دأبت (المدى) وصحف عراقية وعربية وعالمية اخرى على تقديم رسومات كاريكاتيرية ساخرة او ناقدة لوضع معين او لتصرف او لحالة شاذة وغير ذلك. وارى ان ذلك امر جيد يهدف الى النقد البناء والوصول الى المواطن البسيط والجهة المعنية على حد سواء.
ولعل السر في جاذبية الكاريكاتير هو سهولة قراءة اللوحة الفنية المعبرة عن حالة معينة بدون الحاجة الى قراءة تعليق طويل او شرح مسهب، وبالتالي تتوضح الفكرة من خلال تأمل بسيط لمفردات اللوحة الكاريكاتيرية، وتطلق العنان لبسمة او ضحكة تدخل البهجة –ولو مؤقتا– الى النفس بان تلك الحالة السلبية قد وضعت امام انظار الجهة المعنية، وربما سيأتي الحل قريبا.
لكني وددت ان اشير الى نقطتين مهمتين في هذا الشأن. الاولى تتعلق بنوعية العمل الفني الذي ينشر على انه لوحة كاريكاتيرية، والثانية في مدى السلبية التي يمكن ان تعرض من خلال هذا العمل بحيث يكون مؤثرا لا مقززا او باعثا على التشاؤم.
ولعل العراق قد حظي بزمرة من رسامي الكاريكاتير المبدعين الذي يمكن اعتبار اعمالهم مساوية ان لم نقل متفوقة على اعمال الفن التشكيلي لمعاصريهم ومواطنيهم، ومنهم علي المندلاوي وخضير الحميري ومؤيد نعمة وعبد الرحيم ياسر وبسام فرج ومحمد علي بربن وغيرهم كثيرون. وقد احتمل هؤلاء المبدعين وزرا ثقيلا في تجسيد هموم ومعاناة شعبهم وشرحها بطريقة سهلة ومفهومة ومؤثرة، حتى مع تعرضهم الى اخطار جسيمة في وقت من الاوقات حينما اصبحوا هدفا مشروعا للفكر المنحرف.
حينما تتأمل في اعمال كبار الفنانين، تلتفت الى انهم لجأوا في تعبيرهم عن فكرة ما الى اعتماد اسلوب الايحاء اكثر من الافصاح، وذلك في الواقع هو ما يجعل اعمالهم متميزة. اذ ان أي عمل فني لابد ان ينطوي على نوع من التشاطر بين المبدع والمتلقي، يهدف الى ايجاد اصرة تربط بينهما وتفتح سبيلا لمزيد من التواصل. فعلى سبيل المثال، لا يختلف اثنان على جمالية وجاذبية (نصب الامة) للفنان الراحل جواد سليم، وان اختلفوا في تفسير مفردات هذا العمل الفني الرائع. كما تجبرك اعمال الفنان (مؤيد محسن) على النظر اليها بامعان بحثا عن سر القصة التي تخفيها اللوحة كما لو كانت مخططا لكنز دفين.
غير ان العمل السوريالي قد لا يكون دائما بهذه الجاذبية. ويعرف الفنانون المحترفون انهم باتباعهم هذه المدرسة قد لا يصلون الى الشعبية التي يأملون فيها. فعامة الناس لا تحبذ الوقوف طويلا امام اللوحة للتأمل فيها وفك رموزها.
واذا كان لي ان اضع العمل الكاريكاتيري في تصنيف معين، لما ترددت ان اضعه ضمن مدرسة سوريالية-تجريدية-انطباعية مجتمعة. قد يكون هذا تناقض وهدم لفكرة اختلاف هذه المدارس الفنية في الاصول والفروع. لكن هناك شيئا مشتركا –على كل حال– بينها، وهو انها ليست (واقعية)، بمعنى انها لا تهتم للتفاصيل الدقيقة التي تعبر عن الشخصية او الحدث او المكان.
وهكذا فان طبيعة الرسم الكاريكاتيري قد تكون خليطا من هذه المدارس، او احدها ان شئت، ولكنها لا يجب ان تكون لوحة بورتوريت او تجسيدا حيا لموقع او حدث معينين. فان اخترت ان تكون لوحة سوريالية، لابأس ان تجعل الشخصية ذات اجنحة مثلا، او بعينين تتصلان بنابضين يقفزان الى الخارج تعبيرا عن التعجب والذهول. وان كانت تجريدية انطقت الكرسي بكلمات لم يجرؤ على قولها من يجلس عليه. وان كانت اللوحة انطباعية رسمت كل شيء كما يبدو لك بعين غير مدققة مع اضافات نقدية او ملاحظات ساخرة. وفي كل من هذه النماذج يمكن لك ان تضع تعبيرا او اقتباسات كلامية للشخوص، كما تـُحبب المبالغة بشكل خاص لانها تضفي جاذبية وتلفت الانظار الى اللوحة، مما يزيد من تأثيرها على المتلقي.
