انعقدت الجلسة الخامسة للجمعية الوطنية قبل فترة، وناقشت نظامها الداخلي دون اقراره في نفس الجلسة.. لتتحول مسألة النظام الداخلي فيما يلي من الزمن الى قضية تأخذ حيزها من الوقت والمناقشات كأي قضية اخرى اعترضت الجمعية، سواء قبل انعقادها او بعده. ويبدو ان الطابع السياسي الذي سيسم المرحلة القادمة من عمل الجمعية هو: ناقش وناقش ثم ناقش. على ان المناقشات، رغم اهميتها، الا انها في الواقع ليست صلب عمل الجمعية الوطنية كمجلس تشريعي.
المطلوب من اي مجلس تشريعي هو اتخاذ قرار، وهذا هو مقياس نجاح اعمال ذلك المجلس. فليست النقاشات امرا سيئا، ولكن الاقتصار عليها سيكون امرا بالغ السوء. فرجل الشارع، وربة البيت، والعامل في مصنعه، والموظف في مكتبه.. وكافة شرائح المجتمع الاخرى، يمكنها ان تناقش القضايا التي تثار في الساحة السياسية، وهو الحال ايضا في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. ويمكن للناس العاديين اقتراح حلول للمشاكل، وايجاد اليات للعمل على كافة المجالات تقريبا، في كثير من الاحيان. الا ان عضو البرلمان يتمتع بميزة اضافية. فهو لديه القدرة على اتخاذ قرار يضع هذه الحلول او الاليات المقترحة موضع التنفيذ.
وهكذا، فان اتخاذ القرار هو ما يؤدي الى حلول انية او بعيدة الامد للمشاكل التي يعاني منعا بعض او كل افراد الشعب. ومقياس عمل الجمعية الوطنية، كما اسلفنا، هو كمية القرارات التي اتخذتها. فاذا اجتمعت الجمعية خمس مرات، واتخذت عشرة قرارات فذلك قد يعد دليل صحة. اما اذا اجتمعت عشرات المرات دون قدرة على اتخاذ قرارات، فماذا الذي سيستفيد منه الشعب؟ سينتقل النقاش من الجميعة الى الشارع، وسيتخذ طابعا حزبيا توجيهيا في بعض الاحيان، او استخدام اطراف سياسية داخل الجمعية لضغوطات مصطنعة في الشارع، من المظاهرات والتحشيد الاعلامي الدعائي (البروباغاندا). ثم ما يلبث المجلس ان يتحول الى اداة لتنفيذ سياسيات جهة متنفذة فيه باغراقه بالعشرات من القضايا الخلافية للتمويه على قضية اساسية، ويمرر القانون اخيرا في غفلة من النواب، الذين تعبوا من المناقشة، ورضخوا للضغوط التي تصوروها، او صورت لهم.
واللافت من اجتماع الجمعية الخامس قيام رئيس الجمعية بتحويل الجلسة العلنية الى جلسة سرية اثناء انعقادها، وطلب من وسائل الاعلام المغادرة. وقد نوهت احدى فقرات النظام الداخلي الذي لم يكن قد اعتمد بعد، على حق الجمعية في الانعقاد سرا، وفي هذه الحالة يطلب عدم حضور وسائل الاعلام، او حتى موظفي الجمعية ويناط بنواب رئيس الجمعية مسوؤلية اعداد المحاضر وماسواها. وهذا امر غريب، فما الداعي في اي حال الى اجتماع الجميعة سريا؟ اذا كان الاجتماع هو لمناقشة امر ما، مهما يكن مهما او حرجا، فلماذا يعزل الشعب عنه، وكيف سنعرف اذا كان القرار الذي سيتخذ بناء مثل هذه الجلسات سيكون مبررا بشكل كاف؟ ولكن هل ستعلن نتائج هذا الاجتماع (السري) والقرارات المتمخضة عنه اصلا؟
في الديمقراطيات العالمية الرائدة، تعرف نوعان من الاجتماعات، الاجتماعات العلنية التي تكون متاحة لوسائل الاعلام والشعب فور حصولها. والاجتماعات المغلقة، تلك التي يطلب من وسائل الاعلام عدم نقلها، ولكن تعلن نتائجها فورا، وتعلن محاضر اجتماعتها بعد حين من الزمن، يوم او اسبوع او شهر.. ولكن ليس هناك مصطلح (اجتماع سري). وغالبا ما تكون الاجتماعات المغلقة لرفع الضغط الآني عن الاعضاء الذين يشعرون بعدم التمكن من اتخاذ موقف نتيجة لحملة سياسية تقاد ضدهم. وليس المقصود منها ان تناقش قضايا حساسة لا يجدر بالشعب، او حتى اقرب المقربين، المشاركة فيها. فكل مناقشة هي عامة.. وهي تبدأ من الشعب لتصل الى قبة البرلمان.. المكان الصحيح لاتخاذ اجراء بصددها. ويخيل اليّ ان الاجتماعات السرية هي اول وسيلة لعزل الشعب عن القرار بدواعي حساسية الموقف، والعذر الشائع المستخدم في هذه الحالات هو الموقف الامني الحرج.
