناقشته تحت قبة البرلمان بحضور كافة اعضاءه، الذين لا يعدون اليوم الا ارقاما للتصويت، وليسوا اصواتا للشعب.
ان مبادرة وطنية مثل هذه سوف تحسب لجميع المرشحين على السواء، كما انها يمكن ان تعيد الثقة بالعملية السياسية برمتها، وتدفع بعجلة الديمقراطية اشواطا طويلة للامام. وليتذكر الجميع ان ركيزة الديمقراطية الاساسية تقبع عند مستوى الناخب، وان واجب المرشح الاول هو الاستماع له. واريد ان اشدد هنا على ان الناخب غير راض عن المسيرة السياسية العرجاء. واذا ارادت الاطراف المتنازعة الان البقاء في مواقع المسؤولية فمن الحكمة ان تغير الطريقة التي تعمل بها، وان تبدأ في الاستماع الى من اوصلها الى تلك المواقع في الاصل.