في احد صباحات حزيران القائضة، قررت ان اذهب بسيارتي الى محطة تعبئة الوقود لكي اعيد ملأ الخزان الذي شارف على استنفاد محتواه. وقفت في الطابور منتظرا، مرة اشعل سيجارة، وتارة ابتاع قنينة مشروبات غازية، لكن الطابور لا يبدو انه يتحرك. واخيرا عزمت على قضاء الوقت بشيء استمتع به اكثر. سوف اكتب مقالا في خاطري، لانني لا استطيع فعل ذلك من دون لوحة مفاتيح وشاشة وهاجة. طبعا سيكون المقال نتيجة لتأثري بوضع شاذ: الوقوف لساعات طويلة امام محطة التعبئة طلبا لبضعة غالونات من البنزين. اقول ان الوضع شاذ، لاني لا اعرف بلدا آخر يكون فيه وقود السيارة بمثل هذه الاهمية بحيث يصبح شغل الناس الشاغل على مدى عدة اعوام. وطالما قلت انه همّ الناس فقد نقلت مقالي الى مستوى اعلى: كفاءة الاداء الحكومي.
خطر لي ان ابدأ مقالي بعبارة ذات وقع مؤثر في النفس مثل: "يمكن اعتبار مؤشر خزان الوقود في سيارتك، مؤشرا على نجاح الحكومة او فشلها"، لكنني سرعان ما ثنيت نفسي عن ذلك، لان الحكومة قد تكون ناجحة في توفير بعض الخدمات الاساسية، او فاشلة في البعض الاخر. فلا يمكن ان نقيس قدرتها على فعل شيء او عدمه على انه مقياس لكفائتها ككل. لكنني لم اتستطع مقاومة اخذ مثل هذا المقياس بعين الاعتبار، لانه في الحقيقة اساسي لدرجة ان معظم الخدمات متعلقة بشكل مباشر او غير مباشر بتوفير الوقود. وبدأت افكر في مقياس آخر يكون له نفس الوقع، فخطرت لي عبارة: "ان نجاح الحكومة مرتبط بقدرتها على توفير الكهرباء، نصف الوقت على الاقل". وبدا لي ذلك منصفا، حيث ان الكهرباء، شأنها شأن وقود السيارات، يمثل عصب الحياة الحديثة، وذلك غني عن البيان. ولكني مرة اخرى ثنيت نفسي عن مثل هذه المسلمات. اذ لا يُعقل ان تعلق قدرة الحكومة، ذات النيف وثلاثين وزيرا، باكملها على امكانية بعض وزاراتها على تقديم الخدمات الضرورية، حتى وان كانت هذه الخدمات اساسية بدرجة يستحيل تصور الحياة بدونها. وهكذا رحت افكر في عبارات اكثر شمولية: "ان نجاح الحكومة مرتبط بقدرة مفاصلها الخدمية على تسيير عجلة الحياة اليومية". فالخدمات الصحية والبلدية والتعليمية، فضلا عن الطاقة والاتصالات، هي ما يهم المواطن بشكل مباشر وتؤثر في راحته ورزقه وتخطيطه لمستقبله.
ولكن مرة اخرى بدت هذه الفكرة قاصرة طالما انها اهملت اهم عامل يؤثر في حياة الناس ويقض مضجعهم، فعزمت على ابتداع عبارة اخرى تقول: "ان اداء الحكومة يقاس بقدرتها على حماية مواطنيها من اي اعتداء داخلي او خارجي". هذا مذهل، فان استطاعت الحكومة توفير الامن فان مقياس ادائها سيكون –لا شك- مرتفعا. لقد وقعت اخيرا على تعميم جيد. لكنه ليس جيدا بما فيه الكفاية ليتصدر المقال، فالناقد سوف يتصدى له بالقول: "لا يمكن قياس اداء الحكومة بالامن، اذ انها جاءت في ظل ظروف امنية خاصة، ولذلك يتطلب الامر وقتا وجهدا لكي تتمكن من ان تـُقارن بالحكومات العادية". وهذا –للاسف- كلام منطقي، ولا اجد له ردا.
