كثر الحديث عن الاخطاء الجسيمة التي رافقت عملية غزو العراق ربيع 2003، والتي اسقطت نظامه السياسي المتهافت اصلا، بدون ان يكون هناك خطة حقيقية وواضحة لمرحلة ما بعد الغزو. والحديث يدور عادة حول القرارات السياسية الحاسمة التي اتخذتها سلطات الاحتلال، سواء بغطاء من الامم المتحدة او بدونه، دون الرجوع الى الشعب العراقي وممثليه، او بالاكتفاء بنصيحة منفردة من هذا او ذاك واعتباره ممثلا لهذا الشعب ومجسدا لمصيره. تلك القرارات اثرت بشكل مباشر على مسيرة الاحداث فيما يلي من الزمن واصبحت محور الحركة السياسية في العراق حتى بعد تشكيل الحكومة المؤقتة والحكومة الانتقالية. حتى ان مفردات مثل (اجتثاث البعث) دخلت صميم الدستور الدائم الذي اقره الشعب العراقي في خريف 2005، رغم كونه في الاصل قرارا اصدره الحاكم المدني الامريكي دون استشارة رسمية من احد، ودون انتظار لتشكيل مجلس الحكم لاقراره على الاقل.
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة تلك القرارت السياسية، بل لبحث قرار آخر أثر في الحياة الاقتصادية بشكل مباشر، كما انعكس على نواح حياتية واجتماعية شتى في حياة المواطنين. ذلك هو الغاء التعرفة الكمركية والسماح بالاستيراد بدون شروط تذكر. وادى ذلك الى اغراق الاسواق بالملايين من الاجهزة الكهربائية التي كانت قبل ذلك باشهر قليلة تبدو صعبة المنال للكثير من ابناء هذا الشعب. وقد يكون ذلك سببا رئيسا لزيادة الطلب على الكهرباء وبالتالي زيادة ساعات القطع المبرمج، والتي وصلت ارقاما قياسية. ولكن اسوأ ما حدث نتيجة للمساح بالاستيراد العشوائي هو دخول مئات الالاف من السيارات المستعملة والتي اغرقت الشوارع والميادين، وسببت زحام سير لا يطاق في جميع المدن العراقية، كما انها تسببت في ازمة وقود غير مسبوقة، وسهلت الى حد كبير العمليات المسلحة ضد قوات التحالف والقوات الامنية العراقية، اضافة الى استخدامها في التفجيرات الانتحارية وعن بعد كقنبلة متحركة.
واذا كان من غير المجدي الان تعداد المساويء التي نتجت عن هذا القرار، شأنه شأن القرارات الاخرى، فالاولى العمل على تصحيح ما ترتب عنه ومحاولة اعادة الامور الى نصابها. ويجب اولا ان نقر ان هناك على كل حال بعض المنافع والتي حسنت بشكل ملحوظ حياة المواطنين بشكل عام. فالمواطن العادي لم يكن يحلم، تحت سطوة النظام السابق، بان يركب او يقود سيارات غربية المنشأ وبطرازات حديثة تتوفر على رفاهية ومتانة كبيرتين. لكن لم تكن جميع السيارات التي ادخلت بعد سقوط النظام السابق تمتلك مواصفات فنية عالية، ولم يكن معظمها بعمر يقل عن 5 سنوات. انها كانت نظريا خارج الخدمة او بحاجة مستمرة للصيانة. وبالمقارنة مع ما كان يتوفر لدى عامة الشعب من مركبات عمرها يتجاوز الـ15 او 20 عاما، لم تبدُ تلك مشكلة حقيقية.
وعلى هذا الاساس يمكن حصر المشلكة في ثلاثة نقاط:
ـ1ـ ازدياد الضغط على الطرقات العامة وبالتالي حصول حالات زحام خانقة، تسببت بتأخير وسائط النقل عموما في تأدية خدماتها، كما خلقت حالة من الفوضى، خصوصا في الشوارع الرئيسة والتقاطعات.
