مع الاقتراب من موعد الانتخابات المحلية المقررة في الاول من تشرين الاول المقبل، يتزايد الجدل حول اي النظم الانتخابية هو الاصلح للمرحلة القادمة. ومن المعروف انه قد تم اعتماد نظام القائمة المغلقة في الانتخابات التي اجريت عام 2005 كلتيهما، مع اختلاف واحد: فقد كان العراق كله دائرة انتخابية واحدة في انتخابات كانون الثاني، بينما اصبحت كل محافظة دائرة انتخابية مستقلة في الانتخابات التي اعقبتها في كانون الاول 2005. ويرى الكثيرون، ان لم نقل اغلبية الناخبين، ان نظام القائمة المغلقة قد ادى الى ايصال عناصر "غير كفوءة" الى مجلس النواب، وبالتالي فقد تعالت الصيحات مطالبة باعتماد نظام القائمة المفتوحة. والحق ان نظام الانتخابات بحد ذاته ليس سببا كافيا لتبرير العجز عن انتخاب المرشحين الاكثر كفاءة. وساحاول فيما يلي ان اثبت ان المسؤولية الفردية هي العامل الاساس في اختيار المرشحين، بغض النظر عن طبيعة القانون الانتخابي.
ورغم ان النظام الانتخابي عموما اما ان يكون نظاما للتمثيل بالاغلبية او للتمثيل النسبي، الا ان هناك نظما انتخابية تعتمد مزيجا بين الاثنين. وللتوضيح، فان نظام الاغلبية يعتمد على دوائر اقتراع يتنافس فيها مرشحون عدة للفوز بمقعد واحد بطريقة الفائز يأخذ كل شيء والخاسر يخسر كل شيء. اوضح مثال على ذلك الانتخابات الامريكية. اما في التمثيل النسبي فان المرشحين يخوضون الانتخابات ضمن قوائم تمثل حزبهم، او كتلتهم، او ائتلاف منهما، وتحصل على مقاعد يماثل نسبة الاصوات التي حصلت عليها. وهذا النظام اكثر شيوعا في العديد من دول العالم الديمقراطية، وتم تطبيقه في انتخابات 2005 في العراق. وهو اكثر عدالة من نظام الاغلبية، لا سيما مع وجود الكثير من الاحزاب والتنظيمات التي تروم الحصول على تمثيل برلماني.
لكن قرار استبعاد نظام الاغلبية من الانتخابات في العراق قد تم اتخاذه لسبب آخر. فقد كان القائمون على العملية الانتخابية يخشون ان تسيطر الشخصيات الدينية والعشائرية على نتائج الانتخابات نظرا لموقعها المحترم بين المواطنين. والحجة في ذلك ان الناخب العادي سوف يجد صعوبة جمة في التصويت لصالح مرشح ما، مهما تكن كفاءته وحنكته السياسية، اذا كان يوجد في نفس الدائرة الانتخابية رجل دين مثلا. فالعالم الديني يمثل قداسة وهيبة وقناعة قبلية لدى الناخب تفوق –في بعض الحيان – قدرته على الاختيار الحر. ولذلك ارتأى الحاكم المدني السابق (بول بريمر) عندما اصدر اول قانون للانتخابات في العراق بعد سقوط النظام السابق ان يصار الى التمثيل النسبي املا في منح المرشحين من الاحزاب العلمانية والدينية والمستقلين فرصا متساوية قدر الامكان.
