اصدر مجلس الرئاسة قبل فترة وجيزة قانون المساءلة والعدالة الذي حل بذلك محل قانون اجتثاث البعث الذي اصدره الحاكم المدني السابق للعراق بول بريمر. وهكذا انتهت فترة من الجدل السياسي المرير حول هذا القانون الذي كثيرا ما اعتبر، بالاضافة الى تشريعات اخرى، مقياسا لتقدم العملية السياسية في العراق.
والواقع ان هذا القانون لا يعدو ان يكون تأخرا في العملية السياسية اكثر من كونه دافعا لها. فالبيان الذي اعلن صدور القرار نص على انه: "بناءً على ما اقره مجلس النواب... ولمضي المدة القانونية المنصوص عليها في الفقرة (خامساً/أ) من المادة مائة وثمانية وثلاثين من الدستور صدر القانون الأتي رقم (10) لسنة 2008". والمعلوم ان نائب الرئيس طارق الهاشمي رفض التوقيع على القانون، وهو ما يقودنا الى جدل قانوني. فالمادة 138/رابعا من الدستور تنص على انه: "يتخذ مجلس الرئاسة قراراته بالاجماع، ويجوز لأي عضو ان ينيب احد العضوين الآخرين مكانه". لكن اصدار هذا القانون قيد النقاش تم استنادا الى الفقرة خامسا، حسب بيان مكتب الرئاسة، التي تنص على: "أ- ترسل القوانين والقرارات التي يسنها مجلس النواب، الى مجلس الرئاسة، لغرض الموافقة عليها بالاجماع، واصدارها خلال عشرة ايام من تاريخ وصولها اليه... ب- في حالة عدم موافقة مجلس الرئاسة، تعاد القوانين والقرارات الى مجلس النواب لاعادة النظر في النواحي المعترض عليها، والتصويت عليها بالاغلبية، وترسل ثانيةً الى مجلس الرئاسة للموافقة عليها. ج- في حالة عدم موافقة مجلس الرئاسة على القوانين والقرارات ثانيةً، خلال عشرة ايام من تاريخ وصولها اليه، تعاد الى مجلس النواب، الذي له ان يقرها بأغلبية ثلاثة اخماس عدد اعضائه، غير قابلةٍ للاعتراض، وتُعد مصادقاً عليها." اي انه في هذه الحالة اعتبر مرور الفترة الزمنية المحددة في الفقرة (أ) كافيا لاعتبار القانون مصادقا عليه، بغض النظر عن الاجراءات التي اوردتها الفقرات (ب) و(ج) اللاحقتين. والواضح من نص القرة (أ) انه لابد من حصول الموافقة بالاجماع.
ان هذه المناورة هي سابقة في التشريع، ولن يتمكن مجلس الرئاسة في الواقع من فعل اي شيء حيالها في المستقبل. لقد كانت الفكرة من اصدار القرارات الرئاسية (او بالاحرى الموافقة على التشريع البرلماني) بالاجماع هو ضمان عدم انفراد كتلة حزبية او مكون ما من اطياف الشعب العراقي في اتخاذ القرارات دون مراعاة الكتل او الاطياف الاخرى. وعلى هذا، فان اعتراض الهاشمي ليس اعتراض الحزب الاسلامي او الطائفة السنية، انه اعتراض شريك في العملية السياسية، كما ان قانون المساءلة والعدالة ليس قانونا كرديا او شيعيا ولكنه قانونا يفترض ان يكون وطنيا يصب في مصلحا الشعب العراقي ككل.
تجدر الاشارة الى ان مجلس النواب يمتلك صلاحية حل (الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث) كما ورد في الفقرة ثانيا من المادة 135 من الدستور، لكن من غير الواضح فيما اذا كان يمكن دستوريا احلال هيئة محل اخرى. بيد ان الظاهر ان كلا من الهيئة المنحلة والتي تحل محلها تمارسان نفس الاختصاص فلا يبدو ان هناك تجاوزا خطيرا على الدستور. على كل حال، لقد تم تجاوز الدستور باكثر من ذلك في نصوص القانون الجديد كما سنوضح لاحقا.
على ان القانون الذي غير من تسمية الهيئة السابقة عاد واكد طبيعة عملها في مادتها الاولى/الفقرة رابعا التي تعرف الاجتثاث بانه: "الإجراءات التي تتخذها الهيئة وفقا لأحكام هذا القانون بهدف تفكيك منظومة حزب البعث في المجتمع العراقي ومؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني فكرياً وإدارياً وسياسيا وثقافياً واقتصادياً." اي ان تغيير التسمية لم تؤدِ الى نضج حقيقي في التعامل مع قضية الاجتثاث المثيرة للجدل، والتي عُدت من افدح اخطاء الحكم الامريكي في العراق، ليس من ناحية اقصاء حزب البعث عن الحياة السياسية ولكن من جهة اعتبار ان اعضاء الحزب المنحل مذنبون حتى تثبت براءتهم. ولست اقول انهم كانوا حمامة سلام، ولكن لا يمكن ان نتهم ملايين العراقيين على اساس انتماء لم يكونوا في الواقع يملكون الكثير من الخيارات سواه. والقلة المجرمة يجب ان تقدم للمحاكمة على ما ارتكبته ايديهم، اما سواهم فيجب ان تتاح لهم الفرصة لكي يعاد دمجهم ضمن مكونات الشعب العراقي وطي صفحة الماضي الرهيب في انتظار المستقبل المزهر.