ـ2ـ ازدياد استهلاك الوقود بشكل كبير، بحيث باتت محطات التكرير غير قادرة على توفير متطلبات السوق المحلية، مع الاخذ بنظر الاعتبار تهالك هذه المحطات وتعرضها والمنشآت النفطية الاخرى الى التخريب بشكل مستمر. وتحول العراق، البلد الذي يمتلك ثاني احتياطي نفطي عالمي، الى دولة مستوردة للمنتجات النفطية. كذلك ازداد الضغط على محطات التزويد بالوقود القديمة اصلا، وغير النظامية في معظم الاحيان. ان منظر طابور السيارات التي تنتظر لساعات طويلة قرب محطة الوقود اصبح جزءا من المشهد العراقي بعد الحرب.
ـ3ـ استعمال السيارات في العمليات الارهابية والتخريبية، وبالاخص كمفخخات يصعب السيطرة عليها، او اقتفاء اثرها.
ان هذه النقاط الثلاثة تمثل في نفس الوقت ثلاثة اوجه للمشكلة، اجتماعي واقتصادي وامني. وبالتأكيد هناك اوجه اخرى لم نتطرق اليها كالمشكلة الثقافية المتمثلة بنشوء عادات غير صحية رافقت الفوضى التي تسببت بها كثرة السيارات بما لا يستطيع البلد ان يحتمل. كذلك المشكلة القانونية في احتواء هذه السيارات والتعامل معها، واخضاعها لنظام صارم يحد من هذه الفوضى ويشحذ الجانب الحسن فيها وهو تقديم الخدمة الصحيحة للمواطن.
ولكننا نعتقد ان غياب القانون عن هذه المشكلة كان هو السبب الاول فيها، وبالتالي فالدور الاساس سيكون للقانون للخروج منها. وان على واضعي القانون ان يستفيدوا من واقع المشكلة بابعادها الاجتماعية والاقتصادية والامنية للخروج بصيغ وحلول عملية دون الحد من الحريات العامة او التسبب في الحاق ضرر بالغ بهذه الفئة او تلك. ومثل هذه الموازنة هي على الدوام صعبة، لكنها ضرورية.
واذا كان الاقتصاد هو العنصر الدافع في حياة الناس، كما هو اساس رسم السياسات المحلية والعالمية، فان العامل الاقتصادي في اية مشكلة يجب ان يأخذ الصادرة في اصدار تشريع يستهدف تنظيم حركة هذه السيارات. وفي الظرف الراهن، حيث يستورد العراق المشتقات النفطية بقيمة ما يقارب 20% من وارده النفطي فان الضرر الاقتصادي بالدولة بالغ الاثر. فاذا اضفنا هذه النسبة الى ما تتحمله الدولة اصلا من رواتب لموظفين غير منتجين، ولدعم المواد الغذائية الاساسية، واصلاح الاضرار التي يتسبب بها التخريب المستمر نتيجة الوضع الامني غير المستقر، اذا جمعنا كل هذه الامور لحصل لدينا اقتصاد ضعيف وغير قادر الى تحقيق اية تنمية او ارتقاء حقيقي في حياة الشعب.
اذا لحل هذه المشكلة يمكن ان تتحرك الدولة مباشرة نحو سببها. فطالما كانت الزيادة الكبيرة في اعداد السيارات امر غير مرغوب، وتم تشخيصة آنفا على اساس انه اصل المشكلة، فعلى الدولة ان تباشر باجراء الخفض الضروري كآتي:
ـ1ـ شراء السيارات من المواطنين والتصرف بها، اما كأدوات احتياطية لما يتبقى منها، او بتحويلها الى خردة واستخدامها في صناعات اخرى. يمكن ان تدفع بدلات نقدية مغرية لدفع المواطنين للتخلي عن سياراتهم، وقد يسبب ذلك ضغطا هائلا على ميزانية الدولة في المدى القريب، ولكنه ذو جدوى كبيرة على المدى البعيد. في الواقع، تقوم الدولة الان باستيراد الوقود وبيعه في المحطات بسعر يمثل ربع او خمس سعر التكلفة. فاذا اعتبرنا ان هناك مليون سيارة تتزود اسبوعيا بالوقود، وان معدل الدعم الذي تحصل كل سيارة هو 50 دولار، فمن الواضح ان الدولة تتحمل 50 مليون دولار اسبوعيا لهذا القطاع. وبالمقابل يمكن اعتبار سعر 5000 دولار هو سعر جيد لكثير من انواع السيارات التي تسير على الطرقات الان، فهذا يعني امكانية شراء 10000 سيارة اسبوعيا، او التخلص من مليون سيارة في ظرف ثلاثة الى اربعة اشهر فقط!