فهل كان ذلك القرار صائبا؟ لقد تمخضت الانتخابات الاولى، وبشكل اكبر الثانية، عن اظهار استقطاب طائفي وقومي، والالتفاف حول عباءة المفتي او الحزب القومي املا في الحصول على اكبر قدر من المكاسب السياسية من خلال التمثيل البرلماني، حتى ولو كان المرشحون غير مؤهلين عمليا لخوض هذا الغمار. بيد انني لا اجد السبب في ذلك يعود الى نظام الانتخابات الذي اعد من قبل سلطة الاحتلال. فحتى مع تسليم السلطة واجراء تغييرات على النظام الانتخابي، بقي النظام الاساس في الانتخابات هو التمثيل النسبي، او القائمة. ولعلنا نتذكر ان النقد تركز حينذاك على اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة، مما يعني ان الاصوات يتم احتسابها في جميع انحاء البلاد لصالح قائمة ما. وهذا النظام مفيد بالخصوص للاقليات التي لا تسطيع ان تجمع "حد العتبة" وهو اقل عدد اصوات ممكن للفوز بمقعد واحد، اذا خاضت الانتخابات على المستوى المحلي. ومرة اخرى لا اجد ذلك سيئا بالمرة، لكن مقاطعة الانتخابات من قبل بعض الاحزاب والتنظيمات صوّر النتائج وكأنها نتيجة لهذا النظام. كما ان الناخب سعى الى التصويت للقائمة التي "اوصته" بها مرجعيته الدينية او السياسية دون النظر والتدقيق في برامج القوائم او معرفة مرشحيها بصورة كافية.
على كل حال، فقد تم تغيير نظام الدائرة الواحدة الى الدوائر المتعددة، بحيث تكون كل محافظة دائرة انتخابية في الانتخابات الثانية، الا انه لم يحدث فرق جوهري في نتائج الانتخابات. بل على العكس تعمق الاستقطاب الطائفي والقومي وتراجع المرشحون الليبراليون ليحتلوا موقعا صغيرا في البنية السياسية يكاد يكون غير ذي تأثير بالمرة. وفي الحقيقة فان ذلك لا يختلف كثيرا عن نظام الاغلبية آنف الذكر. فقد فازت الاحزاب الدينية بمعظم او كل المقاعد المخصصة للمحافظة في مجلس النواب، كل حسب موقعه الجغرافي وتوزيعه الديموغرافي. وهكذا باءت محاولات بريمر في منع الاغلبية من الحصول على كل شيء بالفشل.
اليوم يدور النقاش حول تغيير النظام الانتخابي بحيث يتم اعتماد القائمة المفتوحة. ولا ادري ما المقصود من ذلك تحديدا. فكلما سألت احدا يتقدم بمثل هذا الاقتراح عن الآلية التي يقترحا اجد جوابا واحدا: ان يسمح للناخب بان يختار من القائمة (او القوائم) المرشحين الذين يعتقد انهم الافضل والاجدر بتولي المسؤولية. وليس لدي اعتراض من ناحية المبدأ على مثل هذا الطرح. لكن الاعتراض انما يتأتى من التطبيق العملي من النواحي التالية:
1. كم يبلغ عدد القوائم وعدد المرشحين فيها؟ في الانتخابات السابقة شاركت المئات من القوائم في المحافظات المختلفة (بعض القوائم كانت في اكثر من محافظة، لكن مرشحيها اختلفوا من محافظة الى اخرى). اذا افترضنا ان عدد القوائم المتنافسة في محافظة ما 50 قائمة (تخمين متواضع)، تحتوي على 40 مرشحا (وهو عدد افتراضي لاعضاء مجالس المحافظات، وهو متغير يعتمد على عدد السكان)، فان ذلك يعني ان عدد المرشحين قد يزيد على الفي مرشح في دائرة انتخابية واحدة. فكيف يتأتى للناخب ان يتعرف على جميع او معظم او حتى العدد الكافي من المرشحين لكي يصوت لهم؟
2. ولو افترضنا ان المرشحين الالفين ارادوا ان يخوضوا الانتخابات بشكل فردي (وهو حقيقة معنى القائمة المفتوحة) الا يتوجب عليهم ان يعقدوا الندوات واللقاءات وان يديروا الحملة الانتخابية كل على عاتقه، وان تلقى مساعدة من حزبه؟ فما هو دور القائمة في هذه الحالة؟ هل تقدم مرشحيها كفريق واحد في الحملة الانتخابية؟ اذا كيف سيتعرف الناخب على الافراد الذين سيصوت لهم اذا لم يتصل بهم بشكل او باخر؟ اي ان خوض مثل هذه الانتخابات سوف يكون عملية عسيرة على المرشح والناخب على حد سواء بسبب العدد الكبير من المرشحين، والذين يتعذر على الناخب الاحاطة بهم. وبالنتيجة سوف يلجأ الناخب الى التصويت حسب القائمة لعجزه عن التعرف الى العدد الكافي من المرشحين الذين يعتقد بأهليتهم.