"كلما قلّ فساد الدوائر الحكومية، كلما ازدادت كفاءة الدولة في توطيد اركانها وفرض سلطتها واحلال مبدأ سيادة القانون". لابد ان هذه العبارة تشكل تعميما افضل من سابقه طالما كان الخرق الامني يعود بالدرجة الاساس الى فساد اداري ضمن وزارات الدولة، وضمن مفاصلها الامنية تحديدا. لكنه مرة اخرى مردود بان الفساد الاداري ثقافة تربينا عليها وليس من سبيل الى التخلص منها في هذا الجيل. ونحن –واقعا- لا نعمل شيئا لنحارب هذا الوباء، فكيف نعتبره مقياس اداء اي حكومة؟
وتركت الافكار تنسال الى خاطري، حتى قدحت لي عبارة جديدة، اتصور انها ستغطي كل شيء، وستكون حل جميع المعادلات: "قدرة الحكومة وادائها متعلقة اساسا بامكانية تحقيق توافق سياسي يرضي، بدرجة مقبولة، جميع الاطراف ذات العلاقة". اليس هذا استنتاج معقول؟ اليست المشكلة (سياسية) وليست (امنية) كما يتردد بين الحين والحين؟ اذن يجب ضبط المؤشر الان على هذا الاداء، لنرَ كيف ستكون قراءته. اقترح ان تتصور عزيزي القاريء مؤشرا مشابها لذلك الموجود على لوحة القيادة في سيارتك، بالذات مؤشر خزان الوقود. هناك علامة تشير الى وضع الخزان الممتليء، وثانية الى وضع الخزان نصف ممتليء، واخرى بخط احمر تحثـّك على اعادة تعبئة الخزان. يوجد ايضا مصباح احمر ينذرك بان الخزان يكاد يكون فارغا تماما. والان عزيزي القاريء، اين تضع مؤشر اداء الحكومة سياسيا؟ لو كان جميع اعضاء مجلس النواب يحضرون جلساته (لا يقاطعون ولا يتغيبون)، ولو كان مجلس الوزراء مكتمل عدد الوزراء، لكان بامكاننا ان نضع المؤشر على ممتليء. ولو استغرق اشغال المقاعد الفارغة في مجلس الوزراء شهرا او شهرين فقط، لكان وضع المؤشر على نصف ممتليء منصفا. غير انه طالما كان لكل حزب او كتلة سياسية وزارة ما، علاوة على حصته من البرلمان، بحيث ان من غير الممكن عمليا تغيير وزير بسبب عدم الكفاءة، او اعتقال آخر بسبب تهم تتعلق بالارهاب، فلايمكن ان يكون المؤشر الا في مكان قريب من وضع الحث على اعادة تعبئة الخزان.
اعرف انك ربما ستقول: يجب ان يضيء المصباح الان. ولكني حقيقة لا اعتقد ان هذا المصباح سيضيء يوما. فقد اضطررت هذا الصباح الى ان انقل القمامة بسيارتي الشخصية مسافة لا بأس بها حتى اجد موقع ملائم لرميها، خارج المدينة. وحينما اصيبت زوجتي بوعكة صحية طارئة قبل ايام مما استدعى نقلها قبيل الفجر الى المستشفى، اكتشفت ان الطبيب هناك يعطي وصفة واحدة لكل المراجعين. وسوف تكون محظوظا ان وجدت حتى هذا العلاج البسيط الشامل في صيدلية المستشفى. ان صحة زوجتي مهمة جدا، ليس فقط لانها راعية البيت، ولكن ايضا لانها من يقوم بمهام تدريس الاولاد الذين يذهبون الى المدرسة ويعودون منها دون ان يتعلموا شيئا. معذرة، ربما تعلموا شيئا، مثل القول: اريد بطاقة شحن لهاتفي المحمول، التي لم نكن نعرف عنها شيئا عندما كنا بمثل عمرهم. فخدمة الاتصالات الارضية كانت اكثر من كافية.
نعم، توقفت معظم مصانعنا عن الانتاج لشحة الكهرباء والوقود، واصبحت اسعار سيارات الاجرة باهضة، وتمثل شريكا في راتب الموظف واجرة العامل، المضطرين الى الذهاب يوميا الى اعمالهم، متجولين بين عبوات ناسفة ومفخخات، ان لم تتوقف وسيلة النقل التي تحملهم بضعة ساعات عند نقطة تفتيش بسبب اشتباكات مع مسلحين. وصحيح ايضا اننا اصبحنا نستورد معظم احتياجنا من الخضر والفواكه من دول الجوار، رغم اننا بلد زراعي منذ قديم الزمان، قبل ان نتحول الى بلد نفطي فاقدا لمشتقاته معظم ايام السنة. كما لا يمكن انكار اننا لم نكن يوما بلد صناعي حقيقي حتى نفقد مثل هذه الصفة بسبب عدم قدرة الحكومة على توفير الكهرباء والوقود.
نظرت الى مقياس خزان الوقود وانا اقف في طابور الانتظار امام محطة التعبئة وهالني ان ارى المصباح وقد اضاء. يا للهول، ان لم اتمكن من مليء خزان الوقود هذا اليوم، فكيف ساعود بسيارتي الى البيت حيث ستقف في مرآبه الى يقضي الله امرا كان مفعولا؟ وفكرت من جديد ان الفكرة الاولى التي قدحت في بالي ربما تكون الاصح: "يمكن اعتبار مؤشر خزان الوقود في سيارتك، مؤشرا على نجاح الحكومة او فشله". هذا هو الحال على الصعيد الشخصي على الاقل. فان نجحت في رفع مستوى مؤشر خزان الوقود في سيارتي هذا اليوم، فساعتبر هذا اليوم ناجحا، على خلاف العادة. وان لم انجح، فهو فشل آخر.