ومع ذلك، فليست الجمعية الوطنية، كمجلس نيابي ممثل للشعب، هي من يخرق اولى قواعد الشفافية الحكومية. فعملها الرقابي يتضمن ان تطالب السلطة التنفيذية بكشف اوراقها ومساءلتها عن الامور التي يبدو انها لا تسير بشكل حسن، وبيان الاجراءات التي تتخذها الحكومة لمعالجة مشاكل ما، والخطوات التي تتخذها من اجل تنفيذ قرارات الجمعية. وكل هذه الامور تنصب في مقولة الشفافية الحكومية. فكيف ستكون السلطة التنفيذية شفافة اذا لم تكن السلطة التشريعية كذلك؟
وربما يعتقد بعض اعضاء الجمعية الوطنية انهم متميزون عن باقي الشعب، كونهم يطلعون على امور لا تتاح لبقية افراد الشعب. ولذلك فانهم ربما عليهم كتم هذه الامور للمصلحة العامة. وهذا خطأ فادح. فالمصلحة الوطنية العليا يقررها الشعب بنفسه، ويجب ان يحاط علما بكل شيء، الا اذا كان الاعلان عن بعض الحقائق يؤدي الى استفادة اطراف معادية للشعب منها وبالتالي تفويت الفرصة للتمكن منها. وهذه الامور تقرر من قبل السلطة التنفيذية عادة، وسيكون عليها ان تبرر سبب حجب الحقائق اذا ما تكشفت فيما يلي من الزمن. ولم يكن مطلوبا يوما ان تعلن اجتماعات مجلس الوزراء او اية سلطة تنفيذية اخرى، لا في العراق ولا في اي بلد من بلدان العالم.
ان من اهم مبادي الديمقراطية مبدأ الشفافية الحكومية، وهو ما نتوقعه من السلطة التنفيذية، والتي ستكون لاول مرة منتخبة في العراق. اما ان نفتقده في المجلس التشريعي المنتخب فتلك انتكاسة اخرى للديمقراطية. ويجب رفض اية صيغة للاجتماعات السرية، فما يصلح ان يطلع عليه 275 عضو، يصلح ان يطلع عليه خمس وعشرون مليون نسمة. ويجب شطب هذه الكلمة من نظام الجميعة الوطنية الداخلي، واحلال مصلطح الاجتماع المغلق بديلا عنها، على ان تعلن محاضر الجلسة المغلقة في وقت لاحق، ويكون جدول اعمال الاجتماع معلوما ومعلنا مسبقا، حتى يتاح للشعب الاطلاع عليه وتقييم اداء هذا المجلس.
واخيرا، فان صيغة الاجتماعات السرية (وحتى المغلقة) لم ترد في قانون ادارة الدولة، بل حددت المادة الثالثة والثلاثون (أ): "تكون اجتماعات الجمعية الوطنية علنية وتسجل محاضر اجتماعاتها وتنشر، ويسجل تصويت كل عضو من اعضاء الجمعية الوطنية ويعلن ذلك، وتتخذ القرارات في الجمعية الوطنية بالاغلبية البسيطة، الا اذا نص هذا القانون على غير ذلك." ومن الواضح ان المقصود بـ"هذا القانون" هو (قانون ادارة الدولة) وان الاستثناء هو بشأن التصويت على انتخاب مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء واعادة القانون الذي نقضه مجلس الرئاسة وماشابه، وليس المقصود استثناء علنيّة الاجتماعات او تسجيل محاضرها ونشرها.