لكن السؤال ما مقدار الاقتباسات الكلامية التي يستطيع الفنان ان يضعها في لوحته دون ان يقلل من اهمية العمل الفني. لا شك ان اكثر انواع الكاريكاتير اثارة للمخيلة هو من يدرج تحته عنوان (بلا تعليق)، في اشارة الى ان اللوحة تعبر عن نفسها. وكثيرا ما يقال (اللوحة خير من الف كلمة). وان كان هذا صحيحا، فما هو الداعي في ان يغرق بعض الفنانين لوحاتهم بالتعليقات والاشارات والاستعارات اللفظية، لتوضح الشخصية وما يصدر عنها من قول وتصرف؟ الا يندرج هذا في باب الطرفة المرسومة اكثر مما هو عمل فني ايحائي يقوم على التواصل بين الفنان وجمهوره؟
نشرت (المدى) في عددها 1450 الصادر في 7 آذار 2009، وفي الصفحة الخامسة (في الشأن المحلي) رسما كاريكاتيريا يحمل توقيع (قاسم09). موضوع اللوحة يقوم على ان مياه الشرب التي تصل الى بيوت الناس في محافظة بابل تكون ممزوجة بالماء الخابط ومياه المجاري. وقد رسم الفنان ثلاثة انابيب تلتقي عند حنفية ماء واحدة وقد وقف مواطن مذهول امامها. اضطر الفنان الى ان يكتب على كل من الانابيب اسم الخدمة التي يقدمها، فكتب (ماء اسالة) على احدها و(ماء خابط) على الاخر و(مياه مجاري) على الثالث. كما ان طريقته في شرح ان هذا الامر يحدث في محافظة بابل لم تتعد الاشارة الكتابية للشخصية بان كتب فوقها (المواطن البابلي). ثم رسم علامة الاستفهام على الحنفية دون ان يكون لها معنى محدد.
لعل الفكرة قد وصلت اسرع مما ينبغي، وبالتالي فان التأثير المنشود كان اقل مما يرتجى. اذ كان بامكان الفنان ان يعمد الى رسم الانابيب بصورة تشير الى طبيعتها بدلا من شرح عملها كتابيا. فالمعروف ان انابيب المجاري كبيرة نسبيا، وان انابيب الماء الخابط اصغر قطرا ولكنها بالتأكيد اكبر من مياه الاسالة. كما كان يمكن للفنان ان يصور المواطن مرتديا قميصا يحمل رسم اسد بابل مثلا، وهو ما كان سيشير الى سكنه بطريقة اكثر ايحائية. نعم في مثل هذه اللوحة التي اقترح سوف يكون من الضروري وضع تعليق معين لتسهيل قراءتها، وكنت ساقترح تعبيرا مثل: نحو تكامل في خدمات المياه...
غير ان هذه اللوحة بالذات تحمل معنى غير محبب الى النفس. فمجرد تصور ان مياه الشرب تتلوث في طريقها الى البيوت سوف يكون كافيا للتعبير عن الفكرة، اكثر من تصور الاختلاط الكامل بين الماء المخصص للشرب، ومياه المجاري القذرة. وهو ما يطرح السؤال الاخر عن كمية السلبية التي يمكن ان يقترحها العمل الكاريكاتيري بحيث لا يتجاوز الذوق العام، ولا يفقد تأثيره في كل من المواطن الذي هو محور الفكرة، والمسؤول الذي يستهدف بها.
يجب الاقرار ان العمل الكاريكاتيري يقوم على السخرية والمبالغة في السلبيات التي يعيشها المواطن. لكن المبالغات الزائدة عن الحد تفقد العمل رونقه وجاذبيته وقدرته الى التأثير المحكم. اذكر، في هذا الصدد، عملا للفنان الراحل محمد علي بربن في اوائل الثمانينيات، يجسد (طبقة بيض) تحلق في السماء، يتطلع اليها رجل على الارض ويقول لصاحبه، مشيرا اليها: "طبقة الاوزون"، في اشارة ذكية الى ارتفاع اسعار البيض في الوقت الذي كانت اخبار فتحة الاوزون المكتشفة حديثا تتواتر كل يوم. ولازالت تلك اللوحة تجلب لي البسمة كلما تذكرتها، رغم ان اسعار البيض لم تنخفض، ورغم ان الناس تناست فتحة الاوزون.
وهكذا فان اللوحة الكاريكاتيرية يجب ان تنطوي على توازن دقيق بين الافصاح الساذج والغموض المشوق، وبين المبالغة الطريفة والافراط في السلبية. يجب ان لا تتحول اللوحة الى محض تعبيرات كلامية، لكنها لا ينبغي ان تكون رموزا هيروغليفية يصعب فكها. فالتوازن عنصر ضروري في العمل الفني عامة، ولا يستثنى من ذلك الرسم الكاريكاتيري.