والاسوأ من ذلك، ان نفس المادة الاولى قد عرفت العضو بانه: "كل شخص انتمى لحزب البعث وادى يمين الولاء له" (الفقرة سادسا) ثم تعود فتقرر ان اعوان النظام هم: "الأشخاص من المنتمين إلى حزب البعث، أو المنتسبين إلى الأجهزة القمعية، و المتعاونين معهم..." (الفقرة تاسعا). ومن الواضح ان تفسير هذه التعاريف سوف يخضع للكثير من الجدل والتسويف. وارى انه في نهاية الامر سوف يقع مليوني شخص في اقل تقدير تحت طائلة هذا القانون. واشير هنا الى مخالفة دستورية واضحة، حيث نصت الفقرة خامساً من المادة 135 على ان "مجرد العضوية في حزب البعث المنحل لا تعد اساساً كافياً للإحالة الى المحاكم، ويتمتع العضو بالمساواة امام القانون والحماية، ما لم يكن مشمولاً بأحكام اجتثاث البعث...". فان قيل انه لم ترد في هذا القانون احالة الاعضاء على المحاكم لمجرد الانتماء، قلت ان التعريف مهد السبيل لذلك، حيث ان قسم يمين الولاء الذي يجعل المرء بعثيا، يجعله في الوقت ذاته من اعوان النظام، وفي نظري فان هولاء هم من اعتى المجرمين واغلظهم.
وبينما تقر المادة الثالثة بان احد اهداف الهيئة هو: "تطهير مؤسسات القطاع الحكومي، والقطاع المختلط، ومؤسسات المجتمع المدني، والمجتمع العراقي، من منظومة حزب البعث تحت أيّ شكل من الأشكال." (الفقرة ثانياً) فان الاجراءات المتبعة في مجمل القانون تقنعنا ان الهدف الحقيقي هو تطهير هذه المؤسسات من الاشخاص الذين انتسبوا الى حزب البعث في الماضي، اكثر مما هو تطهير لها من الحزب نفسه.
ولست اجد في مواد هذا القانون ما يؤكد محاربة الفكر البعثي، ولا المنهج البعثي، المستأصل -للاسف- في دوائرنا الحكومية. فالفساد الاداري كان سلاح النظام السابق في اضعاف الاجهزة الحكومية بغية اخضاعها لسلطته المباشرة. وقل مثل ذلك عن المحسوبية، وتردي الخدمات الاساسية، واستخدام العائدات الوطنية للمصلحة الشخصية، واثارة النعرات الطائفية، وغير ذلك مما شهدناه في عهد النظام السابق، ولازال شاخصا اليوم امام اعيينا.
كما انني اجد مبررا، في الواقع، الى ايجاد نص قانوني يقرر "إحالة عناصر حزب البعث المنحل والأجهزة القمعية الذين يثبت التحقيق إدانتهم بأفعال جرمية بحق أبناء الشعب إلى المحاكم المختصة لينالوا جزاءهم العادل." (الفقرة ثالثا)، الا يعد ذلك من نافلة القول؟ اليس حريا بالمحاكم ان تستمع او تقبل شكاوى المواطنين ضد المجرمين سواء كانوا اعضاء في حزل البعث او لم يكونوا، وسواء ارتكبوا هذه الجرائم في ظل النظام السابق او قبله او بعده؟
لقد كنا نتصور ان من شأن القانون الجديد ان يرأب الصدع ويطوي الصفحة المخضبة بالدماء، لكننا وجدنا انه ما ان ينكيء جرحا حتى يقدح آخر. ولا اجد تفسيرا لنشر اسماء الاشخاص المشمولين باجراءات الاجتثاث، كما تدعو الفقرة خامسا من المادة الرابعة، سوى التشهير والتحريض، اذ تنص على: "استكمال تعريف أولئك الأفراد المشمولين بإجراءات الاجتثاث خلال مدة عمل الهيئة ونشر قائمة بإجراءات الاجتثاث المقررة في هذا القانون بحيث تجمع قائمة بأسماء جميع الأفراد الذين خضعوا لهذه الإجراءات موضحة درجة كل فرد وتاريخ صدور أمر اجتثاث البعث ذات الصلة". فاذا كان المقصود بـ(اجراءات الاجتثاث) هو تعريف العناصر المنتمية لحزب البعث، فان نشر هذه القوائم بدون توجيه تهم جنائية يعد تحريضا ضد هؤلاء الاشخاص وانتهاكا لحقوقهم الدستورية. ويجب ان لا ننسى ان المادة 19 من الدستور/الفقرة ثانياً نصت على انه: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة".
