حدثان وقعا في زمانين ومكانين مختلفين لكنهما –على الارجح– مرتبطان. الاول، سلسلة الهجمات المنسقة في مومباي الاربعاء الماضي، والثاني التفجير الانتحاري في المسيب الجمعة الماضية. كيف يمكن لهذين الحدثين ان يتعلق احدهما بالاخر، او ان يكون بينهما اية علاقة؟ الجواب: القاعدة. فرغم ان السلطات الهندية لم تلق اللوم على القاعدة، بل على المخابرات الباكستانية، وبرغم اعلان منظمة مجهولة تسمي نفسها «مجاهدو ديكان» المسؤولية عن الهجوم، الا ان بصمات القاعدة واضحة. فقط نشرت مواقع للمدونات على الانترنت شهادات افاد بها اشخاص من داخل الفنادق التي تعرضت الى الهجمات بان المسلحين طالبوا بسجلات النزلاء وبحثوا تحديدا عن الاميركيين المقيمين في الفنادق.
كما ان من بين الاهداف الاخرى مركزاً يهودياًَ في مومباي، وكل هذه اهداف «مشروعة» للقاعدة.
اما في العراق، وفي بلدة المسيب تحديدا، فان الهجوم الانتحاري الذي وقع اثناء صلاة الجمعة في حسينية تابعة للتيار الصدري، والذي يقال ان افغانيا نفذه، فهو بلا ادنى شك من تصميم وتنفيذ تنظيم القاعدة في العراق، الذي هو ليس الا امتدادا للتنظيم الارهابي الاوسع، الذي يتخذ من جبال تورا بورا على الحدود الافغانية–الباكستانية مقراً له.
ومن المعروف ان البرلمان العراقي صادق على الاتفاقية الامنية بين العراق والولايات المتحدة برغم معارضة نواب التيار الصدري. هذه الاتفاقية يصطلح عليها احيانا اتفاقية سحب القوات، غير اني اقترح تسمية مناسبة اكثر، وهو «اتفاقية الجلاء». فتعبير «سحب القوات» مناظر لـ»استدعاء القوات»، بمعنى ان الانسحاب يأتي بعد الاستدعاء. ولكن طالما ان القوات الاميركية لم تأت بدعوة من العراق، وهي حسب القانون الدولي «قوات احتلال»، فان رحيلها هو «جلاء» عن ارض الوطن، وهي الكلمة المناظرة لكلمة «احتلال». لذلك ساشير اليها بهذا الاسم في هذا المقال.
اقول ان اتفاقية الجلاء حددت مواعيد ثابتة لرحيل القوات الاميركية، ليس للرئيس الاميركي المنتخب، باراك اوباما، أي قول فيها. نعم، يستطيع ان يعجّل من الانسحاب، او يطلب تغيير المواعيد، او يطلب تغيير بعض من بنود الاتفاقية، او يطلب الغاءها بالكامل، ولكن ايا من ذلك لن يتم الا بعد تقديم اشعار الى الحكومة العراقية قبل مدة لا تقل عن سنة. لذلك، لن تحدث تغييرات ملموسة، فعليا، قبل مضي وقت طويل.
من ناحية اخرى، طالما اعلن الرئيس المنتخب عن رغبته في ارسال المزيد من القوات الى افغانستان التي تعاني نقصاً واضحاً في القوات القتالية، حسبما اعلنت مراراً وزارة الدفاع الاميركية، وقائد القوات الاميركية في افغانستان. وبحساب بسيط، فان أي قوات تنسحب من العراق، انما ستتوجه مباشرة الى افغانستان.
لاشك ان هذه الحقيقة تثير ذعر القاعدة. سيما وان القوات التي ستأتي لمواجهتها قد اصبحت تملك خبرة اكبر في مواجهة تكتيكات القاعدة، وحرب العصابات. وربما يكون الجيش الاميركي قد طور اسلحة ووسائل حربية تتلاءم مع ظروف الحرب الجديدة، تختلف كليا عن تلك التكتيكات والاسحلة التي استخدمت عام 2001 حينما شنت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة حربها على حركة طالبان إثر هجمات 11 أيلول.
ربما تكون القاعدة قد اصيبت بالذعر ايضا من حقيقة تفرغ الولايات المتحدة لمقاتلتها وهزيمتها. ومن المعلوم ان الحرب في افغانستان تحظى بدعم دولي واسع، على العكس من الحرب في العراق. الان، سوف تكتسب الولايات المتحدة المزيد من المصداقية والتأييد، وهو ضغط آخر على الدول التي ربما تفكر في مساعدة القاعدة باي شكل من الاشكال.