3. غير ان المشكلة الاكبر تمكن في الناحية اللوجستية للانتخابات. سوف يتوجب طبع جميع الاسماء للمرشحين، مما يجعل قسيمة الاقتراع بالغة الكبر ومعقدة جدا. اذ انها يجب ان تحتوي على القوائم وافرادها جميعا. سوف يكون من الصعب جدا ايجاد المرشحين ضمن قسيمة الاقتراع، خصوصا مع حملات انتخابية غير كافية للمرشحين (آخذين بنظر الاعتبار قصر المدة الزمنية)، وتوعية انتخابية ضعيفة او حتى معدومة. كما ان عدّ الاصوات سيكون شبه مستحيل في وقت قصير. سوف يتطلب الامر عدة اشهر لفرز الاصوات والتحقق منها قبل اعلان النتائج. كما ان التحقيق في الطعون سوف يستغرق وقتا طويلا. يضاف الى ذلك عدم توافر وسائل تقنية متطورة كالحاسوب والانترنت لتسهيل عملية التصويت والفرز، مما يجعل الامر كله منوطا بالاداء البشري المحدود باي حال. والكل يتذكر كم استغرق فرز الاصوات والتحقيق في الطعون في الانتخابات الماضية، قبل اعلان النتائج النهائية وتوزيع المقاعد بين الفائزين.
وعلى هذا فليست القائمة المفتوحة هي الخيار الامثل لانتخاب ممثلي الشعب الذين سيقع على عاتقهم اخراج البلاد من محنة الطائفية وشرك التعصب الى فضاء الوطنية والانتماء الاوسع للتاريخ والحضارة المشتركة. والحق انه ليس هناك نظام انتخابي قادر على فعل ذلك بشكل آلي. يتوجب على الناخب ان يتخذ قراره اعتمادا على نفسه بالدرجة الاولى، دون الخضوع الى ضغوط دينية او اجتماعية او عرقية او غيرها.
وقد ارى في الواقع سبب التشديد في الطلب على القوائم المفتوحة كاساس للنظام الانتخابي. فقد خضع الناخب للعبة الاحزاب المتصارعة عن طريق استخدام الرموز الدينية، وظنَّ انه لم يكن في مقدوره فعل شيء ازاء ذلك. والذين يروجون للقوائم المفتوحة يرومون تشتيت التركيز على القائمة بحيث لايكون هناك معنى لان تحظى قائمة ما بدعم مرجعية دينية او غيرها، طالما ان الناخب حر في اختيار مرشحيه بين القوائم. اما اذا كان النظام الانتخابي يجبر الناخب على الاختيار من قائمة واحدة فلن يكون هناك فرق جوهري عن القوائم المغلقة.
والادهى من ذلك ان تعمد الاحزاب الى نشر قوائم باسماء "مدعومة" توزع او تفرض على الناخبين بنفس الطريقة التي فرضت فيها القوائم في الانتخابات السابقة. وفي هذه الحالة لن تكون هناك فرصة حقيقية للناخبين للادلاء باصواتهم بشكل حر وديمقراطي.
والخلاصة ان لا فائدة من تغيير النظام الانتخابي اذا لم يتغير الوعي الانتخابي ولم تتغير اولويات المواطن العادي من العشيرة والطائفة والعرق الى الوطن الاعم. لا يمكن ان يتم انتاج نظام انتخابي يرفع المسؤولية عن كاهل الناخب، او يجعل التلاعب به من قبل الاحزاب السياسية غير ممكن. واذا وعى المواطن مسؤوليته الحقة، فكل نظام انتخابي صالح، وكل ما ينتج عنها مفيد. اما اذا استمر تغييب المواطن كناخب، وتخلى هو نفسه عن المسؤولية الذاتية في التصويت، فلن يكون لتغيير النظام الانتخابي اي أثر.