غير ان القانون الجديد يحدد في فصله الرابع اجراءات محددة ضد اعضاء حزب البعث لمجرد الانتماء. فالفقرة اولا من المادة السادسة تنص على: "إنهاء خدمات جميع الموظفين ممن كان بدرجة عضو شعبة وإحالتهم على التقاعد" بنما تنص الفقرة ثانيا على: "إحالة جميع الموظفين الذين يشغلون إحدى الدرجات الخاصة... ممن كانوا بدرجة عضو فرقه في صفوف حزب البعث على التقاعد"، ثم تسمح الفقرة سادسا "لجميع الموظفين غير ذوي الدرجات الخاصة ممن كانوا بدرجة عضو فرقة فما دون في صفوف حزب البعث بالعودة إلى دوائرهم أو الاستمرار بوظائفهم." لكن الفقرة سادسا عادت فمنعتهم من الخدمة في "الهيئات الرئاسية الثلاث ومجلس القضاء والوزارات والأجهزة الأمنية ووزارتي الخارجية والمالية." وليس في هذا فرق جوهري عن قانون بريمر رقم واحد الذي عرف لاحقا بـ(قانون اجتثاث البعث). وفي كلتا الحالتين تم التعامل مع الحزب على اساس افراده، ولم يوجه نحو الفاعلين منهم والذي تورطوا في جرائم ساعدت النظام السابق على الاستمرار واضطهاد الشعب.
واغرب ما في القانون الجديد ما نصت عليه المادة الحادية عشرة: "يحاكم حزب البعث المنحل كحزب ونظام لارتكابه الجرائم ضد الشعب العراقي." ولا ادري كيف ستتم مثل هذه المحاكمة ومن سيقبع في قفص الاتهام ومن الذي سيتولى اصدار الحكم ناهيك عن تنفيذه. واتصور ان هذه المادة حشرت حشرا لاثبات ان المقصود هو الحزب لا اعضاءه. فان كان الامر كذلك، فما هي الحاجة لهذا لقانون اصلا.
والملاحظ ان هذا القانون اتخذ شكلا تفصيليا وعرض اجراءات وهيكليات ونظم محددة لعمل هيئة المساءلة والعدالة بما يزيد عن الحاجة الفعلية. فالتشريع يؤطر عادة الهدف منه باجراءات عامة، ثم تقوم الوزارات او الهيئات الحكومية بوضع التعليمات اللازمة لتنفيذه. اما هذا القانون فقد استغرق في التفاصيل الى درجة انه حدد مسؤوليات حتى الموظفين المساعدين في الهيئة: "مكتب رئيس الهيئة :ويديره موظف بعنوان مدير ويتولى تنظيم مراسلات رئيس الهيئة ومواعيده ومقابلاته وأية مهام يكلفه رئيس الهيئة بها" (المادة الثامنة عشرة/ الفقرة اولا/1). وهذه المادة شرحت بالتفصيل هيكلية جميع دوائر الهيئة ومكاتبها وموظفيها ومؤهلاتهم وواجباتهم.
واخيرا، فقد ورد في الاسباب الموجبة للتشريع: "وللأخذ بعين الاعتبار وجود حالات انتماء صوري لبعض الفئات من الشعب إلى صفوف الحزب المنحل مع عدم إيمانها بأفكار البعث الدكتاتورية وممارساته القمعية". وهو ما لم نلمسه في هذا التشريع بتاتا. بل على العكس، اعتبر القانون ان جميع من انتموا الى حزب البعث مذنبون حتى يثبت العكس. وقد فشلت اجراءات بريمر بحق البعثيين، التي تبدو اكثر رأفة من التي وردت في هذا القانون، في الحد من نفوذهم في المجتمع ، خصوصا في المحافظات التي احتضنت نسبة كبيرة منهم. واذا كنا نريد مصالحة وطنية حقيقة، علينا ان ننتبه الى مثل هذه الحقائق، لا ان نسعى خلف شعارات براقة وخادعة في آن. فالجميع يعلم ان المجرمين الحقيقين فروا خارج البلاد ساعة احتلاله، وانهم يقودون التمرد الوحشي ضد الحكومة لانهم ليس لديهم ما يخسروه. ولست ادعوا الى الصفح عن اولئك القتلة، ولكن ارجو ان لا نعمل على دفع من لم يشأ ان يجاريهم في افعالهم الدنئية، الى الالتحاق بركبهم. لقد ندم بريمر بعد فترة وجيزة من اصداره قانون اجتثاث البعث، واطلق بدلا عنه مبادرة المصالحة الوطنية. وكان ينبغى ان يقبر ذلك القانون مع زوال سلطة الاحتلال. لكننا نجد ان قانون المساءلة والعدالة قد عمل على بعثه، وبذلك حق القول انه قانون بعث الاجتثاث.