في تسجيل جديد نشر على مواقع مؤيدة للقاعدة، تحدث الرجل الثاني في القاعدة، ايمن الظواهري، والذي اصبح الرجل الاول اعلاميا، تحدث عن استعداد القاعدة لملاقاة الجيش الاميركي وهزيمته. وقال في طريقة تهكمية تذكر بالقرون الوسطى: «إن كلاب أفغانستان لم تشبع بعد من لحوم الأمريكان..”، ولم نسمع ان جنديا او مدنيا اميركيا واحدا قد تـُرك لتأكله الكلاب في افغانسان. لكن هذه احدى إمارات العجز: التمني. فالظواهري يريد ان يرعب القوات الاميركية بالعبارات المجازية القوية، التي لم يعد لها اي وقع في النفوس، لا بين المؤالفين ولا المخالفين.
وفي نفس التسجيل، يتحدث الظواهري عن «خيانة» النظام السعودي على مدى السنين للقضايا المصيرية، قائلا: «الدور التاريخي التخريبي الذي يلعبه آل سعود في إفساد قضايا أمة المسلمين، بدءاً من إفساد ثورة 1936 في فلسطين وتخريب الجهاد الأفغاني والمبادرة العربية واتفاق مكة بين حماس والسلطة الفلسطينية.» متناسيا دعم السعودية لعقدين من الزمن لمنظمته الارهابية. ولكنه بات يرى ان السعودية لن تكون معه في يوم من الايام، ولن تعود الى سابق عهدها معه ابدا، مهما اشتدت عليه وطأة الحرب، او الهزيمة.
يبقى ان نربط حلقات السلسلة. القاعدة اصيبت بالذعر لقرب تعرضها الى هجوم كاسح لن تقوى عليه على الاغلب. تحاول القاعدة ان تصرف الانتباه نحو الجنوب، وتستغل العلاقات دائمة التوتر مع الهند، لتشن هجمات ضارية، تهدف الى خلخلة الوضع السياسي في الباكستان، واجبارها على الخوض في سجالات مع الهند وتشتت تركيزها على القاعدة فيما لو حاولت الولايات المتحدة ان تخطب ود الباكستان لمساعدتها في العمليات المرتقبة.
وفي نفس السياق، تريد القاعدة جر التيار الصدري في العراق الى ميدان المواجهة، لاثبات عجز القوات الامنية العراقية عن التصدي للمواجهات الطائفية اذا ما اشتعل اوارها بعد انسحاب القوات الامريكية الى الثكنات منتصف العام المقبل.
اي ان تكتيك القاعدة –ببساطة– انما يهدف الى ابقاء القوات الاميركية في العراق، في الاقل في المرحلة الراهنة، اي فترة تولي الرئيس الاميركي الجديد مقاليد السلطة في بلاده، ومحاولة استكناه نواياه الحقيقية بعيدا عن الشعارات الانتخابية التي جاءت به الى هذا الموقع.
وليس من شك في ان انشغال الولايات المتحدة في العراق قد اتاح المجال واسعا امام القاعدة لتعيد تنظيم صفوفها بعد الهزيمة المرّة التي تعرضت لها عام 2001. ومن مصلحة القاعدة ان تبقى الولايات المتحدة منشغلة عنها لاطول فترة ممكنة. لذلك فهي تسعى الان الى خلق الاوضاع التي تقود الى الاستنتاج بان جلاء القوات الاميركية عن العراق ليس خيارا صائبا.
وربما يتوجب على الرئيس المنتخب اوباما ان يتبع سياسة اكثر انفتاحا اتجاه كل من الهند وباكستان، من اجل حل الخلافات المزمنة بينهما. فجزء كبير من جهود الحرب على الارهاب يتعلق بالدول التي توظف الارهاب، باي طريقة كانت، للنيل من اعدائها، بغض النظر عن مساهتمهم فيه.
اخيرا، اتمنى ان لا تتسبب محاولات تنظيم القاعدة في العراق المستمرة لاحداث فتنة طائفية في وقوعها بالفعل. لقد عانى العراقيون على مدى عامين في الاقل ويلات هذه الفتنة، التي كادت تؤدي الى حرب طائفية لا يعلم الا الله ما كانت ستؤول اليه. هذه الامنية انما تتعلق بسواعد القوات الامنية، وبجهود الاحزاب السياسية، وببصيرة الحكومة الوطنية. واذا تحقق كل ذلك، فلن تستطيع القاعدة ان تنشر شرها بين مواطني هذا البلد العزيز، وسوف يكون عليها ان تعض ذيلها وهي تجري بحثا عن ملاذ آمن جديد