ـ2ـ من الواضح ان تحويل الدعم لاسعار الوقود مباشرة لغرض شراء هذه السيارات سوف يؤدي الى رفع اسعار الوقود بشكل لا يستطيع السوق المحلي استيعابه. لذلك ينبغي التدرج في ذلك ووضعه في اطار زمني محدد. ليس من الضرورة ان ينجز ذلك خلال اشهر قليلة، فمن الممكن ان يتم خلال جدول زمني يمتد لسنتين او ثلاثة. ومع هذا التطبيق المتدرج، فان خفض عدد السيارات يؤدي الى تقليل الطلب على الوقود وبالتالي امكانية توفيره من الناتج المحلي وتقليل الاستيراد. لذلك قد لا يكون من الضروري رفع اسعار الوقود بشكل يرهق كاهل المواطن. كما ان تقليل المعروض من المركبات سيعمل على رفع اسعار تلك المركاب ومن ثم تقليل الرغبة و/او القدرة على شرائها مما يحد من حركتها في المحصلة النهائية.
ـ3ـ يمكن المباشرة بشراء المركبات القديمة التي يتجاوز عمرها 15 سنة، بضمنها المركبات التي كانت تسير على الطرقات قبل تغيير النظام. ويمكن ان يوضع جدولا سعريا يتناسب مع حالة المركبة وعمرها الزمني.
ـ4ـ ينبغي اصدار قوانين او تعليمات، او على الاقل تفعيل الموجود منها فعلا، لتحديد شروط المتانة والامان التي يتوجب توفرها في اية مركبة تسير في الشارع. ان مثل هذه التنظيمات لا يقتصر دورها على الحد من حركة السيارات وتقليل الزحام، ولكنها تساهم في توفير خدمات افضل للمواطنين، خصوصا في ما يتعلق بوسائط النقل العامة، وكذلك الحفاظ على البيئة من ناحية ان الكثير منها لا تتوفر فيه التقنيات الحديثة في حرق الوقود او ان محركاتها متهالكة وتنتج الكثير من الغازات الضارة بالبيئة.
ـ5ـ وضع خطة محكمة لاحلال مركبات النقل العام الحديثة محل القديمة منها، والتشجيع على ارتيادها بدلا من المركبات الخاصة. فمن اهم الاسباب التي تدعو المواطن الى استقلال مركبته الخاصة هو عدم توفر وسائط نقل عام فعالة قادرة على توفير الخدمات خلال وقت معقول وبمستوى جيد من الراحة اثناء التنقل.
ـ6ـ من الاجراءات الاخرى فرض ضرائب على السيارات الخاصة، وتحديد اماكن توقفها داخل المدن، ووضع اليات محكمة لتسجيل قيودها ونقل ملكيتها بما يطور القدرة على التعقب في حالة حصول خرق امني. كذلك تحديد عدد السيارات التي يحق للفرد او العائلة ان تتملكها، بالاضافة الى التشدد في منح اجازات قيادة المركبات ومتابعة المخالفين.
ـ7ـ واخيرا، فان امتلاك مركبة حق طبيعي لكل مواطن ضمن شروط ومواصفات محددة. يجب ان تسعى الدولة لتطوير الطرق والشوارع والساحات العامة المخصصة لوقوف المركبات، وكذلك فتح المزيد من منافذ توزيع المشتقات النفطية لتقليل الزخم عليها.
نحن ندرك ان هذه الاجراءات تتطلب وضعا اكثر استقرارا من الناحيتين الامنية والسياسية من الوضع الحالي. ولكننا نعتقد ايضا انه من الضروري المبادرة لاتخاذ بعض الاجراءات لحل هذه المشكلة التي، كما اوضحا سلفا، تسبب المزيد من الخرق الامني، وترهق المواطن في معيشته اليومية. كما ان تولي الدولة مسؤولياتها في هذا الوقت بالذات يساعد كثيرا في حفظ هيبتها وقدرتها على فرض النظام، الذين يمثلان اول بادرة لتحقيق الامن.